فضل العلم وشرفه[2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وبعد:

أيها الأحبة: إن الملك لا يستقيم إلا بالعلم، فيعرف فضل الحاكم إذا قرب أهل العلم، إذا قضى عن وفق كلامهم وفتواهم ومشورتهم.

وتعرف خبثه وبعده عن الحق والعدل والخير؛ إذا أبعد أهل العلم عن مجلسه، لذلك كان جماعة الملوك قديماً كبني أمية وبني العباس... كانوا يهذبون أولادهم عند العلماء تمهيداً لإقامة سياسة الملك، فكان أكبر العلماء هم الذين يؤدبون أولاد الخلفاء، حتى إذا تولى استقام له الأدب واستقامت له الحكمة؛ لذلك كانوا إذا وعظ الواحد منهم، وذكر بالله يذكر، فـهارون الرشيد مثلاً لما طلب الإمام مالكاً ليقرأ عليه الموطأ، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تكن أول من أذل العلم فيذهب الله ملكك، العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه.

فلا تكن أول من أهان العلماء، فحملهم على أن يحملوا علمهم ويذهبوا إلى بيوت الخلفاء؛ فيذهب الله ملكك! فلم يتكبر هارون الرشيد لأنه كان من خيار الخلفاء ومن أفاضلهم، وكان رجلاً عابداً، وكان محترماً للعلماء، وكان مجاهداً، ولكن نصارى الروم وأشباه الرجال عندنا ممن تأدبوا بأدب الغرب هم الذين شوهوا سيرة هؤلاء الخلفاء.

فلم يتكبر هارون الرشيد ، ولم تأخذه العزة بالإثم، ولم يعاقب الإمام مالكاً ، وإنما جاء إلى مالك فركن ظهره إلى الحائط، فلما ركن ظهره إلى الحائط أشار إليه مالك أن هذا ليس من أدب طالب العلم؛ فأنت الآن لست خليفة، أنت طالب علم، فإذا جئت مجلس العلم وقد استحضرت غناك أو جاهك؛ فلن تفلح أبداً، فإذا كنت ابن العمدة، أو ابن رئيس الديوان -أو أي شخص- ودخلت وأنت تعتقد أن كل الناس ينظرون إليك؛ فهذا من اغترار النفس ولن ينفعك العلم.

إن العلم لا ينال إلا ببذل النفس وبذل ماء الوجه، فإذا جاء إلى مجلس العلم وفي نفسه كل معاني الملك فلن يفلح أبداً.

فبمجرد أن يركن ظهره ينبهه الإمام مالك أن هذا ليس من أدب الطلب؛ فيعتدل مباشرة، ويطلب العلم ويشكر مالكاً ؛ لذلك استقامت لهم الدنيا سنين عدداً.

فيعرف فضل الحاكم إذا قرب منه أهل العلم، وكان أول رجل ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمـام العادل... فمن أين يأتيه العدل إذا كان جاهلاً؟

فهذا الحجاج بن يوسف الثقفي على ما كان فيه من طغيان -قلامة ظفره أفضل بكثير ممن جاء بعده- فقد كان أحياناً يخضع للحق، فإذا ذكّره إنسان بالله يذكر.

فذات مرة طلب أن يُقبض على رجل، فلم يجدوا الرجل فقبضوا على أخيه، فقال المقبوض عليه: أنا مظلوم. فقالوا: والله بحثنا عن أخيك فلم نجده، فأخذناك. قال: حسناً.. دعوني أكلم الخليفة.

فقال: أصلح الله الخليفة، إن هؤلاء أرادوا أخي فلم يجدوه فأخذوني، وقبضوا على ابني، وهدموا داري، ومنعوا عطائي. فقال له الحجاج : هيهات! ألم تسمع قول الشاعر:

جانيك من يجني عليـك وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب

ولرب مأخوذ بذنب عشـيرة ونجا المقارف صاحب الذنب

الأول.. هو الجمل السليم عندما يقعد في مبرك أجرب فيأخذ الجرب معه، فأيضاً أنت من أجل أنه أخوك ذق، واليوم كثير من الناس يعادون الملتزمين.. لماذا؟ يقول له: أنت بسببك كنت سأتوظف ومنعوني، قالوا: أليس من أقاربك فلان؟ نعم، قريب فلان؛ إذاً: ليس لك عندنا وظيفة، ولا كيل لكم عندي ولا تقربون، وستظل مشرداً في الأرض، من أجل أنك قريب فلان.

حسناً.. لماذا تعاقبونني بفلان؟ فهذا يقول له:

ولرب مأخوذ بذنب عشيـرة ونجا المقارف صاحب الذنب

فقال الرجل -وكان ذكياً-: أصلح الله الخليفة، فإني سمعت الله يقول غير ذلك.

قال: وماذا يقول الله عز وجل؟

قال: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:78-79].

فحينئذٍ أطرق الحجاج ساعة، وقال: علي بفلان -صاحب الشرطة- فقال له: فك لهذا ابنه، وابنِ له داره، ومر له بعطاء، ومر منادياً ينادي: أن صدق الله وكذب الشاعر.

فهذا عنده شيء من الدين، وإن كان ظالماً وسفاكاً للدماء، ولكنه كان إذا ذكر بالله ذكر، ولا يستقيم الملك إلا لعالم أو لرجلٍ قرب أهل العلم.

منزلة الإمام العادل

الإمام العادل أول من يستظل بهذا الظل في يوم الحرور، وهذا ليس كما في الشهر الثامن الناس نائمون على الأسطح، ولا تستطيع أن تنام من الحر، وهذا ليس أشد الحر، بل إذا أردت أن ترى الحر الشديد فاذهب إلى الكويت ، أو الإمارات ، أو السعودية ، درجة الحرارة (65م)، يغلي منها الدماغ، وهذا في الظل، وهناك أحر من هذا، قال النبي عليه الصلاة والسلام : (استأذنت جنهم ربها عز وجل في نفسين) تتنفس مرتين.. لماذا؟ لأنها مؤصدة، إذا جعلت نفسك على النار ولا يوجد أي نفس فيها، ربما تنفجر من البخار، وأنت تعلم عندما يكون هناك غرفة وأنت مقفل شبابيكها في الحر الشديد كيف يكون الحر! فجهنم مؤصدة -أي: مقفلة- فلا أبواب ولا شبابيك ولا يوجد بها شيء يمكن أن يسرب الحرارة.. نسأل الله العافية منها! فاستأذنت ربها نفسين: (نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فنفس الصيف هو أشد ما تجدون من الحر، وفي الشتاء هو أشد ما تجدون من الزمهرير).

فلا نقول: إن الحر شديد.. لا، بل إن الشمس تنزل إلى السماء الدنيا، وهي الآن في السماء الرابعة، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومع ذلك أنت لا تطيقها الآن، فتعرف معنى الظل في يوم القيامة عندما تستحضر هذا، وليس ظل شجرة ولا ظل حائط ولا شيء من هذا، هذا ظل الله! فهذا يبين لك عظمة هذا الظل.

فأول شخص يستمتع بهذا الظل هو الإمام العادل، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي كان آخر كلمة قالها قبل أن يموت، وقبل أن يكبر للصلاة -كما في صحيح البخاري- وكان واقفاً بين عمرو بن ميمون وابن عباس، ويتكلم معهما، ثم سوى الصف ودخل في الصلاة، وطعنه المجوسي، قال: (لئن عشت إلى قابل -إلى السنة القادمة- لا أدعن أرملةً في العراق تحتاج إلى أحدٍ بعدي).

فانظر إلى نبل عمر ! فآخر شيء كان يشغله الرعية، كيف يمهد للرعية ويريح هؤلاء الناس، فلا يكون المرء عادلاً إلا إذا كان عالماً، فرجع الأمر إلى العلم، فكل شيءٍ لا يستقيم لك إلا بالعلم، حتى في الدنيا لا يستقيم لك إلا بالعلم.

الإمام العادل أول من يستظل بهذا الظل في يوم الحرور، وهذا ليس كما في الشهر الثامن الناس نائمون على الأسطح، ولا تستطيع أن تنام من الحر، وهذا ليس أشد الحر، بل إذا أردت أن ترى الحر الشديد فاذهب إلى الكويت ، أو الإمارات ، أو السعودية ، درجة الحرارة (65م)، يغلي منها الدماغ، وهذا في الظل، وهناك أحر من هذا، قال النبي عليه الصلاة والسلام : (استأذنت جنهم ربها عز وجل في نفسين) تتنفس مرتين.. لماذا؟ لأنها مؤصدة، إذا جعلت نفسك على النار ولا يوجد أي نفس فيها، ربما تنفجر من البخار، وأنت تعلم عندما يكون هناك غرفة وأنت مقفل شبابيكها في الحر الشديد كيف يكون الحر! فجهنم مؤصدة -أي: مقفلة- فلا أبواب ولا شبابيك ولا يوجد بها شيء يمكن أن يسرب الحرارة.. نسأل الله العافية منها! فاستأذنت ربها نفسين: (نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فنفس الصيف هو أشد ما تجدون من الحر، وفي الشتاء هو أشد ما تجدون من الزمهرير).

فلا نقول: إن الحر شديد.. لا، بل إن الشمس تنزل إلى السماء الدنيا، وهي الآن في السماء الرابعة، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومع ذلك أنت لا تطيقها الآن، فتعرف معنى الظل في يوم القيامة عندما تستحضر هذا، وليس ظل شجرة ولا ظل حائط ولا شيء من هذا، هذا ظل الله! فهذا يبين لك عظمة هذا الظل.

فأول شخص يستمتع بهذا الظل هو الإمام العادل، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي كان آخر كلمة قالها قبل أن يموت، وقبل أن يكبر للصلاة -كما في صحيح البخاري- وكان واقفاً بين عمرو بن ميمون وابن عباس، ويتكلم معهما، ثم سوى الصف ودخل في الصلاة، وطعنه المجوسي، قال: (لئن عشت إلى قابل -إلى السنة القادمة- لا أدعن أرملةً في العراق تحتاج إلى أحدٍ بعدي).

فانظر إلى نبل عمر ! فآخر شيء كان يشغله الرعية، كيف يمهد للرعية ويريح هؤلاء الناس، فلا يكون المرء عادلاً إلا إذا كان عالماً، فرجع الأمر إلى العلم، فكل شيءٍ لا يستقيم لك إلا بالعلم، حتى في الدنيا لا يستقيم لك إلا بالعلم.

من علامات الشؤم: أن يُعظم أهل الدنيا ولا يلتفت إلى أهل الآخرة، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وهناك كتاب اسمه بروتوكولات حكماء صهيون، وهذا الكتاب فيه ذكر ما يحدث في بلاد المسلمين؛ ومن العجيب أن أعداءنا كتبوا خططهم، وأظهروها للناس. حسناً! لماذا لا تخبئوها؟ قالوا: أصلاً هم أغبياء. ماذا يعني عندما تكتب خطتك أمام شخص غبي؟ كأنك لم تكشفها.

هذا يذكرني بالعتابي، كان في بادية الشام يقص على الناس الحكايات، هل سمعتم بالموالد التي يقعدون فيها يخترعون الحكايات، مثل: ميمونة والجمل وغيرها، فالعتابي كان أحد هؤلاء.

المهم أن العتابي كان قاعداً على الطريق يأكل، فقال له أحد الأشخاص: يا أخي! الأكل عورة. مع أنه ليس بعورة أبداً، لأن هذا ليس له أصل في السنة.

فقال له: يا أخي! الناس يمشون وينظرون إليك وأنت تأكل!

قال: أرأيت إن كان في بيتك بقر، وكنت تأكل أمامها أكنت تستحي أن تأكل أمامها؟

قال له: لا.

قال: فاصبر حتى أريك أنهم بقر.

يقول له: الناس الذين تراهم الآن حولي أعطني مهلة واحلم عليّ لكي أثبت لك أنهم بهائم.

وبعد أن انتهى من الأكل قام في الجامع يقص حكايات بين قيس وليلى... إلخ، والناس مندهشون، وبعد ذلك قام يرمي رميته في نص الكلام والمستمعون مشدوهون، قال: حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مس لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة!! فما بقي منهم رجل إلا أخرج لسانه يريد أن يمس أرنبة أنفه. فأحدهم قال له: من أين أتيت بهذا الحديث؟ هل كان لسانه مثبت من الأمام أم مثبت من الخلف؟ فقال: أو لم أعلمك أنهم بقر!

فالعلم -وهو القاضي على كل هذه المهالك- به تنال الرفعة، وكل شيء مرده إليه.. فالعلم هو الحكم، ومن شرفه أن يكون الخصم هو الحكم، هذه أول مرة نرى الخصم حكماً؛ لأن كل شيء في الدنيا فيه نزاع لا بد أن يقضي فيه العلم، فرجع إلى العلم في النهاية؛ فهو أشرف خصم وأشرف حكم.

إذاً: بدءاً من الإمامة الكبرى، التي فيها صلاح الناس، والعلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالإمام العادل؛ لأن خيره متعدٍ وشره متعدٍ، فلو كان ظالماً فسيتضرر بظلمه الملايين، ولو كان عادلاً سيستفيد بعدله الملايين، ولا غرو أن قال الإمام أحمد : (لو كانت لي دعوةٌ مستجابة لادخرتها للحاكم؛ لأن به صلاح الدنيا).

فبدءاً من الخلافة الكبرى العظيمة التي هي أعلى شيء في الدنيا وهي الإمامة، إلى أدنى شيء في الدنيا يحتاج إلى العلم، وجماعة بروتوكولات حكماء صهيون قالوا: نحن الذين سنختار القادة، ونحن الذين سنختار أصحاب المواقع الحساسة.

فكيف سيختارونه؟ يأتون بواحد من بلاد المسلمين ليدرس عندهم، وينظرون في مواهبه هل هو: إنسان عميل، دنيء الهمة، يمكن أن يتجسس على قومه ويبيع البلاد كلها في مقابل حفنة دراهم. ولا مانع من أن يعطوه الدكتوراه الفخرية، وهبة النيل، وهبة الكونجرس، وهبة كل شيء، ويحتفل به في المجتمع الأمريكي على أساس أنه نجم المجتمع، ويقابله الرئيس الأمريكي، ورئيس الكونجرس، ورئيس الوزراء، ويعملون له مأدبة احتفال في أستراليا، ولندن، وباريس .

فأنت تقول: هذا ابن بلدي ويعملون له كل هذا!

تعال! نحن محتاجون إليك. وبالتالي يقولون له: هذا الرجل ينفع أن يكون في المكان الفلاني، هذا ينفع -مثلاً- أن يكون وزير التربية والتعليم، نحن لا نعلم كيف يكون هذا الرجل العبقري لديكم وأنتم لا تعيروه أي اهتمام! ولو كان عندنا لجعلناه وزيراً للتربية والتعليم..

فيستدرجونه كما استدرجوا صدام حسين في حرب الخليج، قبل أن يدخل الكويت، قالت له أمريكا: نحن ليس لدينا أية خطة دفاع مشتركة مع الكويت.. ما معنى هذا الكلام؟ ولماذا قالت له هذا الكلام؟ يعني: ادخل الكويت ونحن لن نكون ضدك؛ لأنه ليس بيننا وبينهم خطة دفاع مشترك.

فدخل الكويت، وظهر الرئيس الأمريكي بوش وقال: أنا أناشد الرئيس العراقي ألا يفضحنا؛ لأنه يعلم أن جيشه خطير! فله ثماني سنوات وهو يحارب إيران، وهو جيش عملي، والجنود لا يزال عظمهم ناشف، فليس من الضروري أن نبيد الكرة الأرضية، لأن جيشه عتيق وعريق و... إلخ، وأنا بصراحة لن أقول لكم ولا أخفيكم: أنا جعلت ثمانية عشر ألف كفن مبدئي، والحانوتي سيأتي بالباقي من أجل الذين سيموتون من الأمريكان وقوات التحالف في حرب الخليج، فأنا أقول للرئيس العراقي: اعمل معروفاً، ولا تحارب؛ لأننا لسنا نداً لك.

فكبرت في دماغه، وقال: إذا كانت أمريكا تقول لي: اعمل معروفاً، فما الذي يجعلني أعمل معروفاً إذاً؟ فلماذا لا أستغل ضعفهم وأقوم وأدخل فجأة -مثلما دخل إيران- وهي مجرد طلقة هنا وطلقة هناك... إلخ.

فهم يحاولون أن يهدئوه فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً، فدخل إلى أم الهزائم، وأخذ (علقة ساخنة -مثلما يقولون- حمار في مطلع).

فهؤلاء يريدون أن يعينوا أي شخص عميل في بلاد المسلمين بأن يأخذوه ويلمعوه ويكبروه، ويعلموا فيه تقارير، وبصراحة نحن لنا الفخر أن الرجل هذا جاء إلينا، وهكذا!

فتكبر في دماغنا ونقول: هذا الرجل هو الذي ينفع، وهو الذي سيصلح المسألة ويعدل الميل، تعال إذاً اجلس.. وإذا به يزيل الآيات من القرآن التي تسب اليهود ، ويزيل الآيات التي تكفر النصارى؛ ويقول: إن هذا ضد الوحدة الوطنية، وعيب عليك أن تقرأ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، بل اجعلها في قلبك، لأن هذا لا ينفع... إلخ.

ويبدأ القرآن يتقلص، وبعد هذا نبدأ نقول: الحجاب إرهاب! واللحية إرهاب...إلخ! وأن الدين سماحة ويسر وأخلاق، وبعد ذلك نقول: إن منع الاختلاط عبارة عن إرهاب وكبت، وإلا فالمفروض أن يبقى الرجال مع النساء، ويأتي لك بكتب الدين: (علي عيان ، قام إبراهيم وأخذ أباه وأمه وراحوا يزورون علي، فقام أبو إبراهيم يقابل أم علي على الباب... إلخ).

الله.. وهل هذا كتاب الدين؟! فكيف بكتاب الفنون؟ وكتاب التربية الموسيقية والرسم؟ فإذا كان في كتاب الدين (أبو إبراهيم يقابل أم علي! ويجلسون كلهم على طاولة واحدة: وألف سلامٍ على إبراهيم، و... إلخ).

دع كتاب الدين هذا والكلام الذي فيه، فهذا يجعل الأجيال تُمسخ، وينتج لنا جيلاً ممسوخاً ليس له هوية، مثل الجيل الذي نعاني منه الآن، جيل ليس له أي مواهب، وهذا الكلام في الجملة، وإلا هناك مواهب، لكنها ليست كثيرة.

فهذا من علامة عدم التوجيه: وأهل الآخرة يظل أكثرهم لا يرفع لهم رأساً، مع أن صلاح الدنيا بصلاح ورفعة العلماء الربانيين، وصلاح الدنيا لا يكون إلا بالدين، أن تكون على وفاق ما يريد الله عز وجل، فالعلم تحتاجه في أعلى شيء وفي أدنى شيء، فلا تستغني عنه على الإطلاق، وتفتقر إليه في كل خطوة تخطوها في حياتك، هذا هو العلم الذي بدأ الله عز وجل بذكره في قصة داود وسليمان، وفضائل العلم أكثر من أن يحصرها مجلساً أو اثنان أو ثلاثة، إنما السعيد من انتفع بالقليل، والمكابر لا ينتفع لا بقليل ولا بكثير.

نحن نرجو أن يكون فيما ذكرته دافعاً ورفعاً للهمم، لترجع وتطلب العلم مرة أخرى، فمهما ازددت منه فإنه لن يضرك، وكل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده إلا العلم، فكلما ازددت منه زادك رفعةً.

انظر إلى علمائنا كـابن جرير الطبري (دخل عليه أحد أصحابه وهو يجود بنفسه -أي: يحتضر- فسأله -ابن جرير عن مسألة في المواريث- فقال: أفي هذا الحال -يعني: وأنت تحتضر- قال: أخرج من الدنيا وأنا عالم بها خيرٌ لي من أفارقها وأنا جاهلٌ بها). فإنك لأن تلقى الله عز وجل بمعرفة هذا خيرٌ لك من أن تلقاه جاهلاً بها.

فربنا سبحانه وتعالى ذكر العلم، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا [النمل:15]، العلماء يقولون: النكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، وفي سياق النفي تفيد العموم.

قوله: (ولقد): تحقيق، واللام للتأكيد، و(قد) دخلت على الفعل الماضي، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا [النمل:15]، فيها أي أداة نفي؟ هذه الجملة مثبتة، والنكرة في الآية؟ (علماً) الاسم عموماً، الاسم الخالي من الألف واللام.

إذا دخلت الألف واللام على الاسم يبقى معرفة، تقول مثلاً: (علم) نكرة، (العلم): صار معرفة، أي: معرفاً بالألف واللام.

فهذه النكرة -التي هي (علماً)- جاءت في سياق الإثبات فأفادت الإطلاق، أي: علم يشمل جزئيات كثيرة؛ لأن الرجل ملك الجن والإنس والطير، وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:16] إذاً: (كل شيء) لا بد أن يكون عالماً بكل ما أوتي، فهذا يكون معنى كلمة (علم)، هذه النكرة التي جاءت في سياق الإثبات: وَلَقَدْ آتَيْنَا [النمل:15]، وهذا يدل على أن هذا من فضل الله، هو الذي آتى داود وسليمان : وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل:15]، فدوام النعمة إنما يكون بدوام الشكر عليها، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

وانظر إلى الأعرابي الجاهل: ذات مرة لدغته حية -والإنسان لابد أن يحمد ربه على كل شيء، حتى على المكروه، فإذا لدغته حية عليه أن يقول: الحمد لله- فقال: الحمد لله. فقام أحدهم وقال له: لئن شكرتم لأزيدنكم قال: لا شكراً، لا شكراً. فهو إذا شكر ستلدغه مرة أخرى، فهو فهم معنى: (لأزيدنكم) أي: من لدغ الحيات، وقال: لا أريد أكثر من هذا.. فهذا جاهل، والذي قرأ له الآية جاهل كذلك، وأنت تعلم أن الكلام الحق إذا وضع في غير موضعه صار قبيحاً، فما بالك في القبح إذا كان في موضعه.

كإنسان -مثلاً- كان مقرئاً للقرآن، وكان يأخذ في الربع أو في الثلاثة أرباع أربعمائة جنيه -وهذا الكلام كان في سنة ستة وسبعين تقريباً- فكانت الأربعمائة جنيه تساوي مثلاً الآن أربعة آلاف، وإذا قلت: أربعة آلاف فليست مبالغةً، لأن السعر كل يوم يتغير، وليس كل شهر أو كل سنة.

فكان يأخذ أربعمائة جنيه في المرة الواحدة، فأحدهم اعترض على ذلك... فقال له: الله يقول: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41]، أي: خذ ما تقدر من فلوس؛ لأنك كلما أخذت كثيراً فأنت توقر كلام الله.

فهو عندما يضع الآية في مثل هذا الموضع تنظر إلى قبح هذا الاستدلال، وهو لو بذل الدنيا كلها لشطر آية لكان قد اشترى بكلام الله ثمناً قليلاً.. فما هي الدنيا أمام كلمة من كلام الله؟ تساوي ماذا؟!

كذلك لو قال لك شخص: أنت ذاهب إلى أين؟ تقول: أنا ذاهب للجامع. يقول: قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، المعنى هكذا. مع أنه كلام الله. أو لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء:43] مثلما قال أبو نواس :

ما قال ربك ويل للأولى سكروا وإنما قال ويل للمصلينا

وهو فعلاً قال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] لكنه نزع الكلام من السياق وحرفة.

فالقصد: أن الكلام قد يكون في نفسه جميلاً، لكنه إذا وضع في موضعه، فمن تمام حق الله عليك أن تذكره في النعم، وهذا ما فعله داود وسليمان: وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا [النمل:15].