أرشيف المقالات

التورع عن المحرمات

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
التورُّع عن المحرَّمات
سلسلة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم (6)
 
انتشر الحرام في الأمة انتشار النار في الهشيم، وانصرَف الكثير من العباد عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، ومن الحياء من المعصية والندم على ما فات إلى المجاهرة والإصرار على الذنب والتمادي فيه، وكثرة الفتن من نساء متبرجات وأفلام خليعة، وفضائيات تبث أدق التفاصيل وبإثارة مفتعلة، فتفسد الأخلاقيات، ولا تتقي الله في المراهقين والمراهقات من أبناء وبنات المسلمين والمسلمات الذين يشاهدون كل ذلك بانبهار شديد.
 
لهذا كله وغيره وقع الكثير في المعاصي والآثام، صغيرها وكبيرها، وغرهم بالله الغرور - إلا من رحم ربي - ولقد خفي عليهم هدي نبيهم في التحذير من اللهث خلف الحرام وزينة الحياة الدنيا؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدِينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملكٍ حمًى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[1].
 
ولكن هيهات هيهات؛ فالقلوب غافلة لاهية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ونود هنا طرح أمثلة عن محرمات نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منها أمته، ونبين هديه وسنته في تحريمها، والتحذير من الوقوع فيها، وهي على سبيل المثال لا الحصر؛ لعل وعسى يقلع عنها من هداه الله ووفَّقه لطريق الحق والرشاد، والله المستعان!
 
1- من المحرَّمات شرب الدُّخَان:
التدخين صار عادةً عمت وانتشرت بين الناس على اختلاف ثقافتهم وحالتهم الاجتماعية؛ فالطبيب يدخن وهو يعلم خطورة التدخين على الصحة، والمريض يدخن رغم علمه بخطورة حالته، وبعض النساء ممن لا رادع لهن من دين ولا قانون تنافس الرجل في ذلك بحجة المساواة والحرية الشخصية، حتى الشباب وصغار السن الذين لا يتجاوز عمرهم الاثني عشر عامًا تراهم يدخنون بشراهة جهارًا نهارًا بلا حسيب أو رقيب.
 
والتدخين أجمع العلماء على تحريمه؛ لخُبثه وضرره الشديد على الصحة والمال، بأدلة من الكتاب وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، سنطرح بعضها هنا، ومع ذلك فالبعض لا يهتدي بهدي نبيه، ولا يريد أن يستمع إلى صوت العقل من أهل الطب الذين حذروا من خطورته صحيًّا ونفسيًّا، ويعود إلى طريق الحقِّ والصواب.
 
بل تجد الكِبْر والتعالي من البعض الذي يدافع عنه ويراه مكروهًا، وربما مباحًا، بحجة أن هذا لم يكن موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك دليل على تحريمه!
 
وأنا لا أدري كيف يستوي الخبيث والطيب؟‍ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 100].
 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضررَ ولا ضِرارَ))[2].
فالتدخين ضرره لا ينكره إلا جاحد فاسد القلب والعقل، بل هو مصيبة متعددة النواحي، وكان أهل المدخن أولى بهذا المال الذي يحرقه بشرب الدخان في ترميم الميزانية وسد العجز وشراء الضروريات من طعام وشراب وملبَس ومصاريف الأولاد، وما أشبه ذلك من الضروريات التي لا غنَى عنها في زماننا هذا، الذي زاد فيه الجشع والطمع وحب المال عن حده، وحسبُنا الله ونعم الوكيل!
 
قال تعالى:
﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26، 27].
وليتذكَّرِ المدخِّن هذا الحديث الشريف عن نضلة بن عبيد الأسلمي، عسى أن يُفيق من غفلته، ويقلع عن التدخين كله بأنواعه؛قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره؛ فيمَ أفناه؟ وعن علمِه؛ فيمَ فعل فيه؟ وعن ماله؛ مِن أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه؛ فيمَ أبلاه؟))[3].
 
2- مصافحة النساء:
وهذا أمر محرَّم قد عمت به البلوى، وصارت مصافحة النساء أمرًا عاديًّا لا يثير الدهشة، فضلًا عن الحرمة، بل صار الامتناع عن مصافحة النساء عيبًا وقلة تربية، خصوصًا إذا مدَّتِ المرأة يديها بالمصافحة أو العكس وأبى المسلم إلا أن يتبع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، ونحن نسأل: من نتبع كمسلمين؛ هَدْيَ نبينا الذي حرم مصافحة النساء الأجنبيات أم الهوى الذي يصدُّ عن الحق؟!
 
لقد دلس الشيطان الأمر على الناس، إلا مَن رحم ربي، وأصبحت السنَّة بدعة، والبدعة سنَّة،وها نحن نذكر أدلة حرمة المصافحة، ونبين هدي نبينا صلى الله عليه وسلم ليحيا من حَيَّ عن بينة، ويَهلِك مَن هلك عن بينة، ومن أراد الفلاح والصلاح واتباع السنة فليُقلِع عن هذه العادة المحرمة، والله المستعان.
• عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ولا والله ما مسَّتْ يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام)[4].
 
• قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث ما مختصره:
(فيه أن بيعته للنساء بالكلام من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام، وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة، وأن صوتها ليس بعورة، وألا يلمِسَ بشرة الأجنبية من غير ضرورة؛ كتطبيب وفصد وحجامة وقلع ضرس وكحل عين، ونحوها مما لا توجد امرأة تفعله جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة)؛اهـ[5].
 
وأخيرًا، من الأدلة الواضحة التي لا لَبْسَ فيها ولا غموض ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لأن يُطعَنَ في رأس أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأةً لا تحل له)) [6].
 
فهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهديه الذي أمرنا الله تعالى بطاعته، وحذرنا من مخالفة أمره في كثير من الآيات البينات، منها قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
 
• وقوله تعالى:
﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وبعد كل هذا الترهيب والتحذير ما زال الكثيرُ من الجنسين يصافح كل منهما الآخر وكأنما الأمر لا يعنيهم، وتسمع مبرراتٍ أقبحَ من الذنب نفسه، يقول الرجل: هي كأختي أو أمي، وتقول المرأة: هو كأخي أو أبي، والعبرة بالنية التي في القلب، والدِّين يُسر، وهلم جرًّا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
 
3- حَلْق اللحية:
وهذا أمر آخر محرَّم قد عمت به البلوى أيضًا، ويخالف هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في إعفاء اللحية وحرمة حلقها، والعجب أنها صارت عنوانًا للتطرف والتزمُّت والتنطع، ويشار إلى صاحبها بمقولة: فلان السني، وكأنما هي تهمة وليس مكرمة! حقًّا ﴿ إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
 
ولكشف الغمة نقول بتوفيق الله تعالى: إن الأحاديث من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إعفائها كثيرة، من ذلك:
• ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جُزُّوا الشوارب، وأرخوا اللِّحى، وخالِفوا المجوسَ))[7].
 
• وما رُوي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((عَشْرٌ من الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإِبْط، وحَلْق العانة، وانتقاص الماء))،قال أحد الرواة: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة[8].
 
هذا هو هدي نبينا في حُكم اللحية وحرمة حلقها، وسبحان الله..أقول لنفسي دائمًا وأنا في عجب عندما يشير الناس علي وعلى أمثالي ممن يلتزمون بهدي نبيهم في إعفاء اللحية بقولهم: فلان السني..فماذا يكونون هم إذًا؟ مَن هو نبيهم وأسوتهم الحسنة؟!ألم يقُلِ الله تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].
 
عجبًا من التفريق، وعجبًا لمن لا يعقِل دينه ويتكلم قبل أن يفقَهَ، ويخالف قوله ما يجب أن يكون هو عليه..إن إعفاء اللحية سنَّة واجبة، وحلقها معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إن إعفاء اللحية وتوفيرها سنَّة الأنبياء جميعًا، ودليل ذلك قول هارون لموسى عليهما السلام كما جاء في كتاب الله تعالى:
﴿ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 94].
 
وهي أيضًا سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وتابعي التابعين، وهم خير قرون الإسلام على الإطلاق، وقد يلبس الشيطان الأمر على بعض الناس بأن إعفاء اللحية كان لمخالفة أهل الكتاب، والآن وقد صار منهم الكثير ممن يعفيها ولا يحلقها فمن الموافق للسنَّة أن نحلقها مخالفة لهم!
 
وهذا التفسير عجيب حقًّا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بمخالفة أهل الكتاب فيما كان حقًّا وصدقًا، وإنما يزيد عليه شيئًا إن فعلوا الصواب الذي يتوافق مع شريعتنا، وأعطيك مثالين على ذلك؛ لأكشف لك الغمة، وأزيل عنك هذا الالتباس، والله المستعان.
 
المثال الأول:
يوم عاشوراء عندما كان اليهود يصومونه، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى، وقد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: ((فأنا أحق بموسى منكم))[9]، فصامه، وأمر بصيامه.
 
ووافق ذلك ما كانوا عليه، ولكنه خالفهم عندما أمر بصيام يوم قبله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقِيتُ إلى قابلٍ لأصومن التاسع))[10]؛ من أجل مخالفتهم.
 
المثال الثاني:
إن اليهود - وهم من أهل الكتاب - يختنون، فهل نترك الختان لمخالفتهم؟قطعًا لا.
ولا يقول هذا عاقل يفقه دينه، وإنما هم في هذا العمل على الفطرة التي توافق تعاليم ديننا وشريعتنا، ومن السنَّة أن نخالفهم في شيء من العمل نفسه، وليس في أصله، وهو الإعفاء؛ ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم - حبًّا في مخالفتهم - بأن نأخذ من الشارب، وهم لا يفعلون ذلك.
 
فقال صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين؛ أحفوا الشوارب، وأوفوا اللِّحَى))[11].
هذا مع العلم أن إحفاء الشارب قد جاء مرة بلفظ (الإحفاء)، ومرة بلفظ (القص)، ومن هنا قال أهل العلم بالقص، وبعضهم بالاستئصال، وبعضهم بالتخيير،ودِيننا يُسر ولله الحمد والمنَّة.
 
قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط مختصرًا وبتصرف:
"فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين مطلقًا، ثم قال: ((أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى))، وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى؛ فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات، قال: فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمرٌ مقصود للشارع، وإن عينت في هذا الفعل، فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص، كما يقال: أكرم ضيفك؛ أطعمه وحادثه، فأمرُك بالإكرام أولًا دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عيَّنت الفعل الذي يكون إكرامًا في ذلك الوقت، والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: "لا يصبغون فخالفوهم"[12].

4 - الجدال:
الجدال آفة هذا العصر، وإن كان في غير بيان حق صار محرَّمًا؛ لِما يُورِث من بُغض وكراهية، وعداوة بين الناس، ومِن أعظم أسبابه حبُّ الانتصار للنفس، فكل واحد منا يرى في نفسه الصواب والحكمة في الرأي، وغيره لا يفقه شيئًا، وغير عليم ببواطن الأمور.
 
وأسوأُ أنواع الجدال:الجدال في دِين الله تعالى بغير علم، ولقد تجاهَل العبادُ أمر الله تعالى بسؤال أهل العلم والذِّكر؛ فهم أعلم الأمَّة بدين الله، وقادرون على استنباط الحقيقة في الأمور المستحدثة، ويفتون بما يوافق تعاليمَ الكتاب والسنَّة.
 
قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7].
 
نَعم لقد خص الله تعالى العلماءَ والفقهاء بتوضيح ما استشكل من العبادات، ومِن ثم إذا ظن البعض منا أنه ما دام قد قرأ كتابًا أو كتابين أو تتلمذ على يد شيخٍ مِن المشايخ أنه صار أهلًا للمشورة والرأي والفتوى، فيبدأ يجادل ويحاور للانتصار لرأيه السديد، ورأي شيخه، وإن كان الدليل من السنَّة الصحيحة الصريحة ضده فهذه كارثة وحمية جاهلية، ومن المنكرات العظيمة، والأخطاء الفادحة الجسيمة التي ابتلت بها الأمة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم في سنَّته الصحيحة من هؤلاء فقال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا))[13].

وأخشى أن ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
 
وكلُّ هذا أدى إلى ما هو أسوأ من الجدال، وهو المِراء، ومعنى المراء: الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه..وذلك إما في اللفظ أو المعنى أو في قصد المتكلم، وهذا مرفوض، اللهم إلا إذا كان للانتصار للدين، ورد الأمر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن الشطحات الفكرية والآراء العنترية من أناس يجادلون في دين الله بغير علم، ويُضلُّون غيرهم من العباد، ويكون ذلك من باب النصيحة، وبشروطها المعروفة.
 
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بترك الجدال والمراء، والبُعد عن الكِبْر، والتعالي على العباد، إلا في رد حق أو نصر دين،فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنَكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة: الثَّرثارون والمتشدِّقون والمُتفيهِقون))، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدِّقون فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبِّرون))[14].
 
قلت: والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، والثرثار: كثير الكلام،والمتفيهق: هو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه، ويُظهِر الفضيلة على غيره.
 
5 - الكذِب:
الكذِبُ مِن المحرَّمات البينة والمنتشرة، وآفة عمت بها البلوى، ويندر أن تجد إنسانًا صادقًا مائة في المائة؛ فالكذب صار سمةَ كثيرٍ من الناس - إلا مَن رحم ربي - في هذا العصر، والناس التي تمارس الكذب لها معاذيرُ أقبحُ مِن الكذب نفسه.
 
يقولون: الكذب يفتح لك الأبواب المغلقة، ويقولون: بالكذب تقضي مصالحَك،ويقولون: الكذب وسيلة لا تضر؛ للتخلُّص ممن لا تريد، وهكذا!
 
وهم مِن أجل ذلك جعلوا للكذب ألوانًا وأشكالًا؛فهذه كذبة بيضاء، وتلك سوداء، والأبيض حلال في رأيهم ما دام لا يسبِّب ضررًا،والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، ويقول أيضًا جل وعلا: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ [المائدة: 119].
فالصِّدق إذًا ينفع يوم القيامة، ويُنجي صاحبه من النار،فماذا عن أهل الكذب؟ وما هو عذرهم؟ وكيف يكون جوابهم؟!
 
ألم يقل الله تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
وفي هدي نبينا تحريم الكذب، والوعيد الشديد للكاذبين؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الصِّدق يَهدي إلى البر، وإن البر يَهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدُقُ حتى يكون صِدِّيقًا،وإن الكذب يَهدي إلى الفجور، وإن الفجور يَهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذِبُ حتى يكتب عند الله كذَّابًا))[15].
 
والكذب مِن علامات المنافق، كما أنه مهانة للمرء، والبعض يكذِبُ ليُضحك أصحابه ويمازحهم، ويظن ذلك لا حرمة فيه، وهو واهمٌ، وله ولأمثاله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فقد كان يمزح، ولكن لا يقول إلا حقًّا.
• فعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا! قال: ((إني لا أقولُ إلا حقًّا))[16].
 
ثم أين الكاذب ليضحك أصحابه مِن الترهيب الشديد فيما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ويلٌ للذي يُحدِّث بالحديث ليُضحِكَ به القوم فيكذب، ويل له، ويل له)) [17]، وليكن معلومًا أن الكذبَ ليس من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص للأمة في الكذب إلا في ثلاثة مواطن فقط، وهو مِن رحمة الله بعباده، وحتى لا تتعطل مصالحهم ويضروا أنفسَهم أباح الكذب في ثلاثة مواطن، وهي:
1 - كذِبُ الرجل في الحرب.
2 - كذِبُ الرجل على زوجته لإصلاح شأنها.
3 - الكذِبُ في الإصلاح بين المتخاصمين، ودليلُه ما رواه مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة - رضي الله عنها - قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا))، قال ابن شهابٍ: ولم أسمع يرخص في شيءٍ مما يقول الناس كذب إلا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأتَه، وحديث المرأة زوجَها[18].
 
• قال النووي - رحمه الله - في شرحه للحديث: (اختلفوا في المراد بالكذب المباح في هذه المواضع الثلاثة، فقال قوم: هو على إطلاقه، وأنه يباح الإخبار بما لم يكن أنه كان، وقال آخرون - منهم الطبري -: لا يجوز الكذبُ على معناه الحقيقي في شيء من ذلك أصلًا، وما جاء من الإباحة في هذا المرادُ به التورية، واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يَعِدَ زوجته أن يحسن إليها، ويكسوها كذا، وينوي إن قدر الله،يعني يأتي بكلمات محتملة،يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه، وإذا سعى في إصلاح ذات البين نقل عن كل فريق للآخر كلامًا جميلًا، وكذا في الحرب؛ كقوله: مات قائد العدو، وينوي قائدهم إلى الهزيمة، أو إلى النار، وأما الكذب على الزوجة وكذبها على زوجها، فالمراد به إظهار الود، والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بالإجماع؛اهـ[19].
 
وبمناسبة الكلام عن التعريض والتورية قد تسأل: هل يجوزُ ذلك؟ وكيف؟ والإجابة من كتاب "الأذكار" للنووي - رحمه الله تعالى - قال ما ملخصه:
"اعلَمْ أن هذا الباب من أهم الأبواب؛ فإنه مما يكثُرُ استعماله، وتعم به البلوى، فينبغي أن نعتني بتحقيقه، ثم قال: اعلم أن التورية والتعريضَ معناهما: أن تطلق لفظًا هو ظاهر في معنى وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، وهذا ضربٌ مِن التغريروالخداع،قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خدع المخاطب أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه، وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق، فيصير حينئذ حرامًا،وذكر بعض الآثار في ذلك، منها: قال النَّخَعي: لا تقل لابنك: أشتري لك سُكَّرًا، بل قل: أرأيت لو اشتريت لك سُكَّرًا- وكان إذا طلبه رجل قال للجارية: قولي له: اطلبه في المسجد، وقال غيره: خرج أبي في وقت غير هذا- وكان الشَّعبي يخط دائرة ويقول للجارية: ضعي أصبعك فيها، وقولي: ليس هو ها هنا، ومثل ذلك قول الناس في العادة لمن دعاه لطعام: أنا على نية، موهمًا أنه صائم، ومقصوده: على نية ترك الأكل)
؛[20] اهـ.
 
وغير ذلك من أنواع التعريض المباح بالتوضيح الذي ذكره الإمام النووي رحمه الله تعالى، فحذارِ من الكذب بما لم يُبِحْهُ الشرع.
 
وبعد ما ذكرناه هنا بالشرح والبيان لمحرمات انتشرت بين الناس تخالف هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، جديرٌ بنا أن نقلع عنها؛ فهي من الحرام البيِّنِ الذي يسقم القلب، ويَشين إخلاصنا وعبوديتنا لله - جل وعلا.
 
وأسأل الله تعالى أن يعلِّمَنا هديه، ويرزقنا مجاورته، ويحشرنا تحت لوائه؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الآمين، وآله وصحبه أجمعين!



[1] أخرجه مسلم - باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599).


[2] أخرجه مالك في الأقضية (1461) - وصححه الألباني في صحيح الجامع (7517).


[3] أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق (2417)، وقال الشيخ أحمد شاكر: صحيح.


[4] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4891).


[5] انظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (13/10)- الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثانية،1392.


[6] انظر: صحيح الجامع للألباني (5045).


[7] أخرجه مسلم - باب خصال الفطرة (260).


[8] أخرجه مسلم - باب خصال الفطرة (261).


[9] أخرجه البخاري - باب صيام يوم عاشوراء (2004).


[10] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - باب أي يومٍ يصام في عاشوراء (1134).


[11] أخرجه مسلم - باب خصال الفطرة (259).


[12] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/204) - المحقق: ناصر عبدالكريم العقل - الناشر: دار عالم الكتب، بيروت، لبنان - الطبعة: السابعة، 1419هـ - 1999م.


[13] أخرجه البخاري - باب: كيف يقبض العلم؟ (100).


[14] أخرجه الترمذي في البِر والصلة (2018)، وإسناده حسن، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (791).


[15] أخرجه البخاري - باب قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وما ينهى عن الكذب (6094).


[16] أخرجه الترمذي في البر والصلة (1990)، وقال: حسن صحيح، وانظر: السلسلة الصحيحة (1726).


[17] أخرجه الترمذي (2315) - وحسنه الألباني في غاية المرام (376).


[18] أخرجه مسلم - باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه (2605)


[19] انظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (16-158)- الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثانية، 1392.


[20] انظر: الأذكار للنووي - 334 باب التعريض والتورية (ص/584) - نشر: دار ابن كثير، دمشق - بيروت - الطبعة: الثانية، 1410 هـ - 1990 م - تحقيق محيي الدين مستو.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢