عنوان الفتوى : المعيار الصحيح لتكفير الكبائر
هل القول بأن الحسنات تكفر السيئات مطلقًا، حتى الكبائر؛ قول معتبر، مع احتمال كونه مرجوحًا؟ استدلالًا بظاهر الآية {إن الحسنات يذهبن السيئات}، وكذلك بحديث البَغِيِّ التي سقت كلبًا، فغفر الله لها، وغير ذلك من الأدلة. (عملًا بأن الأصل أن تُحمل النصوص على ظاهرها كما يذكر كثير من العلماء)، أم أن هذا القول من أقوال المرجئة، ولا اعتبار، ولا وزن له مطلقًا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالصحيح الذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الأعمال الصالحة، وأداء الفرائض لا تكفر الكبائر، بل لابد للكبائر من توبة. وراجع في ذلك الفتويين: 80252، 97742.
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: أما الكبائر: فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد فيها من التوبة، والندم، والإقلاع، واعتقاد أن لا عودة فيها. اهـ.
وقال ابن عبد البر في «الاستذكار»: القول في ذلك عندي كالقول في قوله عليه السلام: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)؛ لأن الكبائر لا يمحوها إلا التوبة منها، وقد افترضها تعالى على كل مذنب بقول: (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون). اهـ.
وقال القاضي عياض في «إكمال المعلم»: ما ذكر في حديث عثمان من كفارة الذنوب بالطهارة والصلاة ما اجتنبت الكبائر، هو مذهب أهل السنة، ودليل كتاب الله، قال الله تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار} الآية، وإن الكبائر إنما يكفرها التوبة، أو رحمة الله، وفضله. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: {الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ كفارة لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر} فهذه الأمور التي هي أعظم من الحج، ولكن الكبائر تكفرها التوبة منها بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. اهـ.
وقال أيضا: لا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك، وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته. اهـ.
وأما ما يُذكَر عن بعض أهل العلم في تكفير الكبائر بالأعمال الصالحة، فهذا في حق من لا يُصِرُّ على الكبائر، ومع ذلك فقول جماهير أهل العلم أقوى وأرجح.
قال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»: اختلف الناس في مسألتين: إحداهما: هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر؟ أم لا تكفر سوى الصغائر؟
فمنهم من قال: لا تكفر سوى الصغائر، وقد روي هذا عن عطاء، وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر، وقال سلمان الفارسي في الوضوء: إنه يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المساجد يكفر أكبر من ذلك، والصلاة تكفر أكبر من ذلك. خرجه محمد بن نصر المروزي.
وأما الكبائر؛ فلا بد لها من التوبة، لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالما، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع. وأيضا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض، لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه "التمهيد"، وحكى إجماع المسلمين على ذلك، واستدل عليه بأحاديث.
وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر، ومنهم ابن حزم الظاهري، وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب "التمهيد" بالرد عليه وقال: قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب، لولا قول ذلك القائل، وخشيت أن يغتر به جاهل، فينهمك في الموبقات، اتكالا على أنها تكفرها الصلوات دون الندم، والاستغفار، والتوبة، والله نسأل العصمة والتوفيق. قلت: وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه، ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر، قال: يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها.
فإن كان مرادهم أن من أتى بفرائض الإسلام -وهو مصر على الكبائر- تغفر له الكبائر قطعا، فهذا باطل قطعا، يعلم بالضرورة من الدين بطلانه، وقد سبق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» يعني: بعمله في الجاهلية والإسلام، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان. وإن أراد هذا القائل أن من ترك الإصرار على الكبائر، وحافظ على الفرائض من غير توبة، ولا ندم على ما سلف منه، كفرت ذنوبه كلها بذلك ... فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة.
والصحيح قول الجمهور: أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة، لأن التوبة فرض على العباد، وقد قال عز وجل: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11]. اهـ.
والله أعلم.