علو الهمة [9]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد انتهى الكلام في بحث علو الهمة إلى الكلام على المجالات التطبيقية أو أبرز المجالات التي طبق بها السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان هذا الخلق أو هذا الوصف العظيم.

ونبدأ بعلو همتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى: فأبرز ما يتميز به كبير الهمة من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أنه يحمل هم الأمة، ولا يتمركز ولا يتمحور حول نفسه، ولا حول ذاته، وإنما كل همه هو أن يصلح حال الأمة من حوله، فأعظم ما يهتم به الداعية الكبير الهمة هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، وإذا أردنا أن نفصل ذلك فلا شك أنه سيطول الكلام جداً، وحينما نراجع سير الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام نرى ذلك جلياً، فلو رجعنا -مثلاً- إلى سورة نوح لرأينا دأب نوح عليه السلام، وكبر همته، وعظم الجهد الذي بذله في سبيل هداية قومه إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى حكيماً عنه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح:5] * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا..... [نوح:6] إلى آخر الآيات في سورة نوح، كما هو معلوم، وكلها تعكس إصرار نوح عليه السلام على الدعوة إلى الله عز وجل، ولا شك أن نوح من أولي العزم من الرسل، ولذا كان منه الإصرار على دعوة قومه، واستخدام كل ما أمكن من الأساليب لأجل هدايتهم، وهذا أمر مطرد في قصص سائر الأنبياء والمرسلين حتى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وكذلك لو رجعنا إلى سير أتباع الرسل لرأينا أنهم كانوا قدوة في ذلك، فمثلاً: نرى كيف كان مؤمن آل فرعون، وكيف أنه اجتهد في اللحظة المناسبة وجهر بإيمانه، جاء ينصر موسى عليه السلام، ومن ذلك قوله -كما حكى الله عنه-: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29].

ومن أتباع الرسل أيضاً الذين كانوا كبيري الهمة: حبيب النجار الذي حمل هم دعوة قومه، وليس فقط في حال حياته، بل حتى بعدما انتقل إلى الآخرة؛ حيث أبلغ لهم في النصح بعد الاستشهاد، حتى إنه بعد استشهاده وبعدما قتلوه يقول وهو في الجنة: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26] * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:27]، فحينما قتلوه وأفضى إلى الجنة وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى تمنى أنهم اطلعوا على عاقبته، ولا شك أن حسن العاقبة دليل على استقامة المنهج الذي كان يدعوهم إليه، وأنه كان على الحق، فحينما انتقل إلى دار اليقين، ورأى وعاين ما كان يؤمن به غيباً حينئذٍ تمنى، وامتدت أمنيته في هداية قومه حتى بعد استشهاده، فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26]، أي: لو يعلمون الآن بما أنا فيه لعرفوا أني كنت على الحق، ولاتبعوني.

وإذا تأملت قوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم لرأيت أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء كانوا علماء أو دعاة، أو مجددين أو مجاهدين، أو مربيين أو عباداً صالحين؛ لأنهم لو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم أي موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولا تزينت بذكرهم صحائف التاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين. وأسوتهم في حمل هم الأمة، بل أسوتهم في كل باب من أبواب الخير هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي شارك المسلمين آلامهم، وكان في حاجتهم، حتى حطمه صلى الله عليه وآله وسلم الناس.

فأسوتنا بلا شك في كل خير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، أي: في كل مجالات الخير، وقال تبارك وتعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فكان صلى الله عليه وسلم يحمل هم من حوله، ليس فقط في الدعوة؛ ولكن حتى في قضاء حاجاتهم والاستجابة لمطالبهم.

فعن عبد الله بن شقيق قال: (قلت لـعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً؟ قالت: بعدما حطمه الناس)، يعني: كان يصلي جالساً بعدما حطمه الناس، والحقيقة أن هذه الكلمة في قمة التعبير مع وجازتها! يقال: حطم فلاناً أهله، يعني: إذا كبر فيهم، وكأنهم بما حملوه من أثقالهم صيروه شيخاً محطوماً، وكأنه من كثرة مسئوليات أهله وأولاده وذريته يقال: حطموه؛ لكثرة ما تحمل أعباءهم وأثقالهم؛ حيث أفنى كل قوته وكل شبابه في خدمتهم وأداء واجبهم حتى صار شيخاً محطوماً، فقولها: (بعدما حطمه الناس) يعني: صلى جالساً من شدة الإعياء والجهد؛ لأنه بذل كل صحته وكل عافيته وكل قوته في قضاء حاجات الناس، والصبر على مشقتهم. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.

ومن خصائص حمل هم الأمة أن لا يكون الإنسان أنانياً أو متمركزاً ومتمحوراً حول نفسه فقط، بل يمتد نفعه وبركته إلى من حوله حيث كان، وهذا معنى قوله تعالى في وصف المسيح عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31] أي: حيثما كان ينتفع الناس به، وينتفع المحيطون به. ومن ذلك قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه سلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ...) إلى آخر الحديث، رواه البخاري . فلو أنك راجعت سياق حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه لرأيت أن سياق الحديث يشير إلى حرص حذيفة رضي الله تعالى عنه على تعميم الانتفاع بالإرشاد النبوي في زمن الفتنة إلى جميع المسلمين من بعده؛ لأن الظاهر من سياق الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخبره عن أشياء ستحصل في المستقبل، حتى إنه لا يبقى للمسلمين لا جماعة ولا إمام، وهذا الأمر لم يحصل حتى الآن؛ لأننا لم نصل إلى مرحلة لا جماعة فيها ولا إمام، وإنما توجد الجماعة، وهي جماعة أهل السنة والجماعة الذين يلتزمون المنهج الصحيح والعقيدة الصحيحة، وهم متفرقون في شتى بقاع الأرض، لكن لا توجد الإمامة، فالكيان السياسي أو الخلافة الإسلامية غير قائمة الآن، لكن توجد الجماعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحدثه عن عصر أسوأ مما نحن عليه الآن؛ لأنه لا جماعة فيه ولا إمام، وتتحقق فيه الغربة بكل معانيها. فالشاهد أن حذيفة في سؤاله الرسول عليه الصلاة والسلام تجد أنه يحمل همنا نحن وهم كل من يأتي بعده، ولهذا جعل يسأل ويستفصل ويحاور الرسول عليه الصلاة والسلام من أجل أن ينفعنا نحن، فهذا من علو همته في نفع الأمة ودعوتها؛ لأنه قال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت: وما دخنه -وانظر إلى الاستفصال؟- قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جنهم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني أن أفعل إن أدركني ذلك -يعني: ذلك الزمان-؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك). والشاهد من الحوار أن حذيفة كان يحمل هم المسلمين من بعده، وإن كان الظاهر أنه يسأل لنفسه، لكن هذا الاستفصال والمراجعة إنما هو من أجل أن يهدي من بعده إلى كيفية المخرج من الفتن التي تأتي.

تأمل كيف تعامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع ذلك الرجل الأعرابي الذي أتى وبال في المسجد، فأراد الصحابة أن يقعوا به ويفتكوا به، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه -يعني: لا تقطعوا عليه بوله-. فتركه حتى فرغ، ثم أمر بذنوب من ماء -أو سجل من ماء- فأريق على بول الأعرابي، ثم قال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، فأعجب ذلك الأعرابي بمسلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معه، وعبر عن ذلك الإعجاب بأن دعا الله سبحانه وتعالى، فقال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (لقد حجرت واسعاً)، ولا شك في أن هذا من الاهتمام بأمر الأمة. ومن مظاهر هذا الاهتمام الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)، وهذا في الحقيقة من المطالب العالية التي لا يفطن لها كثير من الناس، فأحدهم يظن أنه يدعو لنفسه ولمن هم من خاصته، كإخوانه أو أحبابه، ويغفل عن الاهتمام بالدعاء لعموم المسلمين، فهذا من التقصير، وهذا من ضعف الهمة؛ لأنك إذا دعوت لعموم المسلمين تنال هذا الثواب العظيم الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)، فلا يزهد في هذا الثواب العظيم إلا من لم تصعد همته إلى نيل حسنات بعدد ملايين المسلمين المأسورين في أقطار الأرض. وقد ذكر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض صفات أهل الجنة، كما في الحديث الذي رواه مسلم، وكان مما قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، فمن صفات أهل الجنة أن الواحد منهم رحيم رقيق القلب، فقلبه رقيق، وممتلئ بالرحمة لمن يحبهم ويحبونه، وليس لإخوانه والمقربين إليه فحسب، وإنما يرحم الناس كافة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يضع الله رحمته إلا على رحيم. قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة)، فقلبه كبير يتسع لكل إخوانه في الإيمان. فكل هذه المعاني -بلا شك- تغنينا عن الحديث الضعيف الذي يلهج به كثير من الناس، وهو ما ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) والمعنى صحيح، وترشد إليه هذه النصوص التي نذكرها، لكن من حيث السند لم يصح هذا الحديث، وتأمل هذا المعنى الذي عبر عنه الشاعر أيضاً بقوله: فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد فيدعو الله سبحانه وتعالى بأنه إذا كانت السحابة تنزل الماء فقط على أرضه، ويحرم منها سائر إخوانه المسلمين أن لا تأتي هذه السحابة، فيسأل الله أن ينزل المطر على أرضه، ويعم إخوانه المسلمين، وإن كان سينزل عليه هو وحده فهو لا يريده. فالداعية إلى الله سبحانه وتعالى الكبير الهمة يقدر تبعات هذا المقام الرفيع، فهو يظمأ حيث يروى الناس، ويسهر حيث ينامون، ويجوع حيث يشبعون، ويتعب حيث يستريحون، ويقدم حيث يحجمون. عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم -يعني: في القتال- اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: حينما يشتد القتال ويشتد الصدام مع الكفار إلى أصعب ما يكون وأشد ما يكون كان الصحابة رضي الله عنهم من أراد منهم أن يتقي يحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدة بأسه على الكفار، وشدة شجاعته في الجهاد، وإقدامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذا قال: (فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه)، أي: لا يكون أحد من الصحابة أقرب إلى الأعداء يبارزهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وعن البراء رضي الله تعالى عنه قال: (كنا -والله!- إذا احمر البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به صلى الله عليه وسلم). وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة -يعني: سمعوا صوتاً في الليل فخافوا أن يكون العدو سيهجم عليهم في المدينة- فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني أنهم ما إن سمعوا الصوت حتى تجمعوا، وأرادوا أن يتجهوا قبل الصوت، ففوجئوا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أسرع الناس خروجاً ليبحث عن سر هذا الفزع وهذا الصوت الذي صدر، فإلى أن تحركوا هم وجدوه قد ذهب بسرعة ورجع قبلهم، وذلك قبل أن يتحركوا هم، فطمأنهم أنه لم يجد شيئاً ولم يجد بأساً، ولذا يقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: لن تراعوا. -وهذه كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيساً، وإظهاراً للرفق بالمخاطب-، وهو على فرس لـأبي طلحة عري ما عليه سرج - أي أنه قاد فرس أبي طلحة ولم يكن عليه سرج ولا شيء- في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحراً. أو: إنه لبحر) يعني: أن هذا الفرس أسعفني حينما خرجت. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته -وأشار بأصبعيه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي -أي: مسجد المدينة- هذا شهرين)، فلأن تمشي مع أخيك في قضاء حاجة له أفضل من أن تعتكف في مسجد المدينة شهرين، وهذا -بلا شك- تعظيم لقضاء حاجات المسلم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) فهذه الأحاديث كلها بجملتها تنبهنا إلى أن يحمل الإنسان هم إخوانه المسلمين من حوله دون تمييز.

وهكذا أيضاً السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم طبقوا هذه المعاني التي تعلموها منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعن عبد الكريم بن أبي أمية قال: لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إليّ من اعتكاف شهر.

قوله: (لئن أرد رجلاً عن رأي سيئ) يعني: بأن أجلس معه، وأناقشه، وأبين له الحق، وأدفع عنه الشبهات، فهذه عبادة في نظره أعظم من أن يعتكف شهراً كاملاً، ويتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاعتكاف، وهذا هو الفقه الدقيق بعينه؛ لأن هذا نفع متعدٍ إلى الآخرين.

وهذه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تصف زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فتقول: كان قد فرغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته. أي: أنه كان إذا دخل عليه الليل ولم يكف النهار لقضاء حاجات الناس يصل الليل بالنهار؛ سهراً في قضاء حاجات المسلمين.

وقال أبو عثمان شيخ البخاري رحمه الله تعالى: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي. فانظر كيف طبق المسلمون هذه القيم وهذه المفاهيم، ومما يؤسف له الآن أن أغلب الناس الذين يكون لهم نوع من الوجاهة في المرافق والمصالح والهيئات وهذه الأشياء، إذا جاء إليهم شخص يريد أن يقضي حاجة، يسأله له الذي سيقضيها: كم سيدفع من الرشوة أو الهدايا أو المال السحت؟! فيأخذه ظلماً وعدواناً؛ لأن واجبه أن يفرج كربة المسلم ابتغاء ثواب الله، وابتغاء ما عند الله؛ حتى يفرج الله كربته يوم القيامة، لكن لا تكاد تجد إنساناً في محنة ويبحث عن صاحب وجاهة أو صاحب سلطة كي يفرج كربته إلا ويكون السؤال أولاً عن المبلغ الذي سيدفعه أو الرشوة التي سيدفعها؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد عمت الرشا بصورة لا يتصور الإنسان أن هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام يؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش)، واللعن: الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك صارت كأنها حق مقنن.

والذي يأتي بالواسطة أو يأتي بالرشوة أو بالهدية أو سمها ما شئت هو الذي تقضى حاجته، أم من لا يبذل فإنه يحرم من قضاء حاجته، وقد يكون أشد حاجة من غيره؛ ولذلك يقول بعض الشعراء في مثل هذه المعنى في معترك رجل رفض أن يدفع الرشا وهذه الهدايا السحت فعزلوه:

عزلوك لما قلت ما أعطي وولوا من بذل

أو علمت بأن (ما) حرف يكف عن العمل

(ما) إذا التحقت بإن وأخواتها فإنها تكفها عن العمل، هذا كلام أصحاب النحو والإعراب، فهو يلغز بهذا المعنى في هذا الموطن، ويقول: إن كلمة (ما) هي السبب في تعطيلك، كما تعطل (ما) إن وأخواتها.

وبالمناسبة -وإن كنت أنا أستطرد وأخرج من الموضوع- أنا لا أنصح أحداً أبداً حينما ويقال له: من واسطتك؟ فيقول: الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتوسل إليه ولا يتوسل به كواسطة، فهؤلاء الذين يسألون هذه الأسئلة أو يأخذون الرشا ولا يتقون الله إذا قلت لأحدهم: (الله) فإنه ينطق أحياناً بكلمة يكفر بها، فأنت مطالب إذا كنت ستذكر إنساناً بالله، كنت أو يغلب على ظنك أنك إذا ذكرته بالله يسب أو يصدر منه ما يكفر به فحينئذٍ لا تذكره بالله، وإذا كان هو في حالة من الغضب وهو معروف بالسفاهة وضعف الدين ورقة العقل، فلا تقل له: اتق الله، وإذا كنت تعلم أن من خلقه أنه يسب الله أو يسب الدين فلا تذكره بالله في هذه الحالة؛ لأن هذا من باب سد الذرائع إلى هذا الكفر العظيم؛ فلذلك إذا كنت تعلم أو يغلب على ظنك أن هذا الرجل أنه لا يتقي الله فإذا قال لك: من واسطتك؟ فلا تقل: الله؛ لأنك تعرف الجواب الذي يصدر عن كثير من الناس -والعياذ بالله- ويخرجون به من الإسلام، فلا لا تفتح له ذريعة إلى الكفر؛ كي لا ينطق بالكلام الخطير الذي ينطق به هؤلاء السفهاء.

فالشاهد: أن هذه هي أخلاق الإسلام، وهذا هو روح الإسلام الذي يربط جميع المسلمين، فالإنسان أحياناً إذا كان له وجاهة أو يستطيع أن يعين أخاه سواء كان مديراً أو صاحب هيئة أو صاحب مال أو أي شيء من هذا، فعليه أن يزكي عن هذه الوجاهة وعن هذا المال وعن هذه النعمة التي خوله الله إياها بأن يقضي حاجات الناس ما دامت ليست في معصية ولا في ظلم لأحد، ولا في تضييع فرص يستحقها من هو أولى منه؛ فيجب أن يقضي حاجات الناس، فمثلاً إذا جاء رجل يبحث عن عمل، فمعناه أنه يتحرى الحلال، ويريد فرصة عمل؛ لكي يتكسب من حلال، فإذا أتاك كي تعينه على البحث عن فرصة عمل، فواجبك وحق أخيك المسلم عليك أن تبذل كل ما تستطيع من إمكانياتك حتى تقضي حاجته.

فالشاهد: نحن مطالبون أن نذكر كل من ينتسب للإسلام بهذا الكلام؛ كي تخف هذه المحنة التي شاعت وعمت وطمت، حتى صار يعني صار هؤلاء يعني مثل مكينة البيبسي التي تعطي لها فلوس ستشتغل، وتخرج لك نتيجة، وإذا لم تعطها لا تخرج، والله المستعان.

فعلى أي الأحوال يجب أن يتواصى الناس بقضاء حاجات بعضهم بعضاً بدون مقابل؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام حذرنا من قبول أمثال هذه الهدايا؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، فإذا كنت قد شفعت لرجل، ويريد بعد ذلك أن يعطيك هدية فإذا قبلتها فقد أتيت باباً عظيماً من أبواب الربا، مع أنك لم تطلب منه. لكن إذا كان بينكما أخوة سابقة، والعادة جرت بينكم بالتهادي فلا حرج في قبول الهدية؛ لأنها أصلاً عادة جارية؛ لكن إذا ما حصلت على الهدية إلا بعدما تدخلت له في هذا الأمر، ولم تكن تجري العادة بالتهادي بينكما فهذا سحت وربا لا يجوز لك أن تأخذه.

يقول شيخ البخاري أبو عثمان رحمه الله تعالى: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت بالسلطان.

ومن علامات السعادة وعلامات إرادة الله سبحانه وتعالى الخير بالإنسان وتيسيره اليسر: أن يجد نفسه تسمح بالبذل، فإذا وجد نفسه تسمح بالبذل، فيطمئن لهذه العلامة، وليعلم أن الله سوف يفتح له أبواب الخير؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128]، وقال أيضاً: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

فالإنسان إذا بذل إما أن نفسه تشح بالبذل وبالمساعدة، وإما أن يسلط عليه الشيطان جنوده ونوابه من زاوية أو صديق أو إنسان بخيل ووقتها يقول له: أولادك! وكيف تنفق؟! فأنت أولى، وأنت أحوج إلى هذا المال، فإذا وسوس لك أحد بمثل هذا الكلام إذا أرادت يدك أن تبذل في سبيل الله وسبيل قضاء حاجات الناس، فتذكر قوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فهؤلاء الذين يعظونك هذه الموعظة المشئومة لم ينعم الله عليهم بوقايتهم شح أنفسهم، فإذا أكرمك الله بهذه الخصلة فلتطاوعك يدك في الإنفاق، وتذكر أنك إذا وقيت شح نفسك فأنت من المفلحين.

كان الليث بن سعد رحمه الله تعالى يجلس للمسائل، فيغشاه الناس ويسألونه، ويجلس لحوائج الناس، ولا يسأله أحد من الناس فيرده؛ كبرت حاجته أو صغرت.

واعتادت أم الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى أن تراه مهتماً لأحوال المسلمين إذا ألمت بهم أو بأحدهم نائبة، فرأته ذات يوم على هذه الحال مغموماً، مهموماً فقالت له: ما لك؟ هل مات مسلم في الصين؟ لأنها تعودت أنها لا تراه حزيناً إلا لأنه يحمل هم المسلمين.

وهذا شاعر الدعوة الإسلامية المعاصرة عمر بهاء الدين الأميري كان في جناح طب القلب، وكان صدره موصولاً إلى جهاز المراقبة الإلكتروني بأسلاك تشل من حركته، وكان يحقن في البطن كل يوم مرات بإبر لمناعة الدم، وقد جاء الطبيب يسأل القائم على التمريض عن استراحة شاعرنا، ويسأله: كيف حاله الآن؟ هل استراح؟ فرد عليه باستغراب وبفهم يختلف عن فهمه، فالطبيب يسأل عن راحته البدنية، فرد هو قائلاً:

كلا رويدك يا طبيب وقد سألت أما استراح

هل يستريح الحر يوقد صدره العبء الرزاح

هل العبد الحر أو الإنسان الحر إذا كان يشعل ويقد صدره العبء الثقيل من حمل هموم المسلمين، هل هذا يمكن أن يستريح؟

إن الداعية من أخص ما يختص به أنه يمكن أن يكون داعية ولا يكون على درجة عالية من العلم، فالداعية إنسان يغار على الدين، خاصة في مثل هذا الزمان الذي أصبحت الأمور الأساسية التي هي معلومة من الدين بالضرورة يجهلها الناس، والمعاصي التي ترتكب هي في الغالب مخالفات صريحة للدين، وليست أموراً خفية، ولا يجهلها أحد، وحينئذٍ من علم هذه الحدود من حدود الله فواجب عليه أن ينصح ويعظ الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فالداعية من أخص خصائصه أنه متحرك الحركة المنافية للخمول والسكون، فالحركة ولود، والسكون عقيم، والحركة هي الحياة، والسكون هو الموت. يقول الجيلاني : الحركة بداية، والسكون نهاية. فالأشياء لا تسكن إلا إذا وصلت إلى نهايتها وخمدت وماتت، لكن الحركة تكون بداية لما بعدها، فهي تلد ما بعدها، والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرقابة وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء، فبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض يفتحون البلاد، ويفتحون قلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة، وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجاً وهاجاً، فإذا بالباطل قد صار رماداً بعد التهاب وخامداً بعد حركة. يقول الشاعر معبراً عن أن الحركة هي الشيء الأصل فيمن يحقق معنى كلمة التوحيد؛ إذ التوحيد عبارة عن نفي وإثبات، وإيجاب وسلب، فـ(لا إله) نفي وسلب و(إلا الله) إيجاب وإثبات، أي أنه لا يستحق أن يفرد بالعبادة إلا الله سبحانه وتعالى، فهو يريد أن يعبر عن أنه لا يمكن أن أحداً يقول: (لا إله إلا الله)، ويفهمها حق فهمها إلا فعلت فيه هذه الكلمة فعل الكهرباء في الآلة حين تحركها وترفعها وتعطيها الطاقة، يقول هذا الشاعر: إنما التوحيد إيجاب وسلب.. يعني: لا إله إلا الله. لا وإلا قوة قاهرة ولها في النفس فعل الكهرباء يعني: كما أن الكهرباء تأتي من الموجب والسالب، فالموجب والسالب هما اللذان يولدان الطاقة الكهربائية، فتحرك الآلة، فكذلك كلمة التوحيد عبارة عن موجب وسالب، وهما (لا)، و(إلا)، فـ(لا) السالب، و(إلا) هي الإثبات الموجب، فهما اللذان يحركان القلب حينما يجتمعان فيه، ويخرجان هذه الطاقة. وهذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يصور عشقه الحركة وبعده عن الجمود والكسل، فيمثل السكون بالماء الذي يتوقف عن الجريان فيفسد؛ لأن الماء إذا توقف عن الجري فسد، ولذلك نهى الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، أما الذي يجري فإنه يتجدد. ويجزم الإمام الشافعي بأن الأسد قد تتعرض للهلاك لولم تتحرك باحثة عن فريستها، وكذلك السهام لولا تحركها من الكنانة إلى القسي ومن القسي إلى الهدف لما أصابت. يقول الشافعي رحمه الله تعالى: إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يُصب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب وهذا الشاعر الإسلامي وليد الأعظمي يهيب بالداعية أن يتحرك ويحرك الآخرين مبتدأً بعشيرته الأقربين فيقول: كن مشعلاً في جنح ليل حالك يهدي الأنام إلى الهدى ويبيِّنُ وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً واعمل على تحريك ما هو ساكنُ وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهم أولى الورى بالنصح منك وأقمنُ والله يأمر بالعشيرة أولاً والأمر من بعد العشيرة هينُ وهذا القرضاوي يجادل الخاملين ويحاج الخامدين، ويوبخ الهامدين فيقول: قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الخمود في العيش بين الأهل لا عيش المهاجر والطريد في المشي خلف الركب في دعة وفي خطو وئيد في أن تكون كما يقال فلا اعتراض ولا ردود في أن تسير مع القطيع وأن تقاد ولا تقود في أن تصيح لكل وال عاش عهدكم المجيد قلت الحياة هي التحرك لا السكون ولا الهمود وهي الجهاد وهل يجا هد من تعلق بالقعود وهي التلذذ بالمتاعب لا التلذذ بالرقود هي أن تذود عن الحيا ض وأي حر لا يذود هي أن تحس بأن كأ س الذل من ماء صديد هي أن تعيش خليفة في الـ أرض شأنك أن تسود وتقول لا ونعم إذا ما شئت في بصر حديد هذه الحركة التي نتكلم عنها هي في الحقيقة عبارة عن عملية قيامة وبعث لروح الإنسان ولنفس الإنسان، فكما أن القيامة والبعث والنشور فيها إحياء للموات وبعث للحياة والحركة من جديد فكذلك حركة الداعية هي عبارة عن قيامة وبعث في الروح. وهذا المصطلح ليس من كيسنا، وإنما هو من القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة، ونبأه بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، وأرسله بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، فهذه الآية هي التي انتقل بها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة إلى الرسالة، وهي قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، وتأمل كلمة (( قُمْ )) فإنها تفيد القيام والحركة. ونفس هذا المعنى موجود في مثل قوله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46]، ففي هذه الآية إشارة -أيضاً- إلى هذا القيامة، ونفس المعنى ذكره الله عز وجل في شأن أصحاب الكهف، فقال سبحانه: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14] فهي حركة. هذه القيامة الروحية واليقظة القلبية من أول منازل الطريق تستدعي الحركة في سبيل الدعوة، فليست هي أول منازل طريق التوبة؛ لأن الإنسان لا يتوب إلا بعدما يفيق ويستيقظ قلبه أولاً، فهو يستيقظ من النوم، ثم بعد ذلك يفكر في التوبة. فالقيامة دائماً هي التي تسبق التوبة، يقول تبارك وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] يعني: ومن اتبعني أيضاً يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، قال الكلبي : حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الخاصية من خصائص الدعوة الإسلامية هي التي حيرت أعداء الإسلام في القديم وفي الحديث؛ لأن كل مسلم مهتم بالإسلام، كما قالها من قبل آرنولد تويمبي وغيره من المستشرقين وأعداء الإسلام، أبدوا الذهول من أن كل مسلم يعتبر نفسه مسئولاً عن الإسلام، وأينما ذهب يعتبر نفسه سفيراً للإسلام، وهو متحدث باسم الإسلام، وحريص على أن يبادر الناس بدعوتهم إلى الإسلام في كل مكان، فكان هذا التفسير تفسيراً مقبولاً لدخول أمم بكاملها في الإسلام بدون سيف، فكثير من بلاد العالم الإسلامي -بل أكبر بلاد العالم الإسلامي، وهي إندونيسيا وكل المنطقة التي في شرق آسيا من بعد الهند والفلبين، وكل هذه المناطق التي فيها ملايين المسلمين- ما أريقت فيها قطرة واحدة في الجهاد في سبيل الله، وما فتحت بسيوف أبداً، وإنما فتحت بالتجار المسلمين الذين كانوا يذهبون إلى تلك البلاد، كما قال بعضهم: كان الداعية يذهب في زي تاجر، أي أنه داعية متقمص ثياب التجار، فكان بمجرد وجود التاجر المسلم بأخلاقه وآدابه وسمته وتعظيمه للصلاة وصدقه وقيامه بسائر الأخلاق في وسط هذه المجتمعات، كان الناس ينقادون إليه انقياداً كاملاً، ويتبعون دينه، فيدعوهم بلحظه قبل لفظه، وبسلوكه وخلقه قبل أن يتكلم. فالشاهد أن هذه الخطوة هي التي ما زالت تحير أعداء الإسلام إلى اليوم، فمهما اجتهدوا في حربه فهذه الخاصية هي السبب الحقيقي في صمود الإسلام؛ لأنه لا توجد هيئة رسمية في أي دولة إسلامية يمكن أن نقول عنها: هي التي تحرك الدعوة الإسلامية في العالم. بل العكس، فأغلب الهيئات الرسمية إما أن تريد أن تسخر الإسلام لمصالحها السياسية، وتجعله قابلاً لها، وإما أنها منحرفة بدعوتها إلى الإسلام، وهي جادة فعلاً في الدعوة، مثل الشيعة في إيران، فهم من أشد الناس حركة في الدعوة إلى باطلهم في كل العالم، ويضحون بالنفس والنفيس، ومع ذلك هم على باطل وعلى دين مخالف لدين الإسلام كما نعلم. فهذه الهيئات إما أن أصحابها مبتدعون ضالون، وإما أنها تعادي الإسلام صراحة وتريد أن تجفف منابعه، وأما أنها هيئات رسمية تتظاهر بخدمة الإسلام لكي تسخره خادماً لمآربها ولمقاصدها، فما الذي يقوم بالدور الفعلي للدعوة إلى الإسلام في كل أرجاء الأرض؟! هي جهود هؤلاء الدعاة الذين لا أقول عنهم: هم أسماء مشهورة وشخصيات معينة. بل كل مسلم يتحرك، حتى إننا نجد أحياناً الشخص قد يكون فاسقاً ومقصراً في دينه، ومع ذلك تجده يفرح جداً إذا رأى كافراً يدخل في الإسلام، ويضحي من أجل ذلك بما يستطيع، فمثلاً: لو أن رجلاً نصرانياً أسلم فإن أشد الناس حماساً في مساعدته هم عوام الناس، وهذا فيه تعبير عن هذه الإيجابية والرغبة في انتشار الإسلام وهدي قلوب الخلق والابتهاج بنشر هذا الدين.

تلا الحسن البصري رحمه الله قوله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، ثم قال: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله.

وقال الوزير بن هبيرة في قوله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]، وقوله عز وجل: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20]: تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق. وهذا من علو الهمة، فقوله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]، هذه في قصة حبيب النجار ، والأخرى: في قصة موسى عليه السلام، وهي: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20].

وانظر كلمة: (( مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ))، أي: من آخر طرف في المدينة، جاء يسعى: يجري؛ كي ينصح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

والشخص الذي يتحرك للدعوة ويقبل أن يضحي في سبيل الدين، خاصة إذا كانت الدعوة تتعرض لمحن تحركه -في الغالب- يدل على نفاسة معدنه وأصالة جوهره، فمثلاً: المرأة التي تتنقب في وسط الظروف التي نعيشها الآن لا شك في أنها صاحبة همة غير عادية؛ لأنها ترى المنقبات كيف يحاربن، وكيف يشنع بهن، وهكذا لو أن الإنسان أعفي لحيته أو تاب في مثل هذا الجو الصعب الذي نعيش فيه في مثل هذا الزمان، فلا شك في أن هذه النوعية تكون موفقة من عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فالغالب أن الناس تصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى بشتى الحيل. أما هذا الذي يتباطأ عن الاستجابة لدعوة الله، أو الاستجابة لداعي الإيمان، ويتباطأ مؤجلاً إلى أن تظهر بوادر النجاح، فحينما يكون المسلمون أصحاب اليد العليا، وحينما تكون الدعوة لها ثقل أكثر فما يتمناه هو وعد الضعاف، فوعد الضعاف أن يقول أحدهم: اشتغل في الدعوة حتى ترجع الموجة مرة أخرى، وحتى تنحسر هذه الشدة التي نحن فيها. إن المؤمن الذي يعمر قلبه بالإيمان لا يتصور أن يكون إلا متحركاً ومحركاً، أما المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعدما تظهر بوادر النجاح فإنما يعد وعد الضعاف، كما يقول الشاعر: صاح ما الحر من يثور على الـ ظلم وقد ثارت لحقها الأقوام إنما الحر من يسير إلى الـ ظلم فيصميه والأنام نيام فلا ينبغي أن يؤجل الإنسان الانضواء تحت لواء الحق، وإلا فإنه يعض إصبع الندم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الجوشن الضبابي إلى الإسلام بعد بدر، فقال له: (هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر -أي: أقبل وكن من السابقين إلى الإسلام-؟ قال: لا. قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). فينبغي أن يحرص الإنسان دائماً على عنصر الريادة، وأن يكون في أوائل الناس، خاصة في وقت المحنة ووقت الشدة، ويجيب داعي الله سبحانه وتعالى بلا تلكؤ ولا تلعثم ولا تردد، فهذا هو شأن المؤمنين، لكن الإنسان الذي يتردد في قبول الدعوة يكشف عن ضعف في همته، والشخص عالي الهمة لا يبالي أن ينضوي إلى لواء الحق، حتى ولو كان أهله مبتلين، ومطاردين ومستضعفين، ولكن بعض الناس لا يكاد يتحرك قلبه تعاطفاً مع أهل الدين ومع أهل ولاية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف نزهد في مثل هذا العمل الذي هو تبليغ الدين ودعوة الناس إلى الحق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)؟ّ! فمن يفعل ذلك يدخل تحت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله أمراً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم! زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، يعني: مهتدين في أنفسنا هداة لغيرنا، أي: اجعل نفعنا متعدياً.

وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباد الرحمن الذين كان من دعائهم إياه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، يعني: نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا؛ ولذلك لما سئل وهب بن منبه عن صفة المسلم؟ قال رحمه الله: يقتدي بمن قبله، وهو إمام لمن بعده. يعني: يهدي من بعده، يقول الشاعر:

نحن في ذي الحياة ركب صفاء يصل اللاحقين بالماضينا

قد هدانا السبيل من سبقونا وعلينا هداية الآتينا

يقول الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر. يعني: أن الذي يقعد في بيته ولا يخرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يسلم من العقوبة، ولن يسلم من الإثم.

يقول: من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم، وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي؟ يعني: أن الذين في المدن هم أهل الحواضر، ومع هذا تجد عندهم تجهد الجهل بالصلاة، فكيف بأهل البوادي والصحراء والقرى وهذه الأشياء؟ ومنهم الأعراب والأكراد والترك وسائر أصناف الخلق.

يقول الغزالي رحمه الله: وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه، وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل الواد ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفسر قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2]، فيقول رحمه الله: فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر. يعني: أن هذا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته من بعده؛ لأن الأمة تقوم مقامه في إنذار الناس، كما قال الله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، والجن بمجرد أن سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين.

وهذا تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى يقول: وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.

وأما الآن في هذا الزمان فلا يوجد تبليغ السهام إلى نحور العدو، ولا تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله المستعان.

فعالي الهمة دائماً يطلب ويبذل أقصى وسعه لنيل الكمال الممكن، أي: أقصى ما تصل إليه طاقته من الكمال، فمن أراد المنزلة العليا من الجنة فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا، واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن. قال الشاعر:

إذا ما علا المرء رام العلاء ويطمع بالدون من كان دونا

يعني: ما دمت تريد منزلة عليا في الآخرة، فلابد أن تتبوأ منزلة عليا في الدنيا، والمنزلة التي في الدنيا ليس أن تكون وزيراً، ولا أن تكون تاجراً، ولا أن تكون مليونيراً، بل أعلى منزلة وأشرف وظيفة على الإطلاق يمكن أن يرثها إنسان في هذه الدنيا هي وظيفة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه وظيفة الأنبياء، فلا شك أنها أشرف وظيفة يقوم بها الإنسان على وجه الأرض؛ لأنها وراثة وظائف النبوة التي لا أشرف منها إلا منزلة النبوة نفسها.

وهذا الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى ينادي كل مسلم من بعده فيقول رحمه الله تعالى: ألست تبغي القرب منه أي: من الله سبحانه وتعالى-؟! فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد؛ لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم سبحانه وتعالى؟!

ثم قال: وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر؟! ثم يقارن الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى بين الشجعان الذين يخالطون الناس، ويدعونهم إلى الخير، ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتذرين القاعدين عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيقول الإمام ابن الجوزي : الزهاد -يعني المعتزلين- في مقام الخفافيش -أي: اعتزلوا في المكان المظلم كالخفافيش- قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير: من جماعة، واتباع جنازة، وعيادة مريض، إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعملون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.

فالإنسان كم يتفطر قلبه إذا رأى الإخوة ينزوون، وخاصة من كان منهم من حفاظ القرآن الذين فتح الله عليهم، فحين نريد أن نحفظ القرآن نجد الانزواء والسلبية والهروب من المسئولية في خدمة القرآن الذي هو أشرف العبادات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فإذا كان كل واحد عنده طاقة في خدمة كتاب الله سبحانه وتعالى فعليه أن يبذلها، فهل كانت تنتشر الأمية بالقرآن الكريم والتقصير في حقه هذا التقصير الموجود؟ الجواب: لا، لهذا نحن نحتاج إلى مراجعة أنفسنا، فنحن محتاجون إلى التزام من جديد، والساحة محتاجة الآن إلى صحوة، والتزامنا يحتاج التزام، وتوبتنا تحتاج توبة؛ لأن أوضاعنا لا ترضي الله سبحانه وتعالى في كثير منها، فالله المستعان.

يقول: الزهاد في مقام الخفافيش؛ قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة، بشرط أنها لا تمنع من الخير، وذلك بأن يحضر الجماعة، ويتبع الجنائز، ويعود المرضى، لكن حالة العزلة -حتى مع هذه العبادات- حياة الجبناء.

أما الشجعان فهم يتعلمون ويعملون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.

وهذا الشيخ الداعية القدوة عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى كان رجلاً تكلم كثيراً، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعنى والمبنى، وينتشل لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات ندونها سريعاً، وكان الإمام الكيلاني يخطب خطبه الأسبوعية سنة (545هـ) أودع هذه النصائح في كتابه الفتح الرباني والفيض الرحماني.

يقول الشيخ عبد القادر رحمه الله: المتزهد المبتدئ في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي بهم، ولا يهرب منهم، بل يطلبهم. أي: أن الشخص الذي كمل في زهده وحقق معنى الزهد الصحيح لا يهرب من الخلق، بل هو الذي يطارد الخلق ويجري وراءهم؛ كي ينتشلهم، وكي ينقذهم، وكي يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى يقول: بل يطلبهم؛ لأنه يصير إذا حقق الزهد عارفاً بالله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء، ولا يخاف من شيء سواه. فالمبتدئ يهرب من الفساق والعصاة؛ لأنه ضعيف يخشى أن يتأثر بهم، والمنتهي يطلبهم؛ لأن الفاسق ضالة الداعية؛ لأن الداعية ظل بين جماعات الصالحين، فهذا يشبه تحصيل الحاصل؛ لكن الداعية إلى الحق تكون ضالته هي الفاسق الغير مستقيم؛ لأنه يريد أن يضمه إلى عباد الله سبحانه وتعالى، وكيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟! ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف.

يعني: لا يضحك في وجه الفاسق تألفاً وتأليفاً له في أثناء دعوته إلى الله إلا العارف الذي كمل في عرفانه.

فمن كملت معرفته بالله عز وجل صار دالاً عليه، أي: أن هذا الشخص الذي كملت معرفته يصبح مثل الشبكة؛ يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، ويعطى القوة حتى يهزم إبليس وجنده، ويأخذ الخلق من أيدهم.

يقول: يا من اعتزل بزهده مع جهله! تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض! تقدموا، خربوا صوامعكم، واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء تقدموا. هذه صيحة من صيحات الشيخ: عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، وكان يقول هذا الكلام وهو في سن الشيخوخة رحمه الله.

وبعض المعاصرين من الدعاة وهو الأستاذ: محمد أحمد الراشد حفظه الله يقول: لا ينبغي للداعية أن يبتئس إذا لم يجد فضل وقت لقيام الليل يومياً، يعني: إن كان بسبب اشتغاله بالدعوة لا يستطيع المواظبة يومياً على قيام الليل أو أنه بسبب اشتغاله بالدعوة يقل عدد ختماته للقرآن الكريم فإنما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجراً، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكاً هادفاً، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم، يعني: انظر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه لما أمَّ الناس يوماً، فانتقى في الصلاة من مواضع متفرقة من القرآن الكريم، ثم اعتذر بعدما صلى بهم وقال: لقد شغلني الجهاد عن كثير من قراءة القرآن؛ لأنه اشتغل بفتح البلاد وتمصير الأمصار، والدعوة إلى الإسلام، فأبواب الخير متعددة.

وكانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، أي: لم يكونوا ينتظرون أن يأتوا هم إلى المدينة، وإنما كانوا يخرجون إليهم، وذلك الأعرابي الذي سأل الرسول صلى الله عليه وآله سلم عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها قال: ( لا أزيد عليهن ولا أنقص ) وهذا الأعرابي بدأ حواره مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال له: (يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا: أنك تزعم أن الله أرسلك….) زعم بمعنى: قال.

فإذاً: هناك حائط، وهناك إيجابية، فمن انتظر أن ويأتيه الناس فهو ليس بداعية؛ فإن الناس يؤتون وينتقل إليهم، ولو فصلت كلمة هذا الأعرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا الرجل، فارق أهله وبيته وأولاده، واجتاز المفاوز والصحراء، وتعرض للمخاطر والحر والبرد؛ ليصل إلى قوم هذا الرجل ويبلغهم دعوة الإسلام، فلا بد من أن نكون في الدعوة من أصحاب التحرك فليس القعود والتأني من الطرق الموصلة، فافقه سيرة سلفك وخلدهم تصل، وإلا فراوح في مكانك فإنك لن تبرحه.