مقدمات في العلوم الشرعية [46]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما مسائل هذا العلم فكما ذكرنا منها ما هو صحيح طيب، ومنها ما هو خبيث مردود، أما الصحيح الطيب فهو ما يتعلق بتزكية النفوس.

قد ذكرنا في الدرس الماضي أن التزكية تنقسم إلى قسمين: إلى تخلية وتحلية، فالتخلية هي معالجة أمراض القلوب وإزالتها، والتحلية هي الاتصاف بصفات المؤمنين في مقابل صفات المنافقين، وهذه لا غنى للمؤمن عنها، بل قد أقسم الله في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وخيبة من أهملها.

وقد ذكرنا أن الإنسان مضطر لذلك؛ لأنه لا يخلو من قدر من الطغيان يزداد وينقص، فيزداد باستغنائه وشعوره بذلك الاستغناء، وينقص إذا أحس بافتقار وحاجة، وكذلك بالعلاج والتزكية.

كذلك من الجوانب المحمودة فيه محاولة الإنسان للإحسان أي: مجاهدته لنفسه حتى يصل إلى مقام الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومقام الإحسان ينقسم إلى درجتين كبريين: إحداهما تسمى بالمراقبة، والأخرى تسمى بالمشاهدة.

مقام استشعار مراقبة الله

أما المراقبة فهي إن لم تكن تراه فإنه يراك، على أن تستشعر أن الله يراقبك، فتستشعر أن أعمالك كلها لا تخفى عليه منها خافية: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، وهذا الاستشعار ليس حالاً فقط كما يحصل لعوام المسلمين عند حال الخشوع، إذا خشع أحدهم تذكر هذه الرقابة، وتعتريه في بعض الأحيان إذا أقبل على الحرام، فقبيل انقطاع شهوته ولذته يتذكر حال الرقابة فينكسر، فهذه الرقابة ليست هي الإحسان؛ بل إنما تكون إحساناً إذا حالت دون المعصية وجلبت إلى الطاعة، إذا حالت دون المعصية وجلبت الطاعة فهذه هي المراقبة الجيدة.

مقام المشاهدة

أما المقام الأسمى من المراقبة فهو المشاهدة وهو مقام أن تعبد الله كأنك تراه، بدل أن تقتصر على مجرد العلم أنه يراك، تتطلع أنت إلى الأنس به سبحانه وتعالى وخدمته وعبادته، والتقرب إليه بأنواع التقرب حتى لا تنطلق فقط من خشية المراقبة، بل تزيد على الخشية والمراقبة بالمحبة والإحساس بلذة التقريب والأنس، وهذا المقام هو الذي أشار إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذكره لـصهيب الرومي رضي الله عنه عندما قال: ( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه )، فالخوف دافع لعدم المعصية، لكن الطمع أيضاً والمحبة تدفع إلى عدم المعصية، فكثير من الناس يحول بينهم وبين المعصية الخوف فقط، وهذا المقام أسمى منه وأعلى أن يحول بينك وبين المعصية الخوف والرجاء معاً والمحبة أيضاً، أن تحبه حباً شديداً، فتكره كل ما هو معصية له، فالفرق هنا واضح، فما كان من الخشية أصله من الخوف أو من المراقبة تتركه وأنت مشته له ونفسك متعلقة به، وما كان من باب المحبة فإنك تكرهه أصلاً ولا تتعلق نفسك به.

فالمقام الأول: هو مقام المراقبة، يقتضي أن تترك المعصية وأنت محب لها متعلق بها، لكنك تركتها لوجه الله ولخوفه.

المقام الثاني: وهو مقام المشاهدة يقتضي أن تكره المعصية أصلاً، ولا تحبها ولا تتعلق بها بوجه من الوجوه، فهذا الفرق بينهما.

نظر الإنسان إلى مكانه في الكون

كذلك من المسائل المهمة فيه التي يحتاج إليها الناس نظر الإنسان إلى مكانه في هذا الكون، فإن الإنسان نكتة العالم كله: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وهو خليفة الله في الأرض، فلابد أن يحقق هذا الاستخلاف وأن يسعى له، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا نظر إلى حال هذا الكون وتدبر فيه وأبصر، وبذلك يستاق الكون كله ليكون آية من آيات وحدانية الله، وآية من آيات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

وهذا المقام الذي تتآزر فيه الآيات المسطورة والآيات المنظورة، والآيات المسطورة آيات القرآن، والآيات المنظورة آيات الكون، وقد قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، وهذا التآزر لابد أيضاً فيه مثل سابقه من التوسط وعدم الغلو، فإن بعض الناس يغلو في هذا المقام، وفي نظره إلى الكون يبالغ في النظرة حتى يرى أن الكون معدوم، وأنه ليس بالوجود شيء، وأن الله سبحانه وتعالى وحده هو الموجود وما سواه عدم، ويقصد بذلك الوجود المطلق الدائم الباقي، لكن بعضهم قد يبالغ في هذا فيخرج عن مقتضى المعقول، ويصل إلى مقام يسمى مقام وحدة الشهود، بل ربما تعداه إلى ما هو أنذل منه وأخس وهو مقام وحدة الوجود، الذي يستشعر فيه الإنسان أنه هو غير موجود وبالتالي غير مكلف، وبالتالي لا تعتريه الأحكام، وهذا غاية في الضلال والابتعاد.

شرح الغزالي لمقام وحدة الشهود

والغزالي رحمه الله شرح مقام وحدة الشهود بشرح يقتضي أن يكون مقبولاً شرعاً، فقال: وحدة الشهود تقتضي منك ألا تخاف إلا الله، وألا تطمع إلا في الله، وألا تحب إلا الله أو له، فلو أحسن إليك بأي إحسان لم تره من الأسباب ولم تتعلق بالأسباب، بل عرفت أن الإحسان من قبله هو مباشرة، ولو أثنى عليك أي مخلوق لم تنظر إلى ذلك الثناء على أنه صادر من مخلوق لعلمك أن المخلوق مسير وفق قدر الله، ولذلك فألسنة الخلق أقلام الحق.

وكذلك لو هجاك أي مخلوق أو شتمك أو اعتدى عليك تعلم أن ذلك بذنوبك وأنه عقوبة من عند الله وتنبيه من عنده، أو ابتلاء وامتحان من عنده، وفعلاً هذا مقام لكن يصعب على الإنسان الاستقرار فيه، أنت يمكن أن تعرف أن الإنسان إذا أخطأ عليك فإن ذلك بذنوبك أو تنبيه لك من عند الله سبحانه وتعالى، وامتحان لك في صبرك وحلمك، لكن مع هذا علق الشارع عليه أحكاماً لابد من الأخذ بها، فلا تتعدى مقام الأخذ بالأحكام، ولو زادت عندك هذه القناعة واستمرت، لكن لا تتعدى مقام الأخذ بالأحكام، وهذا التفسير الذي فسر به الغزالي وحده الشهود، يجعلها معتدلة مقبولة.

أما وحدة الوجود فلا يمكن أن تقبل بحال من الأحوال؛ لأنها تقتضي ما قال ابن عربي الحاتمي وهو صاحب النظرية أصلاً؛ لأنه كان يقول:

وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

فعلى هذا إذا هجيت بكلام فهو يجعله من كلام الله، والسب والشتم نسأل الله السلامة والعافية يجعل ذلك من سنن الله وهذا -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- غاية في الضلال والفساد.

كذلك في المقام السابق وهو مقام المشاهدة، أيضاً مصطلحات كثيرة محيرة ليس المقصود بالمشاهدة مشاهدة العين: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]، بل المقصود بالمشاهدة مشاهدة البصيرة، مشاهدة البصيرة هي أن تأنس بالله سبحانه وتعالى وتتعلق به وتحبه، وتشعر باللذة والسعادة عندما تعمل طاعة له، وتشعر بالخجل والحزن والأسى عندما تقع في معصية له، وهذا الذي عرفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن )، إذا وصلت إلى هذا المقام تسرك حسنتك غاية السرور، وتسعد بها سعادة عجيبة، مثلما يتلذذ أصحاب الدنيا بمناصبها وملذاتها، وتسوؤك سيئتك غاية المساءة، مثلما يستاء أهل الدنيا بمصائبها، هذا المقام إذا وصلت إليه هو مقام المشاهدة المطلوب.

أما تعدي ذلك بالبحث وراء تخييلات الشيطان، والبحث عن العيان الحسي فهذا مستحيل، وإنما يدعيه أصحاب الحلول أو أصحاب الاتحاد، وهم جميعاً نقلو ذلك عن النصارى الذين ألحدوا في الله عز وجل، ولذلك قال المختار بن بونا رحمه الله:

وبعض أهل الباطن من أهل سوء ظاهر وباطن

يزعم أن قد حل بالأجساد منهم تعالى بارئ العباد

ويقول السيوطي رحمه الله في الكوكب أيضاً:

ونص في إحيائه الغزالي من قال هذا فاسد الخيال

فقد نص الغزالي على من قال هذا: فاسد الخيال، قد فسد عقله ثم فسد تصوره وخياله بالإضافة إلى فساد العقل، وهذان موضعان من المواضع المذمومة أدركناهما هنا مع المواضع المحمودة، وهما: الغلو في مجال المشاهدة، والذي يقتضي القول بالحلول أو الاتحاد، والغلو في وحدة الشهود الذي يقتضي وحدة الوجود، فكل ذلك من التصوف المذموم، هنا نصل إلى بعض مزالق التصوف، أو المواقع المذمومة فيه.

أما المراقبة فهي إن لم تكن تراه فإنه يراك، على أن تستشعر أن الله يراقبك، فتستشعر أن أعمالك كلها لا تخفى عليه منها خافية: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، وهذا الاستشعار ليس حالاً فقط كما يحصل لعوام المسلمين عند حال الخشوع، إذا خشع أحدهم تذكر هذه الرقابة، وتعتريه في بعض الأحيان إذا أقبل على الحرام، فقبيل انقطاع شهوته ولذته يتذكر حال الرقابة فينكسر، فهذه الرقابة ليست هي الإحسان؛ بل إنما تكون إحساناً إذا حالت دون المعصية وجلبت إلى الطاعة، إذا حالت دون المعصية وجلبت الطاعة فهذه هي المراقبة الجيدة.

أما المقام الأسمى من المراقبة فهو المشاهدة وهو مقام أن تعبد الله كأنك تراه، بدل أن تقتصر على مجرد العلم أنه يراك، تتطلع أنت إلى الأنس به سبحانه وتعالى وخدمته وعبادته، والتقرب إليه بأنواع التقرب حتى لا تنطلق فقط من خشية المراقبة، بل تزيد على الخشية والمراقبة بالمحبة والإحساس بلذة التقريب والأنس، وهذا المقام هو الذي أشار إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذكره لـصهيب الرومي رضي الله عنه عندما قال: ( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه )، فالخوف دافع لعدم المعصية، لكن الطمع أيضاً والمحبة تدفع إلى عدم المعصية، فكثير من الناس يحول بينهم وبين المعصية الخوف فقط، وهذا المقام أسمى منه وأعلى أن يحول بينك وبين المعصية الخوف والرجاء معاً والمحبة أيضاً، أن تحبه حباً شديداً، فتكره كل ما هو معصية له، فالفرق هنا واضح، فما كان من الخشية أصله من الخوف أو من المراقبة تتركه وأنت مشته له ونفسك متعلقة به، وما كان من باب المحبة فإنك تكرهه أصلاً ولا تتعلق نفسك به.

فالمقام الأول: هو مقام المراقبة، يقتضي أن تترك المعصية وأنت محب لها متعلق بها، لكنك تركتها لوجه الله ولخوفه.

المقام الثاني: وهو مقام المشاهدة يقتضي أن تكره المعصية أصلاً، ولا تحبها ولا تتعلق بها بوجه من الوجوه، فهذا الفرق بينهما.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمات في العلوم الشرعية [18] 3787 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [39] 3561 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [42] 3510 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [30] 3436 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [16] 3388 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [4] 3368 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [22] 3322 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [13] 3259 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [6] 3250 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [35] 3141 استماع