الاستعداد للموت
مدة
قراءة المادة :
18 دقائق
.
الاستعداد للموتالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فللموت شدةٌ وسكرات؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: تفكَّر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه! ومن حاكم ما أعدله! كفى بالموت مقرحًا للقلوب ومبكيًا للعيون، ومفرِّقًا للجماعات، وهادمًا للذَّات، وقاطعًا للأمنيات! قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، والأولياء والمتقين، فما لنا عن ذكره مشغولون؟! وعن الاستعداد له متخلفون؟! ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ [ص: 67، 68]، قالوا: وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، من شدائد الموت وسكراته، فله فائدة؛ أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت، وأنه باطن، وقد يطَّلع الإنسان على بعض الموتى، فلا يرى عليه حركة ولا قلقًا، ويرى سهولة خروج رُوحه، فيغلب على ظنِّه سهولة أمر الموت، ولا يعرف ما الميت فيه؟ فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدَّةَ ألمه، مع كرامتهم على الله تعالى، وتهوينه على بعضهم، قطع الخلق بشدَّة الموت الذي يُعانيه ويُقاسيه الميِّت مطلقًا لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار.
الموت من أعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشدُّ منه إن لم يكن مصير العبد إلى خيرٍ، وأعظمُ من الموت الغفلة عنه، وعدم الاستعداد له؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره وقلَّة التفكُّر فيه، وترك العمل له.
فينبغي للمسلم الاستعداد للموت والتأهُّب له؛ فعن طارق المحاربي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا طارق، استعدَّ للموت قبل نزول الموت))؛ [أخرجه الحاكم]، فالحازم من يكون مستعِدًّا للموت في كل وقت؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فالإنسان يجب عليه أن يحتاط لنفسه، وألَّا يُطيل الأمل، وأن يعمل للآخرة، وكأنه يموت قريبًا لأجل أن يستعدَّ لها.
وكلما تقدَّم الإنسان في العمر استعدَّ للموت أكثر؛ قال بعض السلف: إذا بلغ العبد الأربعين، فقد قضى مناسك الأجل، ولم يبق إلَّا الانحدار إلى الوطن.
وإذا بلغ العبد الستين، فقد أعذر الله عز وجل له في الأجل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة))؛ [أخرجه البخاري]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والمعنى أنه لم يَبْقَ له اعتذار؛ كأن يقول لو مَدَّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت، وإذا لم يكن له عذرٌ في ترك الطاعة مع تمكُّنها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار، والطاعة، والإقبال على الآخرة بالكلية، وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنَّة لانقضاء الأجل.
ومن كان بين الستِّين والسبعين، فالموت ليس عنه ببعيد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعمار أُمَّتي ما بين الستين والسبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك))؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الشيخوخة هي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستِّين والسبعين، فحينئذٍ يظهر ضعف القوَّة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية؛ لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة.
فإن كان قد جاوز السبعين، فالوداع قريب، فليُسرع العبد بالاستيقاظ من غفلته، ومهما كان عمر الإنسان، فينبغي له أن يكون مستعدًّا للموت في كل وقت؛ لأنه لا يعلم متى يموت، وبأي أرض يموت؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ [لقمان: 34]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ﴾ [لقمان: 34]، لا تدري يا بن آدم متى تموت، لعلك الميت غدًا، لعلك المُصاب غدًا: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]؛ أي: ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم بَرٍّ، أو سهل أو جبل؟
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: كلُّ ساعة تمرُّ على ابن آدم، فإنه يمكن أن تكون ساعة موته، بل كل نفَسٍ.
ومن نُذر الموت: المرض؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: المرض نذير الموت.
ومن نذر الموت: ظهور الشيب؛ قال الله عز وجل: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4]؛ قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ الشيب دليل الضعف والكبر، ورسول الموت، ورائده، ونذيره.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ومن نزل به شيب فهو بمنزلة الحامل التي تمَّت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر غير الموت.
استعدِّي للموت يا نفس واسعي*** لنجاةٍ فالحازمُ المُستعِدُّ
وإنَّ ممَّا يُعين ويساعد العبد على الاستعداد للموت أمور؛ منها:
التوبة والإنابة:
إن من أهم الأمور التي ينبغي للعبد أن يقوم بها استعدادًا للموت: المبادرة بالتوبة من جميع الذنوب، وعدم التسويف في ذلك، فإنه لا يدري متى يأتيه الموت؛ قال لقمان لابنه: يا بني، لا تُؤخِّر التوبة؛ فإن الموت يأتي بغتةً، وقال بعض الحكماء: لا تكن ممَّن يرجو الآخرة بغير عملٍ، ويُؤخِّر التوبة لطول الأمل.
المؤمن لا يدري متى يُفاجئه الموت صباحًا أو مساءً، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة، فهو على خطر؛ لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب، فيحشر في زمرة الظالمين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].
إن أفضل أوقات التوبة أن يتوب العبد حال الصحة؛ ليتمكَّن من عمل الصالحات؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أفضل أوقات التوبة أن يُبادر الإنسانُ بالتوبة في صحَّته قبل نُزول المرض به؛ حتى يتمكَّن حينئذٍ من العمل الصالح؛ ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن.
فليُبادر العبد إلى التوبة والإنابة، فالله رحيم كريم غفور يقبل توبة عباده؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع.
كثرة ذكر الموت:
من الاستعداد للموت كثرة ذكره؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكرَ هاذم اللذات))؛ يعني: الموت؛ [أخرجه الترمذي].
قال الإمام ابن العربي رحمه الله: إذا تذكَّر العبد الموت وكان منه على رصد؛ إذ هو له بالمرصاد، انقطع أملُه، وكثُر عملُه، وهانت عليه لذَّاته، ولم يكن للدنيا قدْرٌ عنده؛ إذ ليس بالحقيقة من قطَّانها؛ وإنما هو ينزل نفسه بمنزلة الميت في كل حين من أحيانها، فيعرض عن الدنيا، ويُقبل على الآخرة، ويزهق الشيطان عنه، ويلزمه الملك.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: وقوله عليه الصلاة السلام: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات))، كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، وذكر الموت يُورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجُّه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية، ويردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.
وقال الإمام ابن حبان البستي رحمه الله: الواجب على العاقل ذكر الموت على الأوقات كلها، وترك الاغترار بالدنيا في الأسباب كلها؛ إذ الموت رحى دوَّارة بين الخلق، وكأس يُدار بها عليهم، لا بد لكل ذي روح أن يشربها، ويذوق طَعْمَها، فالعاقل لا ينسى ذكر شيء هو مترقِّب له، ومنتظر وقوعه، من قدم إلى قدم، فكم من مُكرم في أهله، مُعظَّم في قومه، مُبجَّل في جيرته، لا يخاف الضيق في المعيشة ولا الضنك في المصيبة؛ إذ ورد عليه مذلل الملوك، وقاهر الجبابرة، وقاصم الطُّغاة، فألقاه صريعًا بين الأحبَّة، مفارقًا لأهل بيته وإخوانه، لا يملكون له نفعًا، ولا يستطيعون له دفعًا، فالعاقل لا يغترُّ بحالة نهايتها تؤدي إلى ما قلنا، ولا يركن إلى عيش مغبته ما ذكرنا، ولا ينسى حالة لا محالة هو مواقعها.
وقال العلامة العثيمين رحمه الله: الذي ينبغي للإنسان العاقل كلما رأى من نفسه طموحًا إلى الدنيا، وانشغالًا بها واغترارًا بها أن يتذكَّر الموت.
ومما يُذكِّر بالموت: زيارة القبور؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت))؛ [أخرجه مسلم].
ذكر الإمام ابن رجب رحمه الله: أن رجلًا أتى قبرًا محفورًا، فاطلع في اللحد، فبكى بكاءً شديدًا، وقال: والله أنت بيتي حقًّا، والله لئن استطعتُ لأُعمِّرنَّك.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: قال العلماء رحمه الله عليهم: ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور وخاصة إن كانت قاسية، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدَّب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها.
ويقصد بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح قلبه ونفع الميت، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاء الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه، فليتأمَّل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه، الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تُغنِ عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمَّل بعدهم نساؤهم، وشمل ذُلُّ اليُتْم أولادهم، وليتذكَّر ركونهم إلى الصحة والشباب، وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع والهلاك السريع كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان متردِّدًا في أغراضه، كيف تهدَّمت رجلاه، وسالت عيناه، وأكل الدود لسانه، وأبلى التراب أسنانه، وليتحقَّق أن حاله كحاله، ومآله كمآله، وعند هذا التذكُّر والاعتبار، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دُنْياه، ويُقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبُه، وتخشع جوارحُه، والله أعلم.
الإيمان وعمل الصالحات:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يستحبُّ للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، والعبدُ لا يدري أين يموتُ، وإذا كان مقصود الرجلِ الاستعداد للموت، فهذا يكون بالعمل الصالح.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى، والأعمال الصالحة.
وقال العلامة العثيمين رحمه الله: الاستعداد للموت يكون بالإيمان والعمل الصالح.
والإنسان إذا عمل الصالحات، واستمرَّ عليها توفي على ذلك؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي أحسنوا حال الحياة، والزمُوا هذا ليرزقكم الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، قال الحافظ ابن كثير رحمه: وقوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؛ أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه.
فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يبعث كلُّ عبد على مات عليه))؛ [أخرجه مسلم]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع من راحلته فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اغسلوه بماء وسدر وكفِّنوه في ثوبين، ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه، فإن الله يبعثهُ يوم القيامة مُلبِّيًا))؛ [أخرجه مسلم].
كتابة الوصية:
من الأمور التي ينبغي للعبد أن يقوم بها استعدادًا للموت أن يخرج من الدنيا وليس عليه حقوق للعباد أو لله عز وجل، فإن لم يتمكَّن من ذلك لأي سبب، فعليه بالمبادرة بكتابة ذلك، والوصية به، حتى يعلم به الورثة، وينفذوها.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حق امرئٍ مُسلم له شيء يُوصي فيه، يبيتُ ليلتين إلَّا ووصيته مكتوبة عنده))؛ [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث الندب إلى التأهُّب للموت، والاحتراز قبل الموت؛ لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون مُتأهِّبًا لذلك فيكتب وصيته.
قال الشيخ صالح عبدالرحمن الأطرم رحمه الله: تتأكَّد المبادرة في الوصية إذا كان المسلم في حالة خطر كاستقبال سفر، واشتداد مرض، وركوب بحر، ومثله الجو، والمراكب الخطيرة، ودخول المعركة، ويجب على الإنسان أن يوصي بوفاء ما عليه من حقوق، سواء كانت تلك الحقوق للعباد؛ كالديون التي ليس عليها إثبات ولا يعلمها إلا هو، وكذلك ما عنده من الودائع والأمانات، أو كانت لله؛ ككفارات، وحج الفرض، والزكاة التي لم يخرجها، ويستحب أن يُوصي المسلم بشيء من ماله لنفسه إذا كان له مال ليجري ثوابه له بعد موته؛ لحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به)).
الدعاء بالثبات على الدين:
من الاستعداد للموت، أن يأتي الإنسان الموت وهو ثابت على دينه، ومن وسائل الثبات أن يدعو بالدعاء الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُكثر الدعاء به؛ فعن شهر بن حوشب قال: قلتُ لأمِّ سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: ((يا مُقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك))، قالت: فقلت: يا رسول الله، مال أكثر دعائك: ((يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك؟))، قال: ((يا أمَّ سلمة، إنه ليس من آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ))؛ [أخرجه الترمذي].
ومن استعد للموت في حال صحته ورخائه فليُبشر بكل خير من الله الكريم الرحيم؛ قال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18، 19]، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فمن ذكر الله في حال صحَّته ورخائه، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله عز وجل بالموت وما بعده، ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولطف به، وأعانه، وتولَّاه، وثبَّته على التوحيد، فلقيهُ وهو عنه راضٍ، ومن نسي الله في حال صحَّته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى: أعرض عنه، وأهمله، فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعدِّ له، أحسن الظن بربِّه، وجاءته البُشرى من الله، فأحبَّ لقاء الله، وأحبَّ الله لقاءه، والفاجرُ بعكس ذلك، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ، ويستبشر بما قدَّمهُ مما هو قادم عليه، ويندمُ المفرطُ، ويقول: ﴿ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 56].
ومن مات فقد قامت قيامته، فهو إما في نعيم أو في عذاب، إلى أن تقوم الساعة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسانُ منذُ أن تُفارق رُوحُه بدنه هو إما في نعيم وإما في عذاب، فلا يتأخَّر النعيم والعذاب عن النفوس إلى حين القيامة العامة، وإن كماله حينئذٍ، ولا تبقى النفوس المفارقة لأبدانها خارجة عن النعيم والعذاب ألوفًا من السنين إلى أن تقوم القيامة الكبرى؛ ولهذا قال المغيرة بن شعبة: أيها الناس، إنكم تقولون: القيامة، القيامة، وإنه من مات فقد قامت قيامته.
اللهم وفقنا للتوبة والإنابة، والاستعداد للموت قبل نزوله، وأحسن خاتمتنا، ولا تكلنا لأنفسنا المقصِّرة طرفة عين أو أقل من ذلك.