عمارة المساجد وآدابها


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون! اتقوا الله واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون، يقول الله عزوجل: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].

من أجَل الأعمال وأعظمها منزلة عند الله تعالى عمارة بيوت الله وأحب البقاع إليه عمارة حسية ومعنوية، حسية بتوقيف الأرض وبالبناء والترميم والتنظيف.

وإنني أحث كل مسلم يريد أن يُخرج شيئاً من ماله ليكون صدقة جارية له بعد مماته، سواء كان ثلثاً أو أقل، أن يخرجه الآن في حال الحياة والصحة، وأن يصرفه في شراء أرض مسجد، أو مدرسة إسلامية، أو مكتب للدعوة، أو سكن لطلاب العلم أو لعمارة ذلك، سواء كان ذلك في جميعه أو في بعضه، ليكون له أجر مستمر وصدقة جارية إلى يوم القيامة، وليسلم ورثته من بعده من النزاع والشحناء.

عباد الله! والعمارة المعنوية للمساجد بالصلاة فيها، وتلاوة كتاب الله، والذكر، والدعاء، وإقامة دروس العلم وحضورها، قال الله عز وجل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].

وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم المسجد أمارة تدل على إسلام أهل البلد، فقد أخرج البخاري رحمه الله من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعدما يصبح).

إن المسجد له دور عظيم، فهو الأساس الأول في تكوين شخصية المسلم، وتكوين خلقه وعبادته، وعلاقته بربه وبنفسه وإخوانه المؤمنين، فالمسجد يعتبر مركز تربية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) رواه مسلم.

ومن المسجد تصعد الأعمال الصالحة، وفيه تنزل الرحمة، وتتهذب الأخلاق، وتصفو النفوس، ويحصل ترابط المؤمنين، وتقوى أخوتهم، ولهذا لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به عمارة المسجد.

إن عمارة المساجد من أبرز أعمال البر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- رجل قلبه معلق بالمساجد) رواه البخاري ومسلم.

وعمارة المسجد بالتردد عليه يعتبر كالمرآة الصافية التي تعكس أحوال الناس، ومدى رغبتهم في الخير، وبذلك يتضح المؤمن من المنافق، فقد روى الترمذي وحسنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان).

وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، أو مريض.

ومن الآثار الاجتماعية للمؤمنين بسبب المساجد: حصول التكافل بينهم، فالمسجد هو وسيلة التعارف بينهم، ومع مرور الأيام يألف بعضهم بعضاً، وتتكون بينهم المحبة في الله، فيزور بعضهم بعضاً، ويتعارفون فيما بينهم، على أمور دينهم ودنياهم.

عباد الله! إن للمسجد آداباً يشرع مراعاتها:

من ذلك: أنه يسن لمن أراد أن يدخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى، وأن يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، وأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يقول: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك.

وإن أراد الخروج خرج برجله اليسرى، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم.

ومن الآداب: يسن لمن دخل المسجد ألا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية المسجد، وتجزئ السنة الراتبة عن تحية المسجد، والأفضل أن ينوي الراتبة وتحية المسجد إذا كان لهذه الصلاة التي جاء من أجلها سنة راتبة قبلية، كصلاة الفجر وكصلاة الظهر، وإذا توضأ في بيته ثم أتى المسجد فصلى ركعتين ينوي بهما تحية المسجد والسنة الراتبة وسنة الوضوء، حصل له ثلاث صلوات بركعتين، ولله الحمد.

وإذا كانت الصلاة قد أقيمت فإنه يدخل مع الإمام على أي حال كان.

ولا ينبغي لمن قدم إلى المسجد أن يرفع صوته في القراءة وغيرها، بحيث يشوش على المصلين أو التالين الآخرين.

كما أنه يستحب لمن انتظر الصلاة أن يجلس مستقبل القبلة، وأن يشتغل بالقراءة والذكر والدعاء، وألا يشبك بين أصابعه.

عباد الله! من مظاهر الاهتمام بالمسجد الاهتمام بنظافته وبنظافة ملحقاته، كدورات المياه، فينبغي أن يُحسن استخدامها لتبقى دائماً نظيفة.

ومن سوء الأخلاق والتصرفات السيئة ما يحدث من بعض الناس من كتابة عبارات في دورات المياه تدل على قبح فاعلها، مما يكون سباً لأشخاص، أو دعوة لفساد، فيجب على المسلم أن يربأ بنفسه عن هذه السخافات.

عباد الله! إن من عمارة المساجد والاهتمام به صونه عن النجاسات والروائح الكريهة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) رواه مسلم .

وكذا كل ما يتأذى من رائحته، كالدخان ونحوه.

وكذلك أيضاً: تصان المساجد عن القاذورات وفضلات الطعام.

وينبغي لمن حضر المسجد للصلاة أن يكون طيب الرائحة متنظفاً، قال الله عزوجل: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].

عباد الله! وأما ما يتعلق بالحديث في المسجد، فإن كان في عقود المعاوضات كالبيع والشراء والإيجار وعقد الشركة والمساقاة ونحو ذلك.. فقد نص كثيرٌ من العلماء على عدم جواز هذه العقود، ولا تنعقد؛ لأن المساجد لم تبن لهذا.

وأما إن كانت عقود تبرعات، كالوقف والوصية والهبة، وكذا عقد النكاح، فهذه العقود جائزة؛ لأنها لم يقصد بها المال ولا الكسب والتجارة.

وأما الحديث في غير العقود فإن كان يتعلق بأمور الدنيا، كالسؤال عن أسعار السلع وقيمها وأين تباع، ونحو ذلك مما يتعلق بالزراعات والصناعات، فهذا نص العلماء رحمهم الله على أنه مكروه، وإن كان السؤال عن شيء لا يقصد به المال ولا الكسب، كالسؤال عن الصحة والإخوان والأولاد والعمل والزواج والسفر والتنزه ونحو ذلك، فإن هذا جائز.

وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله! ومن الظواهر التي يجب أن تخفى من المسجد، ما يتعلق بنغمات الهواتف النقالة، التي تكون على شكل نغمات موسيقية، أو أن تكون مزعجة للتالين والمصلين والمتعبدين، فيجب على المسلم أن يحذر من هذه النغمات وألا يؤذي بها إخوانه.

كذلك أيضاً من الظواهر التي يجب أن تختفي، ظاهرة التحجير وحجز المكان في أي جزء من المسجد؛ لأن المسجد مشاع لكل مصل وعابد، فحجر المكان قبل الصلاة بمدة إلى حين وقتها لم يكن معهوداً عند السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وإنما كانوا يتقدمون بأبدانهم حيث ينتهي بهم الصف، ولم يعرف عن الصحابة ولا التابعين أنهم كانوا يحجزون الأمكنة قبل الوقت.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عمن يحجز موضعاً في المسجد بسجادة أو بساط أو غير ذلك، هل هو حرام؟ وإذا صلى إنسان على شيء من ذلك بغير إذن مالكه هل يكره أم لا؟

فأجاب قائلاً: ليس لأحد أن يحتجز من المسجد شيئاً، لا بسجادة يفرشها قبل حضوره، ولا ببساط ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها، في أصح قولي العلماء. اهـ.

وإذا حصل لإنسان عذر فلا بأس أن يحجز مكانه، بشرط أن يعود قريباً.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العمل بالسنة، والمسارعة في الخيرات، والمسابقة إلى مغفرة الله وجنته، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم طهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد والبغضاء والشحناء، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شر شرارهم، اللهم أصلح ولاة المؤمنين، واجعلهم من عبادك الصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم اجعلنا من الشاكرين لك، ومن الذاكرين.

اللهم أغث قلوبنا بنور هدايتك، وأرضنا برحمتك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أجب دعواتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وسلمنا من كل إثم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ارحمنا واكشف ما بنا وبالمسلمين من ضر، اللهم اصرف عنا كيد الأعداء، واصرف عنا السوء والفحشاء.

ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم اكفنا والمسلمين شرورهم، واجعل اللهم كيدهم في نحورهم، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجبر مصابنا، واقض الدين عن مديننا، اللهم أعذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.