علو الهمة [17]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد تكلمنا قبل حول حال الأمة عند سقوط الهمة، وناقشنا أسباب انحطاط الهمم، ونتكلم في هذا الدرس بإذن الله تعالى على أسباب الارتقاء بالهمة، فما هي أسباب الارتقاء بالهمة؟ كل هدف له وسائل توصل إليه وعوامل مساعدة تعين عليه، كما قال الشاعر:

إذا ما أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منه ما يعجبك

فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك.

يعني: أن أبواب المكارم مفتوحة، وكل من أراد أن يتسلق إلى هذه القمم فإنه يستطيع، لكن عليه أن يسلك الطرق الصحيحة.

العلم والبصيرة سبب من أسباب علو الهمة

أول أسباب الارتقاء بالهمة: العلم والبصيرة، فالعلم يصعد بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، والعلم هو الذي يساعد على تصفية النية، حتى أثر عن بعض العلماء أنه قال: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على طلب الدين.

يعني: أنه شرع في البداية في طلب العلم لأجل الرياء أو لطلب الدنيا، ثم لم يلبث العلم أن أخذ بناصيته إلى الإخلاص، وعلاج أمر الرياء في قلبه.

وذكر القصاص: أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال، فرفضت أن تتزوجه؛ لفقره وقلة حسبه، يعني: أخذت عليه أنه فقير وأنه قليل الحسب، ففكر بأي الأمرين ينالها، أبالمال أم بالحسب؟ فأختار الحسب، وطلب العلم للحسب، حتى أصبح ذا مكانة، ولما اشتهر بطلب العلم، وأصبح له مكانة كبيرة بعثت إليه تلك المرأة نفسها تعرض عليه أن يتزوجها، فقال: لا أؤثر على العلم شيئاً؛ لأنه كان قد ذاق حلاوة العلم، ولذا قال: لا أؤثر ولا أفضل أبداً شيئاً على العلم، وأبى أن يتزوجها، فهذا العلم ارتفع بهمته عن أن يحصر همه في نيل مثل هذا المطلب الدنيء.

وهذا يذكرني بشاب إنجليزي كان يدعى نيجل بريطاني الأصل له قصة طريفة: رحل من بريطانيا إلى مصر على الدراجة، حيث رحل أولاً بدراجة من بريطانيا إلى اليونان، ثم ركب مركباً إلى لبنان، وكان في الطريق يشتغل قليلاً ليجمع بعضاً من المال، ثم يتم رحلته، حتى مر على فلسطين، ثم مر على سيناء حتى وصل إلى مصر، ثم تجول في داخل مصر إلى أن وصل إلى الإسكندرية فقابله شاب يقود التاكسي، فتعرف عليه ودعاه إلى بيته، المهم أنه صار بينهما نوع من الصداقة، ثم رأى بنت الجيران في حي منزل صديقه، فأراد هذه الشاب الإنجليزي أن يتزوجها، فقال أهلها: لا بد أن تكون مسلماً؛ لأنها مسلمة لا تتزوج من غير مسلم، فقال: كيف أسلم؟ فقالوا: تذهب إلى بعض الناس، فقابل بعض الناس، حتى يأخذ تصريحاً بأنه مسلم كورقة ويحقق مأربه، فبعض الإخوة أعطاه كتباً وكلمه شيئاً من هذا، فغاب تقريباً مدة شهر، ثم عاد بعد ذلك يبحث بجدية وبدأب شديد عمن يعلمه قراءة الفاتحة؛ لأنه لما قرأ معاني القرآن الكريم، وتعلم شيئاً عن الإسلام، أقبل بكليته نحو الإسلام، فدخل في الإسلام ولله الحمد، ولما ذكروه بموضوع هذه الفتاة قال: أنا كنت أطلب الإسلام من أجل المرأة، أما الآن فلا أتحول عن الإسلام إلى مقصد آخر، ولم يفكر بعد في أن ينال الزواج من هذه المرأة، وهذا الأخ أتقن اللغة العربية جيداً درس في الأزهر في القاهرة، وحفظ القرآن الكريم كله، ولله الحمد.

الشاهد: أن العلم بالوحيين بالقرآن والسنة والمعاني العظيمة يرتفع بهمة الإنسان.

وأيضاً من فضائل العلم أنه يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فإذا عرف مراتب الأعمال يقدم الأهم على المهم، ويتقي فضول المباحات التي تشغله عن عبادة الله سبحانه وتعالى، سواء كان فضول الأكل، أو فضول النوم، أو فضول الكلام.

ثم العلم يدفعه إلى أن يراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والوجبات؛ امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأعط كل ذي حق حقه) .

وأيضاً العلم هو الذي يبصره بحيل إبليس وتلبيسه عليه؛ لأن إبليس قد يأتيه ويحاول أن يحول بينه وبين فعل ما هو أكثر ثواباً مما يفعله، ويشغله بالمفضول عن الفاضل، قال أبو سليمان : يجيئك -أي: إبليس- وأنت في شيء من الخير، فيشير إلى شيء من الخير دونه، ليربح عليك شعيرة.

إرادة الآخرة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

من أسباب الارتقاء بالهمة: إرادة الآخرة، وجعل الهموم هماً واحداً، ومعنى إرادة الآخرة: تمحيص الإرادة والنية والقصد إلى طلب الآخرة بلا منازع، قال الله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، ولا تجدون في القرآن الكريم آية فيها الكلام على أن من يسعى للدنيا بنفس المثابة، وإنما وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فالرزق لا يأتي به حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، بل الرزق مضمون، أما الجنة فليست مضمونة إلا بالعمل الصالح.

ذكر الموت سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

من أسباب الارتقاء بالهمة: كثرة ذكر الموت؛ لأن كثرة ذكر الموت يدفع إلى العمل للآخرة والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة، فكل هذه المقاصد الشريفة إنما تحصل بكثرة ذكر الموت، فعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال: علامَ اجتمع عليه هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، أضحكني: مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه، ولا يدري أأرضى الله أم أسخطه، وأبكاني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار).

وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات، قال: النظر إلى الأموات.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي : أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير.

وعن عطاء قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون.

فانظر إلى فعل هذا الإمام العلم المجدد، كيف كان يجمع الفقهاء، وما الموضوع الذي كانوا يجتمعون عليه؟ هل هو مناقشة انتخابات مجلس الشعب، أو مباريات الكرة، أو كذا وكذا؟! كلا، بل كانوا يجتمعون من أجل ذكر الموت والقيامة والآخرة ويبكون، ولا شك أن هذا النوع من الاجتماعات الآن نادر جداً، فأغلب الاجتماعات إما أن يخوض الإنسان فيها فيما لا جدوى من ورائه، وقد يحصل بين طلبة العلم مجالس يجري فيها مباحثات حول قضايا علمية ومناقشات مثلاً، لكن قل أن نسمع أن مجموعة من الإخوة تواعدوا على أن يلتقوا ويذكر بعضهم بعضاً بالموت وبالآخرة وبالقيامة.

وقال الدقاق : من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.

كما أن مشاهدة المحتضرين وملاحظة سكرات الموت، ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته، مما يقطع عن النفوس لذتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمسح الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب.

ذكر عن الحسن البصري

أنه دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، فو الله! لقد رأيت مصرعاً لا أزل أعمل له حتى ألقاه.

وقال اللبيدي : وجدت بعد موت أبي إسحاق الجبنياني رحمه الله رقعة تحت حصيرة مكتوبة بخطه، يعني: أنه كان يذكر نفسه بما كتب على هذه الرقعة، وهذا شيء معهود عن السلف، حيث كان الواحد منهم يكتب موعظة مختصرة تؤثر في قلبه جداً، فيضعها في جيبه أو في كمه، فإذا خشي الغفلة أو شيئاً من هذا نظر فيها، ثم أعادها، وكان بعضهم يختم مثل هذه العبارات على الخاتم؛ كي تذكره باستمرار بما ينبغي ألا ينساه، فهذا الإمام أبو إسحاق الجبنياني وجدوا بعد موته رقعة مكتوباً فيها: رجل وقف له هاتف، فقال له: أحسن عملك، فقد دنا أجلك، فقال لي ولده عبد الرحمن : إنه كان إذا قصر في العمل، أخرج الرقعة فنظر فيها ورجع إلى جده.

ما زال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمال

فأصابه مستيقظاً متشمراً ذا أهبة لم تلهه الآمال

فبلا شك أن الإنسان الذي يتذكر الموت ويكثر ذكر الموت يتأهب للقاء الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا سيثير فيه الاستيقاظ والانتباه باستمرار؛ لأن موعد خروج روحه لا يأتي نذير بين يديه وإنما يأتي فجأة، ويأتي بغتة دون نذير سابق، فروحك في يد غيرك، لا تدري متى يقبضها.

الدعاء سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

ومن أسباب الصعود بالهمة: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء؛ ولأنه جالب كل خير، ودافع كل شر، قال صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فالدعاء سهل جداً، والدعاء لا يكلف شيئاً سوى أن تجمع قبلك وتحرك لسانك بكليمات، تطلب فيها ما شئت، ابتداءً من شسع النعل إلى الفردوس الأعلى من الجنات، والخلود فيها، تدعو بآلة هي اللسان بشرط أن تواطئ القلب وتكون مخلصاً في ذلك الدعاء، فالذي يعلم مثل هذه الفضيلة للدعاء يعلم أنه عن طريق الدعاء يمكن أن يحصل كل مقاصد الدنيا والآخرة، فكيف به إذا عجز عن ذلك؟! فإذا عجز عن مجرد تحريك لسانه مع مواطأة القلب بطلب ما يريده من الله سبحانه وتعالى، فهذا بلا شك هو أعجز الناس، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه) سبحانه وتعالى، يعني: عليه أن يطمع في رحمة الله ويطلب ما شاء من المطالب، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما دل على ذكائه دعا له؛ لأنه كان إذا دخل الخلاء وخرج يجد ابن عباس قد أحضر الماء ووضعه قريباً منه، فحينئذٍ قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فأثمرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـابن عباس فصار ترجمان القرآن والحبر البحر العلم، وحاز هذه المرتبة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فبهذا الدعاء يستعين العبد على إنجاز هذه المطالب العالية.

إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده.

فبدون توفيق الله سبحانه وتعالى للإنسان أول ما يجني عليه هو اجتهاده وعقله الذي حرم من التوفيق وابتلي بالخذلان.

الاجتهاد في حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور

من أسباب الارتقاء بالهمة: الاجتهاد في حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور، فالإنسان عليه أن يركز، وهذا السبب هو صدى للسبب الآنف الذكر وهو توحيد الإرادة، يعني: إرادة هم الآخرة بلا منافس؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. فمن أسباب الارتقاء بالهمة خاصة في المقاصد العلمية: نظرية حصر الذهن والتركيز تماماً فيما تريد أن تنجزه من الأمور، فالإنسان إذا لم يبادر بأن يشغل نفسه بالحق فإنها تشغله بالباطل، كما قال الحسن : نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. فلا بد أن تكون النفس مشغولة، وإن لم تبادر أنت بشغلها بالحق فإنها تتفرق بك في أودية الدنيا. سئل كثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط، مع أنه أمَّ الناس في حمص حوالى ستين سنة كاملة في الصلوات الخمس، ولم يسه في صلاته قط، فسئل عن سبب هذا فقال: ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله. وهذه هي ثمرة من ثمرات حصر الذهن في مطلب واحد، وإرادة واحدة وهي إرادة الآخرة وإرادة الله سبحانه وتعالى، فالتركيز بلا شك يثمر هذه النتائج العظيمة. وقد رأينا مظاهر عجيبة للسلف الصالح رحمهم الله تعالى في موضوع التركيز في طلب الآخرة، فلم يشتتوا همتهم في الدنيا، فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العربية ومنشئ علم العروض، كان إماماً مفرط الذكاء، والإمام الخليل بن أحمد بقدر ما هو صاحب الشهرة المعروفة في اللغة العربية والعروض، وقد يتصور أن هذه العلوم يكون عند أصحابها جفاء مثلاً، لكنه كان من العباد ومن الزاهدين ومن الخيرين، وقد دعا الله سبحانه وتعالى أن يرزقه علماً لم يسبق إليه، ففتح الله عليه باب العروض، وهو علم أوزان الشعر والقوافي، وقيل: كان يعرف علم الإيقاع والنغم، ففتح له ذلك علم العروض، وقيل: مر بالصفارين -جمع صفار، وهو الذي يقطع النحاس الجيد- فأخذ علم العروض من وقع مطرقة على طست، يعني: كان رجلاً يضرب بالمطرقة على طست من النحاس بطريقة منتظمة، فرأى أن نفس هذه الإيقاعات المنتظمة موجودة في أبيات الشعر عند العرب، وبالتالي استطاع أن يستخرج العروض عن طريق الالتفات لهذا الإيقاع المنتظم الذي سمعه، وقد كان متقشفاً متعبداً قال النضر بن شميل : أقام الخليل في خص له بالبصرة، يعني: في بيت من خشب أو بيت من شجر أو من قصب، قال: أقام الخليل في خص له بالبصرة ولا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وكان كثيراً ما ينشد: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال فهو معدود من زهاد العالم القلائل، فرحمه الله تعالى، وكان يقول: إني أغلق علي بابي فما يجاوزه همي، فكان الخليل بن أحمد يخرج من منزله واهتمامه بشيء محدد، هو طلب الآخرة، فكان ينشغل جداً وتجد شدة تركيز ذهنه في مقصد واحد وهو طلب الآخرة، فكان يخرج من المنزل ولا يشعر بنفسه إلا وهو في الصحراء، ولم يرد الصحراء وإنما شغله الفكر الذي هو فيه والاستغراق، حتى خرج إلى ما لا يقصده من الأماكن؛ لشدة استغراقه في أمر محدد، فيذهل عما عداه. وكان يدخل الداخل إلى أبي تمام الشاعر وهو يعمل الشعر، فلا يشعر به. وقد حكى ابن العلامة القرآني العلامة الجليل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى أنه كانت تحصل مواقف محرجة لوالده العلامة الشنقيطي رحمه الله حيث إنه كان إذا شرع في مدارسة العلم فإنه يذهل تماماًًً عن كل ما حوله، حتى كان يدخل عليه الضيوف من الكبراء أو الأمراء فلا يلتفت إليهم؛ لشدة انشغاله وحصر ذهنه تماماً فيما هو مقبل عليه من طلب العلم، ويضطر ابنه أو أحد الحاضرين أن ينبهه إلى وجود هذا القادم كيلا يظن أنه أهمل الترحيب بهذا القادم، وما هذا إلا ثمرة من ثمرات حصر الذهن، والتركيز الشديد في هدف ومطلب واحد. وحصر الذهن مما يكتسب بالمران، يعني: أنه يحتاج إلى نوع من التمرين حتى ينتقل الإنسان من الشرود وتشتت الذهن إلى حصر الذهن حصراً بيناً محكماً، فلا بد من جهد ملح، والتدريب عليه يكون بأن تحدد موضوعاً محدداً فتدرسه أو تفكر فيه، وترد عقلك إليه مرة بعد مرة بعد مرة، وتتعمد أن تعود بعقلك وذهنك وتحصره في هذا الموضوع حتى ولو خمسين أو مائة مرة من أجل هذا الموضوع الذي التزمت معالجته، فهذه الخواطر التي تتنازعك لا تلبث أن تخلي مكانها للموضوع، يعني: أن الخواطر الأخرى تشرد بذهنك بعيداً؛ لكن حين تتدرب على ذلك باستمرار فإنها تذهب بعيداً وتتلاشى، وتضطر أن تنسحب هي لتترك الموضوع الذي يلح عليك له اليد العليا والسيادة والسيطرة على ذهنك، ليس فقط في اليقظة، بل من الناس من إذا انشغل بحفظ القرآن الكريم في يقظته فإنه إذا نام يشتغل أيضاً بمراجعته في الليل وكأنه ما زال في اليقظة من شدة حصر الذهن في هذا الأمر.

أمثلة لأصحاب الهمم العالية

وكانت لـابن سحنون سرية فطلب منها ذات يوم أن تعد له طعاماً، وشغل بالتأليف والرد على المخالفين، وأحضرت الطعام، وبعد طول انتظار أخذت تطعمه؛ لأنها انتظرت مدة كبيرة والطعام أعدته وهو لا يريد أن يأكل؛ لأنه انشغل بالعلم الذي يدرسه، فأخذت تلقمه حتى أتى على الطعام دون أن يشعر، يعني: أنه كان يشتغل بالعلم ويأكل لأنها تضع اللقمة في فمه، وتمادى في عمله حتى الفجر، ثم سألها أن تحضر الطعام، فأخبرته بأنه أتى عليه دون أن يشعر. وذكر السبكي في طبقات الشافعية عن أبيه الإمام تقي الدين أنه كان من الاشتغال بطلب العلم على جانب عظيم، بحيث يستغرق غالب ليله وجميع نهاره، وكان يخرج من البيت لصلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجاً فيأكله، ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب، فيأكل شيئاً حلواً لطيفاً، ثم يشتغل بالليل وهكذا لا يعرف غير ذلك، حتى ذكر لي أن والده قال لأمه: هذا الشاب ما يطلب قط درهماً ولا شيئاً، ما أحفظ له مرة طلب فيها مالاً أو طعاماً أو شيئاً من هذا، فقال أبو الإمام تقي الدين السبكي لأمه: هذا الشاب لا يطلب قط درهماً ولا شيئاً، فلعله يريد شيئاً، يعني: أن يأكله، فضعي في منديله درهماً أو درهمين، لعله إذا مر في الطريق اشتهى شيئاً فوجد في جيبه ما يشتري به هذا الشيء، فوضعت نصف درهم، قالت الجدة: فاستمر نحو جمعتين وهو يعود والمنديل معه والنصف فيه، إلى أن رمى به وقال: إيش أعمل بهذا؟! خذوه عني، فبقي نصف الدرهم في منديله أسبوعين كاملين؛ لأنه لا يلتفت إليه ولا أنفقه، ثم بعد ذلك قال هذه الكلمة: إيش أعمل بهذا؟ خذوه عني وألقاه. وكان الإمام ابن مالك النحوي صاحب الألفية وغيرها كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئاً من محفوظه حتى يراجعه في محله، ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ. حكي أن الإمام ابن مالك توجه يوماً مع أصحابه للفرجة بدمشق، ودمشق فيها البساتين والغوطة، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوا تنقلوا هم وتفرقوا في المكان، فغفلوا عنه فطلبوه فلم يجدوه، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكباً على أوراقه، وفي هذا يصدق قول الشاعر: قلب يطل على أفكاره ويد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب والشيخ أحمد بن علي نجم الدين بن الرفعة كان كثير الصدقة، مكباً على الاشتغال حتى عرض له وجع المفاصل، بحيث كان الثوب إذا لمس جسمه آلمه، ومع ذلك كان لا يرى إلا ومعه كتاب ينظر إليه، وربما انكب على وجهه وهو يطالع، يعني: أنه يأتيه النوم فينام على الورق، فيكون وجهه على الورق من شدة النوم، قال: وهذا الشيخ هو الذي قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد مناظرة جرت بينهما: رأيت شيخاً تتقاطر فروع الشافعية من لحيته، يعني: كأن كل جسمه مشبع بفقه تفاصيل فروع الشافعية، فكأنها تسقط من غزارتها، كالشخص الذي يبلل لحيته بالماء فإن الماء يتساقط منها، فيقول الإمام ابن تيمية فيه: رأيت شيخاً تتقاطر فروع الشافعية من لحيته. وقال الأسنوي عنه: ما أخرجت مصر بعد ابن الحداد أفقه منه. ومما يروى أن أميراً في الشام أدر على الحسن بن الهيثم مالاً كثيراً، والحسن بن الهيثم هو صاحب علم البصريات المعروف، فهذا الأمير أعطاه مالاً كثيراً فقال له: يكفيني قوت يومي، وتكفيني جارية وخادم، فما زاد على قوت يومي، إن أمسكته كنت خازنك، وإن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي؟

الاهتمام بالصحة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

وبعض طلبة العلم الذين يتأثرون بالمنهج الصوفي -وما أخطر المنهج الصوفي على الهمة العالية!- يتمثلون قول بعض شعراء الصوفية، وساعات يعظمون كلام الصوفية بصورة مرضية، دون أن يتفطنوا إلى الأخطاء في مثل هذه العبارات، مثل قول شاعرهم:

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

فتجد تراه يهمل في صحته، ويهمل في تهويته، إلى أن يصبح الشاب في ريعان شبابه مثل الشيخ العجوز الذي احدودب منه الظهر وصار هرماً.

فمن أسباب علو الهمة: الاهتمام بالصحة، سواء كانت الصحة البدنية أو الصحة النفسية، فالإنسان يهتم بصحته وبعافيته ويتوقى كل ما من شأنه أن يؤثر في صحته، وقد تكلمنا قبل عن أسباب انحطاط الهمة وذكرنا أن منها العجز والكسل، وقلنا: إن الإنسان قد يعذر في العجز لكنه لا يعذر في الكسل؛ لأن العاجز عن شيء طاقته محدودة، فهو يحاول لكنه لا يستطيع فيعجز، أما الكسول فهو يقدر لكنه لا يقوى على المقاومة، فالإنسان إذا أهمل صحته أو تمادى في الأسباب التي تهدر هذه النعمة العظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى فهو مخطئ؛ لأن رأس مال الإنسان في الدنيا هو الصحة، فإذا أهمل صحته أو تعاطى الأسباب التي تحطم هذه الصحة سواء كان التدخين والإدمان أو غير ذلك من الأمور التي تهدر صحة الإنسان وعافيته فبلا شك أن هذه قد تئول إلى كثير من الأمراض، والأمراض تؤدي إلى العجز، وتؤدي أيضاً إلى الكسل، فمن ثم تهبط همته، فننحي مفاهيم الصوفية هذه جانباً.

فالمسلمون كانوا يجاهدون بالبدن والروح معاً.

فالمرء هو بالنفس وبالجسم إنسان؛ ونحن لسنا أطيافاً، ولسنا عبيراً، ولسنا شيئاً معنوياً، بل نحن أبدان وأرواح في نفس الوقت، فالإنسان يهتم بصحته، ويهتم بتغذيته ولا يفرط في صحته ما دام ذلك في استطاعته؛ لأن هذا من أسباب أنه إذا أراد شيئاً يستطيع أن ينفذه، أما إذا ضعف وأهدر صحته فإنه حتى في الصيام لن يستطيع الصيام، وحتى الصلاة لن يستطيع الصلاة، فيضعف عن الصلاة.

فإذاً لا بد للإنسان أن يحافظ على قاعدة التوازن بين واجبات الجسم وواجبات الروح معاً، خاصة في زمان الشباب، أو بالضبط في زمن المراهقة الذي هو فترة نمو الجسم، فالإنسان إذا اهتم بصحته في هذه الفترة فإن الجسم يتفاعل مع هذه الرغبة ويعطيه أيضاً، فمن الخطأ إهمال الرياضات البدنية النافعة بالشروط الشرعية، وإهمال التغذية والإعراض عن ذلك بحجة أن الصوفية قالوا:

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته...

ونحن نقول أيضاً: يا مهمل الجسم كم تشقى بإهماله، فتبيت على الفراش وتصيبك الأمراض، وتعجز عن أداء وظائفك، سواء كانت الدينية أو الدنيوية.

التحول عن البيئة المثبطة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

ومن أسباب الارتقاء بالهمة: التحول عن البيئة المثبطة، فلا شك أن البيئة المحيطة بالإنسان لها أثر جسيم لا يخفى، فإذا كان الإنسان يعيش في بيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون، فإن الشخص لا يستطيع أن يرقى بهمته إلا إذا هجر هذه البيئة وتحول عنها وأبدلها ببيئة عالية الهمة، لذا لا بد أن يهجرها؛ لكي يتحرر من سلطان تأثيرها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية.

يقول الشاعر:

تقول ابنة السعدي وهي تلومني أما لك عن دار الهوان رحيل

فإن عناء المستنيم إلى الأذى بحيث يذل الأكرمون طويل

وعندك محبوك السراة مطهم وفي الكف مطرور الشذاة صقيل.

يعني: أنها تلومه على أن يبقى في دار الهوان والمذلة، وتحثه أن يتحول ما دام يقدر على ذلك، وتخبره أنه يعيش عناءً طويلاً ما دام يعيش الشذاة في هذه البيئة المثبطة.

وقوله: (وعندك محبوك السراة مطهم) المحبوك هو الفرس القوي الشديد، وسراة الفرس هي: أعلى ظهره، ومطهم هو: التام المتناهي في الحسن.

وقوله: (وفي الكف مطرور الشذاة صقيل) المطرور: ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، والشذاة: هي حد طرف السيف، والصقيل: المشحوذ يعني: ما دام عندك فرسك ومعك سيفك، فلماذا تبقى في دار الهوان؟ ارحل إلى حيث تعز.

وأفضل من هذا أن نستدل بالأدلة الشرعية التي جعلت التحول عن مثل هذه البيئة التي تفسد الدين وتفسد الهمة فرضاً على المسلم، أليس قد فرض الله سبحانه وتعالى على المسلم أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام؟ أليس قد قال العلماء: إن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن دار المعصية إلى دار الطاعة باقية؟

إذاً: هي سنة ماضية، وهذا المبدأ الذي نناقشه هو حتمية التحول من البيئة المثبطة، فالإنسان بلا شك إذا وجد في مثل هذه البيئات فإن ذلك ينال من همته منالاً، وآية ذلك ما نراه في أغلب الذين يعيشون في بلاد الكفار ويرتضونها بديلاً عن بلاد المسلمين، حيث نجد منهم الرضا بالدنيا، وأن أحدهم لا يستطيع بعد ذلك أن يتحمل أن يأتي ويعيش مع المسلمين، وهذا إذا لم ينظر إلى المسلمين في بلاده بنظرة التعالي والاحتقار والازدراء، فالإنسان بلا شك يتأثر شاء أما أبى بمثل هذه البيئات المنحرفة.

وأشد الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة وتنشيط الهمة هو الشخص الذي هو حديث عهد بالتوبة، فالإنسان إذا كان في بداية توبته فهو أحوج الناس إلى هذا التحول عن البيئة المثبطة؛ لأنه إذا تحول عن بيئة المعصية والفسق إلى بيئة الطاعة والاستقامة فإن هذا من شأنه أن ينسيه ما يجذبه إلى صحبة السوء وأماكن السوء، وأما إذا بقي وفيه الضعف البشري، وعنده الذكريات، ويبقى في الأماكن التي أتى فيها المعاصي، وفيها صحبة السوء والأصدقاء الذين يراهم ويرونه، فإنه يصعب عليه أن يستقيم؛ لأن هذه تكون عوامل مثبطة تجعله باستمرار ينجذب إلى هذا الفسق، فالأمر كما يقولون: الإنسان إذا أبعد شيئاً عن عينيه فإنه يذهب أيضاً عن قلبه، فالتحول عن البيئة المثبطة والبيئة الفاسقة مما يعين الإنسان على أن ينسى معاصيه وينسى صحبة السوء وأماكن السوء، فيجتمع قلبه ويلتئم شمله، وتتوحد همته وتتوجه بصدق وعزم إلى أسلوب من الحياة جديد، وهذا هو عين ما أشار به العالم الواعي على قاتل المائة -كما في الحديث- حيث قال له: (ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم قال له فوراً: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء)، ولما جاءه الموت، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب كان قربه إلى القرية الصالحة بالنسبة إلى بلد السوء سبباً في قبض ملائكة الرحمة إياه، ففي بعض الروايات: (فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها) وفي رواية: (فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) وفي بعض الروايات: (فنأى بصدره نحوها) يعني: أنه حتى وهو عند لحظة الاحتضار نأى بصدره وزحف بصدره كي يكون أقرب خطوة أو شبراً إلى البلدة الصالحة، فما بالك بمن بينه وبين بلاد المسلمين هذه المسافات الشاسعة التي تبلغ آلاف الأميال وهو يرضى باختياره أن يبقى في منطقة الكفار ليتمتع معهم بدنياهم، حتى ولو كان على حساب دينه؟! وكيف يكون حاله إذا قبض في مثل تلك البلاد المشئومة؟!

ونفس هذا المعنى الذي هو تغيير البيئة لعله هو العلة في تشريع نفي الزاني غير المحصن، وتغريبه سنة بعيداً عن وطنه، فالبكر الزاني عليه جلد مائة ونفي سنة أو تغريب سنة لتجتمع عليه نوعان من العقوبة: عقوبة بدنية بالجلد، وعقوبة قلبية بالنفي والاغتراب، فهذه عقوبة قلبية ونفسية، بجانب أن هناك مصلحة أخرى من أن هذا الذي ارتكب هذه الفاحشة إذا نفي بعيداً عن هذه البلد التي ارتكب فيها هذه المعصية هذا فيه مصالح جمة له؛ لأنه بهذا يبعد عن مسرح الجريمة التي مارسها وبالتالي يعينه على نسيان ذكراها، وفي نفس الوقت الإنسان إذا جلد وأقيم عليه الحد على الملأ لقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، إذا وجد في مثل هذا المجتمع واشتهر بأنه فعل فعلاً من هذه الأفعال الشنيعة، لا شك أن الناس سينظرون إليه بازدراء وباحتقار وبامتهان؛ لأن هذا قد ظهر منه هذا الفسق، وبالتالي يتعرض لمضايقات، أما إذا جدد البيئة وانتقل إلى مكان آخر حيث لا يعرف أو حيث لا يؤذى، وحيث لا يذكره أحد بهذه المعاصي، فإنه يستطيع أن يفتح صفحة جديدة، وأن يجدد العهد، وأن يستأنف التوبة الصادقة والحياة الكريمة دون أن يمتهن، ودون أن ينظر الناس إليه بامتهان واحتقار.

والحقيقة أن هذه الحكمة التربوية التي نناقشها الآن وهي موضوع التحول عن البيئة المثبطة إلى بيئة معينة هي مسألة نسبية، يعني: ليس شرطاً أن كل إنسان يتحول من بلد إلى بلد، بل ممكن أنه يتحول من قرية إلى قرية، وممكن أن يتحول من حي إلى حي، فإذا لم يمكن هذا ولا ذاك، فإنه يستطيع أن يتحول من صحبة إلى صحبة، أي: يغير الصحبة، فإن عجز عن هذه كله فيتحول بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، فهذه الحكمة التربوية لعلها مستقاة من تلك الأدلة الشرعية كما ذكرنا، ونحن نجد تطبيق عملياً لها بصورة ناجحة إلى حد كبير جداً في جماعة التبليغ والدعوة، فإن جماعة التبليغ والدعوة ترتأي أحد ركائز أسلوبها التعليمي والتربوي هو ضرورة نزع المدعو من بيئته وغمسه لفترة كافية في بيئة أخرى، وهذا طبعاً يلاحظ، بغض النظر عن أحوال جماعة التبليغ، فإننا لسنا في مجال الكلام وتفصيل المؤاخذات على جماعة التبليغ، فقد سبق أن تكلمنا عليها بالتفصيل منذ زمن بعيد، لكن نحن الآن نتكلم على أن هذا واقع عملي نلمسه ونراه، ونحس بأثره، ونرى كيف يتغير سلوك الذي يأوي إليهم، بحيث تجده بعدما كان سكيراً عربيداً قاطع طريق عاقاً لوالديه لصاً تجده بمجرد أن يمتزج مع هذه الجماعة يتحول من الباب الآخر رجلاً عابداً خاشعاً قانتاً صالحاً، وصحيح أنهم لا يعلمونه الكثير، لكن الشاهد أننا ننظر إلى هذه الإيجابية النسبية، فأسلوبهم الأساسي في هذا هو هذا القضية التي نتكلم فيها، يعني: أن ينزع هذا الشخص من البيئة التي هو فيها، ويغمس في بيئة أخرى، فيسهل تطبيع هذا التائب بغرس قيم ومفاهيم جديدة مع التكرار باستمرار، ومع تطهيره من القيم المراد نزعها من قلبه، وبصورة سلسة وتلقائية، وفعالة، وتفسر جماعة التبليغ ذلك بمثال وطبعاً هم يتقنون جداً ضرب الأمثال، بل أحياناً تطغى على الاستدلالات الشرعية، فيقولون: إذا سقطت الجوهرة في النجاسة، فلو أردنا أن ننظف الجوهرة وهي باقية في وسط النجاسة، وبقينا نصب عليها الماء، ونصب الماء ونصب الماء فإنها لن تطهر، لكنها تطهر إذا نزعتها من وسط النجاسة بعيداً عنها ثم غسلتها، فحينئذٍ تطهر، فيقولون: إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تنظف إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها سهل تنظيفها بالقليل من الماء.

صحبة أولي الهمم العالية سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

وننتقل إلى سبب مرتبط بهذا السبب من أسباب الارتقاء بالهمة، وهو: صحبة أولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم، فهذا سبب آخر مرتبط بالسبب الماضي، وإن كان السبب الماضي عاماً، فمن انتقل إلى بيئته أخرى فعلية بعد ذلك في هذه البيئة الجديدة أن يبحث عن أناس أولي همة عالية ويصحبهم؛ كي يتأثر بهم، فالطيور على أشكالها تقع، فالغراب يطير مع الغربان، والحمام مع الحمام، والنسور مع النسور، وكل شكل من أشكال الطيور مع شكله، وكذلك الأسماك وكذلك غيرها من الكائنات، وكذلك بنو آدم، فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي.

والعبد يستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم، فإذا عشت مع الصالحين فإنك تستفيد باللحظ وبالنظر أكثر ما تستفيد بالكلام؛ لأن رويتهم تذكر بالله عز وجل، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر فمجرد رؤيتهم تفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشر.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] قال: هم الذين يُذكر الله لرؤيتهم هذه هي علامة أولياء الله، فإنهم مباركون حيثما كانوا، وإذا رآهم الناس تذكروا الله سبحانه وتعالى، والإنسان فعلاً يشعر بهذا، فأحياناً يمضي مثلاً في الطريق، ويكون غافلاً عن ذكر الله، فإذا رأى رجلاً تتحرك شفتاه بذكر الله، سرعان ما ينتبه الإنسان إليه ويقتدي به في هذا، ومثلاً: تركب أحياناً في مواصلات فتجد رجلاً منزوياً في جانب ويمسك المصحف الشريف ويقرأ من القرآن، المصلحون في كل مكان يذكرون الناس بلحظهم قبل أن يذكروهم بلفظهم.

وروي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان الربيع بن خثيم إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه، فقال له ابن مسعود : (يا أبا يزيد ! لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين)، فانظر إلى رجل ينبهر به عبد الله بن مسعود ويقول له: لو رأك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين، ولذلك كان ابن مسعود يعامله معامله خاصة، فكان إذا دخل الربيع بن خثيم على عبد الله بن مسعود تنقطع المقابلات ولا يمكن أن يقابل أحداً أبداً إلى أن يفرغ من حاجته مع ابن خثيم ثم بعد ذلك يقابل الآخرين.

وقالت العرب: لولا الوئام لهلك الأنام، والوئام هنا بالذات في هذه العبارة معناه: التشبه بالكرام.

قال الماوردي في معنى هذه الكلمة: لولا الناس يرى بعضهم بعضاً فيقتدى بهم في الخير وينتهى بهم عن الشر لهلكوا؛ لأن الانغماس في البيئة الصالحة والبيئة الطيبة يوجد الوئام الذي هو ثمرة هذا الاختلاط، فالناس حينما يحتك بعضهم ببعض يتعلمون من بعض، فيُرى الصالحون ويقتدى بهم، وأيضاً يجتنب الشر عن طريق هذا الوئام، فلولا الوئام لهلك الأنام.

وقال زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه. تحر ألا تجلس إلا إلى من ينفعك في دينك.

أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلا

فأصحب الأخيار تعلو وتنل ذكر جميلا

وعن جعفر قال: كنت إذا وجدت بالقلب قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى، يعني: من شدة حزنه وخوفه من الآخرة.

وقال ابن المبارك : إذا نظرت إلى فضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي. هذا والذي يقول هذا هو عبد الله بن المبارك رحمه الله الإمام الجليل المبارك الذي هو من سادات المسلمين رحمه الله تعالى، ومع ذلك يقول في الفضيل بن عياض : إذا نظرت إلى فضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي. فيمقت نفسه ويكره نفسه، لتقصيرها في طاعة الله عن التشبه بهذا العبد الصالح.

وكان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله. فكان من خصائص منهج الإمام أول أسباب الارتقاء بالهمة: العلم والبصيرة، فالعلم يصعد بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، والعلم هو الذي يساعد على تصفية النية، حتى أثر عن بعض العلماء أنه قال: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على طلب الدين.

يعني: أنه شرع في البداية في طلب العلم لأجل الرياء أو لطلب الدنيا، ثم لم يلبث العلم أن أخذ بناصيته إلى الإخلاص، وعلاج أمر الرياء في قلبه.

وذكر القصاص: أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال، فرفضت أن تتزوجه؛ لفقره وقلة حسبه، يعني: أخذت عليه أنه فقير وأنه قليل الحسب، ففكر بأي الأمرين ينالها، أبالمال أم بالحسب؟ فأختار الحسب، وطلب العلم للحسب، حتى أصبح ذا مكانة، ولما اشتهر بطلب العلم، وأصبح له مكانة كبيرة بعثت إليه تلك المرأة نفسها تعرض عليه أن يتزوجها، فقال: لا أؤثر على العلم شيئاً؛ لأنه كان قد ذاق حلاوة العلم، ولذا قال: لا أؤثر ولا أفضل أبداً شيئاً على العلم، وأبى أن يتزوجها، فهذا العلم ارتفع بهمته عن أن يحصر همه في نيل مثل هذا المطلب الدنيء.

وهذا يذكرني بشاب إنجليزي كان يدعى نيجل بريطاني الأصل له قصة طريفة: رحل من بريطانيا إلى مصر على الدراجة، حيث رحل أولاً بدراجة من بريطانيا إلى اليونان، ثم ركب مركباً إلى لبنان، وكان في الطريق يشتغل قليلاً ليجمع بعضاً من المال، ثم يتم رحلته، حتى مر على فلسطين، ثم مر على سيناء حتى وصل إلى مصر، ثم تجول في داخل مصر إلى أن وصل إلى الإسكندرية فقابله شاب يقود التاكسي، فتعرف عليه ودعاه إلى بيته، المهم أنه صار بينهما نوع من الصداقة، ثم رأى بنت الجيران في حي منزل صديقه، فأراد هذه الشاب الإنجليزي أن يتزوجها، فقال أهلها: لا بد أن تكون مسلماً؛ لأنها مسلمة لا تتزوج من غير مسلم، فقال: كيف أسلم؟ فقالوا: تذهب إلى بعض الناس، فقابل بعض الناس، حتى يأخذ تصريحاً بأنه مسلم كورقة ويحقق مأربه، فبعض الإخوة أعطاه كتباً وكلمه شيئاً من هذا، فغاب تقريباً مدة شهر، ثم عاد بعد ذلك يبحث بجدية وبدأب شديد عمن يعلمه قراءة الفاتحة؛ لأنه لما قرأ معاني القرآن الكريم، وتعلم شيئاً عن الإسلام، أقبل بكليته نحو الإسلام، فدخل في الإسلام ولله الحمد، ولما ذكروه بموضوع هذه الفتاة قال: أنا كنت أطلب الإسلام من أجل المرأة، أما الآن فلا أتحول عن الإسلام إلى مقصد آخر، ولم يفكر بعد في أن ينال الزواج من هذه المرأة، وهذا الأخ أتقن اللغة العربية جيداً درس في الأزهر في القاهرة، وحفظ القرآن الكريم كله، ولله الحمد.

الشاهد: أن العلم بالوحيين بالقرآن والسنة والمعاني العظيمة يرتفع بهمة الإنسان.

وأيضاً من فضائل العلم أنه يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فإذا عرف مراتب الأعمال يقدم الأهم على المهم، ويتقي فضول المباحات التي تشغله عن عبادة الله سبحانه وتعالى، سواء كان فضول الأكل، أو فضول النوم، أو فضول الكلام.

ثم العلم يدفعه إلى أن يراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والوجبات؛ امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأعط كل ذي حق حقه) .

وأيضاً العلم هو الذي يبصره بحيل إبليس وتلبيسه عليه؛ لأن إبليس قد يأتيه ويحاول أن يحول بينه وبين فعل ما هو أكثر ثواباً مما يفعله، ويشغله بالمفضول عن الفاضل، قال أبو سليمان : يجيئك -أي: إبليس- وأنت في شيء من الخير، فيشير إلى شيء من الخير دونه، ليربح عليك شعيرة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2474 استماع
علو الهمة [8] 2400 استماع
علو الهمة [6] 2258 استماع
علو الهمة [7] 2159 استماع
علو الهمة [9] 2036 استماع
علو الهمة [5] 1904 استماع
علو الهمة [16] 1818 استماع
علو الهمة [15] 1787 استماع
علو الهمة [3] 1622 استماع
علو الهمة [14] 1605 استماع