تفسير سورة الزخرف [1-20]


الحلقة مفرغة

سميت سورة الزخرف بهذا الاسم لدلالتها على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربها؛ بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه، كما سيتضح هذا المعنى جلياً عند تفسير الآية التي ذكر فيها الزخرف، فالدنيا ليست للمؤمنين وطناً ولا مقراً. وهي سورة مكية إلا قوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وآياتها تسع وثمانون آية.

قال تبارك وتعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:1-3] أي: لعلكم تعقلون معانيه: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ [الزخرف:4] أي: رفيع القدر، بحيث لا رفعة وراءها، حَكِيمٌ [الزخرف:4] أي: ذو الحكمة الجامعة.

قال تبارك وتعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:5]. أي: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر بسبب الإسراف، يعني: أن الشخص الذي يحتاج إلى تذكير بآيات الله سبحانه وتعالى هو المسرف، فإنه يذكر ليرجع إلى الاعتدال، فيقول الله تبارك وتعالى: (( أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا )) يعني: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير، بل التذكير يجب عند الإسراف والتفريط، ولهذا بعث الله الأنبياء في زمان الفترة؛ لشدة حاجة الناس إلى التذكير؛ لأنهم يميلون إما إلى الإفراط وإما إلى التفريط.

قال تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا [الزخرف:6-8] أي: قوة، وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ [الزخرف:8] أي: سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصصهم وحالهم مع تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم، وهذا هو الذي اختاره القاسمي. والمقصود من ذلك أن يتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ . قال الألوسي: الضمير في قوله: (أشد منهم) عائد إلى القوم المسرفين المخاطبين في قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ، وفيه ما يسميه علماء البلاغة: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة. وقوله: (أشد منهم) مفعول به لأهلكنا، لكن الأصل أن (أشد) نعت لمحذوف؛ لأن المفعول محذوف تقديره: أهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، على حسب قوله في الخلاصة: وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل فهنا حذف المنعوت لوضوح النعت، وعلى هذا فقوله: (( فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا )) يعني: فأهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، والبطش أصله: الأخذ بعنف وشدة، والمعنى: فأهلكنا قوماً أشد بطشاً من كفار مكة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ بسبب تكذيبهم رسلهم، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشاً، أي: كانوا أكثر منهم عَدداً وعُدداً وجلداً، فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بالأقوى الأكثر. وقوله تعالى: (( وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ )) أي: صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل، وقول من قال: (مثل الأولين) أي: عقوبتهم وسنتهم راجع إلى ذلك المعنى.

قال تبارك وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا [الزخرف:9-10]، وفي قراءة: (مهاداً) أي: فراشاً تستقرون عليها، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف:10] أي: طرقاً تمشون عليها من بلدة إلى بلدة لمعايشكم ومتاجركم. وقوله: (لعلكم تهتدون) أي: بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.

قال الله تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11]. قال تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ أي: بمقدار الحاجة إليه، فلم يجعله طوفاناً يهلك، ولا رذاذاً لا ينبت، بل قدره بما ينفعكم ويقضي حاجاتكم، فهو غيث مغيث. وقوله تعالى: فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا أي: أحيينا به بلدة ميتاً من النبات، قد درجت من الجدب، وعتت من القحط، فأحياها الله سبحانه وتعالى بعد موتها بهذا الماء. وقوله: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ أي: من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض كذلك يخرجكم الله سبحانه وتعالى أحياءً، وقد تقدم أن من أدلة البعث والنشور الاعتبار بإحياء الله تعالى الأرض بعد موتها. قال بعض العلماء في قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر): أي: بقدر سابق وقضاء، وهذا تفسير آخر. وقال بعض العلماء: أي: بمقدار يكون به إصلاح البشر، فلم يكثر الماء جداً فيكون طوفاناً فيهلكهم، ولم يجعله قليلاً دون قدر الكفاية، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:18]، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21]، إلى قوله تعالى: .. وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [الحجر:22].

قال تعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف:12]. قال تبارك وتعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا أي: خلق كل شيء فزوجه، أي: جعله صنفين، كما قال تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى [القيامة:39]، والأزواج هي الأصناف، والزوج تطلق في لغة العرب على الصنف، وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36]، وقال أيضاً: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [طه:53]، وقال أيضاً: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] أي: من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان:10] . ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:58] أي: أصناف، وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [طه:131] أي: أصنافاً منهم، وقال تعالى أيضاً: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] يعني: والأصناف الذين كانوا على شاكلتهم. وقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ أي: جعل لكم من السفن والبهائم ما تركبونه.

قال تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]. قال السيوطي في (الإكليل): في الآية استخدام هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته أو دابته. ومما يلفت النظر هنا أن الآية تشير إلى هذا الذكر بعد قوله سبحانه وتعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف:12] و(الفلك): سفن، والسفن جمادات ليس فيها روح. فإذاً: هذا الذكر يقال عند ركوب أي شيء من وسائل المواصلات، سواء كان المصعد مثلاً؛ لأنه من تسهيل الله، أو كانت الحافلة أو السيارة أو الدراجة، أو أي شيء مما سخره الله سبحانه وتعالى من أنواع الجمادات، بجانب المخلوقات الحية من الخيول والجمال وغيرها، فيستحب أن يقال هذا الذكر عند الاستواء عليها. فالله جل وعلا جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن، ومن الأنعام. وقوله: (( لِتَسْتَوُوا )) أي: ترتفعوا؛ لأن الاستواء بمعنى الارتفاع، أي: لترتفعوا معتدلين على ظهورها، ثم تذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات، فلابد من شكر هذه النعمة بالقلب، ثم يضيف إلى ذلك الشكر باللسان، بأن يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى الكلام الذي يقولونه: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ .

معنى قوله تعالى: (سبحان الذي سخر لنا هذا)

قوله: (سبحان) تدل على تنزيه الله عز وجل أكمل تنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وقوله: (الذي سخر لنا هذا) (هذا) راجعة إلى لفظة: (ما) في قوله سبحانه وتعالى: مَا تَرْكَبُونَ يعني: الذي تركبون، والمعنى: (سبحان الذي سخر لنا هذا الذي نركبه. ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جمع الظهور مع أن كلمة: (ما) مفرد، فقال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فجمع الظهور نظراً إلى معنى ما؛ لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها، فعام، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد في قوله: (عليه) باعتبار لفظها. وقوله: (( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا )) أي: ذلل لنا هذا الذي نركبه من الأنعام والسفن؛ لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الإنسان، فلابد للإنسان أن يستحضر هذه النعمة، وأن يشكرها بقلبه، ثم يتدبر ويتفكر فيما يقول ليحسن أداء الشكر بلسانه، وقد رأينا صور الفيلة في بلاد الهند وغيرها، ومع هذا يأتي طفل صغير فيركب على الفيل ويقوده، وكم بين طفل وبين فيل! وأيضاً الجمال، فالجمل بلا شك أقوى من الإنسان، ويعرف هذا جيداً من يعرف طبع الجمل إذا نفر وتمرد على صاحبه، فهذا التسخير هو بقوة الله عز وجل وإرادته. وكذلك البحر، فإنه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وفيه من القوة ما لا يجهله أحد، ففيه من الأمواج ما قد تغرق أقوى السفن على الإطلاق، ومع ذلك يذللـه الله سبحانه وتعالى ويسخره لبني آدم، فلو لم يذلل الله هذا البحر لإجراء السفن فيه لما قدر الناس على شيء من ذلك. وقد يقول بعض الناس: إن الذي يحكمه أحوال الطبيعة، وإن السفينة تحمل الأثقال الكبيرة وتثبت فوق الماء.. وكذا، فنقول: ينبغي أن ننتبه إلى أن الله هو الذي أودع فيه هذه السنن وهذه القوانين، ونحن فقط نكتشفها، أو نكتشف ما نستطيعه مما يتوافق مع حاجاتنا ومصالحنا، ولا شك إنها كلها من فعل الله سبحانه وتعالى. والقوانين التي تسمى بقوانين الفيزياء كلها عبارة عن سنن موجودة منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق، فأودعها فيه، ونحن نكتشفها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً.

معنى قوله تعالى: (وما كنا له مقرنين)

وقوله تعالى: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] أي: مطيقين، والعرب تقول: أقرن الرجل بالأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به، من قولهم: أقرنت الدابة بالدابة، إذا قرنتها في حبل بدابة أخرى قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها؛ لأن الضعيف إذا لز في القرن -الذي هو الحبل- مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير : وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس والبزل: جمع بازل: وهو البعير الذي يضع نتاجه وهذا كله في السنة الثامنة أو التاسعة. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معدي كرب -وقد حمله قطرب على هذا المعنى-: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنين

وسائل المواصلات من تسخير الله عز وجل

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام فإنه لو لم يذللـه الله لهم لما قدروا عليه ولما أطاقوه، كما جاء ذلك مبيناً في آيات أخر، منها قوله سبحانه وتعالى مبيناً العلامات العظام على قدرة الله سبحانه وتعالى ومننه على خلقه، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42]، وكما سبق في تفسير سورة يس أن في قوله: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) إشارة إلى ما استجد من وسائل المواصلات، سواء في البر أو البحر أو الجو، فكلها داخلة في قوله: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ . وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14]، وقال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الجاثية:12]، وقال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ [إبراهيم:32]، وقال تعالى: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72] وغير ذلك من الآيات.

قوله: (سبحان) تدل على تنزيه الله عز وجل أكمل تنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وقوله: (الذي سخر لنا هذا) (هذا) راجعة إلى لفظة: (ما) في قوله سبحانه وتعالى: مَا تَرْكَبُونَ يعني: الذي تركبون، والمعنى: (سبحان الذي سخر لنا هذا الذي نركبه. ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جمع الظهور مع أن كلمة: (ما) مفرد، فقال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فجمع الظهور نظراً إلى معنى ما؛ لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها، فعام، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد في قوله: (عليه) باعتبار لفظها. وقوله: (( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا )) أي: ذلل لنا هذا الذي نركبه من الأنعام والسفن؛ لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الإنسان، فلابد للإنسان أن يستحضر هذه النعمة، وأن يشكرها بقلبه، ثم يتدبر ويتفكر فيما يقول ليحسن أداء الشكر بلسانه، وقد رأينا صور الفيلة في بلاد الهند وغيرها، ومع هذا يأتي طفل صغير فيركب على الفيل ويقوده، وكم بين طفل وبين فيل! وأيضاً الجمال، فالجمل بلا شك أقوى من الإنسان، ويعرف هذا جيداً من يعرف طبع الجمل إذا نفر وتمرد على صاحبه، فهذا التسخير هو بقوة الله عز وجل وإرادته. وكذلك البحر، فإنه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وفيه من القوة ما لا يجهله أحد، ففيه من الأمواج ما قد تغرق أقوى السفن على الإطلاق، ومع ذلك يذللـه الله سبحانه وتعالى ويسخره لبني آدم، فلو لم يذلل الله هذا البحر لإجراء السفن فيه لما قدر الناس على شيء من ذلك. وقد يقول بعض الناس: إن الذي يحكمه أحوال الطبيعة، وإن السفينة تحمل الأثقال الكبيرة وتثبت فوق الماء.. وكذا، فنقول: ينبغي أن ننتبه إلى أن الله هو الذي أودع فيه هذه السنن وهذه القوانين، ونحن فقط نكتشفها، أو نكتشف ما نستطيعه مما يتوافق مع حاجاتنا ومصالحنا، ولا شك إنها كلها من فعل الله سبحانه وتعالى. والقوانين التي تسمى بقوانين الفيزياء كلها عبارة عن سنن موجودة منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق، فأودعها فيه، ونحن نكتشفها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً.

وقوله تعالى: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] أي: مطيقين، والعرب تقول: أقرن الرجل بالأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به، من قولهم: أقرنت الدابة بالدابة، إذا قرنتها في حبل بدابة أخرى قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها؛ لأن الضعيف إذا لز في القرن -الذي هو الحبل- مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير : وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس والبزل: جمع بازل: وهو البعير الذي يضع نتاجه وهذا كله في السنة الثامنة أو التاسعة. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معدي كرب -وقد حمله قطرب على هذا المعنى-: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنين




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2825 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2626 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2594 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2592 استماع
تفسير سورة البلد 2571 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2569 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2509 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2444 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2419 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2407 استماع