فضل الصدقة وأثرها في الدعوة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (بينما رجل يسير في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان. فتنحى ذلك السحاب في شرجة من شراج الحرة، فاستوعبت الماء كله، فذهب، فإذا رجل يساعد هذا الماء بمسحاة له حتى يأخذ طريقه إلى بستانه، فقال له: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان باسمك. قال له: أما قد قلت ذلك فإني أنظر ما يخرج منها فأقسمه ثلاثة أثلاث، فآكل أنا وعيالي ثلثه، وأتصدق بثلثه، وأرد فيها ثلثه).

هذه القصة -كما وردت في بعض الروايات- حدثت في بني إسرائيل، والإسرائيليات يقسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قسم يحتج به، وتؤخذ منه الأحكام الشرعية، وهذا القسم هو الذي صح سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقصة أصحاب الغار، وقصة الغلام مع الملك، وقصة الرجل الذي تسلف ألف دينار... إلى آخر هذه القصص، فكلها صحيحة في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيأخذ منها العلماء الأحكام الشرعية والآداب المرعية، وهذا القسم يحتج به كله.

القسم الثاني: ما صح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، وهذا النوع هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) وهذا النوع يستشهد به العلماء من باب الاعتضاد، لا يحتجون به منفرداً، وإنما إذا كان موافقاً للأصول العامة احتجوا به، كالقصة التي رواها ابن الأعرابي في معجمه: أن عيسى عليه السلام خرج مع رجلٍ، وكان معه ثلاثة أرغفة، فقال: رغيف لي، ورغيف لك. ثم أن عيسى عليه السلام نام، فاستيقظ فلم يجد الرغيف الثالث..

- فقال لصاحبه: أين الرغيف الثالث؟

- قال: لا أدري.

- فدعا غزالاً فذبحه وشواه وأكلاه، ولم يبقيا منه إلا العظام، فدعاه عيسى عليه السلام فقام غزالاً بإذن الله، قال: سألتك بالذي أحيا هذا الغزال من الذي أكل الرغيف؟

- قال: لا أدري.

فانطلق، فوجدا ثلاثة أجبل -جبال كبيرة- فحولها إلى ذهب..

- وقال: هذا لي، وهذا لك، والثالث لمن أكل الرغيف.

- قال: أنا أكلته.

- قال: لا خير في صحبتك وتركه.

وعيسى عليه السلام يضرب المثل للحواريين بتفاهة الدنيا، فهذا الرجل أراد أن ينقل هذه الجبال الثلاثة إلى بلده فوجد اثنين، فأراد أن يستعين بهما على نقل هذا الذهب الكثير، قال الرجلان: ولم نقسم هذه الأجبل على ثلاثة أسلاف؟! نحن نقتل هذا الرجل ونأخذ هذا الذهب كله، وأضمرا في نفسيهما أن يقتلاه، فأرسلاه إلى السوق ليأتي بطعام، فبينما هو يمشي إلى السوق قال: ولم نقسمه إلى ثلاثة أجزاء؟! أنا أضع لهم سماً في الطعام وأنفرد بالذهب، فجاء بالأكل وفيه السم، فما إن تلقياه حتى انهالا عليه ضرباً فقتلاه، ثم جلسا يأكلان فأكلا الطعام المحشو بالسم، فماتوا جمعياً وتركوا جبال الذهب.

يضرب عيسى عليه السلام المثل للحواريين بحقارة الدنيا أننا جميعاً نتقاتل من أجلها ثم نتركها كلها للذي يرث الأرض ومن عليها تبارك وتعالى، وكل يخرج منها كما ولدته أمه.

قال الله عز وجل إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ضربت الدنيا لابن آدم مثلاً بطعامه، وإن قدحه وملحه فلينظر كيف يخرج).

وهناك عشرات النصوص تدل على حقارة الدنيا، فلا مانع أن تحتج بمثل هذا النوع من الإسرائيليات لتعضد المعنى الصحيح في الآيات وفي الأحاديث الصحيحة.

وكذلك ما رواه أبو الشيخ وغيره (أن ملك الموت عليه السلام كان يجالس سليمان ...) هذا القدر ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ قوي ( أن ملك الموت كان يجلس مع الأنبياء بصورة آدمية، وكان يجلس مع سليمان عليه السلام جليس له وصفي له، فدخل ملك الموت وما يعرفه الجليس، لكن لاحظ الجليس أن هذا الرجل الثالث يتفرس فيه وفي وجهه، لم يلبث كثيراً وانصرف، فقال الجليس لسليمان: من هذا الذي يتفرس في وجهي؟ قال: ذاك ملك الموت، فارتعب الرجل، وقال: لا أكون في أرض بها ملك الموت.. أين تريد؟ قال: مر الريح أن تأخذني إلى الهند. وأخذته الريح فعلاً إلى الهند.

بعد قليل جاء ملك الموت ودخل على سليمان عليه السلام، قال له سليمان: لم كنت تتفرس في وجه جليسي؟

- قال: ذاك رجل أمرني الله أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته عندك تعجبت، لكني لما ذهبت إلى الموعد المعلوم والمكان المعلوم وجدته هناك ).

هذه القصة يمكن أن تذكر -مثلاً- في مثل قوله تبارك وتعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78] فنحن نستخدم هذا القسم من الإسرائيليات لتدعيم المعنى الذي نريد أن ننقله للعوام.

القسم الثالث: وهو الذي لم يصح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، فهذا النوع لا عليك أن تذكره.

وهذا التقسيم مهم؛ لأنه قد انطبع في أذهان كثير من الناس أن معنى إسرائيليات أي: مكذوبات، وليس كذلك؛ للتقسيم الذي ذكرناه.

فضل النفقة على العيال

هذه القصة حدثت في زمن بني إسرائيل، ونخرج منها بثلاث فوائد عظام:

الفائدة الأولى: فضل النفقة على العيال، والإثم في تضييعه.

الفائدة الثانية: فضل الصدقة.

والفائدة الثالثة: فضل عمارة الأرض كزراعتها.

أما الفائدة الأولى: وهي فضل النفقة على العيال وإثم تضييعه.

في الحديث القدسي الذي رواه البخاري مرفوعاً: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وقال الحديث: (وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه) إذاً فعلك لهذا الواجب هو أحبُّ شيءٍ تتقرب به إلى الله عز وجل، إن أردت أن تتقرب تقرب بما افترض عليك، أما النافلة فتقتضي زيادة الحب، (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه).

لو أردنا أن نقرب هذا المعنى نذكر مثالاً -ولله المثل الأعلى- فنقول: لو كان لك خادم كلما أمرته بشيء امتثل، ولا يقول: لا، ولا يشكو عجزاً.. هذا -بلا شك- يكون محبوباً لديك، فإن علم هذا الخادم -بذكائه ومعاشرته لك- أنك تحب النظافة اليومية، وأنك تحب أن تقص الشجر، أو تقطف الورود ففعل هذا بغير أن تأمره، ألا تزداد له حباً؟ تزداد له حباً بطبيعة الحال.

وكذلك الله تبارك وتعالى عندما تتقرب إليه بما فرضه عليك فهذا أحبُّ شيء إليه عزوجل، فإن زدت ذلك نافلة من عندك زاد حبه لك، صح عند النسائي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله ليضحك إلى العبد يكون النوم أحب شيء إليه، ثم يقوم يتملق ربه بركعتين) كل أمنيته أن يصل إلى فراشه من شدة التعب، ولكن توضأ ووقف بين يدي الله عز وجل يتملق -تأمل هذا اللفظ- يتملق ربه بركعتين، فالله تبارك وتعالى يضحك لمثل هذا العبد.

النفقة على العيال واجبة، لذلك لا يجوز أن تخرج الزكاة للأصول أو للفروع، لا يجوز أن تعطي زكاة مالك لأبيك وأمك ولا لأولادك.. لماذا؟ لأن لهم نفقة واجبة عليك، وإذا قصر الرجل في هذا الواجب فقد أباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـهند بنت عتبة كما في حديث عائشة في الصحيحين، قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ قال لها: خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف)، لو قصر رجل في هذا الواجب يؤخذ منه عنوة؛ لأنه واجب عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أباح لها أن تأخذ حقها المفروض على زوجها أن يؤديه إليها، قال لها: (بالمعروف) هذه الكلمة مهمة جداً؛ لأنه لا يجوز للزوجة أن تتوسع في الأخذ من مال زوجها لتنفق على شهواتها، هذا ليس من المعروف، وهناك من يفسر كلمة (المعروف) بالعُرف، أي ما يتعارف الناس عليه في البيوت، وصار شيئاً ضرورياً في البيت، حتى وإن كانت الحاجة إليه ليست ماسة، قال: يجوز للزوجة أن تأخذ حتى تحقق هذا، أي العرف، وهو ما تعارفوا عليه، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه قد يتعارف الناس في بيئة من البيئات على شيء من الترف تمضي حياة المرء بدونه، فلا يجوز إذن للزوجة أن تتوسع وأن تأخذ ما تشتهي، إنما (خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف) فيفهم من هذا: ما يقيم صلبها وصلب أولادها.

أغرب شيء صادفته في رمضان الماضي: رجل لا يملك الكثير من المال، ويعمل في صنعة ما، فجمع أجره كله وذهب ليعتمر، وترك أهله دون أن يعطيهم شيئاً، وكان هذا في العشر الأواخر من رمضان، والعيد اقترب، والنفقات في رمضان بوجه عام تزداد، فهذا الرجل ما ترك شيئاً لأهله ولا لأولاده وذهب ليعتمر..!

فأخبروني -بالله عليكم- أهذا تصرف يرضاه الشارع الحكيم؟!

الجواب: لا؛ لأنه ذهب إلى سنة مستحبة له، وقد سبق له أن اعتمر، وسبق له أن حج، وضيع واجباً وراءه.

كذلك حدث عندنا في أسوان أن رجلاً خرج أربعين يوماً وترك أهله؛ وهو صاحب محل، فمعنى أن يخرج أربعين يوماً أي أنه أغلق المحل، وأثناء ذلك مرض ولده فأرسلوا إليه: إن ولدك مريض. فقال الأب: أنا آسف! لن أقطع هذا الخروج.

قاد ولده السيارة من بيته إلى المستشفى وهو مريض، ودخل المستشفى، وكانت أمه ترافقه، ومات بالمستشفى، فأرسلوا إليه إن ولدك مات، فقال: لا أقطع الخروج..!

ضيع أولاده وراءه، ما ترك لهم شيئاً من المال ينفقونه، لو سلمنا أن هذا الخروج مستحب -مع كونه بدعة كما صرح بذلك أهل العلم- وتعارض مع فرض، فلا شك عند المبتدئين من طلبة العلم أنه يقدم أقواهما عند التعارض، فيقدم هذا الفرض وهو الإنفاق على العيال، لكن كثيراً من أولئك يقودهم الجهل بالنصوص الشرعية إلى مثل هذه التصرفات.

النفقة على العيال واجبة، وذلك الرجل صاحب البستان إنما نال كرامة السحاب المليء بالماء، ويقيض من ينادي في هذا السحاب أن اسق أرض فلان، فيسميه باسمه، لأنه عادل؛ فقد قسم ماله إلى ثلاثة أجزاء بالعدل: ثلث لأولاده، وثلث يتصدق به، وثلث يرده في باطن الأرض، حتى ينبت هذا الحب مرة أخرى فيتمكن من القيام بهذا الواجب، والقيام بحق الفقراء والمساكين من الصدقة.

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وفي لفظ أبي داود (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) أي: حسبه هذا الإثم، إن كان يريد أن يستزيد من الآثام حسبه أن يضيع من يعول، فهذا مما يدل على إثم تضييع الأولاد، والفضل في النفقة عليهم، وأن هذا من أفضل القربات عند الله عز وجل أن ينفذ الإنسان ما أمر به، ويكون واجباً عليه، أي فرضاً.

فضل الصدقة

الفائدة الثانية: وهي الصدقة، وفيها أدلة كثيرة جداً على فضلها.

من الأشياء التي افتقدها المسلمون اليوم: وجود بيت مال للمسلمين، أو على الأقل وجود بيوت تجمع هذا المال يكون عليها فقير، حتى يعرف كيف يصرف هذا المال، فتعجب عندنا في الجرائد عندما تقرأ أن فاعل خير تبرع بمائة ألف دولار لـمصطفى أمين ، هذا العلماني من الذي أدخله في الزكاة ومصارف الزكاة أو الصدقات؟! هؤلاء ينفقون على الفنانين والفنانات المتقاعدات، يقول: أدوا الرسالة على أتم وجه، ثم يضيعها هو، فينفقون من هذا المال على الفنانات، لا يصل هذا المال إلى مستحقيه، فهذا الرجل الذي أعطى هذا المال جاهل بمادته، والذي يتصرف بهذا المال أجهل منه.

والسبب في حدوث مثل هذه الفوضى: أن المسلمين تخلفوا عن القيام بأدوارهم، والزجاجة الفارغة إذا لم يملأها شيء ملأها الهواء، فأنت إذا لم تشغل هذا الحيز شغله غيرك.

كم خسر المسلمون بسبب الفوضى؛ لأن أموالهم ذهبت إلى غير مستحقيها، وكم من أصحاب المعاصي بدأ المعصية بسبب الحاجة، هناك بعض النساء الزانيات اللاتي تبن، لكن إحداهن تحكي أن سبب وقوعها في هذه الخطيئة ذهبت تطلب شيئاً فلم تجده، وسدت أبواب الخير في وجهها، فاضطرت -نحن لا نبرر شرعاً هذا الاضطرار- أن تسلك هذا الطريق، ووجدته طريقاً مليئاً بالأموال فسلكته.

وهذا يدل عليه قصة أصحاب الغار: الرجل الذي جاءته ابنة عمه تطلب منه مالاً، فراودها عن نفسها فأبت، فألمت بها سنة -أي: مجاعة وحاجة- ثم إنها رجعت إليه مرة أخرى فمكنته من نفسها رجاء أن تأخذ المال، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه.

ما الذي جعلها تأبى أولاً، وما الذي جعلها توافق ثانياً؟ نستطيع أن نستشف أن هذه المرأة أبت أن تفرط في عرضها؛ لأنها ظنت أنها إن يممت وجهها شطر أي رجل آخر فإنه يمكن أن يسد حاجتها، فكأنها مرت على الرجال تلتمس منهم هذا العون فلم تجد، وألمت بها سنة -أي: مجاعة شديدة- فاضطرت أن ترجع.

لو أن هذه المرأة وجدت أول مرة من يسد حاجتها لم تكن لتفرط في عرضها؛ لذلك نحن نقول: نحتاج إلى فقيه يقوم على هذا المال؛ لأن بعض الناس يشحون بصدقاتهم وزكواتهم على بعض أصحاب المعاصي، يقول: أنا لا أعطي إلا الملتزم.. أفلا يسرك أن ينضم رجلٌُ جديد إلى ركب المؤمنين؟

في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج-يعني بالليل- فوجد امرأة فوضع في يديها الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على زانية. فقال الرجل: الحمد لله .. على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة -كأنما شعر أن صدقته لم تقع في الموضع الذي أراد، أنا أريد أن أتصدق على المستحق، فتقع صدقتي في يدي زانية! كأنه رأى أنها ما أجزأته؛ لذلك عاود الأمر مرة أخرى وقال: لأتصدقن الليلة بصدقة- فخرج فوجد رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على سارق. فقال: الحمد الله .. على سارق! لأتصدقن الليلة بصدقة -لأنها وقعت من وجهة نظره في غير الموقع الذي أراد- فخرج فرأى رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على غني -أي: غير محتاج- فجاءه من يقول له: أما صدقتك فقبلت، وأما الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله ينظر فيخرج الذي عنده) فهذا فضل الصدقة على أهل المعاصي:

أما الزانية: فلعها تستعف وتحفظ فرجها إن وجدت من يكفلها.

وأما السارق: فلعله يتوب عن هذه السرقة، بأن وجد من يعطيه هذا المال.

وأما الغني: فلعله يغار ويخرج الذي عنده.

لذلك يجب علينا أن نعامل أصحاب المعاصي كأنهم مرضى، وبذلك فهم يحتاجون إلى نوع خاص من المعاملة، فلا تشح بمالك على بعض أهل المعاصي، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ فمن أملت فيه بإحسانك إليه أن يرجع وأن يتوب لا تتردد في ذلك، وإذا ظهر لك بعشرتك معه، وكثرة دعوتك له أن يراجع ربه تبارك وتعالى ويقلع عن هذا الإثم، أنه سيظل ماكثاً على ما هو عليه؛ حينئذٍ تتركه وتهجره.

فالصدقة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة)، وفي الحديث الصحيح: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) وهناك بعض الناس يجدون جبالاً من الحسنات ما توقعوها قط؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف.

يقول بعض الناس: أنا لا أخرج الصدقة حتى أرى من يستحقها. لا يا أخي! أخرجها، المهم أن تخرج منك، وسواء وقعت في موقعها الذي أردت، أو وقعت في غير موقعها.. هذا ليس من شأنك، وهذا يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للرجل في الحديث السابق: (أما صدقتك فقبلت)، المهم أن تخرج منك، لأن النفس مجبولة على الشح والمنع، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

هذه كلها عبارة عن ذرائع يخفي بها المرء شحه، أن يقول: أنا أريد أن أضع الصدقة في مكانها. هذا في الحقيقة لو أنه ترك نفسه لعلم أن هذا جاء من جراء الشح.

الصورة التي يفكر بها المرء لاسيما في باب الإنفاق مهمة جداً في دعوة العوام إلى الرجوع إلى حظيرة الإسلام، ولقد والله رأينا أناساً كثيرين يبذلون هذا لله تبارك وتعالى في الصدقة؛ فيعوضهم الله عز وجل أفضل منه.

قصة الطالب المشهور الذي كان يعمل مهندساً لصيانة المكائن في شركة الدخان، وما كان يعرف حكم الدخان، وكان هذا الرجل كثير الصدقة، ويتصدق من كسب يده، فكأنما خاف على هذه الصدقات أن تذهب وتبدد؛ لأنها لم تأت من كسب طيب، فأراد أن يستبدل مصدر كسبه بمصدر طيب، لكن ماذا يعمل وهو مهندس ولا يجيد إطلاقاً إلا هذه الصناعة، أول ما علم أن العمل في هذه الشركة لا يجوز ما ترك مباشرة، لأنه لابد أن ينفق على أولاده، فانتظر حتى اشترى له عربية -هذه التي يدفعها الرجل بيده- واشترى بعض الطماطم والبطاطس وكل هذه الأشياء، واقترض هذا المبلغ، وهو رجل مهندس -هذه القصة حدثت في أواخر الستينات، طبعاً في أواخر الستينات كانت الشهادة مهمة جداً، والآن ليس لها قيمة، وإن كانت شهادة جامعية عالية فإنها ليس لها قيمة، إنما كان لها قيمة عظيمة جداً في أواخر الستينات وأوائل السبعينات- وصار يدفعها في شوارع الجيزة، هذا الرجل الآن يعد من أكبر الأغنياء الموجودين بمصر.

ويحكون عنه أشياء كثيرة في التصدق والبذل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته يوماً: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فكان أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يقسن أيديهن، وكن يعتقدن أن التي يدها أطول هي التي تلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وتكون أول من يموت بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ماتت زينب رضي الله عنها، وهي أول زوجاته لحوقاً به، وكانت قصيرة، وقصر الطول يتبعه قصر الأعضاء، فعلمن حقيقة الحديث، وأن الأمر ليس المقصود طول اليد، إنما طول اليد بالصدقة؛ لأن زينب رضي الله عنها كانت كثيرة الصدقات، فكأن لها اليد الطولى، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

فمن ترك شيئاً لله تبارك وتعالى عوضه الله عز وجل خيراً منه.

فذلك الرجل تصدق بثلث ماله على الفقراء والمساكين الذين لهم حق في هذا المال.

زراعة الأرض واستثمارها

القسم الثالث: وهو زراعة الأرض واستثمارها.

قرأت مقالاً لبعض المستشرقين يحتج فيه بحديث في البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام (رأى محراثاً في بيت فقال: ما دخل هذا بيت قومٍ إلا أدخله الله الذل) فقال: إن هذا يدل على أن الإسلام لا يحث على زراعة الأرض واستثمارها، هذا مع كون النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) ، لا يقولن أحدكم: إن الساعة تقوم، اغرسها.

وإنما كان هذا التنبيه؛ لأن ابن آدم مجبول على ألا يفعل شيئاً إلا بفائدة من ورائه، إذا رأى شيئاً لا يعود عليه بفائدة تركه.

كان عندنا طبيب مشهور، لكنه ظل أكثر من ثلاثين عاماً يتمنى أن يرزق بولد أو بنت، وجاب الأرض شرقاً وغرباً، وأخفق في ذلك، وهو طبيب، وليس هناك أحد سيرث هذه الأموال، فكان قد اشترى عمارات وعقارات وبنى أكثر من عيادة، ولكن لما أيس من أن ينجب ولداً فجأة وجدوه يبيع كل ما يملك، وباع كل العيادات واقتصر على عيادة واحدة، فسألوه عن ذلك، قال: لمن أدع هذه الأموال؟! أنا أشقى وأتعب وأجمع ثم أتركها لمن؟ ليس لي ولد.

لو كان رجلاً يحكمه الشرع لأنفق أمواله كلها على الفقراء والمساكين، هذه الأموال وهذه العقارات التي باعها أين تذهب الأموال الزائدة النقدية؟ وضعها في البنك، إذاً كان وجود هذه العقارات أرحم له، هذا الرجل كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن شعر بأن الجو حار فدخل في فرن، مع أن العاقل لا يفعل ذلك، لكن هذا الرجل لا يحكمه الشرع، لذلك أخذ كل هذه الأموال ووضعها في البنك، وصار يأكل منها شيئاً فشيئاً حتى بددها، وما استفاد منها شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.

الشاهد من هذا: أن الإنسان مجبول على أنه لا يصنع الشيء ويمضي فيه إلا إن حصلت له من ورائه فائدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كأنه ينبه على هذا، فيقول: لا يقع في روعك أن الساعة تقوم ولا أحد يستفيد من هذا الغرس؛ فيحملك ذلك على ألا تغرسه.. لا، اغرسه (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).

وفي الحديث الصحيح الآخر: (ما من رجل يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طائرٌ أو إنسان أو حيوان إلا كان له به أجر) هل هناك حض أكثر من هذا على استثمار الأرض؟

نحن بطبيعة الحال لا نقول هذا الكلام لنقنع هذا المستشرق.. لا، فهؤلاء هويتهم معروفة، إنما هذا الكلام قد يجلي الغموض على بعض أبناء أولئك المستشرقين، الذين يأكلون ويشربون ويتغوطون عندنا، فيكتبون على صفحات الجرائد والكتب والمجلات أشياء تزكم الأنوف.

أخرج أحدهم كتاباً مسلسلاً على مدار سنة أو أكثر، وسماه: (تبشير الأصحاب بتحريم النقاب) وكتب مؤهلاته العلمية على جلدة الكتاب من الخلف، فحل لنا لغزاً عظيماً إذ علمنا أنه طبيب بيطري متخصص في السموم، فعلمنا أن هذا من السم الذي نفثه.

يقول في آخر الكتاب: (والمرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة، وإننا إذا استغفرنا للمتبرجة مرة، سنستغفر للمنتقبة مرتين؛ لأن المتبرجة تعلم أنها عاصية بتبرجها، أما المنتقبة فتظن أنها مطيعة بنقابها، والنقاب حرام، فهذه أبعد عن الصراط المستقيم من المرأة المتبرجة..!)

فهل يصح في عقل عاقل أن تستوي في الإثم امرأة تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه وامرأة منتقبة؟!

فلما قيل لهم: كيف تنشرون مثل هذا؟

قالوا: حرية رأي.

إذاً.. اسمحوا لنا بالرد عليه.

قالوا: اكتبوا.

فكتب العشرات وأرسلوا إلى الجريدة، ولكنهم لم ينشروا شيئاً؛ وقالوا: ليست هناك مساحات خالية.

وقد اشتكى شيخ الأزهر من الجرائد الرسمية بأنه يرسل الرد على بعض الناس فلا ينشر؛ لأن القائمين على أجهزة الإعلام معروف أن هويتهم علمانية، فيسمحون للمرأة على شواطئ الإسكندرية أن تخرج بالمايوه، وفي الجامعات أن تذهب متبرجة، ورغم ذلك يمنعون المنتقبات من دخول الجامعات؟ لماذا لم يعاملوهن معاملة أولئك؟ أنتم تقولون: إن المرأة عندما تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه أو عارية أن هذه حرية.. أليس لأولئك حرية أيضاً..؟!!

الحرية إذن في الطعن على الإسلام والمسلمين فقط، هذه هي الحرية. فهؤلاء إذا ترجموا لنا كتب المستشرقين قالوا: هذه آداب، وهذه فنون، ننقل ما عند الناس؛ لأنهم ينقلون ما عندنا، تريدون منا أن نتحجر، ثم يقذفوننا بما في جعبتهم من الرجعية والتخلف والانحطاط، والرجوع إلى القرون الوسطى، والله يعلم أن هذا المتكلم لعله لا يعلم شيئاً عن القرون الوسطى، لكن هذه الكلمة إنما تقال في معرض التحجر.

وهذا أحمد بهاء الدين يذهب إلى أمريكا للعلاج، ويرسل من هناك مقالاً يقول: (بينما العالم يتابع سفينة الفضاء الأمريكية التي أطلقت من أكثر من عشرة أعوام، وترسل الصور من على القمر، نجد عندنا من يتكلم عن فوائد البنوك هل هي حلال أم حرام؟ وهل النقاب واجب أم مستحب؟ وهل تغطية الوجه ...كذا! أفيقوا يا قوم!).

حسناً.. ما علاقة العلماء بسفينة الفضاء؟! كان من الأحرى والأجدى أن يوجه مثل هذا التقريع إلى رجال الفضاء بمصر.. لماذا؟ لأن هذا تخصصهم، فيقول لهم: أنتم لا تعرفون إلا الهلال، وظهور الشمس، اخرجوا من هذا القمقم وتحركوا وانظروا، وخذوا تكنولوجيا العالم..

لكن -كما قلنا- الشيخ دائماً مهضوم، وكل بلية تنسب إليه، وكل حسنة وإن جاءت منه تنسب إلى غيره؛ لأنه -كما قلنا- ليست الدولة لهم.

هناك مسرحية مشهورة وهي مسرحية: مدرسة المشاغبين، وفي هذه المسرحية في البداية أتوا بهيئة التدريس ينشدون النشيد الوطني للمدرسة، وكان من ضمن هيئة التدريس: مدرس الدين، وأتوا بهم وهم يغنون ويرقصون، وكان أفضل رجل رقص فيهم وحاز على قصب السبق مدرس الدين.

لا يستطيعون أن يجعلوا قسيساً مكان هذا الرجل، لكن لأن الشيخ ممتهن، إذا تكلم الشيخ -مثلاً- في الإعجاز الفضائي، يقولون له: وما أدراك بالفضاء؟! ابق في الحلال والحرام، لا تتكلم في الفضاء.

والمهندس أو الفلكي عندما يتكلم في الدين لا أحد يقول له: لماذا تتكلم في غير تخصصك؟ وإذا قيل له ذلك قال: الدين لله، وليس ملكاً لك.

وهذه كلمة حق أريد بها باطل؛ لأن الدين لله عز وجل من ناحية الاعتقاد، وليس من ناحية التصدر للفتيا، لم يقل أحد من أهل العلم قط أنه يباح لكل أحد أن يفتي، ما قالها أحد قط، فمسألة (الدين لله) أي: اعتقاداً لا يجبرك أحد، لكن (الدين لله) أي: الفتيا، يتجرأ عليها كل أحد، ما قال أحد من أهل العلم بهذا قط، ولا أنصاف المتعلمين يجرءون على قولها، إنما هو -كما قلنا- الجور على أهل الدين، فهم لا يعاملوننا بالعدل حتى ذراً للرماد في العيون.

فيأتي هذا فيترجم هذه الأشياء التي فيها فظاعة وطعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجرؤ أحد على منع هذا من النشر -كما قلنا- لأنهم يقولون: حرية رأي.

توفيق الحكيم روائي معروف، قال هذا القول عندما بلغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: إذا بلغت عبدي ستين سنة فقد أعذرته)، وقد زار فرنسا ورجع، فاستضافوه في صحيفة الأهرام وسألوه:

ما أفضل شيء أعجبك في فرنسا؟

فقال: الزواج الجماعي.

في الأشهر الماضية يسألون وزير الثقافة على صفحات (جريدة الأهالي) لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ يقول: حباً في النساء؛ لأن الرجل الذي يتزوج يقتصر على امرأة واحدة.

ما معنى هذا الكلام؟ أي أن الذي لا يتزوج له النساء جميعاً، والذي يتزوج كصاحب المحل، له محل واحد، أما العامل فله ألف محل، يستطيع أن يترك هذا المحل ويذهب إلى ذاك.

فقام الناس وقالوا له: إن هذا فسق وفجور، وإعلان للخنى، ولا يجرؤ أحد أن يمنعه أو يتكلم.. لماذا؟ يقولون: هذه حرية.

فهذه المقالات التي يترجمونها فيها السم الزعاف الذي يقتل به أبناء المسلمين في بلادهم، مثل هذا المقال -كما قلنا- دخل من باب حرية الرأي، وفيه طعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

فيقول هذا: إن الإسلام يدعو إلى الخمول والكسل، بدليل أن هذا الحديث يقول: إن الرجل الذي يمتلك آلة الحرث في بيته يذل، مع أنه عمي أو تعامى عن تبويب الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث، وقال: باب ما يخشى من الاشتغال بآلة الزرع -أي: عن ذكر الله تبارك وتعالى- فيقول: إن هذا الرجل إذا استخدم المحراث في زراعة الأرض وتفانى فيها بحيث ألهته عن ذكر الله، فليس بعد دخول النار ذل، هذا يقضي عليه بالذل إن اشتغل به عن ذكر الله تبارك وتعالى.. هذا وجه من وجوه الحديث.

الوجه الآخر: وهو أن الذي يعمل بآلة الزرع يتعرض للذل بسبب الجباية التي تفرض عليه، وعلى المحصول الذي يخرج من الأرض؛ فيتعرض للذل، وهذا كائن، فمثلاً يقولون: الفدان يُخرِج مثلاً طنين من الأرز -ألفي كيلو- ويجب أن يورد إجباراً إلى الجمعية الزراعية طناً ونصف، بسعر -مثلاً- مائتي جنيه، في حين أن هذا الطن في السوق السوداء بستمائة، إذاً: الفرق أربعمائة في الطن الواحد، هب أن الله منع الثمرة وغارت الأرض، ماذا يفعل هذا الرجل؟ يجب عليه أن يشتري طناً ونصف بسعر ستمائة حتى يوردها بسعر مائتين، إذاً يخسر، وإن تخلف عن السداد سجن.. أليس هذا من الذل؟

فكأن في هذا الحديث إشارة إلى ما يفرض على ذاك المزارع من الجبايات الظالمة التي تعرضه للذل: إما بتعريضه للسجن إذا لم يوف ما عليه، وإما بتعريضه للجوع هو وعياله.

فهذا الذي يفهم عليه الحديث، ليس أن الإسلام يمنع من استثمار الأرض، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)؟ لذلك هذا الرجل يقول: (وأرد فيها ثلثه)؛ لأنه إن لم يرد ثلثه لا يتمكن من أداء الأمرين الأولين:

الأمر الأول: وهو الإنفاق على الأولاد.

والأمر الثاني: وهو أن يتصدق، وأن يحظى عند الله تبارك وتعالى بالخير العظيم.

فهذا الثلث الذي يرده في باطن الأرض يعينه على إنجاز الأولين.

استحباب إخفاء الورع

بقيت فائدة أخيرة، وهي فائدة طارئة، قوله: ( أما قد قلت ذلك؛ فإني أنظر ما يخرج منها ) فيفهم من هذا أنه يستحب أن تخفي ورعك؛ لأن هذا الرجل لولا أن ذاك سماه باسمه وهو لا يعرفه لما قال له ما الذي يصنعه، (ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي. قال: إني سمعت صوتاً في السحابة .. الحديث، قال: أما قد قلت ذلك -أي: أما قد انكشف الأمر- فإني أنظر إليها وأفعل كذا وكذا) وهذا كان هدياً يتتبعه أسلافنا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

كان محمد بن واسع -رحمه الله، وهو من أجل التابعين، صاحب القولة المعروفة: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحدٌ أن يجالسني. يبكي طوال الليل، فإذا أصبح الصباح اكتحل حتى لا يظهر ذبول عينيه من البكاء، يخفي طاعته!

وهذا الورع كان ملكة عند أولئك، ما كان تصنعاً، كما أنك تتمسك تلقائياً كانوا يتورعون أيضاً، كثير من الإخوة يقول: نحن نقرأ في كتب السلف وفي تراجمهم عن ورعهم الشديد، فأريد أن أصنع مثلهم فأعجز وأفشل، وأرجع بخفي حنين، فكيف السبيل إلى ذلك؟

فيقال: إن هؤلاء ما وصلوا إلى قمة الهرم إلا بعد أن اجتازوا مراحل: فعل الواجبات، ثم عرج على المستحبات، وانتهى عن المحرمات، وتجنب المكروهات.

إذا فعل هذا وصل إلى الورع، كيف يتورع من يترك الواجبات؟ كيف يتورع من هو مصرّ على فعل المحرمات ومكثر من فعل المكروهات؟ لا يصبر، إن أراد أن يتورع يعلم من نفسه أنه كاذب؛ لذلك لا يستمر.

يعزى لبعض العلماء -ويقولون أنه الإمام أبو حنيفة رحمه الله- سرقت شاة في زمانه، فأتى قصاباً أو رجلاً راعياً وقال: كم عمر الشاة -أقصى شيء تعيشه الشاة- قال له: خمس سنوات، فامتنع من أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات مخافة أن يشتري من نفس الشاة المسروقة.

يأتي بعض أولئك المقصرين فيقولون: هذا تنطع، نحن لم نؤمر بذلك!

نقول: أنت في واد وهو في واد آخر، هو في قمة الهرم، وأنت أسفله، نحن نعلم أن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لو صحت هذه النسبة للإمام أبي حنيفة لا نستطيع أن نأخذ منها فتوى؛ لأن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لكن نحن الآن لسنا بصدد إصدار الأحكام الشرعية، نحن -كما قلنا- على قمة الهرم، فهذا الورع ما يستطيع الإنسان أن يصل إليه ويصير ملكة لديه إلا إن قطع هذه الوديان والمفاوز حتى يصل إلى هناك.

في سير أعلام النبلاء: أن رجلاً سب وكيعاً - وكيع بن الجراح ، الإمام العلم، شيخ الإمام أحمد - فماذا فعل وكيع ؟ تركه، ودخل داره وعفّر وجهه بالتراب، ثم خرج إليه وقال: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه.

من يستطيع أن يفعل هذا؟ لا يرد عليه، لكن يرجع اللوم على نفسه: (زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت عليه)!

وكذلك في ترجمة الإمام العلم المصري عبد الله بن وهب رحمه الله أنه قال: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً -يريد أن يؤدب نفسه، فانظر إلى هذا الورع، فقال: نذرت، حتى يجد الوفاء بالصوم، يعني نفسه لا تسول له أن يترك فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم -لأنه يغتاب- نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، قال: فمن حبي للدراهم تركت الغيبة) مشقة أنه في كل يوم يتصدق بعشرة دراهم أو عشرين درهماً.

ما يضره أن يتعب نفسه الآثمة؛ لأن هذا يحمل على مزيد من الورع.

ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جمع أصحابه وصعد المنبر، وسكت ملياً ثم قال: (أما إني كنت أرعى غنم بني فلان على لقيمات، وبكى ونزل. قالوا: يا أمير المؤمنين! ما قلت شيئاً -يعني: الذي قلته نحن نعرفه، ما زدت شيئاً- ماذا أردت؟ قال: حدثتني نفسي أنني أمير المؤمنين، فأردت أن أذلها)!

يذلها بأن يذكرها أدنى أحواله: أنه كان يرعى غنم بني فلان على لقيمات أو على دريهمات.

لما جاء الطيب -صدقات أو زكوات- إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه الخليفة الخامس الراشد- ودخل، وطبيعة الحال أنه إذا كان هناك مكان به طيب أن تنتشر رائحة الطيب في المكان، فماذا فعل عمر؟ أول ما دخل أمسك بأنفه، قيل: يا أمير المؤمنين! هذه مجرد رائحة أنت ما أخذت منه شيئاً! فقال لهم: وهل ينتفع إلا بريحه؟! الطيب لا ينتفع إلا بريحه، فكأنه لم ير لنفسه حقاً أن يشم هذا الريح برغم أنه منتشر في المكان.

أهل التقصير يرون أن هذا من التنطع، لكن هذا ملكة عند أولئك؛ لأنهم أهل الورع.

كانوا يخفون ورعهم ويظهرون آثامهم، قال ابن جريج رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له.

لو سألت أي طالب علم: لمن طلبت العلم؟ سيقول: لله، والله أعلم بحقيقة نيته.

الإمام الذهبي يقول كلاماً معناه: ولو سألت أي فقيه: لمن تعلمت العلم؟ لبادر وقال: لله، ويبرر نفسه الحمقاء.

وابن جريج رحمه الله يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له. أي أنه عندما طلب العلم طلبه ليقال: محدث أو فقيه، لكن كان عنده إخلاص في الجملة، وعلم الله عز وجل إخلاصه ذلك، فلما حصّل الأدلة الشرعية انتفع بها، فعاد العلم لله، مع كونه لما بدأ كان يريد أن يشار إليه بالبنان، فيقال: هذا فقيه أو هذا محدث، لكن مع تحصيل العلم، وتصحيح النية؛ أصبح مخلصاً لله تبارك وتعالى.

فهذه الجزئية في هذا الحديث: (أما قد قلت ذلك) فيها إشارة إلى أن هذا الرجل لو لم يقل له هذا الأمر لما صرح له بهذه القسمة العادلة التي نال بها مطراً أو ماءً خاصاً من السماء، ينادى فيها باسمه.

وهذا أيضاً داخل في فائدة عظيمة جليلة، لكن الأمر يطول بها، وهي: كرامات الأولياء، ولعلنا نتعرض لمثل هذا المبحث في مرة أخرى إن شاء الله تبارك وتعالى.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

نسأل الله عز وجل أن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله.

هذه القصة حدثت في زمن بني إسرائيل، ونخرج منها بثلاث فوائد عظام:

الفائدة الأولى: فضل النفقة على العيال، والإثم في تضييعه.

الفائدة الثانية: فضل الصدقة.

والفائدة الثالثة: فضل عمارة الأرض كزراعتها.

أما الفائدة الأولى: وهي فضل النفقة على العيال وإثم تضييعه.

في الحديث القدسي الذي رواه البخاري مرفوعاً: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وقال الحديث: (وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه) إذاً فعلك لهذا الواجب هو أحبُّ شيءٍ تتقرب به إلى الله عز وجل، إن أردت أن تتقرب تقرب بما افترض عليك، أما النافلة فتقتضي زيادة الحب، (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه).

لو أردنا أن نقرب هذا المعنى نذكر مثالاً -ولله المثل الأعلى- فنقول: لو كان لك خادم كلما أمرته بشيء امتثل، ولا يقول: لا، ولا يشكو عجزاً.. هذا -بلا شك- يكون محبوباً لديك، فإن علم هذا الخادم -بذكائه ومعاشرته لك- أنك تحب النظافة اليومية، وأنك تحب أن تقص الشجر، أو تقطف الورود ففعل هذا بغير أن تأمره، ألا تزداد له حباً؟ تزداد له حباً بطبيعة الحال.

وكذلك الله تبارك وتعالى عندما تتقرب إليه بما فرضه عليك فهذا أحبُّ شيء إليه عزوجل، فإن زدت ذلك نافلة من عندك زاد حبه لك، صح عند النسائي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله ليضحك إلى العبد يكون النوم أحب شيء إليه، ثم يقوم يتملق ربه بركعتين) كل أمنيته أن يصل إلى فراشه من شدة التعب، ولكن توضأ ووقف بين يدي الله عز وجل يتملق -تأمل هذا اللفظ- يتملق ربه بركعتين، فالله تبارك وتعالى يضحك لمثل هذا العبد.

النفقة على العيال واجبة، لذلك لا يجوز أن تخرج الزكاة للأصول أو للفروع، لا يجوز أن تعطي زكاة مالك لأبيك وأمك ولا لأولادك.. لماذا؟ لأن لهم نفقة واجبة عليك، وإذا قصر الرجل في هذا الواجب فقد أباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـهند بنت عتبة كما في حديث عائشة في الصحيحين، قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ قال لها: خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف)، لو قصر رجل في هذا الواجب يؤخذ منه عنوة؛ لأنه واجب عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أباح لها أن تأخذ حقها المفروض على زوجها أن يؤديه إليها، قال لها: (بالمعروف) هذه الكلمة مهمة جداً؛ لأنه لا يجوز للزوجة أن تتوسع في الأخذ من مال زوجها لتنفق على شهواتها، هذا ليس من المعروف، وهناك من يفسر كلمة (المعروف) بالعُرف، أي ما يتعارف الناس عليه في البيوت، وصار شيئاً ضرورياً في البيت، حتى وإن كانت الحاجة إليه ليست ماسة، قال: يجوز للزوجة أن تأخذ حتى تحقق هذا، أي العرف، وهو ما تعارفوا عليه، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه قد يتعارف الناس في بيئة من البيئات على شيء من الترف تمضي حياة المرء بدونه، فلا يجوز إذن للزوجة أن تتوسع وأن تأخذ ما تشتهي، إنما (خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف) فيفهم من هذا: ما يقيم صلبها وصلب أولادها.

أغرب شيء صادفته في رمضان الماضي: رجل لا يملك الكثير من المال، ويعمل في صنعة ما، فجمع أجره كله وذهب ليعتمر، وترك أهله دون أن يعطيهم شيئاً، وكان هذا في العشر الأواخر من رمضان، والعيد اقترب، والنفقات في رمضان بوجه عام تزداد، فهذا الرجل ما ترك شيئاً لأهله ولا لأولاده وذهب ليعتمر..!

فأخبروني -بالله عليكم- أهذا تصرف يرضاه الشارع الحكيم؟!

الجواب: لا؛ لأنه ذهب إلى سنة مستحبة له، وقد سبق له أن اعتمر، وسبق له أن حج، وضيع واجباً وراءه.

كذلك حدث عندنا في أسوان أن رجلاً خرج أربعين يوماً وترك أهله؛ وهو صاحب محل، فمعنى أن يخرج أربعين يوماً أي أنه أغلق المحل، وأثناء ذلك مرض ولده فأرسلوا إليه: إن ولدك مريض. فقال الأب: أنا آسف! لن أقطع هذا الخروج.

قاد ولده السيارة من بيته إلى المستشفى وهو مريض، ودخل المستشفى، وكانت أمه ترافقه، ومات بالمستشفى، فأرسلوا إليه إن ولدك مات، فقال: لا أقطع الخروج..!

ضيع أولاده وراءه، ما ترك لهم شيئاً من المال ينفقونه، لو سلمنا أن هذا الخروج مستحب -مع كونه بدعة كما صرح بذلك أهل العلم- وتعارض مع فرض، فلا شك عند المبتدئين من طلبة العلم أنه يقدم أقواهما عند التعارض، فيقدم هذا الفرض وهو الإنفاق على العيال، لكن كثيراً من أولئك يقودهم الجهل بالنصوص الشرعية إلى مثل هذه التصرفات.

النفقة على العيال واجبة، وذلك الرجل صاحب البستان إنما نال كرامة السحاب المليء بالماء، ويقيض من ينادي في هذا السحاب أن اسق أرض فلان، فيسميه باسمه، لأنه عادل؛ فقد قسم ماله إلى ثلاثة أجزاء بالعدل: ثلث لأولاده، وثلث يتصدق به، وثلث يرده في باطن الأرض، حتى ينبت هذا الحب مرة أخرى فيتمكن من القيام بهذا الواجب، والقيام بحق الفقراء والمساكين من الصدقة.

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وفي لفظ أبي داود (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) أي: حسبه هذا الإثم، إن كان يريد أن يستزيد من الآثام حسبه أن يضيع من يعول، فهذا مما يدل على إثم تضييع الأولاد، والفضل في النفقة عليهم، وأن هذا من أفضل القربات عند الله عز وجل أن ينفذ الإنسان ما أمر به، ويكون واجباً عليه، أي فرضاً.


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
فضل العلم وشرفه[2] 2013 استماع
فضل الصدقة 1532 استماع
فضل الجوع 1473 استماع
فضل العلماء 1395 استماع
فضائل السيدة عائشة 1373 استماع
فضل العلم وشرفه[1] 1277 استماع
فضل العالم على العابد 1089 استماع