عنوان الفتوى : معنى قول الله لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"
السؤال
سمعت حديثًا للرسول صلى الله عليه وسلم عن الصحابة الذين شاركوا في غزوة بدر، معناه: أنهم مغفور لهم ما فعلوه، وما سيفعلونه من معاصٍ، وأنهم سيدخلون الجنة مهما فعلوا، أي أنهم يعصون الله كما أرادوا؛ حتى لو طبق عليهم حكم الله في الدنيا، ولقد حصلت معارك للمسلمين كثيرة لم يكن لأصحابها هذا الفضل، فكيف يعيش أناس في الدنيا وهم يعرفون أنهم مغفور لهم مهما عملوا، ويعبد آخرون اللهَ ولا يدرون هل يموتون على الإسلام أم على الكفر، وهل يدخلون الجنة أم النار!؟ جزاكم الله كل خير.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحديث المشار إليه ثابت في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم.
وليس معناه كما فهمت: من أنهم يعملون ما شاؤوا بلا لوم، ولا تثريب، وقد كان أهل بدر كغيرهم، تقام عليهم الحدود والتعزيرات إذا أتوا منها شيئًا، كما ثبت أن عمر عاقب قدامة بن مظعون لما شرب الخمر متأولًا، وقدامة بدري.
ثم إن هذا الحديث ليس معناه كما توهمت: أنهم مأذون لهم في فعل ما شاؤوا، بل هم قد علموا أن المغفرة منوطة بتحقيق الشروط، وانتفاء الموانع؛ لذا كانوا -رضي الله عنهم- من أشد الناس حذرًا وخوفًا.
وإنما معنى الحديث: أن الله يوفقهم للطاعة، ويعينهم عليها؛ بحيث إنهم إذا أذنبوا، بادروا تلك الذنوب بالتوبة النصوح الماحية، فيأتون بأسباب المغفرة التي يستوجبونها بها، لا أنهم يسرفون على أنفسهم ما أرادوا ثم يغفر لهم، وقد وضّح العلامة ابن القيم هذا المقام، فقال ما عبارته: هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لَا يفارقون دِينهم، بل يموتون على الْإِسْلَام، وَأَنَّهُمْ قد يقارفون بعض مَا يقارفه غَيرهم من الذُّنُوب، وَلَكِن لَا يتركهم -سُبْحَانَهُ- مصرِّين عَلَيْهَا، بل يوفّقهم لتوبة نصوح، واستغفار، وحسنات تمحو أثر ذَلِك، وَيكون تخصيصهم بِهَذَا دون غَيرهم؛ لِأَنَّهُ قد تحقق ذَلِك فيهم، وَأَنَّهُمْ مغْفُور لَهُم، وَلَا يمْنَع ذَلِك كَون الْمَغْفِرَة حصلت بِأَسْبَاب تقوم بهم، كَمَا لَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يعطّلوا الْفَرَائِض وثوقًا بالمغفرة، فَلَو كَانَت قد حصلت بِدُونِ الِاسْتِمْرَار على الْقيام بالأوامر؛ لما احتاجوا بعد ذَلِك إِلَى صَلَاة، وَلَا صِيَام، وَلَا حج، وَلَا زَكَاة، وَلَا جِهَاد، وَهَذَا محَال.
وَمن أوجب الْوَاجِبَات التَّوْبَة بعد الذَّنب، فضمان الْمَغْفِرَة، لَا يوجّب تَعْطِيل أَسبَاب الْمَغْفِرَة.
وَنَظِير هَذَا قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: أذْنب عبد ذَنبًا، فَقَالَ: أَي ربّ، أذنبت ذَنبًا، فاغفره لي؛ فغفر لَهُ، ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله أَن يمْكث، ثمَّ أذْنب ذَنبًا آخر، فَقَالَ: أَي ربّ، أصبت ذَنبًا، فَاغْفِر لي؛ فغفر لَهُ، ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله أَن يمْكث، ثمَّ أذْنب ذَنبًا آخر، فَقَالَ: رب، أصبت ذَنبًا، فاغفره لي، فَقَالَ الله: علم عَبدِي أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ؛ قد غفرت لعبدي، فليعمل مَا شَاءَ. فَلَيْسَ فِي هَذَا إِطْلَاق وَإِذن مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- لَهُ فِي المحرّمات والجرائم، وَإِنَّمَا يدل على أَنه يغْفر لَهُ مَا دَامَ كَذَلِك إِذا أذْنب تَابَ.
واختصاص هَذَا العَبْد بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ قد علم أَنه لَا يصرّ على ذَنْب، وَأَنه كلما أذْنب تَابَ، حكم يعمّ كل من كَانَت حَاله حَاله، لَكِن ذَلِك العَبْد مَقْطُوع لَهُ بذلك، كَمَا قطع بِهِ لأهل بدر، وَكَذَلِكَ كل من بشّره رَسُول الله بِالْجنَّةِ، أَو أخبرهُ بِأَنَّهُ مغْفُور لَهُ، لم يفهم مِنْهُ هُوَ وَلَا غَيره من الصَّحَابَة إِطْلَاق الذُّنُوب والمعاصي لَهُ، ومسامحته بترك الْوَاجِبَات، بل كَانَ هَؤُلَاءِ أَشد اجْتِهَادًا وحذرًا وخوفًا بعد الْبشَارَة مِنْهُم قبلهَا، كالعشرة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ. وَقد كَانَ الصديّق شَدِيد الحذر والمخافة، وَكَذَلِكَ عمر، فَهم علمُوا أَن الْبشَارَة الْمُطلقَة مقيّدة بشروطها، والاستمرار عَلَيْهَا إِلَى الْمَوْت، ومقيدة بانتفاء موانعها، وَلم يفهم أحد مِنْهُم من ذَلِك الْإِطْلَاق الْإِذْن فِيمَا شاؤوا من الْأَعْمَال. انتهى.
فالحديث دال على أن الله يوفقهم للطاعات التي يستوجبون بها المغفرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
والله أعلم.