خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة الفتح [11-16]
الحلقة مفرغة
قال الله تبارك وتعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الفتح:11]: قال الألوسي : قال مجاهد وغيره: المخلفون من الأعراب: هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم، والمقصود: أن هذه القبائل استنفرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً لتخرج معه؛ لأنه توقع أن تعرض له قريش بحرب أو أن يصدوه عن المسجد الحرام، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي؛ ليعلن للمشركين أنه لا يريد حرباً، ورأى أولئك الأعراب المخلفون أنه صلى الله عليه وسلم يستقبل عدداً عظيماً من: قريش، وثقيف، وكنانة، والقبائل المجاورة لمكة وهم: الأحابيش، ولم يكن الإيمان تمكن في قلوب هؤلاء الأعراب؛ فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا، وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوهم في عقر دارهم بالمدينة، وقتلوا أصحابه فنقاتلهم! إذا كان هؤلاء قد غزوه في عقر داره -يقصدون بذلك غزوة أحد وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة والحديبية كانت بعد ذلك بثلاث سنين في السنة السادسة من الهجرة- فلن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من هذه السفرة، سيذهبون إلى مكة وسوف يستأصلهم المشركون استئصالاً بحيث لا يبقى منهم أحد، فهذا هو ظن السوء الذي ظنوه كما بين الله تبارك وتعالى، ففضحهم الله تعالى في هذه الآية: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا)، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، يعني: قبل أن يعود إليهم ويقابلهم أوحى الله سبحانه وتعالى إليه بما قالوه وبما سوف يقولونه؛ ولذلك جاءت الآية: (سيقول) في المستقبل (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) فلما وصلوا إليه كان الأمر كذلك، ووقع فعلاً ما أخبر به الله سبحانه وتعالى. والمخلفون: جمع مخلف، وهو: المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، مأخوذ من الخلف وضده: المقدم، فالمقدم يكون من الأمام، والمخلف: الذي يترك في المكان خلف الخارجين من البلد. والأعراب هم: سكان البادية من العرب لا واحد له، أي: سيقول لك المتروكون الغير خارجين معك معتذرين إليك: شغلتنا -عن الذهاب معك- أموالنا وأهلونا، إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ الأموال والأهل ويحميها عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ لأنه لا شك أن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال، فهذا ترقي من الأدنى إلى الأعلى: (شغلتنا أموالنا وأهلونا). (فاستغفر لنا) يعني: استغفر لنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك، حيث لم يكن لنا بد في طاعتك، وإنما كان ذلك الداعي وهو أننا خفنا على أموالنا وأهلينا. يقول الله سبحانه وتعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) وهذا هو النفاق المحض: أن يتغاير اللسان والقلب، فكلامهم خارج من طرف لسانهم، غير مطابق لما في القلوب والجنان، وهذا الكذب والإفك المشار إليه في قوله تعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) فهذا الكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم أنه لضرورة، فهذا كان كذباً منهم أنهم تخلفوا لأجل ضرورة داعية إلى التخلف، وهي القيام بمصالحهم التي لابد منها، وعدم وجود من يقوم بها لو ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين استنفرهم. كذلك (فاستغفر لنا) يتضمن اعترافهم بأنهم مذنبون، وأن دعاءه لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، والكذب هو أن حالهم لا يطابق الواقع بحسب الاعتقاد. قال ابن كثير : (فاستغفر لنا) ذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد، يعني: ليس على سبيل أنهم فعلاً راغبون في استغفار النبي عليه الصلاة والسلام لهم، حتى يعود عليهم بالعفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى، وإنما هو تقية ومصانعة، فهم في الحقيقة لا يقولون ذلك على سبيل الاعتقاد. قال القاسمي : قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11] تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس الذي يقولون. إذاً: هذا الاعتذار الذي يدعونه هم كاذبون فيه، والذي خلفهم ليس هو قولهم: (شغلتنا أموالنا وأهلونا)، وإنما الذي خلفهم هو الشك في الله والنفاق. كذلك أيضاً طلبهم الاستغفار: (فاستغفر لنا) ليس صادراً عن حقيقة؛ لأنه صادر بألسنتهم بغير توبة منهم ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف، وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به ما لم يكن مترجماً عن الاعتقاد الحق. قال تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وضمائركم وإن صانعتمونا وتابعتمونا، ولهذا قال: (بل كان الله بما تعملون خبيراً). قال القاسمي : أي: لا أحد يمنعه تعالى من ذلك؛ لأنه لا يغالبه غالب؛ إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم؛ ولذا هددهم بقوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أي: فيجازيكم عليه. قوله تعالى: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) قيل: ضراً يعني: أمراً يضركم كهزيمة أو غير ذلك، أو أراد بكم نفعاً أي: نصراً وغنيمة، وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع. (( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )) يقول الألوسي : وحاصل معنى الآية: قل لهم: لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك ينفع الضر إن أراد الله عز وجل، ولا مواجهة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً. يعني: هذا الجواب جامع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) يعني: إذا بقيتم في أموالكم وأهليكم خشية ضياعها، فهل هذا التخلف يجلب لكم نفعاً؟ كلا، بل لو أراد الله أن ينزل بكم الضر وبأهليكم وبأموالكم وأنتم في وسطهم لما رد قضاء الله سبحانه وتعالى راد. كذلك أنتم تظنون أن الخروج مع النبي عليه الصلاة والسلام يضركم بهزيمة أو بقتل أو بنحو ذلك، فلو شاء الله سبحانه وتعالى أن يقدر نصراً وغنيمة فلا راد لقضائه، مع أنكم تحسبون أنه خروج إلى هلكة، فهذا هو المعنى: فلا أحد يدفع ضر الله ولا نفعه، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك يدفع الضر إن أراده الله عز وجل، ولا موافقة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً، وهذا كلام جامع في الجواب، وفيه تعريض بغيرهم من المبطلين. ثم ترقى سبحانه وتعالى إلى ما يتضمن تهديداً في قوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) يعني: بكل ما تعملون خبيراً، فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه، ويجازيكم على ذلك.
اللف والنشر الموجود في الآية
هذه الآية الكريمة فيها فن معروف عند علماء البيان يسمى: اللف والنشر، واللف والنشر هو: أن يذكر أشياء إما تفصيلاً: بالنص على كل واحد، أو إجمالاً: بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد منها يرجع إلى واحد من المتقدم، ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به؛ لأنه يكمل اللف. اللف والنشر الإجمالي مثاله: قول الله سبحانه وتعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران، وهل معنى ذلك أن أهل الكتاب اتفقوا مع بعض وتوحدوا وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً؟ لا، لم يتفقوا والدليل على ذلك الآية التي يقول الله تعالى فيها: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، ونحن نقول لهم: كلاكما محق، يعني: فهؤلاء صادقون وهؤلاء صادقون، اليهود عندما قالوا: (ليست النصارى على شيء) نقول لهم: أنتم صادقون ونطقتم بالحق، فليست النصارى على شيء، والنصارى لما قالوا: (ليست اليهود على شيء) نقول لهم: صدقتم، فليست اليهود أيضاً على شيء، وكلاكما ليس على شيء. فهم رأيهم في بعضهم البعض صواب، فقوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) فهنا إجمال في اللف في قوله: (وقالوا) والإجمال في حرف الواو، من الذي قال؟ كل فئة، (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) لكن حينما نريد أن نذكر ما لفته الواو ونفرد الكلام ونفصله فنقول: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى، وإنما سوغ الإجمال في اللف ظهور العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقر أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة، والدليل الآية التي بعدها، وهي قوله سبحانه وتعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) وكما قلنا: كلاهما في قوله هذا محق. إذاً: الإجمال هنا في الواو جائز وسائغ؛ لأن اللف مأمون، فالإنسان العاقل الذي يعي الكلام عندما يقرأ القرآن الكريم يفهم أن قوله: (وقالوا) مجمل، ويستطيع أن يرد كل قول إلى فريقه، فلا يتصور أن احداً يقرأ الآيات، ويظن أن اليهود والنصارى اتفقوا على هذا القول، لا؛ لأن اليهود قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، فهذا أنموذج من نماذج الإجمال في اللف. وقد يكون الإجمال في النشر لا في اللف، كأن يؤتى بمتعدد ثم بلفظ يشتمل على متعدد يصلح لهما، مثل قول الله سبحانه وتعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187] فهذا نشر، ثم أتى اللف في قوله: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] وهذا على قول أبي عبيدة : إن الخيط الأسود أريد به: الفجر الكاذب لا الليل، أي: حتى يتبين لكم الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فالفجر الكاذب هو الخيط الأسود، فتكون (من) فيها لف في كلمة: (من الفجر)، وقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) يعني: الفجر الصادق من الفجر الكاذب، يعني: كلاهما فجر، هذا ما يتعلق بالإجمال. أما في حالة التفصيل فهو قسمان: أحدهما: أن يكون على ترتيب اللف كقوله سبحانه وتعالى: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص:73] أي: جعل لكم الليل، ثم النهار، ثم قال: (لتسكنوا فيه) وقال: (ولتبتغوا من فضله) فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار، فهنا الإجمال أتى على (جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله). وقال تبارك وتعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]، فاللوم راجع إلى البخل: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) والإحسار راجع إلى الإفراط، ومعنى (محسوراً) أي: منقطعاً لا شيء عندك. كذلك قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8]، ثم قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:9-11]. فقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر) راجع إلى قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى). وقوله: (وأما السائل فلا تنهر) راجع إلى قوله: (ووجدك ضالاً فهدى). ولعله بادر إلى عقولكم أن السائل المقصود به: الذي يسأل المال، لكن المراد به هنا السائل عن العلم؛ لأنه يقابل قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى) ضالاً معناه: غافلاً عما أوحاه الله إليك من الهدى والفرقان، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فإذاً: (ضالاً) يعني: عما أوحى إليك من النور والفرقان والشرائع، وعلى هذا فقوله: (وأما السائل فلا تنهر) قال مجاهد : يعني: السائل عن العلم، فإن للسائل حقاً، والسائل قد يدخل فيه أهل الكتاب الذين يأتون ليجادلوه عليه السلام ويسألوه أو الأعراب، أو كما جاء في سورة: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] في قصة الأعمى. إذاً: قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى) يرجع إليها قوله: (فأما اليتيم فلا تقهر)، فكما آواك الله فعامل اليتيم بالمثل. (وأما السائل فلا تنهر) كما أن الله امتن عليك بهذا العلم وهذا النور وهذا الوحي؛ فلا تنهر من أتاك يسألك هذا العلم. (وأما بنعمة ربك فحدث) هذا راجع إلى قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى). وقد يكون اللف والنشر التفصيلي على عكس التدقيق الذي ذكرناه هنا مع موافقة التركيب: (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) وكذلك في سورة الضحى، أما عكس الترتيب فكقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106]، ثم قال: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:107] فقوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أتي بعدها بعكس الترتيب لأنه بدأ بعكس الترتيب في الجزء الأول فقال: (فأما الذين اسودت) ثم قال: (وأما الذين ابيضت وجوههم). وجعل منه جماعة من العلماء قول الله سبحانه وتعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، فبعض العلماء جعلوا هذا من اللف والنشر التفصيلي مع عكس الترتيب، (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فيكون (متى نصر الله) قول الذين آمنوا، و(ألا إن نصر الله قريب) قول الرسول، فيكون التقدير: حتى يقول الذين آمنوا معه: متى نصر الله، ويقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فهذا يكون على عكس الترتيب. على أي الأحوال المقصود من هذه الآية الكريمة: (( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا )) أي: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً؟ ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً؟ ففي هذه الآية الكريمة أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة: (فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً) أي: لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم، ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به، فلا نافع إلا هو، ولا ضار إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده، ولا منع نفع أراده، وهذا وضحه قوله سبحانه وتعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:17]، وقال في آخر يونس: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107].
قال تبارك وتعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [الفتح:12]. (بل ظننتم) يعني: في الحقيقة ليس الأمر كما زعمتم بأنكم شغلتكم أموالكم وأهلوكم، ولكن الحقيقة أشد من ذلك: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) والظن اسم لما يحصل عن الوهم، ومتى قوي أدى إلى العلم، ومتى ضعف جداً لم يتجاوز حد التوهم، فكلمة الظن تستعمل في أكثر من استعمال، أحياناً تستعمل بمعنى: اليقين، قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:46] أي: يوقنون، وقال تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ [البقرة:249] إلى آخر الآية، فهذه بمعنى اليقين. وقال تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين:4]؛ لأن المعنى: ألا يكون منهم ظن لذلك؟ تنبيهاً على أن أمارات البعث ظاهرة، وفي هذا ذم لهم. كذلك قال تعالى: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20] أي: إني أيقنت، وقوله: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53] هذا أيضاً يقين، وقال دريد بن الصمة : فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد يعني: أيقنوا. وقوله تعالى: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] يعني: أيقن أنه الفراق، أي: فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق إذاً: أصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد الأمرين، وقد يقع موقع اليقين كما في الآيات التي ذكرناها. قوله تبارك وتعالى: (( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا )) أي: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاقل أو مؤمن كسول كالثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، لا، (بل ظننتم) يعني: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، وإنما هو تخلف نفاق، وهذا أشد من المعصية إذ اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم، وتستباح خضراؤهم، ولا يرجع منهم مفلت. وقال القرطبي : وذلك أنهم قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. وقولهم (أكلة رأس) كناية عن القلة، أي: أنهم يكفيهم رأس واحد، لو اجتمعوا ليأكلوا فسيأكلون شاة واحدة، وهذا كناية عن قلة العدد، فهؤلاء خرجوا ليقابلوا الأحابيش في قريش وثقيف وكذا .. وكذا ..، فسوف يستأصلونهم ويقضوا عليهم قضاءً، ولا يبقى أحد منهم ليخبر عنهم، وهذا سوء ظن بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا لا يمكن أن يقع أبداً، ولا يمكن أبداً أن يتصور أن المؤمنين يستأصلون بحيث لا يبقى للإيمان ولا للإسلام أحد، فهذا لا يقع أبداً أبداً، فهذا هو ظن السوء الذي عيرهم الله سبحانه وتعالى به، فهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون، يعني: هم قليل يشبعهم رأس واحد.
أهمية تعلم اللغة العربية
الاستدلال بالآية على إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى
ظن السوء الذي تمكن في قلوب المنافقين
ذهب الألوسي إلى أن الإبهام الذي في قوله تعالى: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أوضح في الآية التي تليها ما هو هذا الذي كانوا يعملونه؟ وما هو الذي كان الله به خبيراً؟ فقال: (( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا )). أي: لن يرجع من ذلك السفر. قوله: (الرسول والمؤمنون إلى أهليهم) أي: لن يرجعوا إلى عشائرهم وأقربائهم أبداً؛ لأنه سيستأصله المشركون بالمرة، أي: أفحسبتم أنكم إن كنتم معهم فسيصيبكم ما يصيبهم؛ فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة. والأهلون: جمع أهل، وهو ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل، والشاهد من الألفية: وارفع بواو وبيا اجرر وانصب سالم جمع عامر ومذنب وشبه ذين وبه عشرونا وبابه ألحق والأهلونا فهو ملحق بجمع المذكر السالم. وهنا فرصة لأن نتكلم عن أهمية اللغة العربية، فاللغة العربية في خطر شديد، والاهتمام باللغة العربية أمر واجب مقدس؛ لأنه لا إسلام بدون اللغة العربية، ولا عربية بلا إسلام. فالذي نريد أن نقوله: إن الفهم للغة العربية مهم جداً، إذا قرأ الإنسان في كتب أهل العلم فإذا صار ينصب الفاعل أو يجر المفعول فإنه يفقد الثقة، وأنا عن نفسي الثقة تهتز عندي تماماً، فأقول: لو أن طالب العلم يستطيع أن يضبط الفعل والفاعل والجار والمجرور فسيستطيع أن يضبط الأحكام الشرعية، ويفهم النصوص حق فهمها، خاصة أن الإنسان إذا كان يسيء تطبيق قواعد اللغة العربية، فبالتالي سيسيء فهم الكلام؛ لأن الإعراب له أهمية قصوى في فهم كلام الناس، فقد يقع في ظلم بسبب عدم الفهم، وأنا أذكر لكم مثالاً لهذا الظلم: أحد إخواننا الأفاضل السلفيين ألف كتاباً اسمه: الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة، فهذا الأخ الفاضل لما أتى يتكلم على الجماعات تكلم على الإخوان، وذكر الشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى فقال هذه العبارة: وقد تنكر -يعني: صاحب الظلال- لعقيدة أهل السنة عندما فسر قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فقال: إذاً فقد كان ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام. فأنا أسأله الآن -وانتبهوا-: من الذين يذمهم الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى هنا في هذا السياق؟ هل هو يذم المعتزلة فقط أم أنه يذم المعتزلة وأهل السنة أيضاً؟ هو يذم المعتزلة، فهذا خلاصة الكلام، وليست الجناية أنه قد أخطأ في فهم كلام الأستاذ سيد قطب رحمه الله، الجناية أنك عندما تعرض سياق ظلال القرآن تجد أن السياق ليس فيه نفي للرؤية أبداً، بل إنه يثبت الرؤية، ولكن الإنسان عندما يتعصب يغلط الناس: فرصاص من أحببته ذهب وذهب من لم ترض عنه رصاص فقد يدخل الهوى الإنسان الذي يتعصب في حكمه على الشخص، ويتمنى له الغلط كما يقولون، فهنا انظر هو يقول: فقد كان ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم، فهو هنا يذم المعتزلة فقط، ولا يهاجم أهل السنة، بل يقول: إن المعتزلة فتحوا باباً للجدل شغلوا به أنفسهم عن العلم النافع، وشغلوا أيضاً معارضيهم من أهل السنة الذين اضطروا أن يعارضوهم ويردوا عليهم ويبطلوا مذهبهم. فهذا الأخ -سامحه الله- يرد على هذه الفقرة ويقول: من هذا القول يتضح أن سيد قطب لا يعتقد في هذه المسألة. وهذا لحن آخر، يعني: أنت لا تعرف كيف تضبط الفاعل والمفعول وتهاجم الناس على نواياك وفهمك! فأنت لا تهاجم الناس إلا وأنت متقن على الأقل لأساسيات اللغة العربية، فهو يقول: من هذا القول يتضح لنا أن سيد قطب لا يعتقد في هذه المسألة عقيدة أهل السنة فضلاً عن المعتزلة، يعني: فهو في منزلة بين المنزلتين، فهذا سوء فهم منك أنت، فلا شك أن هذا ظلم واضح بين، فلو أنك راجعت الظلال الجزء 8 صفحة 382 لاتضح لك تماماً أنه رحمه الله تعالى يثبت الرؤية، ويعتقد فيها عقيدة السلف الصالح. فهذا المنتقد بسبب قلة علمه بأولويات قواعد النحو قد وقع في ظلم هذا الرجل، ويريد أن يلتقط منه هذا الكلام الطلبة الصغار فيظللوا غيرهم، ومنهم من يكفر، أو يبدع أو يشتم .. وغير ذلك من الأشياء التي نراها. فهذه وقفة عابرة استطرادية لبيان أهمية إتقان اللغة العربية جيداً؛ لأن من لحن في مثل هذه الأمور البسيطة فإنه تفقد الثقة في كلامه؛ لأنه إذا كان لا يعرف بدهيات اللغة العربية وأولويات النحو؛ فلا يجوز له أن يتكلم في الشرع؛ لأنه سوف يفتري على الله الكذب حين يفهم الآيات والأحاديث فهماً معوجاً؛ لأن النحو تفسير في غاية الخطورة على فهم النصوص، وهذا موضوع طويل لا نطيل فيه أكثر من هذا.
قوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [الفتح:12] بعض الأذكياء من الناس يقول: إن هذه الآية تعتبر دليلاً لأهل السنة في إثبات الرؤية! فالاستدلال هنا أن كلمة: (لن) تفيد النفي في المستقبل، لكن هل تفيد التأبيد أم لا تفيد التأبيد؟ هذه الآية ظاهره في أن (لن) ليست للتأبيد؛ لأن (لن) لو كانت تفيد التأبيد لما قال: (أبداً)، فلما قال: (أبداً) دل على أن النفي بـ(لن) لا يفيد التأبيد، والشاهد من كلام ابن مالك في هذه المسألة: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: ارفض هذا المذهب وتمسك بالمذهب الآخر. يقول تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]: قال (لن تراني) فالمعتزلة يستدلون بهذه الآية على أن (لن) تفيد النفي المؤبد، فيفسرون (لن تراني) يعني: يستحيل أن يراني أحد. أهل السنة يقولون: لا، هو لم يقل: (لن تراني أبداً)، وإنما قال: (لن تراني) بمعنى: لن تراني في الدنيا، وهذا لا يتنافى مع الأحاديث المتواترة -بل والآيات- التي أثبتت رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فالشاهد أن الآية هنا: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) ظاهرة بأن (لن) ليست للتأبيد، ومن زعم أنها تفيد التأبيد جعل (أبداً) توكيداً. والدليل أيضاً على الذي ذكرناه قوله سبحانه وتعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، فلو كانت تفيد التأبيد لوحدها لما ذكر معها (أبداً)، هذا مع أنه سبحانه وتعالى قال: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] فهذا تمن للموت. وكذلك لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80]، فثبت أن (لن) لا تقتضي النفي المؤبد، فهي تنفي في المستقبل لكن ليس نفياً مؤبداً.
قوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12] أي: حسن ذلك الظن المفهوم من (ظننتم) في قلوبكم، فلم تسعوا في إزالته؛ فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. (وزين ذلك في قلوبكم) أي: زين ذلك الظن، فالإشارة هنا إلى غير مذكور، ولكنه مأخوذ من قوله: (بل ظننتم) يعني: وزين ذلك الظن في قلوبكم، فبالتالي لم تسعوا إلى إزالة هذا الظن ولا معالجته، فتمكن من هذه القلوب حتى اشتغلتم بأنفسكم، غير مبالين بما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه رضي الله تعالى عنهم. قال القاسمي : أي: حسن الشيطان ذلك وصححه، حتى حبب لكم التخلف، (وظننتم ظن السوء) يعني: أن الله لا ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ( وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) أي: هلكى، وقيل: لا يصلحون لشيء من الخير، وقال الجوهري : البور: الرجل الفاسد الهالك، وقال عبد الله بن الزبعرى السهمي : يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور وبور: جمع بائر، مثل: حائل وحول، وعائذ وعوذ، وباذل وبذل، وقد بار فلان أي: هلك، وأباره الله أي: أهلكه، وقيل: بوراً أي: أسراباً، أي: وكنتم في علم الله تعالى الأزلي (قوماً بوراً) أي: هالكين؛ لفساد عقيدتكم، وسوء نيتكم، فاستوجبتم سخط الله تعالى وعقابه جل شأنه.