نصائح وتوجيهات لطلاب العلم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تعلمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علمتنا، وأن تزيدنا علماً، اللهم إنا نسألك الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

أيها الأحبة! لقاؤنا حول توصيات ونصائح وتوجيهات لطلاب العلم أخص بها أولاً نفسي ثم بعد ذلك بقية إخواني وزملائي ممن تشرفوا بسلوك هذا الدرب.

أيها الأحبة! العلم فضله عظيم، وأجره كبير، وهو من أفضل العبادات، وأجل القربات، ويكفي فيه فضلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم هو إمام المعلمين، وإمام المتعلمين، والأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين في فضل هذه العبادة كثيرة جداً، وفي بداية هذا اللقاء حسبي أن ألمع إلماعةً يسيرة عن فضل هذه العبادة، فمما جاء في فضلها قول الله عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

وقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

وأيضاً يقول سبحانه وتعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه المزيد من العلم، وقرن الله عز وجل شهادته وشهادة ملائكته بشهادة ذوي العلم على أعظم مشهود عليه، فقال سبحانه وتعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

والأحاديث في فضل العلم وعظم منزلته عند الله جل وعلا كثيرة جداً، فمن ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، ومن عظم فضله ما ورد في حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع).

و(فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).

وفي حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وإن العابد ليستغفر له أهل السماء وأهل الأرض حتى النملة في جحرها)، وهذا لا شك أنه فضل عظيم وأجر كبير.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر مفاضلةً بين طالبين: بين رجل يطلب العلم، ورجل يطلب المال؛ لأن المستقرئ لحال كثير من الناس في هذه الحياة يجد أنهم بين هذين الرجلين: بين رجل يطلب المال، وبين رجل يطلب العلم، فذكر ابن القيم رحمه الله أن طالب العلم يفضل على طالب المال بما يقرب من سبعين وجهاً، فذكر من هذه الأوجه: أن طالب العلم يدعو الناس إلى الله عز وجل بطلبه للعلم، وأما طالب المال فهو يدعو الناس بطلبه إلى الدنيا، وفرق بين الدعوتين: بين دعوة يدعى فيها إلى الله عز وجل، وبين دعوة يدعى فيها إلى الدنيا.

وأيضاً قال بأن العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يحفظ صاحبه من أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، وأما المال فإن صاحبه بحاجة إلى أن يحفظه، وإذا لم يحفظه صاحبه فإنه يضيع عليه، وذكر أيضاً أن العلم يتبع صاحبه حتى بعد الممات ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات العبد تبعه ثلاثة: علمه وماله وأهله، فيرجع اثنان: الأهل والمال، ويبقى العلم)، أما المال فإنه يتخلف عن صاحبه، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرجع، بل إن المال يتخلف عن صاحبه في الحياة؛ إذا مرض الإنسان مرض الموت فإنه لا يملك من ماله تبرعاً إلا الثلث فقط، ولو أراد غير الثلث فإنه لا يملكه، لو أراد أن يتصدق أو أن يقف أو أن يهب أو أن يعتق هذا كله لا يملكه، يعني: لا يملك من التبرعات إلا الثلث فقط رحمةً من الله عز وجل، ومحجور عليه في التصرفات التي يتصرف فيها بالمال فيما يتعلق بالتبرعات.

أما ما يتعلق بالتصرفات كالبيع والشراء والمساقاة والمزارعة وغير ذلك مما فيه تنمية للمال فإنه لا يحجر عليه؛ لأن هذا حظ للورثة، أما ما يتعلق بالتبرعات فإنه يحجر عليه وهو لا يزال حياً.

وكذلك أيضاً قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إن العلماء هم ورثة الأنبياء كما سلف في حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه.

وأما أصحاب الأموال فهم ورثة الملوك والوزراء ونحو ذلك، وفرق بين الميراثين: فرق بين من يرث محمداً صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونوحاً وموسى وعيسى أولي العزم من الرسل، وبين من يرث الملوك والسلاطين والوزراء إلى آخرهم، فرق بين الميراثين.

أيضاً ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى من الفروق بين طالب العلم وطالب المال، قال بأن طالب العلم كلما بذل من علمه فإن علمه يزداد بخلاف طالب المال، فإنه إذا بذل منه فإنه ينقص، إلى آخر ما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، فهذه الأوجه التي ذكرها رحمه الله تعالى تدل على فضل طلب العلم.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تذاكر بعض ليلة أحب إلي من إحيائها. يعني: كون الإنسان يتذاكر بعض ليلة ويطلب فيها العلم، هذا أفضل من كونه يحيي هذه الليلة كلها بالعبادة كالقراءة والصلاة ونحو ذلك؛ لأن العلم نفعه متعدٍ، بخلاف العبادة كالصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك فإن نفعها قاصر.

وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: لا أعلم مرتبةً بعد مرتبة النبوة أفضل من مرتبة تعلم العلم وتعليمه، وأيضاً الشافعي رحمه الله تعالى يقول: فضل نافلة العلم أفضل من نافلة الصلاة.

والإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، قيل: وكيف تصح النية؟ قال: أن ينوي بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره.

فهذه طرف من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله، ومن آثار السلف رحمهم الله تعالى في فضل العلم وتعلمه.

من سلك هذا الدرب ومشى على هذا الطريق فإنه يحتاج إلى شيء من التوجيهات والتوصيات لكي لا يتعثر في طريقه، ولكي يستمر ويصل إلى مقصوده، وقد ألف العلماء رحمهم الله تعالى مؤلفات خاصة فيما يتعلق بآداب الطلب، وعنوا بذكر التوجيهات لطلاب العلم، فمثلاً: النووي رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه المجموع ذكر طرفاً من آداب طالب العلم، والمنهج في طلب العلم... إلى آخره، وأيضاً الخطيب البغدادي رحمه الله له مؤلف مستقل فيما يتعلق بالعلم وتعليمه ونحو ذلك، وكذلك أيضاً ابن جماعة الشافعي رحمه الله تعالى له كتاب مستقل في هذا، وغير ذلك كتب كثيرة، والعلماء رحمهم الله تعالى أيضاً في ثنايا كتبهم، وفي شروحاتهم يذكرون ما يتعلق بآداب الطلب، وما يحتاجه طالب العلم من التوجيهات... إلى آخره.

هذه جملة من نصائح نوجهها لطلبة العلم لا غنى لطالب العلم عنها:

الإخلاص في طلب العلم

النصيحة الأولى التي أوجهها لنفسي أولاً ولإخواني ثانياً: الإخلاص شرط صحة العمل، فنقول: الإخلاص في طلب العلم، وضابط الإخلاص: أن يقصد المتعبد بعبادته وجه الله والوصول إلى دار كرامته، حيث يلاحظ قلبه، ولا يلتفت به إلى أعراض الدنيا الفانية، بل عليه دائماً وأبداً أن يعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى محبةً ورغبةً، وخوفاً ورجاءً وتوكلاً، لا يقصد بطلبه للعلم إلا وجه الله والدار الآخرة، هذا هو ضابط الإخلاص، وقد أمر الله عز وجل به في كتابه، وكذلك أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، يقول الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].

وقال سبحانه وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].

قال فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: أخلصه وأصوبه، وقال سبحانه وتعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].

والبخاري رحمه الله تعالى افتتح كتابه الصحيح بحديث عمر رضي الله تعالى عنه، وفيه إشارة إلى الإخلاص: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى)، يعني: الأعمال، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، يعني: أن النية شرط لصحة العمل، والنية يكون بها صحة العمل، وكما يكون بها فساد العمل، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما لامرئ ما نوى)، وفي بعض الألفاظ: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، هل هذه اللفظة مرادفة للفظة التي قبلها أو أنها ليست من قبيل المترادف بل من قبيل المتباين؟

ابن رجب رحمه الله تعالى ذكر بأنها ليست من قبيل المترادف، بل هي من قبيل المتباين، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما لامرئ ما نوى)، يعني: أن المرء ليس له من الثواب إلا على قدر نيته، فكلما عظم الإخلاص عند الشخص كلما كان أجره عند الله عز جل أكبر؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم رحمه الله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من سرية تغزو فيغنمون إلا تعجلوا ثلثي أجرهم)، هكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، وقد أجاب عنه العلماء رحمهم الله فقالوا: (تعجلوا ثلثي أجرهم)، يعني: حصل عندهم شيء من التفات القلب إلى عرض الدنيا، فنقول: كلما عظم الإخلاص عند الشخص كلما كان ثوابه عند الله عز وجل أكبر، فإذا عظم إخلاصه في طلب العلم كان ثوابه عند الله عز وجل أكبر، وإنما (لامرئ ما نوى)، يعني: أن الإنسان لا يتحصل من ثواب هذا العمل الصالح إلا على قدر نيته، وكما سلف قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: العلم لا يعدله شيء، قيل له: كيف ذلك؟ قال: لمن صحت نيته. قيل: وكيف تصح النية؟ قال: أن ينوي بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره.

وقال وكيع رحمه الله تعالى: من طلب الحديث لغير الله مكر به.

وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة: رجل قرأ القرآن، وعلمه، وأقرأه للناس، فيؤتى به يوم القيامة، فيعرف بنعم الله عز وجل، ويسأل عن هذه النعم، فيقول: قرأت فيك القرآن وأقرأته، فيقال: إنما قرأت لكي يقال: هو قارئ وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه في النار).

تقوى الله مفتاح العلوم

الوصية الثانية: تقوى الله عز وجل مفتاح العلوم، لا شك أن العلم نعمة ونور، والذنب معصية وظلمة، والمعصية تزيل النعم، والظلم تطفئ النور، فيوصى طالب العلم أن يتحلى بتقوى الله عز وجل، وأن يجاهد نفسه على امتثال أمر الله سبحانه وتعالى وعلى اجتناب نهيه، وأن يترك الذنوب والمعاصي؛ لأن الذنوب والمعاصي تطفئ نور العلم، ويدل لهذا قول الله عز وجل: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، قال طائفة من المفسرين: يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل، ولا يفرق المرء بين الحق والباطل إلا إذا كان عنده علم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتقوى الله عز وجل سبب في حصول الفرقان في القلب، يتمكن به من التفريق بين الحق والباطل، وهذا هو العلم، وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28].

فتقوى الله عز وجل سبب لحصول النور، وأعظم النور أيها الأحبة هو نور العلم، وابن مسعود رحمه الله تعالى قال: إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم بالمعصية تصيبه.

و الشافعي رحمه الله تعالى لما قدم على الإمام مالك رحمه الله تعالى، قال له الإمام مالك: إني أرى أن الله سبحانه وتعالى قد ألقى عليك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية.

ومما ينسب للشافعي رحمه الله أنه قال:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي

فطالب العلم أحرى الناس وأولى أن يكون ممن يتحلى بتقوى الله عز وجل، وأن يكون أواباً تائباً رجاعاً إلى الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

الإرادة والعزيمة في الطلب

الوصية الثالثة: الإرادة القوية والعزيمة الماضية، يوصى طالب العلم أن يكون عنده إرادة قوية وعزيمة ماضية، فإذا كان الإنسان عنده إرادة ورغبة فيما ابتغاه وأراده، فإن هذا يسهل عليه طلب العلم، ولهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد)، العزيمة هي قوة الإرادة، يسأل الله عز وجل قوة الإرادة على ما فيه رشده، وأعظم ما فيه الرشد هو العلم، فلا بد أن يكون عند طالب العلم إرادة قوية ورغبة فيما يريد تحصيله، وما يريده من العلم.

البخاري رحمه الله تعالى يحفظ آلاف الأحاديث، ويحفظ آلاف الرجال، وما قيل فيهم من الجرح والتعديل، بل يحفظ الأحاديث بأسانيدها، وسبب هذا الحفظ الذي وجد عند البخاري رحمه الله تعالى هو ما حصل في قلبه من قوة الإرادة، ومضي العزيمة، وشدة الرغبة في هذا الشيء.

يقال في ترجمة البخاري رحمه الله: أنه ذكر له بعض النساء من قريباته لكي يقوم بصلتهن فلانة وفلانة وفلانة، فمضى عليه بعض الوقت فإذا هو ينسى تلك القريبات من هن التي يريد أن يصلهن، مع أنه كان رحمه الله يحفظ آلاف الأحاديث وآلاف الرجال وما قيل فيهم من جرح وتعديل، لكن نسي ما يتعلق بهؤلاء القريبات، لماذا حفظ أولئك الرجال ونسي هؤلاء النسوة؟ السبب في ذلك: أنه حفظ أولئك الرجال وما قيل فيهم من جرح وتعديل؛ لأنه رحمه الله كان عنده إرادة قوية، ورغبة شديدة في تعلم هؤلاء الرجال وما قيل فيهم من جرح وتعديل.

وكذلك أيضاً يقال في ترجمة مسلم رحمه الله، فقد سئل عن حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفه، فاهتم لذلك، يعني: لحقه هم شديد، فدخل المنزل وأغلق عليه وقال لأهله: لا يأتني أحد اليوم، وكان قد أوتي تمراً، فوضع سلة التمر عنده وجعل يأكل وهو يبحث بنهم وشدة، حتى أتى على هذه السلة فكان ذلك سبباً من أسباب موته رحمه الله تعالى.

وهذا شيء مجرب، والواقع يشهد لذلك، فإذا كان الإنسان عنده رغبة في الشيء وإقبال ومحبة.. إلى آخره تجد أنه يجمع قلبه على هذا الشيء، وينصرف عن كل الشواغل التي تشغله عن هذا الشيء، فنقول: لا بد أن نربي أنفسنا على محبة العلم والرغبة فيه، وتعليق القلب به، وطريق ذلك أن نتذكر دائماً وأبداً فضل العلم، وما فيه من أجر عظيم وفضل كبير، وأننا نقوم بذلك مقام أولي العزم عليهم الصلاة والسلام، وأن المسلم في طلبه للعلم وتعلمه للعلم وتعليمه، هو بذلك يحفظ عمره ويقضي لحظات عمره فيما يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة.

مشافهة العلماء

أما الوصية الرابعة: فيوصى طالب العلم بأن يأخذ العلم بالمشافهة، ومعنى ذلك: أن يأخذ العلم عن العلماء وعن المشايخ، وأن يثني ركبه في حلق العلم، ولا يقتصر على الكتب؛ فالاقتصار على الكتب ذمه كثير من السلف، وأثنى السلف على أخذ العلم عن طريق المشافهة، وهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام كان يجلس، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون عنه سنته، قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، فالله عز وجل جعل المؤمنين طائفتين: طائفةً تنفر للجهاد في سبيل الله، وطائفة تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ عنه سنته.

وقال سليمان بن موسى رحمه الله تعالى: لا يؤخذ العلم عن صحفي، والصحفي نسبة إلى الصحف، يعني: الذي أخذ علمه عن طريق الصحف، ولم يأخذ علمه عن طريق العلماء والمشايخ.

و ابن القطان رحمه الله تعالى قال في هشام بن عروة إنه من المخلطين، وهشام بن عروة إمام من الأئمة في الحفظ، ورواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال بأنه من المخلطين. تعقبه الذهبي فقال بأن ابن القطان أخذ الصحف.

والأصل أن طالب العلم يأخذ مشافهة ومباشرة عن العلماء، ويجلس في حلق الذكر والعلم معهم، وذلك لما فيه من الفوائد الجمة، ومن هذه الفوائد:

الفائدة الأولى: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان من السلف الصالح، فمن عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا والعلماء رحمهم الله تعالى يجلسون في المساجد، ويعلمون الناس، بل إن طلاب العلم كانوا يرحلون إليهم.

الفائدة الثانية: تجنب الخطأ، فالذي يأخذ من الكتب ويقتصر على ذلك ربما فهم الكلام على غير وجهه، وهذا يقع، ربما فهم الكلام على غير وجهه، لكن من يأخذه من العلماء والمشايخ فهذا قل أن يقع في خطأ.

الفائدة الثالثة: القدرة على المباحثة والمناظرة، طالب العلم الذي درس عند العلماء تجد أن عنده قدرةً على المباحثة والمناظرة، ومناقشة دليل المخالف إلى آخره؛ ولهذا ابن مالك رحمه الله تعالى صاحب الألفية يقال بأنه لم يتتلمذ على العلماء؛ ولهذا ذكروا في ترجمته أنه لم يكن عنده قدرة على المباحثة والمناظرة.. إلى آخره.

الفائدة الرابعة: اختصار الوقت؛ لأن هذا العالم وهذا الشيخ يكون قد ألم بالمسألة، وعرف كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى فيها، وعرف الأقوال فيها، وعرف الأدلة، وعرف الراجح والمرجوح.. إلى آخره، فهو يختصر لك الوقت، فأنت تأخذ منه زبدة هذه المسألة وما قيل فيها.. إلى آخره.

الفائدة الخامسة أيضاً من فوائد التتلمذ على أهل العلم: تعلم السمت من هؤلاء العلماء، وأخذ أخلاق العلماء، وما يحصل في ذلك من توجيهات ونصائح وإرشادات.

الفائدة السادسة والأخيرة: تربية النفس على الصبر في أخذ العلم يعني كونه يربي نفسه كونه يأتي ويحضر ويجلس، هو يربي نفسه على المصابرة والمجاهدة في طلب العلم.

العمل بالعلم

الوصية الخامسة: العمل بالعلم، فالعمل بالعلم مما يحفظ العلم ويزكيه وينميه، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].

قال العلماء: الرباني هو الذي يجمع بين العلم والعمل، وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، قال العلماء: الفقه في الدين ليس مجرد حفظه فقط، وإنما حفظه والعمل به.

وفي صحيح مسلم من حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى لله في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بني له بهن بيت في الجنة).

قالت أم حبيبة الراوية عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عنبسة الراوي عن أم حبيبة: ما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة.

قال عمرو بن عوف الراوي عن عنبسة: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة.

قال النعمان بن سالم الراوي عن عمرو بن عوف: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن عوف.

وهذا يدل على حرص الصحابة رضي الله تعالى عنهم على العمل بالعلم، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم لكي يعملوا.

وفي حديث المغيرة وعائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه)، أي: تتشقق قدم النبي صلى الله عليه وسلم من طول القيام، وكل ذلك عملاً بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل:1-3].

والآثار في هذا كثيرة جداً، والأصبهاني رحمه الله تعالى ألف كتاباً اسمه: ثواب الأعمال، يقول: ما أودعت في هذا الكتاب حديثاً إلا استعملته، أي: إلا عملت به.

والإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول: ما كتبت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت به.

فهذا يدلك على حرص علماء السلف رحمهم الله تعالى على العمل بالعلم، وهكذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

فينبغي لطالب العلم أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وأن يعرف بنهاره إذا الناس يفطرون، وأن يعرف ببكائه إذا الناس يضحكون.. إلى آخره.

التفرغ لطلب العلم

الوصية السادسة: التفرغ لطلب العلم، والله عز وجل يقول: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، فكون الإنسان يشغل نفسه بأمور الدنيا وبالعلم فإنه لا يكاد يصل، لكن إذا فرغ نفسه لطلب العلم فإنه سرعان ما يصل، فينبغي لطالب العلم أن يفرغ نفسه، وليس المعنى أن يترك طلب الدنيا بالكلية؛ لأن الإنسان لا بد له من لقمة العيش، والله عز وجل قرن بين المجاهدين في سبيل الله، وبين الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، يقول الله عز وجل: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]، فالله عز وجل قرن بينهما.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاماً أفضل من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده).

فلا بد للإنسان من وقت يعمل فيه لكي يحصل لقمته ولقمة من يمونه، والمراد من أن يفرغ نفسه لطلب العلم ألا يجعل كثيراً من وقته في أمور الدنيا، وأن يشغل نفسه بأمر الدنيا، بل يجعل له وقتاً مثلاً في أول النهار، يطلب فيه لقمة العيش، وفي آخر النهار يتفرغ لطلب العلم.

يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: يقولون: أكثر أبو هريرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160] وإن إخواننا المهاجرين شغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا الأنصار شغلهم العمل بأموالهم، وإن أبا هريرة لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، فعلم ما لا يعلمون، وحفظ ما لا يحفظون.

فـأبو هريرة رضي الله تعالى عنه لما لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرغ نفسه لطلب العلم كان من أحفظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يفرغ وقته لطلب العلم، وكما أسلفنا ليس المعنى أن يكون عالةً على غيره، بل يجعل وقتاً يطلب فيه أمر دنياه، ووقتاً آخر يستعين به على طلبه للعلم.

ضبط اصطلاحات العلماء

الوصية السابعة: ضبط الاصطلاحات أو ضبط المصطلحات، فالعلماء والفقهاء رحمهم الله تعالى لهم في كتبهم مصطلحات وألفاظ، ينبغي لطالب العلم أن يعنى بهذه المصطلحات والألفاظ، ومثله أيضاً أهل الحديث لهم في ذلك مصطلحات، وأهل التفسير وأهل العقيدة.. إلى آخره، فأنت تجد مثلاً أن هناك كثيراً من الكتب التي ألفت في ألفاظ العلماء ومصطلحاتهم، لا بد لطالب العلم لكي يسير على صواب في طلبه أن يعنى بتفهم هذه المصطلحات، وأضرب مثلاً: الكراهة في لسان السلف تعني التحريم، الله عز وجل لما ذكر طائفةً من المحرمات قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، ذكر قتل النفس، وذكر النهي عن قربان الزنا، وذكر أكل مال اليتيم، ثم بعد ذلك قال الله عز وجل: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، فالكراهة في لسان السلف تختلف عن الكراهة في لسان المتأخرين، الكراهة في لسان السلف تعني التحريم، أما الكراهة عند المتأخرين فتعني ما نهى عنه الشارع لا على سبيل الإلزام.

أيضاً من الأمثلة على ذلك: النسخ، فالنسخ في لسان السلف بمعنى: تقييد المطلق، وتخصيص العام.. إلى آخره، لكن النسخ في لسان المتأخرين لا يعني هذا المعنى، بل يعني: رفع الحكم الثابت بدليل شرعي متراخٍ عنه، فعند السلف رحمهم الله النسخ يشمل تقييد المطلق، وتخصيص العام.. إلى آخره، لكن عند المتأخرين يختلف.

وهناك كتب ألفت وأضرب مثلاً من الأمثلة على ذلك، فمثلاً: عند الحنابلة رحمهم الله، هناك جملة من الكتب التي عنيت بدراسة مصطلحات الحنابلة وألفاظهم، وكذلك أيضاً كتبهم.. إلى آخره، فمثلاً هناك كتاب اللآلئ في الكتب الحنبلية، وكذلك أيضاً مفاتيح الفقه الحنبلي، وكذلك أيضاً كتاب المدخل لابن بدران، وكتاب المدخل المفصل أيضاً للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى، فأقول: ينبغي لطالب العلم أن يعنى باصطلاحات العلماء وألفاظهم، وأن يتعرف على هذه المصطلحات وهذه المفاتيح لهذه الفنون.

العناية بالحفظ

الوصية الثامنة: العناية بالحفظ، إذ لا بد لطالب العلم أن يكون له محفوظات يحفظها، وهناك مختصرات ومتون ألفها العلماء رحمهم الله تعالى لكي تحفظ في سائر الفنون، فمثلاً في العقيدة هناك جملة من المتون والمختصرات ينبغي لطالب العلم أن يحفظ شيئاً منها، فمثلاً: العقيدة الواسطية تعتبر زبدة مذهب أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وما يكون بعد الموت، وما يجب الإيمان به فيما يتعلق باليوم الآخر، وكذلك أيضاً ما يجب على المسلم أن يعتقده تجاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكتاب التوحيد للشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله يعتبر زبدةً وباباً في توحيد الألوهية وما يجب لله سبحانه وتعالى من العبادات، وما يحرم عليه من الشرك.. إلى آخره.

ومثل ذلك أيضاً متن العقيدة الطحاوية والعقيدة السفارينية.. إلى آخره، فينبغي لطالب العلم أن يعنى بذلك.

كذلك أيضاً في الفقه، كل مذهب من مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله لهم متون تعنى بمذاهبهم، وما اصطلح عليه المتأخرون منهم أنه المذهب، ينبغي لطالب العلم أن يحفظ شيئاً من هذه المتون، فمثلاً: عند الحنفية كتاب الهداية، وعند المالكية مختصر خليل، وكذلك أيضاً الرسالة، وعند الشافعية المنهاج، وعند الحنابلة رحمهم الله زاد المستقنع، وعمدة الطالب.. وغير ذلك.

وهذه المتون تعتبر من قبيل الوسائل، وليست من قبيل المقاصد، فالمقصد إنما هو معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الكتب تعتبر وسائل يتوسل بها إلى معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ضير من كونك تحفظ هذا المتن أو هذا المتن، فلا مشاحة في ذلك، لكن تختلف هذه المتون من حيث الضبط والتحرير وكثرة المسائل... إلى آخره، لكن من جهة التطبيق والعمل فالمسلم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أقول: لا بد أن نعنى بالحفظ، وأن يكون طالب العلم له محفوظات، والعلماء -ولله الحمد- عنوا أو عمدوا إلى هذه الفنون واختصروها وحرروها وضبطوها بهذه المتون، فأنت إذا حفظت العقيدة الواسطية تكون قد حفظت جملة معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.. إلى آخر ما ذكرنا، وكذلك أيضاً إذا حفظت زاد المستقنع تكون قد حفظت ما يقرب من ستة آلاف مسألة في الفقه.

أيضاً: إذا حفظت كتاب التوحيد تكون قد حفظت ما يتعلق بما يجب لله عز وجل من توحيد الألوهية.. إلى آخره.

أيضاً: إذا حفظت نخبة الفكر في مصطلح الحديث تكون قد حفظت زبدة مصطلح الحديث في هذا المتن، ومثل ذلك أيضاً الورقات للجويني في أصول الفقه.. إلى آخره، فنقول: لا بد لطالب العلم أن يكون له محفوظات، وأبو زيد بن أخطب كما في صحيح مسلم يقول: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى بنا الظهر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى بنا العصر، فخطبنا حتى غربت الشمس)، قال أبو زيد: فأعلمنا أحفظنا.

وكان أبو زرعة يحلف أن الإمام أحمد رحمه الله يحفظ ألف ألف حديث، ويقول عكرمة رحمه الله تعالى: كان ابن عباس يقيدني -يعني: يربطني بالقيد- على حفظ القرآن والفرائض.

إذا قرأت في كتب الرجال والسير والطبقات تجد الشيء العجاب من حفظ العلماء رحمهم الله تعالى؛ تجد أنهم يذكرون في ترجمته: أنه حفظ القرآن الكريم، وحفظ كذا وكذا من المتون، فلا بد لطالب العلم أن يكون له محفوظات، وأولى المحفوظات بالحفظ هو كتاب الله عز وجل، ففي حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه الثابت في صحيح مسلم، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن وعلموا من السنة)، فبدأ بالقرآن قبل السنة، فيؤخذ من هذا أن الإنسان يبدأ بالقرآن قبل كل شيء.

و الميموني رحمه الله تعالى يقول: سألت الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أبدأ بتعليم ابني بالقرآن أو بالحديث؟ فقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: بالقرآن.

وفي ترجمة ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى -صاحب جامع البيان- أنه حفظ القرآن وهو ابن ست سنوات.

فينبغي لطالب العلم أن يعنى بالمحفوظات، وكما ذكرنا أن أولى المحفوظات بالحفظ هو كتاب الله عز وجل، ثم بعد ذلك يعنى بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك ما ذكرنا مما يتعلق ببقية متون أهل العلم.

التدرج في طلب العلم

الوصية التاسعة: التدرج في طلب العلم.

طالب العلم لا بد أن يتدرج في طلب العلم، ومن رام العلم جملةً ذهب عنه جملة، لا بد لك أن تتدرج في طلب العلم، وأن يكون لك أصول تسير عليها، وهذه الأصول أيها الأحبة هي ما بيناه، فنحن ذكرنا أن العلماء رحمهم الله تعالى اختصروا هذه العلوم والفنون وجعلوها في قواعد وأصول، وهي هذه المختصرات، فعلينا أن نسير على هذه المختصرات، وأن نربي أنفسنا عليها، والذي يسير على هذه المختصرات يصل، والذي لا يسير على هذه المختصرات لا يصل، كما ذكرت في العقيدة مجموعة من المختصرات، وفي الفقه، وفي الحديث، وفي مصطلح الحديث، وفي أصول الفقه، وفي مصطلح التفسير، وفي اللغة .. إلى آخره، في اللغة، كثير من المتون والمصطلحات، فعليك أن تسير على هذه المتون.

وأخذ العلم على هذا الطريق؛ طريق التدرج والمشي على هذه الأصول فيه فوائد:

الفائدة الأولى: الاقتداء بمن سلف، والخير كله فيمن سلف، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، وأنت إذا قرأت في كتب العلماء رحمهم الله تعالى تجد أنهم يربون تلامذتهم على هذه المختصرات، ويحفظونهم إياها، ويشرحونها لهم.

الفائدة الثانية: أنه يحفظ طالب العلم من الضياع، فتجد أن الذي عنده كتاب يسير عليه يحفظه من الضياع، ينتقل بين كتب هذا الكتاب وأبوابه مرحلةً مرحلة كالمسافر حتى يصل إلى مبتغاه.

أما من ليس له أصول يرجع إليها، ولا قواعد يسير عليها، فهذا سرعان ما ينقطع، تجد -الآن- بعض من لم تكن معه هذه الأصول تارةً يقرأ في هذا الكتاب، وتارةً يقرأ في هذا الكتاب.. إلى آخره، فسرعان ما ينقطع ويضيع، فهذه الأصول وهذه القواعد وتحفظك من الضياع، تحفظك من التشتت.

الفائدة الثالثة: إذا كان لك أصل وقاعدة ومختصر تسير عليه، فهذا أسهل في مذاكرة العلم، فعندك الآن كتابك تعلق عليه، وتحشي عليه وتجمع ما تحصلت عليه من علم، وهذا أسهل في مذاكرته حيث ترجع إليه دائماً وتذاكره.

الفائدة الرابعة: هذا أسهل في تعليم العلم، فعندما تريد أن تعلم علماً فإن هذا أسهل؛ لأنه بإمكانك أن ترجع إلى الأصل الذي كان عندك وتسير عليه.

فنقول أيها الأحبة! هذه فوائد الاعتماد على مثل هذه الأصول والقواعد، فيجب على طالب العلم أن يلزم التروي والتأني في طلب العلم، بمعنى: أن يأخذ العلم شيئاً فشيئاً، وأما أخذ العلم جملةً فإنه يذهب عنه جملة، والله عز وجل يقول: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء:106]، فالقرآن وهو الهدى والنور فرقه الله عز وجل ونزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منجماً لكي يقرأه على الناس على فترات، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يأخذ العلم شيئاً فشيئاً، وأما كونه يأخذه أو يريده جملةً واحدةً فإن هذا سرعان ما يذهب عنه.

مذاكرة العلم

الوصية العاشرة: مذاكرة العلم، لا بد لطالب العلم أن يراجع علمه، وأن يذاكره، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)، وكان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل عام مرة إلا في العام الذي مات فيه فإن جبريل دارسة مرتين.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن، فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).

وأئمة السلف رحمهم الله تعالى كالإمام أحمد ويحيى بن معين وأبي زرعة وغير ذلك كانوا يعقدون مجلسين: المجلس الأول: مجلس الإملاء؛ يملون فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلامذتهم، والمجلس الثاني: مجلس المذاكرة، كانوا يتذاكرون فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مجالس الصحابة رضي الله عنهم كما قال أبو سعيد: كانت مجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقه.

كانوا يتذاكرون فيها الفقه. فينبغي على طالب العلم أن يحرص على مذاكرة العلم، وأن يكون له زملاء يعينونه على ذلك، يعني مع شيخه كلما أخذ جملةً من الأبواب، بعد ذلك يتذاكر هو وزميله ما يتعلق بهذه الأبواب.

كتابة العلم

الوصية الحادية عشرة: كتابة العلم، لا بد لطالب العلم أن يكتب، وألا يعتمد على حفظه، وكون الإنسان يعتمد على حفظه قد يخونه الحفظ وقد ينسى، وإذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يكتبون وهم في ذلك الزمن عندهم من قوة الحافظة ما ليس عندنا، فنحن من باب أولى أن نعنى بالكتابة، ويقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ليس أحد أكثر مني حديثاً إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه).

وقال الشعبي: اكتب ولو على الحائط.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سجن يكتب العلم على الحائط، كلما بدا له شيء كان يقوم بكتابته.

و الشافعي رحمه الله تعالى كان يفتح السراج في الليلة الواحدة عدة مرات يقوم بكتابة ما يستحضره ويستنبطه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقه الخلاف

الوصية الثانية عشرة: ما يتعلق بفقه الخلاف، لا بد لطالب العلم أن يكون لديه إلمام فيما يتعلق بالخلاف، ومتى يكون الإنكار؟ ومتى لا يكون الإنكار؟ وأيضاً أن يكون عنده سعة صدر للمخالف.. إلى آخره؛ لأن الإنسان إذا حمل في نفسه على غيره ممن خالفه، فإنه حينئذ يكون قد انتصر لنفسه وتعصب لها، وأيضاً إذا تأملنا ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم نجد أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم -كذلك أيضاً السلف- كانوا يتناظرون ويتباحثون، ومع ذلك لا يحمل بعضهم على بعضهم شيئاً، كما تناظر الإمام أحمد رحمه الله تعالى ويحيى بن معين، ومع ذلك قام الإمام أحمد وأخذ بركاب يحيى بن معين لكي يؤلفه، ومثل ذلك أيضاً ما حصل بين الشافعي ويونس بن عبد الأعلى حيث قاما وتناظرا فلم يتفقا، ومع ذلك أخذ كل واحد منهما بيد الآخر، فلا بد أن يكون عندنا سعة صدر فيما يتعلق بالخلاف، وقد ذكر العلماء رحمهم الله ما يتعلق بالخلاف الذي مصدره الاجتهاد، يعني متى يكون هناك إنكار، ومتى لا يكون هناك إنكار؟

العلماء رحمهم الله تعالى يقولون: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، إذا كانت المسألة تحتملها الأدلة، فكل يبين ما عنده، ويدعو الله عز وجل بالتوفيق والسداد، أما كونك تحمل بنفسك على أخيك فهذا ليس بصواب.

ومتى يكون الإنكار؟

يكون الإنكار إذا كان هناك خلاف لإجماع، يعني: إذا خالف الإجماع، أو خالف النص الصحيح الصريح فهنا يكون الإنكار، أما ما عدا ذلك إذا كانت المسألة محتملة فإن الأمر في ذلك واسع، لكن لا يمنع أن الإنسان يبين ما عنده من العلم.

اقتناء الكتب

الوصية الثالثة عشرة: ما يتعلق باقتناء الكتب، فينبغي لطالب العلم أن يعنى باقتناء الكتب، وألا يبخل على نفسه بشراء جملة من الكتب، وأبو حاتم السجستاني رحمه الله تعالى ورث من أبيه مائة ألف دينار، فأنفقها في شراء الكتب، ومثل ذلك أيضاً محمد بن الحسن صاحب

النصيحة الأولى التي أوجهها لنفسي أولاً ولإخواني ثانياً: الإخلاص شرط صحة العمل، فنقول: الإخلاص في طلب العلم، وضابط الإخلاص: أن يقصد المتعبد بعبادته وجه الله والوصول إلى دار كرامته، حيث يلاحظ قلبه، ولا يلتفت به إلى أعراض الدنيا الفانية، بل عليه دائماً وأبداً أن يعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى محبةً ورغبةً، وخوفاً ورجاءً وتوكلاً، لا يقصد بطلبه للعلم إلا وجه الله والدار الآخرة، هذا هو ضابط الإخلاص، وقد أمر الله عز وجل به في كتابه، وكذلك أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، يقول الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].

وقال سبحانه وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].

قال فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: أخلصه وأصوبه، وقال سبحانه وتعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].

والبخاري رحمه الله تعالى افتتح كتابه الصحيح بحديث عمر رضي الله تعالى عنه، وفيه إشارة إلى الإخلاص: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى)، يعني: الأعمال، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، يعني: أن النية شرط لصحة العمل، والنية يكون بها صحة العمل، وكما يكون بها فساد العمل، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما لامرئ ما نوى)، وفي بعض الألفاظ: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، هل هذه اللفظة مرادفة للفظة التي قبلها أو أنها ليست من قبيل المترادف بل من قبيل المتباين؟

ابن رجب رحمه الله تعالى ذكر بأنها ليست من قبيل المترادف، بل هي من قبيل المتباين، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما لامرئ ما نوى)، يعني: أن المرء ليس له من الثواب إلا على قدر نيته، فكلما عظم الإخلاص عند الشخص كلما كان أجره عند الله عز جل أكبر؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم رحمه الله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من سرية تغزو فيغنمون إلا تعجلوا ثلثي أجرهم)، هكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، وقد أجاب عنه العلماء رحمهم الله فقالوا: (تعجلوا ثلثي أجرهم)، يعني: حصل عندهم شيء من التفات القلب إلى عرض الدنيا، فنقول: كلما عظم الإخلاص عند الشخص كلما كان ثوابه عند الله عز وجل أكبر، فإذا عظم إخلاصه في طلب العلم كان ثوابه عند الله عز وجل أكبر، وإنما (لامرئ ما نوى)، يعني: أن الإنسان لا يتحصل من ثواب هذا العمل الصالح إلا على قدر نيته، وكما سلف قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: العلم لا يعدله شيء، قيل له: كيف ذلك؟ قال: لمن صحت نيته. قيل: وكيف تصح النية؟ قال: أن ينوي بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره.

وقال وكيع رحمه الله تعالى: من طلب الحديث لغير الله مكر به.

وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة: رجل قرأ القرآن، وعلمه، وأقرأه للناس، فيؤتى به يوم القيامة، فيعرف بنعم الله عز وجل، ويسأل عن هذه النعم، فيقول: قرأت فيك القرآن وأقرأته، فيقال: إنما قرأت لكي يقال: هو قارئ وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه في النار).