القَصَصُ
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
من الأدب الإيطالي:
الأرنب
قصة للكاتبة الإيطالية جرازيا دليدا
ترجمة الأديب محمد فتحي عبد الوهاب
قامت الجزيرة الصغيرة وسط النهر العريض، وقد توسطتها بحيرة صغيرة، أو بالأحرى غدير تحيط به الأشجار والحشائش الطويلة الناعمة، مرصعة بأزهار عباد الشمس الأرجوانية، على صفحته كل صور الطبيعة، فظهرت أكثر جمالا وأرق خيالا.
وأضفى على المكان، حيث سماء الخريف المتجددة الألوان المتغيرة السحب نهاراً، وحيث البدر المضيء والنجوم المتلألئة ليلا، وأشباح الأفنان المتمايلة تنعكس على مرآة البحيرة العميقة، أضفى كل ذلك عليه جواً من الخيال الرائع.
وفي ذات يوم أرسى الصياد قاربه على الشاطئ الرخو للجزيرة المهجورة، وانطبعت آثار أقدامه على الرمل الأملس. ورأى البدر يظهر خلال الأفنان فينعكس نوره اللازوردي على ماء الغدير الصغير، فبهر بجمال ذلك العالم المجهول، وتلك السماء الشاسعة الغامضة التي ظهرت على صفحة الماء كأنها خارجة من قلب الأرض ذاتها. ورأت أرنب عجوز كانت تعيش بين الأشجار على ضفة الغدير رأت الصياد عدوها اللدود، فولت هاربة في خفة وسكون، وقد رفعت أذنيها كأنهما سلاح تذود به عن نفسها. وغرق الرجل في أحلامه، وفقدت الأرنب أحلامها.
وعندما وصلت وسط الغابة ربضت تحت شجرة قائمة وانتظرت وقتاً طويلا وهي ترهف السمع وتشم الهواء بأنفها الصغير المرتعش وقلبها يدق دقات قوية لم تستمع إلى مثلها منذ شهور وشهور. لقد ظنت الأرنب العجوز عندما اختفت جميع الأرانب من أرض الجزيرة بعد الفيضان السابق أنها المالكة الوحيدة لهذا المكان، وكم حلمت بالعيش هنا بقية أيام حياتها عيشة هادئة، وحيدة لا ينازعها أحد، بعد أن هرمت وهجرها أولادها وتخلى عنها الذكور، ولكن.
وتذكرت، لقد عاشت بين جذوع الأشجار التي اكتسحها الفيضان وألقى بها على الضفة المرتفعة للغدير الصغير.
وأضحت الجزيرة القاحلة لا يهتم أحد بارتيادها، وحتى بعد أن جف رملها ونبتت الحشائش على ضفاف الغدير، لم يزرها الصيادون، ولم يبق فيها إلا الهدوء والوحدة.
ولم يعكر ذلك الصفو سوى تغريد البلابل على أشجار، إلى حفيف الأغصان وهي ترحب بالماء يجري تحت ضوء القمر فتهتف قائلة (وداعاً أيها الماء، إنه من الأفضل أن تجري من أن تظل ساكنا) فيرد عليها الماء مندفعاً نحو البحر (وداعاً، أنه خليق بك أن تظل ساكنا من أن تجري وتجري على الدوام). وكانت الأرنب تستمع إليهما فتشعر بالسعادة تغمر كيانها.
إنها أقوى من الأشجار وأسرع من الماء.
لقد كان في استطاعتها أن تظل ساكنة، أو تظل جارية. ومرت الشهور، وصمتت البلابل، وتساقطت أوراق الأشجار، وأصبحت الأرانب العجوز في سعادة وهدوء وطمأنينة لم تشعر بها من قبل.
أما الآن، فقد أقبل ثانية ذلك الشبح الداكن المرعب.
ولماذا يعود؟ ورقدت الأرنب منطوية على نفسها بين الأشجار، وعيناها تحدقان تحت جفونها المحمرة.
كانت ترى أمامها امتداداً من الرمل اللامع تحت ضوء القمر، وقد أحاطت بالدغل تلك الساحة التي كانت مرتعاً وملهى لها زمن الصبى والشباب.
كانت إذ ذاك تثب وتتعقب ظلها أو ترتقب حبيبها في الليالي التي يشرق فيها البدر.
وتحرك خيال على الرمل أعقبه آخر، فظنت الأرنب أنها تحلم.
ولكن سرعان ما عاد الخيالان إلى الظهور وجعلا يلعبان ويمرحان لم يكن هناك أدنى شك في حقيقة وجودهما.
كانا أرنبين.
وعندئذ أدركت المخلوقة العجوز سبب عودة عدوها الداكن، ذلك الصياد، وظهوره في الجزيرة ليلا.
وعندئذ انفجر بركان غضبها.
لقد انتهكت رفيقاتها حرمة هذه الجزيرة، جزيرتها، واحتلتها دون وجه حق.
إن السن والوحدة قد خلقا منها مخلوقة متوحشة أنانية.
وكان غضبها، عندما شاهدت الأرنبين أكثر من غضبها عند رؤيتها ذلك العدو الداكن.
وعندما اندفعت من مخبئها وتحركت صوب الفضاء الرملي ورأت الأرنبين العاشقين، زاده حدة غضبها واشتد سعيره. ولكن ذلك لم يحل بين العاشقين وبين اللهو والقفز والعدو.
كانت الأنثى ممتلئة الجسم شفافة الأذنين.
وكانت تعدو حول الذكر وكأنها لا تراه، ثم ترقد على الرمل، حتى إذا ما اقترب منها هبت واقفة وجعلت تعدو.
وكان الذكر نحيل الجسم مشبوب العاطفة.
وكانت كل أنظاره تتجه إلى أنثاه، فتبعها واندفع نحوها كانا سعيدين مبتهجين خالي البال. ولم تتعب الأرنب العجوز من النظر إليهما، واستمرت تراقبهما حتى اختفيا عن أنظارها بعد أن أجهدهما اللهو اللعب.
وارتعشت أذناها كأنهما ورقتا شجر تتلاعب بهما الرياح. ومرت الأيام والليالي، واختفى القمر وأظلم المكان، ولما ترجع الأرنب العجوز بعد إلى ضفاف الغدير.
كانت تخشى مقابلة الصياد.
ورقدت في أعماق الغابة المظلمة ولكنها كانت تجازف في بعض الأحيان فتخرج إلى العراء ليلا لتشاهد العاشقين يمرحان في بهجة وسرور. وفي ذات يوم سمعت صَوت طلقة نارية أعقبتها أخرى ثم ثالثة على بعد كأنها ترداد لصدى بعيد.
وأقبل الليل الدافئ وانحدر القمر خلف الأشجار العالية دون أن يظهر العاشقان في تلك الليلة الشاعرية التي تليق للعشاق. لابد أن العدو الداكن قد اقتنصهما.
وعندئذ طغى على الأرنب العجوز شعور من الفرح الشديد جعلها تقفز على الرمل الذي ما زالت تنطبع عليه آثار أقدام العاشقين المسكينين. وسرعان ما سمعت وقع أقدام بشرية فولت هاربة.
واخترقت الغابة حتى اقتربت من الضفة الأخرى للنهر، ورقدت هناك منزوية حتى مطلع الفجر في مكان لم تعهده من قبل. وعندما أشرقت الشمس قامت من مرقدها.
كانت الغابة قد أسدل عليها ستار من الضباب، وتساقطت قطرات الماء البارد من الأشجار.
وذهبت الأرنب تستكشف، واندفعت في حفرة صغيرة.
فرأت ما أثار عاطفتها على الرغم من أنها كانت جامدة العواطف.
لقد وجدت عشا لصغار الأرانب رقد فيه أرنبان صغيران ممتلآ الجسم، يحملقان إليها بأعين ملتمعة.
لابد أنهما نسل الأرنبين الذي اقتنصهما الصياد. كان أحدهما يلعق رأس أخيه، وعندما رأى الأرنب العجوز نظر إليها، ثم جعل يشمها بأنفه المرتعش ثم انكمش خائفاً من جرأته هذه. وتركتهما الأرنب العجوز وسارت في طريقها.
ولكنها رجعت إليهما ثانية فرأتهما يمرحان ويلعق كل منهما الآخر. كان ذلك اليوم قاتما باردا.
وعندما أقبل المساء بدأت السماء تمطر.
فرجعت العجوز إلى عشها القديم بين جزوع الأشجار على الضفة المرتفعة للغدير.
واستمرت السماء تجود مطراً مدرارا.
إن المطر معناه نهاية الطقس الجميل، وبدء الطمأنينة والوحدة، فسرعان ما يصير الرمل رخوا، ولن يجرؤ الصياد على عبور الغابة المنداة العارية. ولكن.
ما مصير هذين الأرنبين الصغيرين؟ وما الذي يحدث لهما هناك في عشهما الصغير؟ هل تذكرت الأرنب الوحيدة أولادها الصغار، ودفء عشها، وعطف الآباء؟ إنه من المعتذر معرفة ما جال في خاطرها في ذلك الوقت، ولكنها على أية حال تركت مخبأها عند الفجر وذهبت لترى الصغيرين.
كان المخلوقان المسكينان نائمين وقد احتضن أحدهما الآخر.
وكانا وهما مستغرقان في النوم كأنهما يتوقعان قدوم أمهما، فإنه عندما أقبلت عليهما الأرنب العجوز مدا أنفيهما وحركا آذانهما. ونظرت إليهما العجوز بعينين مندتين بالدموع ومدت هي الأخرى أنفهما كأنها تشم رائحة العش. وعادت السماء تهطل مطراً غزيراً.
واستمرت سبع ليال وثمانية أيام حتى أحاطت الجزيرة غلالة قاتمة من الضباب والماء.
وارتفع الماء وظل يرتفع حتى شارف مأوى الأرنب العجوز. حاولت أن ترجع لتشاهد الأرنبين ولكنه تعذر عليها السير بقرب ملجئها من الرمال المتداعي المشبع بالماء.
وأصبح من المستحيل عليها أن تصل إلى الوادي الصغير.
وعادت السماء تمطر وتمطر، واستمعت الأرنب إلى صوت داو قادم من بعيد كأنه ضوضاء جيش معاد غاز يمر مخترقا الأرض مدمرا ما يصادفه. كانت الأرنب تعرف ذلك الصوت جيداً.
إنه هدير النهر المغتصب.
فلم تجرأ على مغادرة عشها على الرغم من شعورها بالجوع ونفاذ ما تقتات به اللهم إلا أوراق الشجر الجافة.
فاضطرت أن تظل دون طعام بعد أن وصل الماء إلى جذوع الشجر وأصبح من الخطر عليها أن تتحرك قيد أنملة. وارتفع الماء وظل يرتع في سكون وحلكة.
وظهرت الأرض والسماء والهواء كأنها كتلة واحدة من البرد والماء المضطرب. وفي اليوم الثامن أقلعت السماء وانقشعت السحب عن زرقتها فبدا القمر يلمع ضوءه الفضي وغيض الماء وظهر كأنه يتراجع مجهدا من النصر حاملا معه غنائمه وأسلابه من الأغصان وأوراق الشجر والطمي والرمل والمخلوقات الميتة.
وفي اليوم التالي أشرقت الشمس على المكان المقفر، فتركت الأرنب مخبأها وجعلت تتطلع حولها. لقد اختفى الغدير وحل محله تيار بطيء من الماء المشرب بالوحل يجري تحت الضفة العالية حاملا معه ضحاياه. وفجأة لاح للأرنب العجوز بين الأغصان العارية وأوراق الأشجار الجافة وآلاف الفقاعات الصغيرة كأنها حبات عقد انفرط لاح لها الأرنبان الصغيران، جثتين هامدتين، نحيلين طويلين مفتحي الأعين مرتفعي الآذان، يسبحان ويسبحان في الماء الجاري، الواحد بجانب الآخر وكأنهما شقيقان صغيران لا يود أحدهما الافتراق عن الآخر حتى بعد الموت. وهكذا عادت الوحدة والوحشة تطرقان قلب الأرنب العجوز وهكذا عادت الجزيرة إلى حالها من الهدوء والسكون. (الإسكندرية) محمد فتحي عبد الوهاب