تفسير سورة الأنفال [25-34]


الحلقة مفرغة

قال عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]. ختمنا الكلام في الدرس الماضي بقوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، ثم يقول تعالى: (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً )). والفتنة إما بمعنى الذنب، وعلى هذا فقوله: (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً )) يعني: اتقوا الذنب الذي تترتب عليه هذه العقوبة، والذنب يكون مثل إقرار المنكر، وافتراق الكلمة، والتكاسل في الجهاد. وإما أن تكون الفتنة بمعنى العذاب، وعلى هذا فقوله تعالى: (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً )) أي: اتقوا العذاب. فإن أريد بالفتنة الذنب فقوله تعالى: (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً )) يعني: اتقوا ذنباً أو معصية، وقوله: (( لا تُصِيبَنَّ )) أي: لا يصيبن أثره أي: العذاب، (( الذين ظلموا منكم خاصة )). وإذا قلنا: إن الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات:14] يعني: عذابكم، فالمعنى: اتقوا إصابة العذاب بنفسه. وقوله: (( لا تُصِيبَنَّ )) هذا جواب للأمر: (( وَاتَّقُوا )) ، أي: إن أصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم، لكن شؤمها يتعدى إلى الجميع، فتشمل الظالمين المذنبين وغيرهم؛ بشؤم صحبتهم؛ لأنهم عاشوا معهم، وخالطوهم، وتعدت رذيلتهم إلى من يخالطهم، فإن الأشرار والفساق يتعدى شؤمهم إلى من يساكنهم ويركن إليهم، فيصيبه شؤمهم بسبب مصاحبتهم، وذلك كقوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]. وقد روى الإمام أحمد عن جرير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب). قال الكرخي : ولا يستشكل هذا بقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فالواجب على كل من رآه أن يغيره إذا كان قادراً على ذلك، فإذا سكت الجميع فكلهم عصاة؛ هذا بفعله وهذا برضاه. وقدر الله تعالى بحكمته أن الراضي بمنزلة العامل، فانتظما في العقوبة، ودخل فيها الراضي؛ لأن السكوت علامة الرضا، ولذلك فإن العذاب يعم الجميع، وهذا لا يتعارض مع قوله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]؛ لأنهم ما داموا قادرين على التغيير ولم يغيروا فإن سكوتهم يعني الموافقة والإقرار والرضا، فاستووا مع الذين عصوا. فإنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، أما الإنكار باليد وباللسان فعلى التفصيل المعروف في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وليس بعد ذلك عذر لمعتذر، فالإنسان قد يكون للناس سلطان عليه بالقهر، فيمنعه ذلك من التغيير باليد أو باللسان، لكن لا سلطان لأحد على القلب، فإذا كان القلب لم ينكر المنكر فلا شك أن صاحبه راض بهذا المنكر وآثم بسبب ذلك. فإذاً: علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل، لكن ما دام قلبك يستقبح المنكر ويكرهه ويبغض أهله فلا وزر عليك، وإن كنت عاجزاً عن تغييره باليد أو باللسان، المهم أن القلب يكون مطمئناً بالإيمان ومتألماً بسبب هذه المعاصي. وذكر القسطلاني أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارهاً له إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن متألماً فهو راضٍ بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]، يعني: لمن يخالف أوامره.

فقال عز وجل: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]. ثم نبه تعالى عباده المؤمنين من السابقين الأولين على نعمه عليهم؛ لأن الراجح أن الخطاب في الآية إنما هو للمهاجرين الأولين خاصة، فقد ذكرهم عز وجل بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، ورزقهم من الطيبات؛ ذكرهم بذلك ليشكروه بدوام طاعتهم واستمرارهم على طاعة الله سبحانه وتعالى. (( وَاذْكُرُوا )) أي: يا معشر المهاجرين! فالخطاب -على الراجح- للمهاجرين. (( إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ )) يعني: إذ كنتم قليلي العدد، (( مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ )) أي: مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش. وقوله: (( تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ )) إذا قلنا إن الخطاب للمهاجرين الأولين فالناس هم أهل مكة، وتخطفه واختطفه بمعنى: استلبه وأخذه بسرعة، فإذا أخذ أحد الشيء بسرعة يقال: تخطفه أو اختطفه. (( فَآوَاكُمْ )) أي: بعد هذا الاضطهاد والاستضعاف آواكم إلى المدينة المنورة دار الهجرة. (( وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ )) يعني: أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره، وأما كيف قواكم؟ وكيف أتاكم نصره؟ فبمظاهرة الأنصار؛ لينصروا الدعوة، وبإمداد الملائكة، وبالتثبيت الرباني. (( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ )) الطيبات هنا الغنائم؛ لأن الغنائم كانت من قبل محرمة على الأمم كلها، ولم تحل لأحد إلا لهذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي). (( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) المولى على ما تفضل به وأولى. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة هو أنسب للمقام، والسياق يشعر به. وهناك قول آخر: أن الخطاب للعرب كافة، فقوله: (( وَاذْكُرُوا )) يعني: أيها العرب! (( إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ )) يعني: بالنسبة للأمم الأخرى كالفرس والروم، ((مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، والناس المقصود بهم الأمم من حول العرب. وقد أيد هذا التفسير بقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية، قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل. هذه عبارة قتادة بن دعامة في تأييد أن المقصود بهذه الآية الكريمة العرب عامة بالنسبة لغيرهم من الأمم في ذلك الزمان.

تأثير البيئة على التوجه الشخصي إذا لم توجد عقيدة

وفي ذلك إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، وأيضاً فهناك عوامل كثيرة تؤثر على الإنسان وعلى توجهه، ومن هذه العوامل عامل البيئة المحيطة بالإنسان، ودليله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). فالإنسان يتأثر بالبيئة من حوله، وهي مما يجعله ينحرف عن فطرة الإسلام. ولا يدفع تأثير البيئة إلا عامل أقوى من كل العوامل، وهو عامل العقيدة، فإذا وجدت العقيدة فهي التي تطغى على تأثير البيئة. فالعقيدة هي التي تحول الأمم والأفراد من حال إلى حال مغاير تماماً، وآية ذلك العرب مع الإسلام، فقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله سبحانه وتعالى)، فالمنطقة التي كان يسكنها العرب منطقة متخلفة جاهلة في ذيل الأمم كسولة... إلى آخر ما شئت من هذه الصفات. فلا يقوى على رفع تأثير البيئة إلا العقيدة، فإذا زالت العقيدة رجع تأثير البيئة من جديد، وهذا هو الوضع الذي نعيشه الآن؛ فالوضع الذي نعيشه الآن أننا في مؤخرة الأمم، حتى إن هتلر وضع العرب قبل اليهود، واعتبر اليهود أخس الأمم، لكن قبلهم مباشرة وضع العرب! ونحن لا نقول: إننا معشر العرب أخس من الأمم الأخرى، بمعنى: أن لا خير فينا، فالحمد لله نحن مسلمون، ولكن اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أنه كما أنعم علينا بنعمة الإسلام، ولم يجعل لنا سبباً إلى العز والنصر والتمكين إلا هذا الدين وهذا القرآن، فإذا كفرنا بنعمة الله فمن عدله سبحانه وتعالى أن يعاقبنا بأن يسلط علينا أخس الأمم، وأن نعود من جديد إلى تأثير البيئة، فهذه البيئة هذه طبيعتها، بخلاف البيئات الباردة؛ حيث طبيعة الناس أنه إذا لم يحصل نوع من النشاط والحركة والجدية في الحياة فإن الثلوج تدهمهم، أعني أن طبيعة الحياة وطبيعة البيئة في البلاد الأخرى تجعل الناس في حالة يقظة ونهضة وتقدم مستمر. أما نحن إذا تركنا الإسلام فإننا سوف نرجع للوضع الذي كنا عليه من قبل، ولا يزول عنا الذل إلا بالإسلام. وهذه الحقيقة الآن يعرفها الكفار أنفسهم قبل المسلمين، ولذلك هم حريصون دائماً على فصلنا عن الإسلام، وإلهائنا بعقائد غريبة جاءت بإفساد الأخلاق، وبإثارة الشبهات، ويحاولون إشغالنا بكل ما يلهينا عن هذه العقيدة؛ لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين إذا رجعوا إلى عقيدتهم سيكونون أقوى قوة على ظهر الأرض؛ لأن الذي نحن فيه من التخلف ليس ناشئاً عن تخلف عقلي، ولله الحمد، فالمسلمون عندهم كل الطاقات، حتى الطاقات النووية، فهناك قدرات تمتلكها الشعوب الإسلامية، ويكفي فقط الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتتي، فأغلبها عندها الطاقة النووية أو القوة النووية، والموارد الطبيعية، والعدد البشري الهائل، فالأمة الإسلامية وجميع الدول الإسلامية إذا توحدت فإن أمريكا بجوارها ستكون صفراً، ولا أقول: صفراً بالضبط، ولكن قطعاً سيكونون أقوى من أمريكا. فالتخلف الذي نحن فيه هو في جزء كبير منه تخلف مفروض علينا، حيث يحرم علينا نوع معين من التكنولوجيا حتى لا نتقدم، وتحرم علينا حتى محاولة الأخذ بأي أسباب القوة، في الوقت تكون حلالاً لأعداء الله اليهود، ويكفي أن نعلم ذلك في قضية هذه الصواريخ البسيطة التي من أجلها أقامت أمريكا الدنيا ولم تقعدها، وواضح أنها كانت صفقة مع كوريا الشمالية، ولكن أمريكا لم تستح من أن تعلن أنها ستفرض عقوبات اقتصادية على مصر بسبب شرائها هذه الصواريخ، ومع ذلك فقد تكفلوا بأن يحتفظوا بالتفوق العسكري لليهود لعنهم الله سبحانه وتعالى. فالشاهد من هذا الكلام: أن التخلف الذي نحن فيه هو تخلف مفروض علينا في جزء كبير منه.

إعراض المسلمين عن الدين هو سبب حرمانهم من التمكين

هذا في هذه الناحية من نواحي النهضة المادية، وأما من ناحية أسباب التقدم والتمكين في الأرض فهي موجودة في أمة المسلمين، ولكننا مع هذه الكثرة غثاء كغثاء السيل؛ فمع هذه الكثرة توجد فينا آفات هي السبب في تخلفنا، وأعظمها على الإطلاق هو أننا نبذنا هذا الدين الذي هو سبب عزنا وراءنا ظهرياً، وليس نبذاً فحسب، بل نحن نحاربه، بل نحن ليل نهار نسلط أعداء الله من العلمانيين والزنادقة ليطفئوا نور الله عز وجل، ويشككوا الناس في الدين، ويلهوا الشباب بالشهوات وبالفتن والشبهات. فبذنوبنا دامت بليتنا، والله يكشفها إذا تبنا، فالقرآن يدلنا على دائنا ويدلنا على دوائنا، فداؤنا راجع إلى أنفسنا، أما دواؤنا فهو في هذا القرآن، كما قال عز وجل: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، ليس لأننا أحقر الأمم، فقد شرفنا الله بالإسلام؛ لكننا نبذنا هذا الإسلام، وطلبنا العزة في غيره. فإذاً: هل من رفعه الله سبحانه وتعالى بالقرآن يستوي مع من لم يرفعه بالقرآن؟ فمن امتن الله عليه بالقرآن وباللغة العربية وبالإسلام وبالتوحيد ومع ذلك رفض النعمة، فلابد أن تكون عقوبته أشد، وتلك سنة الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، وقانون من قوانين الله سبحانه وتعالى في الكون، وسنة من سننه، وهي التي عبر عنها أمير المؤمنين بقوله: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. فهذا قانون، فكلما بحثنا عن العزة في غير الإسلام فلابد أن تكون العاقبة هي عاقبة الذل بكل ما تحويه كلمة الذل من معانٍ، فكلما أردنا أن نبتغي العزة في الاشتراكية وفي الرأسمالية والتبعية للغرب، أو في التطبيع مع اليهود؛ أذلنا الله! فما لم نعد إلى الإسلام فلن نحصد سوى الذل، وهذا أمر مقطوع به، وتؤيده النصوص الشرعية، وتؤيده الوقائع التاريخية الماضية والحاضرة، المستقبلة وإن شاء الله أيضاً، وذلك ما لم نعد إلى الله سبحانه وتعالى. يقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً. أي: أنهم كانوا في ضلال وذل وضياع في كل مجال من المجالات، ولم يرفع عنهم ذلك إلا بالإسلام، فبعد ما كانوا بهذه الصورة المذكورة في هذا الأثر عن قتادة أعزهم الله بالإسلام، وحققوا الإسلام، وانتصروا للإسلام، ورفعوا رايته، فمكنهم الله سبحانه وتعالى من أقوى إمبراطوريتين على ظهر الأرض في ذلك الوقت، وهما الروم وفارس، وفي أقل من نصف قرن امتدت الدولة الإسلامية من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، أي: ما بين الهند والصين شرقاً إلى المغرب غرباً، وهذا البطل الإسلامي الفاتح يقف على أقصى غرب ما كان يعرف بالعالم القديم وهي بلاد المغرب، ويخوض بفرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لغزوتها في سبيل الله تبارك وتعالى. يقول قتادة : والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم؛ حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه؛ فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فإذا شكرنا نعمة الله سبحانه وتعالى بإقامة الإسلام، وإقامة حدود الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى يعطينا ما أعطى من قبلنا من السابقين الأولين، وإذا كفرنا بهذه النعمة عدنا إلى تأثير البيئة الأولى، وعدنا إلى الذل والهوان والضياع. يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعد ما حكى قول قتادة : أن الأمر في العرب: وهذا وإن كان كما ذكر قتادة ، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآيات عليه تكلف لا يخفى، فالظاهر ما ذكرنا. يعني: مع أن كلام قتادة حق، لكن الراجح هو أن الآية تختص بالمهاجرين الأولين، فقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]، فحمل كلمة (( النَّاسُ )) على من عدا العرب من الأمم فيه تكلف، ولذلك فهو قول بعيد، والأقرب أن تحمل كلمة (( النَّاسُ )) على كفار مكة. وقوله: (( فَآوَاكُمْ )) يعني: إلى المدينة، وهذا أقرب، (( وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ )) في بدر، (( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ )) بإباحة الغنائم لأول مرة، (( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )).

وفي ذلك إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، وأيضاً فهناك عوامل كثيرة تؤثر على الإنسان وعلى توجهه، ومن هذه العوامل عامل البيئة المحيطة بالإنسان، ودليله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). فالإنسان يتأثر بالبيئة من حوله، وهي مما يجعله ينحرف عن فطرة الإسلام. ولا يدفع تأثير البيئة إلا عامل أقوى من كل العوامل، وهو عامل العقيدة، فإذا وجدت العقيدة فهي التي تطغى على تأثير البيئة. فالعقيدة هي التي تحول الأمم والأفراد من حال إلى حال مغاير تماماً، وآية ذلك العرب مع الإسلام، فقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله سبحانه وتعالى)، فالمنطقة التي كان يسكنها العرب منطقة متخلفة جاهلة في ذيل الأمم كسولة... إلى آخر ما شئت من هذه الصفات. فلا يقوى على رفع تأثير البيئة إلا العقيدة، فإذا زالت العقيدة رجع تأثير البيئة من جديد، وهذا هو الوضع الذي نعيشه الآن؛ فالوضع الذي نعيشه الآن أننا في مؤخرة الأمم، حتى إن هتلر وضع العرب قبل اليهود، واعتبر اليهود أخس الأمم، لكن قبلهم مباشرة وضع العرب! ونحن لا نقول: إننا معشر العرب أخس من الأمم الأخرى، بمعنى: أن لا خير فينا، فالحمد لله نحن مسلمون، ولكن اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أنه كما أنعم علينا بنعمة الإسلام، ولم يجعل لنا سبباً إلى العز والنصر والتمكين إلا هذا الدين وهذا القرآن، فإذا كفرنا بنعمة الله فمن عدله سبحانه وتعالى أن يعاقبنا بأن يسلط علينا أخس الأمم، وأن نعود من جديد إلى تأثير البيئة، فهذه البيئة هذه طبيعتها، بخلاف البيئات الباردة؛ حيث طبيعة الناس أنه إذا لم يحصل نوع من النشاط والحركة والجدية في الحياة فإن الثلوج تدهمهم، أعني أن طبيعة الحياة وطبيعة البيئة في البلاد الأخرى تجعل الناس في حالة يقظة ونهضة وتقدم مستمر. أما نحن إذا تركنا الإسلام فإننا سوف نرجع للوضع الذي كنا عليه من قبل، ولا يزول عنا الذل إلا بالإسلام. وهذه الحقيقة الآن يعرفها الكفار أنفسهم قبل المسلمين، ولذلك هم حريصون دائماً على فصلنا عن الإسلام، وإلهائنا بعقائد غريبة جاءت بإفساد الأخلاق، وبإثارة الشبهات، ويحاولون إشغالنا بكل ما يلهينا عن هذه العقيدة؛ لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين إذا رجعوا إلى عقيدتهم سيكونون أقوى قوة على ظهر الأرض؛ لأن الذي نحن فيه من التخلف ليس ناشئاً عن تخلف عقلي، ولله الحمد، فالمسلمون عندهم كل الطاقات، حتى الطاقات النووية، فهناك قدرات تمتلكها الشعوب الإسلامية، ويكفي فقط الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتتي، فأغلبها عندها الطاقة النووية أو القوة النووية، والموارد الطبيعية، والعدد البشري الهائل، فالأمة الإسلامية وجميع الدول الإسلامية إذا توحدت فإن أمريكا بجوارها ستكون صفراً، ولا أقول: صفراً بالضبط، ولكن قطعاً سيكونون أقوى من أمريكا. فالتخلف الذي نحن فيه هو في جزء كبير منه تخلف مفروض علينا، حيث يحرم علينا نوع معين من التكنولوجيا حتى لا نتقدم، وتحرم علينا حتى محاولة الأخذ بأي أسباب القوة، في الوقت تكون حلالاً لأعداء الله اليهود، ويكفي أن نعلم ذلك في قضية هذه الصواريخ البسيطة التي من أجلها أقامت أمريكا الدنيا ولم تقعدها، وواضح أنها كانت صفقة مع كوريا الشمالية، ولكن أمريكا لم تستح من أن تعلن أنها ستفرض عقوبات اقتصادية على مصر بسبب شرائها هذه الصواريخ، ومع ذلك فقد تكفلوا بأن يحتفظوا بالتفوق العسكري لليهود لعنهم الله سبحانه وتعالى. فالشاهد من هذا الكلام: أن التخلف الذي نحن فيه هو تخلف مفروض علينا في جزء كبير منه.

هذا في هذه الناحية من نواحي النهضة المادية، وأما من ناحية أسباب التقدم والتمكين في الأرض فهي موجودة في أمة المسلمين، ولكننا مع هذه الكثرة غثاء كغثاء السيل؛ فمع هذه الكثرة توجد فينا آفات هي السبب في تخلفنا، وأعظمها على الإطلاق هو أننا نبذنا هذا الدين الذي هو سبب عزنا وراءنا ظهرياً، وليس نبذاً فحسب، بل نحن نحاربه، بل نحن ليل نهار نسلط أعداء الله من العلمانيين والزنادقة ليطفئوا نور الله عز وجل، ويشككوا الناس في الدين، ويلهوا الشباب بالشهوات وبالفتن والشبهات. فبذنوبنا دامت بليتنا، والله يكشفها إذا تبنا، فالقرآن يدلنا على دائنا ويدلنا على دوائنا، فداؤنا راجع إلى أنفسنا، أما دواؤنا فهو في هذا القرآن، كما قال عز وجل: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، ليس لأننا أحقر الأمم، فقد شرفنا الله بالإسلام؛ لكننا نبذنا هذا الإسلام، وطلبنا العزة في غيره. فإذاً: هل من رفعه الله سبحانه وتعالى بالقرآن يستوي مع من لم يرفعه بالقرآن؟ فمن امتن الله عليه بالقرآن وباللغة العربية وبالإسلام وبالتوحيد ومع ذلك رفض النعمة، فلابد أن تكون عقوبته أشد، وتلك سنة الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، وقانون من قوانين الله سبحانه وتعالى في الكون، وسنة من سننه، وهي التي عبر عنها أمير المؤمنين بقوله: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. فهذا قانون، فكلما بحثنا عن العزة في غير الإسلام فلابد أن تكون العاقبة هي عاقبة الذل بكل ما تحويه كلمة الذل من معانٍ، فكلما أردنا أن نبتغي العزة في الاشتراكية وفي الرأسمالية والتبعية للغرب، أو في التطبيع مع اليهود؛ أذلنا الله! فما لم نعد إلى الإسلام فلن نحصد سوى الذل، وهذا أمر مقطوع به، وتؤيده النصوص الشرعية، وتؤيده الوقائع التاريخية الماضية والحاضرة، المستقبلة وإن شاء الله أيضاً، وذلك ما لم نعد إلى الله سبحانه وتعالى. يقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً. أي: أنهم كانوا في ضلال وذل وضياع في كل مجال من المجالات، ولم يرفع عنهم ذلك إلا بالإسلام، فبعد ما كانوا بهذه الصورة المذكورة في هذا الأثر عن قتادة أعزهم الله بالإسلام، وحققوا الإسلام، وانتصروا للإسلام، ورفعوا رايته، فمكنهم الله سبحانه وتعالى من أقوى إمبراطوريتين على ظهر الأرض في ذلك الوقت، وهما الروم وفارس، وفي أقل من نصف قرن امتدت الدولة الإسلامية من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، أي: ما بين الهند والصين شرقاً إلى المغرب غرباً، وهذا البطل الإسلامي الفاتح يقف على أقصى غرب ما كان يعرف بالعالم القديم وهي بلاد المغرب، ويخوض بفرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لغزوتها في سبيل الله تبارك وتعالى. يقول قتادة : والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم؛ حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه؛ فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فإذا شكرنا نعمة الله سبحانه وتعالى بإقامة الإسلام، وإقامة حدود الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى يعطينا ما أعطى من قبلنا من السابقين الأولين، وإذا كفرنا بهذه النعمة عدنا إلى تأثير البيئة الأولى، وعدنا إلى الذل والهوان والضياع. يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعد ما حكى قول قتادة : أن الأمر في العرب: وهذا وإن كان كما ذكر قتادة ، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآيات عليه تكلف لا يخفى، فالظاهر ما ذكرنا. يعني: مع أن كلام قتادة حق، لكن الراجح هو أن الآية تختص بالمهاجرين الأولين، فقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]، فحمل كلمة (( النَّاسُ )) على من عدا العرب من الأمم فيه تكلف، ولذلك فهو قول بعيد، والأقرب أن تحمل كلمة (( النَّاسُ )) على كفار مكة. وقوله: (( فَآوَاكُمْ )) يعني: إلى المدينة، وهذا أقرب، (( وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ )) في بدر، (( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ )) بإباحة الغنائم لأول مرة، (( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )).

ثم قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه، وكان من شكره الوقوف عند حدوده، بين لهم ما يحذر منها، فبين أن من شكره عز وجل الكف عن المعاصي والوقوف عند حدود الله عز وجل، ولذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه، ومجاوزة حدوده، ويدخل في خيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رفض سنته، وإفشاء سره للمشركين. وقوله: (( وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ )) من خيانة الأمانة الغلول من المغانم، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر، وكل ما تعبدوا به. وقد روي في نزول الآيات شيء مما ذكرنا، ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره، ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فاستشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول على حكم سعد . وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم. أي: كانت تجارته وأمواله وأولاده وأهله مع اليهود، وله مصالح عندهم. يعني: أشار إلى حلقه، يعني: أنه الذبح، قال أبو لبابة : (ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله عليه الصلاة والسلام). يعني: أنه ما تحول عن موضعه الذي كان فيه حتى أفاق إلى نفسه وانتبه، وعرف أنه بهذه الإشارة قد خان الله ورسوله؛ لأنه أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخان الأمانة، ثم حلف فوراً في الحال ألا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى المسجد، فربط نفسه بسارية، فمكث أياماً حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد، ثم أنزل الله توبته، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فحله، فقال: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة)، يعني: تكفيراً عن هذه المعصية، وشكراً لله أن تاب الله عليه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث أن تصدق به)، أي: لا تتصدق بكل مالك. قال بعض المفسرين: دل هذا السبب -سبب نزول الآية- على جواز إظهار الجزع على المعصية، أي: أنه يجوز للإنسان إذا وقع في معصية أن يظهر الجزع والتألم الشديد لهذه المعصية، وإتعاب النفس وتوبيخها، ويجوز أيضاً أن يعاقب الإنسان نفسه بأن يلزمها بما فيه مشقة عليها، توبيخاً لها على المعصية، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي لبابة رضي الله تعالى عنه ما فعله بنفسه. ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة، فالإنسان إذا بدرت منه معصية وفرط منه ذنب فيستحب أن يبادر بأن يتبعه بالحسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، بل كما قال الله عز وجل في سورة هود: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، فمن كفارة السيئات أن يتبعها الإنسان بأعمال صالحة، ومن هذه الحسنات الصدقة، كما في قصة أبي لبابة رضي الله تعالى عنه. وفي هذه الآية: نهي عن أي معصية، فأي معصية هي خيانة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فتضييع الزكاة خيانة لله والرسول وللأمانة، وتضييع الصلاة، وإطلاق البصر إلى الحرام، كل هذه تدخل في الخيانة؛ لأن الأمانة هي التكاليف الشرعية، كما قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ .. [الأحزاب:72] إلى آخر الآية، فتضييع هذه الأمانات من الخيانة، كما أوضحت هذه الآية الكريمة. وفيها دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لقوله: (( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))، يعني: لا يستوي من علم أن هذا حرام مع من لم يعلم أن هذا حرام، فإذا قامت حجة الله سبحانه وتعالى عليك بالعلم والهدى من الوحيين الشريفين، فعليك أن تعمل بما علمت، وإلا فلو تجاسرت على انتهاك حدود الله سبحانه وتعالى، وارتكاب المعاصي وأنت تعلم، فالتوبيخ في حقك يكون أشد؛ لأن من يأتي المعصية عن علم ليس كمن يأتيها عن جهل. ففي قوله تعالى: (( لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لأن المعنى: (( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) أي: تعلمون تبعة ذلك ووباله.

ثم قال عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]. الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد. فما الذي يدفع الناس إلى أن يسوغوا ما يرتكبونه من معاصٍ إلا الخوف على الأولاد والأهل؟ وما الذي يدفع المرتشي إلى الرشوة؟ يريد أن يرضي زوجته وينفق على أولاده. وما الذي يدفع الكذاب إلى الكذب؟ حب الأهل والأموال والأولاد. وما الذي يدفع إلى اقتحام الشبهات وتعاطي الشهوات؟ وما الذي يزين للناس هذه الخيانة التي نهي عنها في هذه الآية؟ إنه حب الأولاد وحب الأموال. قال الرازي : فلما كان الداعي إلى الإقدام على خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو حب الأموال والأولاد، نبه تعالى أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب، فرب عدو يلبس ثياب الصدق، قال عز وجل: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27-28]. فقوله: (( فتنة )) يعني: محنة من الله سبحانه وتعالى ليبلوكم؛ لأننا في الدنيا في دار الابتلاء وفي دار الامتحان، والآخرة هي دار ظهور النتائج، فقد يخفى علينا حقيقة أو عاقبة ما نفعل من أعمال؛ لأننا مازلنا في دار الابتلاء والامتحان، ولذلك يختبرنا الله سبحانه وتعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]. وكلمة (فتنة) مأخوذة من الفتن، يقال: هذا دينار فتين، أي دينار محروق، وذلك أن خام الذهب يكون مختلطاً بشوائب كثيرة جداً، ولذلك فإن بعض الأماكن قد يكون فيها ذهب، لكن تصنيع الذهب وتنقيته من الخامات يكلف أكثر من قيمة الذهب، فلذلك يعرضون عن محاولة استخراج الذهب من هذه الأماكن. فإذاً: المعدن الخام الذي تخالطه الشوائب إذا أردنا أن نستفيد منه، ونستخرج منه الذهب نصهره في الفرن؛ لأنه إذا صهر يتميز، قال عز وجل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]، فعملية صهر الذهب تسمى عملية الفتن، فالفتن هو: صهر الذهب الخام كي يتميز الذهب الخالص عن الشوائب التي تخالطه، ومن ذلك أخذت كلمة (الفتنة) في الشرع، كما قالوا في الإمام أحمد : إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر. أي أن الإمام أحمد أدخل في فتنة القول بخلق القرآن فما زادته الفتنة إلا صلابة وإيماناً وثباتاً. فالفتنة هي اختبار، وهي كالفرن تماماً؛ لأن الله عز وجل يميز بها الخبيث من الطيب، فكل ما يعرض للإنسان من بلاء من أجل اختباره وامتحانه فهو فتنة، قال عز وجل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، أي: دون أن يبتلوا ويمتحنوا. ومن هذه الفتن الأموال والأولاد، فحب المال والولد فتنة، بمعنى: أن العداوة عداوتان: عداوة ظاهره وعداوة باطنة، فالعداوة الظاهرة كالشخص الذي يكاشحك ويظهر لك العداوة، وهذا يقال له العدو الكاشح، فأنت تعرفه، وهناك عدو أخطر، وهو شخص تحبه، لكنه يفتنك، بمعنى: أنه بسبب حبه يصرفك عن حب الله ورسوله، ويوقعك في معصية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن ثمَّ يفسد عليك دينك، فيلتقي في النتيجة التي تترتب على محبته مع العدو الظاهر؛ لأن هذا يؤذيك وهذا أيضاً يؤذيك في دينك. فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: (( وَاعْلَمُوا ))، وها اللفظ دليل للشعار الذي يرفعه الناس دائماً: اعرف عدوك. فإن الإنسان قد يكون له عدو شديد الإيذاء له وهو لا ينتبه لعداوته، كما قال عز وجل عن المنافقين: لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60]، فلذلك حذرنا الله سبحانه وتعالى منهم؛ لأن العدو الخفي أشد في نكايته من العدو الظاهر؛ لأنك تتقي العدو الظاهر وتحذر منه. وهكذا عداوة الأهل والأولاد للإنسان من حيث إفساد دينه عليه، فلذلك نبه الله سبحانه وتعالى أن كثيراً من الناس لا يتفطنون لهذه العداوة، ولذلك صدرت الآية بقوله: (( وَاعْلَمُوا ))؛ لأن كثيراً من الناس لا يعلمون، ولا يستحضرون أن الأموال والأولاد فتنة. فهذا من باب: اعرف عدوك، وكثير من الناس يتمادون في طاعة إبليس وهم لا يشعرون أنهم جنود لإبليس ومطيعون لإبليس، مع أن الله سبحانه وتعالى لخفاء هذه العداوة بيّن أننا لا نرى إبليس أمامنا عدواً، فقال: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فبلا شك أن مثل هذا العدو خطير. فمثلاً: سمعنا كثيراً عن أسطورة وخرافة طاقية الإخفاء، فتخيل لو وجدت حرب بين المسلمين واليهود، وافترضنا -جدلاً- أن من لبس طاقية الإخفاء اختفى، فأي نكاية يمكن أن يحدثها هذا باليهود، فإنه يدخل في صفوفهم دون أن يروه، ويفعل بهم ما يفعل وهم لا يرونه، فتكون النكاية شديدة؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إليه. فاستحضر أنت إذاً أن هذا العدو الخفي لابس طاقية إخفاء، والله سبحانه وتعالى قد حكم وقضى فقال: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فانظر إلى إبليس وجنوده إلى أي مدىً يستطيعون أن يوقعوا الأذى بالإنسان، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى ومن بركة الوحي الذي أنزله أن أعلمنا بعداوته، فهو عدو لا نراه، ولكنه شديد العداوة لنا، وإن أي عدو آخر يمكن أن تعقد معه عقداً للمصالحة، أو تحسن إليه، فالإحسان له أثر، كما قال الله سبحانه وتعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن علينا معشر المؤمنين أن نيأس من أن يكون هذا الحال هو حالنا مع إبليس، فلا يوجد سبيل على الإطلاق للصلح مع إبليس، ولا يمكن عقد مهادنة معه ولا مصالحة، فالإحسان إليه لا يمكن أن يؤثر فيه، بل يزيده عداوة وحسداً، فبين الله سبحانه وتعالى أن مثل هذا العدو لا يوجد حل معه سوى أن نتخذه عدواً، فقال عز وجل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، وقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50]؛ لأنه عدو خفي. ومن الأعداء الأخفياء: الأهل والأموال والأولاد، فالولد في الظاهر هو ثمرة فؤادك وفلذة كبدك، لكنه إذا فتنك عن الدين وكان سبباً في ركوب الشبهات والمحرمات وخيانة الله ورسوله فإنه عدو، كما فعل أبو لبابة رضي الله عنه؛ فإنه كانت له مصالح عند اليهود؛ حيث كان عندهم الأولاد والأموال، فخشي عليهم، وكما فعل حاطب بن أبي بلتعة في القصة المعروفة، فهذه عداوة خفية، وهي شديدة النكاية؛ لأنها غير ظاهرة، وأغلب الناس لا يلتفتون إليها، فأحدهم يعتبر أن هذا عذر مقبول، وأنه حين يقبل الرشوة سوف يؤكل الأولاد، فبسبب ذلك يقبل الرشوة، ويسافر إلى بلاد الكفار، ويقول: سوف نأتي بمال ليأكل الأولاد منه، وأنا سوف آتي بمال وأثمره. ويغفل عن أن هذا المسوغ الذي يذكره قد حذرنا الله سبحانه وتعالى من أن نضعه في اعتبارنا حينما قال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]. فقوله: (( فِتْنَةٌ )) يعني: محنة من الله، ليبلوكم هل تقعون بهما في الخيانة أو تتركون لهما الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا تلهون بهما عن ذكره، فسموا فتنة اعتباراً بما ينال الإنسان من الاختبار بهم. ويجوز أن يراد بالفتنة: الإثم والعذاب. وذلك باعتبار أن الأولاد والأموال سبب لحصول العذاب إن أدوا إلى خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم : قد أمر الله بالعلم بذلك. يعني: أن هذه الحقيقة أمرنا الله بأن نعلمها، وأنها مما ينبغي أن نتعلمه، ونتنبه له، ونتفطن إليه. فكيف نحصل هذا العلم؟ نحصل هذا العلم بالتفكر في أحوالهما وزوالهما، ونعلم أن المال غادٍ ورائح، وضيف زائل، والأولاد كذلك، ولا ينفعك إلا عملك الصالح. فطريق العلم بما أمرنا الله بأن نعلمه في هذه الآية: (( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ))، بالتفكر والتأمل في أحوالهما وزوالهما وقلة الانتفاع بهما، وكثرة الضرر منهما، وأنه قد يعصى الله بسببهما، صحيح أن هناك محبة فطرية للمال وللأولاد، لكن هذه المحبة إذا كانت على حساب الدين فهي تتحول إلى فتنة وإلى سبب من أسباب العذاب. وقوله سبحانه: (( وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )) يعني: لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد، فلم يورط نفسه من أجلهما، وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة، في قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]، قيل: هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.

نهانا الله تعالى عن خيانة الله ورسوله، ثم حذرنا من فتنة الأموال والأولاد، ثم بشر من يحصن نفسه من هذه الفتنة، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]. قال المهايمي : أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه. فالله عز وجل قال: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، ثم بعد ذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، ثم بشر من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه، فأنت إذا تركت الرشوة -مثلاً- أو تركت الشبهات، مع أنك تريد المال لتثميره ولحاجات أولادك، اتقاء لله وخوفاً من عذابه، فلا تظنن أن الله يضيعك، بل أبشر إذا نجحت في هذه الفتنة بما ذكره هنا: (( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ))، يعني: بعدم الخيانة (( يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )). فلا تخافوا على أهل ولا مال ولا عرض كما خاف أبو لبابة ، فإن من اتقاه تعالى لم يجترئ أحد على أهله وحوزته؛ لأنه يؤتى فرقاناً يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز؛ لأنك إذا حققت تقوى الله سبحانه وتعالى فإن نور التقوى يضيء على أركانك وعلى كيانك، بحيث ينزل الله عليك من المهابة ومن عزة الإيمان والتقوى ما يجعل أعداءك يحجمون عن أذيتك. وقيل: إن معنى قوله: (( فُرْقَانًا )) أي: نصراً. فعلى التفسير الأول يعطيك مهابة وإعزازاً تتميز به عن غيرك، فلا يجترئ أحد عليك أو على أهلك وولدك، وعلى التفسير الثاني يعطيك نصراً؛ ومن كان معه فرقان فإنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله، ومنه قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41]، يعني: يوم النصر. وقيل: إن معنى قوله: (( يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا )) يعني: بياناً وظهوراً يشهر أمركم، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم: بت أفعل كذا حتى طلع الفرقان. يعني: حتى طلع الفجر. وقيل: إن معنى قوله: (( يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا )) أي: فصلاً بين الحق والباطل، ومخرجاً من الشبهات، على أن الفرقان هنا مخرج علمي، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]. ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا استغلقت عليه مسألة من مسائل الفقه يبادر إلى المساجد العتيقة، ويترب وجهه بالسجود لله سبحانه وتعالى ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني. فيبادر إلى التقوى، وإلى التذلل، وإلى إرضاء الله سبحانه وتعالى، فيفتح الله عليه ما انغلق من المسائل، وكان أحياناً يكثر من الاستغفار، فيفتح الله عليه بإجابة هذه المسائل. إذاً: هذا مخرج ليس إلا لأهل الإيمان، فأنت كلما ضاق عليك الأمر في تحقيق التقوى كوفئت في الجانب الآخر، بأن يجعل الله لك مخرجاً، كما قال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]، وإذا لم يجعل لك مخرجاً فارجع وابحث؛ فأنت لم تتق الله، وعندك خلل هو السبب في عدم حصول المخرج؛ لأن وعد الله لا يخلف. ولذلك نقول: إن هذه الآية هي الدليل الصحيح لهذا المعنى الذي ذكرنا، ويخطئ بعض الناس في الاستدلال لهذه المسألة بقوله تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282]، حيث يشيع الاستدلال على ألسنة كثير من الخطباء والناس على أن التقوى سبب في حصول العلم، وهي حقيقة صحيحة، فالتقوى سبب حصوله ، لكن المناقشة هنا ليست في المدلول، فنحن متفقون على المدلول، وإنما المناقشة في الدليل، هل يدل على ذلك أم يدل على أمر آخر؟ فلو كانت هذه الآية: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] كما يقولون لجزم الفعل (يعلمْكم) وحذف الواو، كما تقول: كل تسمنْ، ذاكر تنجحْ، اتق الله يعلمْك الله، فالفعل الذي يقع في جواب الأمر يكون مجزوماً. لكن هذه الحقيقة نفسها ثابتة، فإن التقوى سبب من أسباب حصول البصيرة والعلم. وليس دليلها قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، وإنما دليلها قوله تعالى هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ، أي: نوراً وبصيرة وعلماً تميزون به بين الحق والباطل، ولذلك كلما ازداد الإنسان في التقوى وفي العلم زال عنه الاشتباه في كثير في الأمور، وكلما زاد علم الإنسان نتيجة التقوى كلما كان عنده بصيرة وتسديد، فلا تختلط عليه الأشياء، فالحلال يكون واضحاً والحرام واضحاً، والشبهات كثيراً ما تكون بسبب الجهل، ولهذا من كان عنده علم فإن الأمور تتضح له اتضاحاً جلياً، فعنده فرقان يفرق به بين الحق والباطل، ولا تلتبس عليه الأمور، وإنما تلتبس على من قل حظه من العلم والبصيرة اللذين ينتجان عن التقوى. وكذلك يدل على هذه الحقيقة قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]؛ لأن المخرج لا يكون في المسائل المادية وفي قضية الرزق فقط، بل يكون أيضاً في المسائل العلمية في معرفة الشبه والبدع والضلالات والعقائد، وهذه الأشياء يجد الإنسان فيها مخرجاً بالنور الذي يهديه الله به إلى الحقائق في هذه المسائل. فقوله: (( يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا )) (فرقان) مصدر فرق، أي: فصل بين الشيئين، سواء كان بما يدركه البصر أو بما تدركه البصيرة، فالفرقان إما يتعلق بالبصر وإما بالبصيرة، فبالبصر كمعاينة النصر مثلاً أو النور، كما يقال: طلع الفرقان، أي طلع الفجر، أو الفرقان بمعنى: ما تدركه البصيرة وليس البصر، إلا أن الفرقان أبلغ من الفرق؛ لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وبين الحجة والشبهة.

ثم قال عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]. ذكَّر الله تعالى المؤمنين بنعمه عليهم عموماً بقوله تعالى: (( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ))، فقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، فذكَّر نبيه صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه خاصة في حفظه من مكر قريش به؛ ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار، وأخذ نور الإسلام في الانتشار، فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار بناها قصي بن كلاب ؛ ليصلح فيها بين قريش، ثم صارت لمشاورتهم، والندوة: هي الجماعة من القوم، وندى في مكان، أي: اجتمع فيه، ومنه النادي، يعني: مجتمع الناس. المهم أنهم اجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم، فقال أبو البختري بن هشام : رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، والمنون: الدهر، وريب المنون يعني: إلى أن يموت ويهلك، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: (( لِيُثْبِتُوكَ ))، وقد استدل البعض على هذا بقوله تعالى في سورة الطور: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30]. فقوله: (( لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ )) هذا حصل قبل الهجرة مباشرة، كما يدل عليه سياق هذه القصة، وسورة الطور مما نزل قبل ذلك، فلا يصح أبداً أن تكون الآية: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30]، مقصود بها ما جاء في هذه القصة، فهذا من أسباب ضعفها. وقوله: (( لِيُثْبِتُوكَ )) يعني: ليحبسوك ويوثقوك؛ لأن كل من حبس شيئاً وربطه فقد جعله ثابتاً لا يقدر على الحركة. ثم اعترض رأي أبي البختري شيخ نجدي دخل معهم، ففي بعض الروايات: أن شيخاً أتى عليه مهابة ووقار فزعم أنه شيخ نجدي، وهم لا يعرفونه، فحضر معهم هذه المشورة، فلما اقترح بعضهم هذا الاقتراح الأول -وهو أن يحبسوه ويوثقوه- اعترض هذا الشيخ النجدي الذي كان هو إبليس، -إذا صحت هذه الرواية- فقال: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم! أي: إذا حسبتموه فإن قبيلته لن تسكت، وسيأتون ويقاتلونكم ويخلصونه من أيديكم. ثم قال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل، وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع. أي: ينفونه، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: (( أَوْ يُخْرِجُوكَ ))، يعني: من مكة، فاعترض هذا الشيخ النجدي، فقال: بئس الرأي، يفسد قوماً غيركم، ويقاتلكم بهم. أي: إن أخرجتموه من بينكم ونفيتموه فسوف تنتشر دعوته في مكان آخر، فيتقوى بهؤلاء الذين يؤمنون به، ثم يعود إليكم فيهزمكم. فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، وهذا ما ذكره تعالى بقوله: (( أَوْ يَقْتُلُوكَ )). ثم قال النجدي اللعين: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن الله له بالهجرة، فأمر علياً فنام في مضجعه، وقال له: (اتشح ببردتي؛ فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه). ثم خرج صلى الله عليه وسلم، وأخذ قبضة من تراب، فأخذ الله بأبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]... إلى قوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، ومضى مع أبي بكر إلى الغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه، فرأوا علياً ! فقالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاتبعوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه، فقالوا: لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر، فخيب الله سعيهم، وأبطل مكرهم، ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثاً، ثم خرج إلى المدينة. وهذه القصة فيها كلام من حيث سندها، فموضوع العنكبوت والبيض والحمام وغير ذلك من الكلام المشهور ضعيف، والكلام في ضعف الحديث يصدم عواطف بعض الناس، ولكن ليس بأمانيكم، وإنما بحكم أهل الحديث وأهل الصنعة. وقوله: (( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ )) أي: يدبر ما يبطل مكرهم. وقوله: (( وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ))، أي: أعظمهم تأثيراً، قاله المهايمي، وهو علي بن أحمد بن علي المهايمي ويقال المهائمي، توفي سنة (835هـ) وهو رجل هندي، كنيته أبو الحسن علاء الدين ، ويعرف بلقب: المخدوم ؛ لأنه يكثر ذكره في تضاعيف التفسير، فلذلك نذكر عنه هذه الثغرة، وهو من النوائف، والنوائف: قوم في بلاد الدكن من الهند. قال الطبري : هم طائفة من قريش خرجوا من المدينة خوفاً من الحجاج بن يوسف الثقفي ، فبلغوا ساحل الهند، وسكنوا فيه. وهو باحث مفسر، وللأسف الشديد كان يقول بوحدة الوجود! وولد وتوفي في الهند في مكان اسمه مهائم، وذلك نسب المهايمي أو المهائمي ، وهي بلده مجاورة للبحر المحيط أو على حدوده، له مصنفات عربية نفيسة، منها: تفسير الرحمن، وتيسير المنان ببعض ما يشير إلى إعجاز القرآن في مجلدين، ولعله هو الذي يستقي منه القاسمي دائماً، وله كتب في شرح فصوص الحكم وغير ذلك، لكن للأسف الشديد والأمر المؤلم أنه كان يقول بوحدة الوجود. يقول الله: (( وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ))، هذه الآية تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقاناً يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهراً، يحفظه من مكر من مكر به، بل يمكر له على ماكره، قال سبحانه: (( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ))، ثم أشار في الآية التي تليها إلى أن لا تخش الناس؛ فمن مكر بك مكر الله به، وأبطل كيده الذي يكيدك به.

أخبر تعالى عن كفار قريش وعتوهم وتمردهم، ودعواهم الباطلة عند سماع آياته تعالى، فقال عز وجل: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:31]. قوله: (( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا )) يعني: هذا الكلام ليس جديداً علينا؛ فقد سمعنا مثل هذا القرآن. وقوله: (( لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا )) أي: مثل هذا القرآن المتلو، وهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن الكافر يتحلى بصفة الغباء والإيغال في هذا الغباء، ومثال ذلك فرعون؛ فإن الواقع كان يكذبه تماماً ومع ذلك كان لا يستحي من المكابرة. ومثال ذلك أيضاً المسيح الدجال الذي يخرج بهذه الأشياء التي يفعلها، ويدعي أنه هو الله سبحانه وتعالى، مع أن شكله الظاهر يثبت للناس كذبه، فإنه: أولاً: أعور العين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كأن عينه عنبة طافية)، وجاء في الحديث: (وإن الله ليس بأعور)، ومعاذ الله أن يشبه الله بخلقه، لكن المقصود أن العور عيب ظاهر، وهل الخالق الذي أعطى الخلق هذا الجمال الذي وزعه فيهم يعجز عن أن يجمل نفسه؟! نحن نتكلم من حيث الرد على المسيح الدجال ، فهو أعور العين ويدعي أنه هو الله! لو كان هو الله -جدلاً- لدفع هذا العيب الخلقي عن نفسه. ثانياً: أن المؤمن يقرأ على جبين المسيح الدجال كلمة (ك، ف، ر)، حتى المؤمن الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وكذلك فرعون عيي غبي جاهل ركيك، ومع ذلك يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، فيصف موسى الذي هو أفصح الفصحاء أنه يحسن الكلام، ويقول: أنا الخطيب، ويقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]. ففرعون مع الدلائل الواضحة على هزيمته وضعفه وخيبته وقصوره البشري يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، بل إن هذا الكبر والاستنكاف إنما قاله بعد ظهور الآيات التي تفضح كذبه، وتؤيد صدق موسى عليه السلام, ومع هذا يصل به الأمر إلى أن يتبع موسى وبني إسرائيل داخل البحر، مع أنه يرى هذه الآية! فالكافر دائماً يتحلى بالغباء، وممكن أن يكون عنده قدر من الذكاء، لكن يغلب عليه الغباء، وعمى البصيرة، فما عنده نور البصيرة ولا نور الإيمان. فكذلك هؤلاء الذين يتكلمون هنا، كما قص الله سبحانه وتعالى خبرهم في هذه الآية: (( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ))، فهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن القرآن الكريم يتحداهم من بداية الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، وإلى نهاية البعثة المحمدية والقرآن الكريم يتحدى هؤلاء المشركين الذين كانوا أفصح العرب على الإطلاق وأفصح الأمم، ولكن لم يستجب واحد منهم لهذا التحدي، وكل من تجاسر وحاول أن يستجيب للتحدي أتى بكلام يضحك منه العقلاء: الفيل ما الفيل، ذو ذنب قصير، وخرطوم طويل.. إلى غير ذلك من السخافات التي إذا سمعها الإنسان لم يتماسك من الضحك والاستهزاء بها. فهذا منهم أيضاً من باب المكابرة، فهم مهزومون، والقرآن يتحداهم ليل نهار، ثم يقول أحدهم: أنا لو أريد أن أكتب مثل القرآن لفعلت، فهذه غاية المكابرة والعناد، كيف لا، ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من أن يشاءوا ويفعلوا وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله؟ وليس هذا فحسب، بل قال عز وجل: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، فانظر التحدي والإعجاز، ثم قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]. فقد كانت هذه فرصة حتى يثبتوا كذب الرسول عليه السلام، لكنهم لم يفعلوا وهذه من أوضح أدلة إعجاز القرآن الكريم، فإنه ذكر عجزهم عن فعل ذلك حتى في المستقبل، فلا شك أنهم لو قدروا على ذلك لاستجابوا للتحدي، لكن وقع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، فكان أعظم آية على أن القرآن كلام الله عز وجل. يقول: فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله، وقُرِّعوا على العجز، وذاقوا من ذلك الأمرين، ثم قورعوا بالسيف، فلم يعارضوا بما سواه مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا، خصوصاً في باب البيان الذي هم فرسانه المالكون لأزمته، وغاية اجتهادهم به، أي: بالبيان والبلاغة والفصاحة، ومع ذلك عجزوا. وقوله: (( إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ )) أي: ما سطروه وكتبوه من القصص، فالقرآن هذا -في زعمهم- عبارة عن أساطير الأولين، كما يحاول كثير من المنصرين إشاعة أن القرآن عبارة عن قصص مؤلفة عن التوراة والإنجيل، وهذا كذب صراح، ولا يقوله إلا إنسان جاهل جهلاً فاحشاً؛ لأن القصص القرآني مهيمن على ما عداه، فالقرآن لا يحاكي أبداً في قصصه ما وجد في التوراة والإنجيل، وإنماهو مهيمن ومصحح لما افتراه اليهود والنصارى على الله سبحانه وتعالى، وما افتروه على أنبياء الله، فالقرآن ليس محاكياً، وإنما هو مهيمن على ما سبقه من الكتب. وقوله: (( أَسَاطِيرُ )) جمع لا واحد له، وقيل: هو جمع أسطر وسطور وأسطار، وهي جموع سطر، وكأنه جمع الجمع، وقيل: هو جمع أسطورة، كأحدوثة، والأصل في السطر الخط والكتابة، يقال: سطر، أي: كتب، ويطلق على السطر من الشيء، كالكتاب والشجر. وقوله: (( قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ))، روي أن قائله النضر بن الحارث بن كلدة ، وأنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وجاء منها بنسخة حديث رستم واسفنديار ولما قدم ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس ما قصه الله تعالى من أحاديث القرون، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، فزعم أنه مثل الأساطير التي أتى بها من هناك، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته، ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر، وأسره المقداد ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم به فضربت عنقه. وإذا صح هذا الأثر الذي فيه أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث ، فاللفظ الكريم فيه نسبة الكلام إلى المجموع لا إلى واحد، وإسناد قوله إلى الجميع، إما لرضا الباقين به، أو لأن قائله كبير متبع، فهو رمز لمن يتبعونه. وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ويغرهم بمثل هذه الجعجعة.

ثم قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]. هذا أسلوب من الجحود بليغ، وهو غاية في الجحود، وأيضاً كما قلنا: فيه غاية الغباء وضعف العقل بالنسبة للكفار؛ لأنهم عدوا أحقية القرآن محالاً؛ فنتيجة الإيغال في الجحود قطعوا بأن القرآن مستحيل أن يكون حقاً؛ بدليل أنهم علقوا على أحقية القرآن أن ينزل الله عليهم العذاب، والمعنى: إن كان هذا القرآن حقاً منزلاً فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. وفي إطلاقهم الحق عليه: (( إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ )) ليسوا مفوضين الأمر لله، وإنما هذا تهكم، فهم وصفوا القرآن بأنه حق من باب التهكم بمن يقول ذلك، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين. وقوله: (( إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ))، ليست هذه صيغة دعاء، لأن الداعي بإخلاص يقول: يا رب! إن كان هذا هو الحق فاهدني إليه، لكن قولهم: (إن كان هذا هو الحق من عندك) تهكم واستهزاء بمن يزعم أن القرآن حق. ونفهم من كلمة (أمطر) أنها تأتي من السماء؛ لأن الإمطار لا يأتي إلا من السماء، فما فائدة قوله عز وجل: (( مِنَ السَّمَاءِ ))؟ الجواب: كأن القائل يريد أن يقول: فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع سجيل، يعني: أن كلمة (حجارة من السماء) تساوي سجيل. والمعروف أن السجيل: عبارة عن حجارة مسومة للمعذبين تمطر من السماء، كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، وأنت تريد درعاً، فبدل كلمة درع تقول: مسرودة من حديد، من قوله عز وجل: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]، أي: الدرع. وقوله: (( أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )) يعني: إما أن تمطر علينا حجارة من السماء، أو تأتينا بعذاب أليم من نوع آخر، أو هو من عطف العام على الخاص. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك -يعني: الذين كنت تنسب إليهم قبل الإسلام- حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: (( إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ))، ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه. أي: الذي هو الأصلح لهم، ولا يخفى أنه يوجد فرق بين القولين، بين القول: إنه تهكم، وبين القول: إنه دعاء. والذي اعتمده القاسمي أن وصفهم القرآن بالحق نوع من التهكم، فقولهم: (إن كان هذا هو الحق من عندك) يعني: كما يزعم محمد وأصحابه (فأمطر علينا حجارة من السماء)؛ فلتمكنهم من الجحود علقوا نزول الحجارة على أن يكون القرآن حقاً، والمعروف أن العاقل لا يطلب أن ينزل عليه العذاب أو الحجارة من السماء. وهذه الآية كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:53]، وكقوله عز وجل: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16]، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]، أي: أنه يطلب أن ينزل عليه العذاب بسرعة. لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج:2-3]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ [الشعراء:187]. وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث. قال عطاء : لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر. يعني: هو الذي قال: (( قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ))، وأيضاً قال تبارك وتعالى: (( قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ))، وعلى القول بأنه النضر فقد أجاب الله دعاءه، وأتاه ما سأله من العذاب يوم بدر. وروى البخاري عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل . أي: أنه هو الذي قال: (( إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ )).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع