تفسير سورة الأنعام [102-110]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام:102]. هذه الآية كقوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام:101]. قوله تعالى: (ذلكم) أي: الموصوف بما سبق، البعيد رتبة عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة، (ذلكم) الإله المنزه عن أن يكون له شريك، وعن أن يكون له ولد، (ذلكم الله ربكم) يعني: ذلكم الموصوف هو الله ربكم (لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) يعني: بالإيمان به وحده. والمقصود: فاعبدوه وحده بلا شريك؛ فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده. وقوله: (وهو على كل شيء وكيل) أي: رقيب وحفيظ، يدبر كل الخلق ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.

قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]. قوله: (لا تدركه الأبصار) هذه جملة مستأنفة، إما أنها مؤكدة لقوله تعالى: (وهو على كل شيء وكيل) وذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يُرى فليحذر، أي: أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء وكيل، أي: رقيب وحفيظ من حيث لا يُرى، أي أنه يراكم ويرى أعمالكم ويراقبكم، وأنتم لا ترونه. فقوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) مؤكد لقوله: (وهو على كل شيءٍ وكيل) فهو رقيب من حيث لا يُرى، فينبغي الحذر منه سبحانه وتعالى. وإما أنها مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد، وذلك ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة، يعني: أبصار أهل الدنيا لا تراه؛ لجلاله وكبريائه وعظمته، فإذا كان الله سبحانه وتعالى بهذه العظمة والتنزه والتعالي فكيف ينسب إليه هذه العظيمة التي هي نسبة الولد والشريك إليه؟! فالله سبحانه وتعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)؛ لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعداداً لرؤيته، فالخلقة التي خلق الله عليها أهل الدنيا -خاصة أبصارهم- لا تؤهلهم لأن يروا الله عز وجل، فبالخلقة التي خلقنا عليها نحن لا نطيق رؤية الله عز وجل، ولذلك قال هنا: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، فعجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا هو بسبب ضعف نشأة هذه الدار، إلا لمن أمده الله بالقوة، وهذا بخلاف نشأة الآخرة؛ فإن المؤمنين والكافرين أيضاً تعاد نشأتهم من جديد في الآخرة، فالصفات والطاقات والقدرات لمن يخلقه الله سبحانه وتعالى في الآخرة تختلف تماماً عما هو عليه الحال في الدنيا. فمثلاً: قامة الإنسان وصورته وحجم أعضائه كل ذلك يتفاوت تماماً، فكل أهل الجنة يعاد خلقهم من جديد على صورة أبيهم آدم، وآدم كان طوله في السماء ستين ذراعاً، أي: ما يساوي عمارة الآن ارتفاعها خمسة عشر طابقاً، فهذا كان طول آدم عليه السلام، فكذلك أهل الجنة يدخلون على نفس هذه الصورة التي خلق عليها آدم عليه السلام، وقد صح في الأحاديث -أيضاً- أن ضرس الكافر في جهنم مثل جبل أحد، أي: الضرس الذي في فمه يكون مثل جبل أحد، وطول جبل أحد قرابة ستة كيلو مترات، فلك أن تتخيل كم يتضاعف إحساسه بالآلام وبالعذاب والعياذ بالله! فقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (أل) هنا للعهد، يعني الأبصار المعهودة في الدنيا، وليست الأبصار مطلقاً؛ لأن أبصار أهل الجنة ترى الله سبحانه وتعالى، فالأبصار هنا الأبصار المعهودة التي نعرفها التي هي أبصار أهل الدنيا، فإنها لا تدرك الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأحداق ما دامت على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). والله سبحانه وتعالى يرى كل المخلوقات لا يغيب عنه شيء. فبالنسبة لنا -نحن المخلوقين- هناك غيب وهناك شهادة، أما الله سبحانه وتعالى فكل شيءٍ عنده شهادة، فلا يغيب عن الله شيء أبداً، فحجابه النور، ولو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، أي: لاحترقت كل الكائنات لو كشف هذا الحجاب؛ لأنها لا تطيق ولا تتحمل رؤية الله عز وجل في الدنيا. قال ابن كثير : وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤيا فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] قال: يا موسى! إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده. يعني: تحطم واندك. قال عز وجل: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] يعني: في الدنيا، وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، يعني: انظر هذا الجبل مع عظمته وضخامته ومتانته فإنه لا يتماسك إذا تجلى له الله سبحانه وتعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] يعني: أنا أول المصدقين والمؤمنين بأنك لا تُرى في الدنيا، وإنما يُرى الله عز وجل في الآخرة. فالمنفي من الإدراك في هذه الدنيا هو الإدارك الدنيوي خاصة، ولا يحتاج إلى حجة ولا برهان، فقوله: (لاتدركه الأبصار) ليس مطلقاً، وإنما المقصود الأبصار المعهودة عند أهل الدنيا، فهي التي لا تدرك الله سبحانه وتعالى، (وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير). لكن بعض الفرق كالمعتزلة فهموا من هذه الآية: أن المنفي هو الإدراك في النشأتين، فقالوا: لا تدركه الأبصار لا في هذه النشأة في الدنيا ولا في الآخرة أيضاً؛ ولذلك ججدوا رؤية الله في الآخرة، فمن نحى هذا المنحى فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة. أما الكتاب: فمثل قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] فلما أتبعها بـ(إلى) عين أن المقصود هو رؤية حقيقية، وأنها تنظر إلى الله سبحانه وتعالى في الجنة. وقال تبارك وتعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]. قيل: المزيد هو روية الله عز وجل في الجنة. وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وقد صح أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل. وقال تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فعوقبوا بالحجاب عن رؤية الله عز وجل، أما المؤمنون فقال تعالى عنهم: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23] يعني: ينظرون إلى الله سبحانه وتعالى. وأما السنة فالأحاديث متواترة عن عدد كبير جداً من الصحابة الذين أثبتوا في أحاديثهم رؤية الله في الآخرة، فمن السنة ما رواه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري ومسلم قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صالة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39] ) وليس المقصود من التشبيه تشبيه المرأي بالمرأي، وإنما تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه هو شدة الوضوح، فليس المقصود من هذا الحديث تشبيه الله عز وجل بالقمر، معاذ الله! إذ كيف يشبه الله بالقمر؟! وإنما المقصود بقوله :كما ترون هذا القمر)، أن القمر كان بدراً منيراً في السماء ولا سحاب دونه، يعني أن رؤية الله في الآخرة ستكون كرؤيتكم القمر في الدنيا في شدة الوضوح، أما كيفية رؤية الله فالله أعلم كيف ستكون. لكن المقصود هنا تشبيه الرؤية بالرؤية، أي: تشبيه رؤية الله في الآخرة برؤية القمر في الدنيا، ووجه الشبه هو شدة الوضوح. وقوله: (إنكم سترون ربكم) خطاب للمؤمنين. وقوله: (لا تضامون) بتشديد الميم، من الانضمام؛ لأن الناس إذا أرادوا أن يروا شيئاً غير واضح فإنه ينضم بعضهم إلى بعض كي تقوى الشهادة بما يرونه، فترى أحدهم يقول: انظر فأنا أرى. فيأتي آخر فينضم إليه لكي يرى، وينضم بعضهم إلى بعض لكون الشيء الذي يرونه ليس واضحاً. فمثلاً: رؤية الهلال في أول الشهر، ربما احتاج الناس إلى أن ينضم بعضهم إلى بعض؛ لأنه يكون دقيقاً جداً في السماء، بحيث يمكن أن لا يرى، فلذلك قد يتضامون، أي: ينضم بعضهم إلى بعض حتى يؤكد الواحد منهم ما يراه الآخر إن سبق عدم وضوح المرئي. أو أن المعنى (لا تضامون في رؤيته) من الضيم الذي هو الظلم، يعني: لا يظلم بعضكم بعضاً بحيث يرى البعض والبعض الآخر لا يرى، فهذان الاحتمالان كلاهما ينفيان عدم وضوح رؤية الله في الآخرة، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) أي: لا تحتاجون للانضمام، ولا يظلم بعضكم بعضاً، فيرى بعضكم وبعضكم لا يرى، وذلك لشدة الوضوح. قال: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]) . قال ابن كثير : تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات. وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وأدلته -يعني: في القرآن والسنة- طافحة بوقع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا، إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم. يعني: حصل الاختلاف حول رؤية الله في الدنيا في حق الرسول عليه الصلاة والسلام: هل وقعت أم لا. قال ابن كثير : كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية. فـعائشة كانت تستدل بهذه الآية، وهي قوله تعالى: (( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ

نفي وجود التعارض بين نفي الإدراك وإثبات الرؤية

وهذا الكلام الذي مضى في الآية (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إنما هو بناء على أن نفي الإدراك هنا هو بمعنى الرؤية، فإذا نفينا وقلنا: (لا تدركه الأبصار) بمعنى: لا تراه الأبصار فنحن نقول: الأبصار المعهودة هنا في دار الدنيا. وهناك قول آخر قاله فريق آخر من العلماء، وهو أنهم قالوا: إنه لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ لأن الإدراك ليس المقصود به مطلق الرؤية. وقالوا: (لا تدركه الأبصار) الإدراك معناه الإحاطة ومعرفة الكنه، فهذا نفي الحقيقة، وهو ثابت، سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ إذ لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى أبداً، ولذلك قال: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]. يقول ابن كثير : وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو، فقيل: الإدراك المنفي هو معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو. أي: حتى لو رأى المؤمنون ربهم فإنهم لا يحيطون بالله علماً، ولا يدركون كنه الله عز وجل؛ فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وهذا مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة، لكن لا يعني ذلك أنهم يحيطون به علماً، أو أنهم يدركونه إدراك إحاطة، أي: لا يعرفون حقيقته وكنهه عز وجل، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فإذا قلت: نحن نرى القمر فهل معنى ذلك أنك تحيط علماً بالقمر؟! والجواب أن هذا لا يعني أنك تعرف تفاصيل القمر، بل العكس، فنحن لا نرى للقمر إلا جهة واحدة فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك، وهو أولى بذلك، وله المثل الأعلى، فنحن نرى القمر، لكن لا نحيط به، فمن باب أولى أن المؤمنين حتى لو رأوا الله فليس معناه أنهم يحيطون به، أي: لا يدركون كنه الله عز وجل وحقيقته. وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية، فالإدراك بمعنى الإحاطة. وقالوا: لا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، فإذا قال الله سبحانه وتعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، فهل كوننا لا نحيط بالله علماً أننا لا نعلم شيئاً عن الله؟! والجواب: لا؛ بل نحن نعلم من صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله ما بلغنا عن طريق الوحي، ونحن نعلم هذه الأشياء الخاصة التي جاءتنا عن طريق الوحي، لكن هل معنى ذلك أننا نحيط بالله علماً؟ الجواب: لا، فلا يتعارض كوننا لا نحيط بالله علماً مع كوننا نعلم بعض صفات الله سبحانه وتعالى، حتى أسماء الله لا نعرفها جميعاً، بل من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه. فكما يثبت لنا العلم بالله مع عدم الإحاطة كذلك يثبت للمؤمنين رؤية الله في الآخرة مع عدم الإدراك، فقوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: لا تحيط به الأبصار. ومثال ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) يعني: لا أستطيع أن أوفيك حقك من الثناء، فهل كونه لا يحيط بالثناء أو لا يستوفي كل ما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء هل هذا ينفي أنه أثنى على الله؟! الجواب: بل هو يثني على الله، لكن بدون أن يحيط بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء، ولذلك قال: (لا أحصي ثناءً عليك) فنفى إحصاء الثناء، وهذا لا يتعارض مع ثبوت ثنائه على الله، فكذلك هاهنا. وقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أي أنه يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، ولا يخفى عليه شيء منها. وقوله: (وهو اللطيف) أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة. وقوله: (الخبير) أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها أو جليلاتها. ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها، كنوع من اللف والنشر، فـ(لا تدركه الأبصار) لأنه اللطيف (وهو يدرك الأبصار) لأنه الخبير. فجاءت هكذا (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فاللطيف متعلق بقوله: (لا تدركه الأبصار) والخبير متعلق بقوله: (وهو يدرك الأبصار) .

وهذا الكلام الذي مضى في الآية (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إنما هو بناء على أن نفي الإدراك هنا هو بمعنى الرؤية، فإذا نفينا وقلنا: (لا تدركه الأبصار) بمعنى: لا تراه الأبصار فنحن نقول: الأبصار المعهودة هنا في دار الدنيا. وهناك قول آخر قاله فريق آخر من العلماء، وهو أنهم قالوا: إنه لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ لأن الإدراك ليس المقصود به مطلق الرؤية. وقالوا: (لا تدركه الأبصار) الإدراك معناه الإحاطة ومعرفة الكنه، فهذا نفي الحقيقة، وهو ثابت، سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ إذ لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى أبداً، ولذلك قال: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]. يقول ابن كثير : وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو، فقيل: الإدراك المنفي هو معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو. أي: حتى لو رأى المؤمنون ربهم فإنهم لا يحيطون بالله علماً، ولا يدركون كنه الله عز وجل؛ فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وهذا مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة، لكن لا يعني ذلك أنهم يحيطون به علماً، أو أنهم يدركونه إدراك إحاطة، أي: لا يعرفون حقيقته وكنهه عز وجل، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فإذا قلت: نحن نرى القمر فهل معنى ذلك أنك تحيط علماً بالقمر؟! والجواب أن هذا لا يعني أنك تعرف تفاصيل القمر، بل العكس، فنحن لا نرى للقمر إلا جهة واحدة فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك، وهو أولى بذلك، وله المثل الأعلى، فنحن نرى القمر، لكن لا نحيط به، فمن باب أولى أن المؤمنين حتى لو رأوا الله فليس معناه أنهم يحيطون به، أي: لا يدركون كنه الله عز وجل وحقيقته. وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية، فالإدراك بمعنى الإحاطة. وقالوا: لا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، فإذا قال الله سبحانه وتعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، فهل كوننا لا نحيط بالله علماً أننا لا نعلم شيئاً عن الله؟! والجواب: لا؛ بل نحن نعلم من صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله ما بلغنا عن طريق الوحي، ونحن نعلم هذه الأشياء الخاصة التي جاءتنا عن طريق الوحي، لكن هل معنى ذلك أننا نحيط بالله علماً؟ الجواب: لا، فلا يتعارض كوننا لا نحيط بالله علماً مع كوننا نعلم بعض صفات الله سبحانه وتعالى، حتى أسماء الله لا نعرفها جميعاً، بل من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه. فكما يثبت لنا العلم بالله مع عدم الإحاطة كذلك يثبت للمؤمنين رؤية الله في الآخرة مع عدم الإدراك، فقوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: لا تحيط به الأبصار. ومثال ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) يعني: لا أستطيع أن أوفيك حقك من الثناء، فهل كونه لا يحيط بالثناء أو لا يستوفي كل ما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء هل هذا ينفي أنه أثنى على الله؟! الجواب: بل هو يثني على الله، لكن بدون أن يحيط بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء، ولذلك قال: (لا أحصي ثناءً عليك) فنفى إحصاء الثناء، وهذا لا يتعارض مع ثبوت ثنائه على الله، فكذلك هاهنا. وقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أي أنه يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، ولا يخفى عليه شيء منها. وقوله: (وهو اللطيف) أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة. وقوله: (الخبير) أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها أو جليلاتها. ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها، كنوع من اللف والنشر، فـ(لا تدركه الأبصار) لأنه اللطيف (وهو يدرك الأبصار) لأنه الخبير. فجاءت هكذا (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فاللطيف متعلق بقوله: (لا تدركه الأبصار) والخبير متعلق بقوله: (وهو يدرك الأبصار) .

قال عز وجل: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام:104]. قول الله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم) يعني: الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة. والبصائر جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به، ويجوز أن يكون المعنى: قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب، والمقصود به النور. فهناك نور يستبصر به القلب، ويعبر عنه بكلمة (بصيرة القلب) كما أن البصر نور تستبصر به العين، فالنور الذي ترى به العين هو البصر، فهناك البصر وهناك البصيرة، فما تعلق برؤية العين فهو البصر، وما تعلق برؤية القلب فهو البصيرة. وقوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر) يعني: من أبصر الحق بتلك البصائر وآمن به (فلنفسه)، يعني: فلنفسه أبصر؛ لأن نفع ذلك لها يعود على نفسه. وقوله: (ومن عمي) أي: من ضل عن الحق (فعليها)، ولا شك في أن التعبير عن الضلالة عن الحق بالعمى تقبيح لهذا الضلال وتنفير عنه. والمقصود بالعمى هنا عمى القلب؛ لأن الكلام هنا عن البصائر وليس عن الأبصار، وقد قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فكم من رجل له عينان حادتان مبصرتان ولكن لا بصيرة له، ولكنه أعمى القلب! وكم من رجل أعمى لا يرى بعينه لكن عنده بصيرة يرى بقلبه الحق ويهتدي إليه! قال تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء:72]، فالكلام هنا هو عن عمى القلب وليس عن عمى البصر، والآية هنا تتكلم عن البصائر التي هي نور القلب الذي يبصر القلب به الحق. ولذلك قال: (فمن أبصر) يعني: أبصر الحق بهذه البصائر فلنفسه (ومن عمي) يعني: ضل عن الحق (فعليها) وقد أشرنا أنه قبح الضلال عن الحق بأن وصفه بالعمى. وقوله: (فعليها) يعني: فعلى نفسه عمي، وإياها ضر بالعمى. وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ) أي: برقيب يرقبكم ويحفظكم عن الضلال، بل أنا منذر، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.

قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:105]. قوله: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع، أي: ننوع الآيات ونوردها بصورة وبأخرى حتى نقيم الحجج والدلائل، وكذلك نصرف الآيات ونوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع لتكمل الحجة على المخالفين. وقوله: (وليقولوا درست) أي: وليقولوا في ردها: درست. وليقولوا في محاولة إبطالهم هذه الآيات التي نصرفها: درست أي: ليس هذا وحياً أوحاه الله إليك، وإنما أنت حصلت على هذه العلم عن طريق المدارسة، وتعلمته من غيرك، وقرأته على غيرك وحفظت منه أخبار من مضى. فكأن العلم الذي يحدث به النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن يعزوه إلى العلم الكسبي، وحقيقة الأمر أن العلم الذي أوتيه الرسول هو علم وهبي وهبه الله سبحانه وتعالى له بالوحي، وعلمه الله إياه بالوحي، كما قال تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. وهذه الآية هي كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن هؤلاء الكافرين: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5]، يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة: إذا أكثر قراءته وذل له حفظه. قال ابن عباس : (وليقولوا درست) يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن يقولون: درست. يعني: تعلمت من يسار وخير -وكانا عبدين من سبي الروم- ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله. وقال الفراء : معنى (درست) : تعلمت هذا العلم من اليهود. وما زال الكفار إلى الآن -وكأنهم قد تواصوا بهذه الفرية- يقولون: إن القرآن عبارة عن صدى للتوراة والإنجيل. وهذا من جهلهم وكذبهم على الله سبحانه وتعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يصوغ لهم الشيطان ما هم عليه من الكفر بالقرآن الكريم، فيتواصون بهذه العبارة، وينصح بعضهم بعضاً بها، ويرددونها كالببغاوات، لكن عند التمحيص بأدنى قدر من العقل والبصيرة يثبت أن هذا كذب وافتراء، والأمر بالعكس، فالقرآن مهيمن على ما في هذه الكتب وحاكم عليه، وشتان ما بين القرآن وبين هذين الكتابين المحرفين. وقُرئ: (وليقولوا دارستَ) بالألف وفتح التاء، يعني: دارست غيرك ممن يعلم أخبار الأمم الماضية. وهذا كقولهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]، أي أنهم كانوا يزعمون أن الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن هو بشر أعجمي من الروم، فالله سبحانه أبطل قولهم بقوله: (لسان الذي يلحدون إليه) أي: هذا الشخص الذي يشيرون إليه ويميلون إلى أنه هو الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام هو رجل أعجمي عيي لا يعرف العربية الفصحى (وهذا لسان عربي مبين) فالقرآن في أعلى قمة الفصاحة والبلاغة، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان هذا أعجمياً عيياً لا يعرف العربية الفصحى فكيف يتسنى له أن يأتي بمثل هذا القرآن العربي المبين؟! وقُرئ أيضاً: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دَرَسَت) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع. كما قالوا: (أساطير الأولين). وهذه القراءات الثلاث متواترة، وهي ( وليقولوا دَرَسْتَ) (وليقولوا دَارَسْتَ) (وليقولوا دَرَسَتَ) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع. وقُرئ في قراءة شاذة: ( وليقولوا دُرست) على البناء للمجهول. أي: تليت وعفيت تلك الآيات. وقرئ أيضاً: (درَّست) مشدداً معلوماً، وتشديده للتكثير أو للتعبية، يعني: درست غيرك الكتب. وقُرئ مشدداً مجهولاً: (وليقولوا دُرِّسَت). وقُرئ: (دورست) مجهول دارس، ودارست. وقُرئ: (درُسَت) وكل هذه قراءات شاذة، أما القراءات المتواترة فهي الثلاث الأول. وقوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: نبين القرآن الكريم. وإن لم يجر له ذكر؛ لكونه معلوماً صريح السياق، فلم يرد فيه ذكر القرآن الكريم، لكن جاز التعبير عنه بالضمير (ولنبينه) لأنه يفهم من السياق أن الكلام إنما هو عن القرآن الكريم. (لقوم يعلمون) أي: يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه. وقيل: إن اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) لام العاقبة، واللام الثانية في قوله: ( ولنبينه لقوم يعلمون) بمعنى (كي) أي: وكي نبينه لقوم يعلمون. أي أنها لام تعليل. أما اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) فهي لام العاقبة، أو لام الصيرورة، أي: لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا: (درست). فيقول تعالى: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: لتكون الحجة على المخالفين، (وليقولوا) في ردها: (درست). فهل الله سبحانه وتعالى يصرف الآيات لسبب أن يقولوا: (درست)؟ الجواب: كلا، بل هو يصرف الآيات ليبينها لقوم يعلمون، ولكن آل أمرهم إلى أن يقولوا: (درست)، وهذا مثل قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8] فهل آل فرعون حينما التقطوا موسى كانوا يريدون بذلك أن يكون لهم موسى عدواً وحزناً؟ الجواب: العكس هو الحاصل، فقد قالت زوجة فرعون: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9] فهم لم يلتقطوه للعداوة، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى عداوة موسى عليه السلام، فاللام هنا لام العاقبة أو لام الصيرورة، وليست لام التعليل. فكذلك الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: (درست) ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، فشبه به. قال الخفاجي : وجوز أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره. أي أن اللام في (وليقولوا درست) هي على الحقيقة وليست لام الصيرورة أو العاقبة، يعني أنها لام تعليل. قالوا: لأن نزول الآيات هو لإضلال الأشقياء وهداية السعداء، كما قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]. وقال الرازي : حمل اللام على العاقبة بعيد؛ لأنه مجاز، وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز، ولأن المراد منه هو عين المذكور في قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]. قال: ومما يؤكد هذا التأويل قوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: أنه ما بينه إلا لهؤلاء، فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم، وإذ لم يكن بياناً لهم ثبت جعله ضلالاً لهم، فما لم يكن بياناً فإنه يكون ضلالاً لهم، ويضلون بأن يقولوا: (درست) ويكفروا به. فقوله: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) اللام الثانية معروف أنها لام الحقيقة، أما اللام في: (وليقولوا درست) فمن قائل: إنها لام الصيرورة والعاقبة، ومن قائل: إنها لام الحقيقة كالتي في قوله تعالى: (ولنبينه لقوم يعلمون) فهؤلاء هم الذين يبين لهم الآيات، أما الأولون الذين سيقولون: (درست) فهم يضلون بهذه الآيات، ويزدادون بها كفراً وعناداً.

قال تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106]. ولما حكى تعالى عن المشركين قبحهم في تصريف الآيات أتبعه بالأمر بالثبات على ما هو عليه تقوية لقلبه وإزالة لما يحزنه، فقال عز وجل: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106]. أي: أعرض عن هؤلاء الذين يقولون: (درست) ويردون الحق، واشتغل بما كلفت به. قوله: (اتبع ما أوحي إليك من ربك) يعني: من تبليغ الرسالة التي هي الآيات المصرفة مبالغة في إلزام الحجة. وقوله: (لا إله إلا هو) هذه الجملة اعتراضية أكد بها إيجاب الاتباع في قوله: (اتبع ما أوحي إليك من ربك) أو أنها حال مؤكدة. وقوله: (من ربك) يعني: منفرداً في الإلهية، فكأن (لا إله إلا هو) حال من (ربك) يعني: منفرداً في الإلهية. وقوله: (وأعرض عن المشركين) قال أبو مسلم : أريد بالإعراض الهجران لهم دون الإنذار وترك الموعظة، وليس المقصود من قوله: (وأعرض عن المشركين) أنك لا تنذرهم ولا تعظهم, وإنما المقصود: أعرض عنهم وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10] وليس معناها: أعرض عن نذارتهم وإبلاغهم الحق وإقامة الحجة عليهم، كلا؛ فإن هذا مستمر، لكن أعرض عن المشركين إما عن سفاهتهم وجهلهم وما يؤذونك به، وإما بهجرانهم ونبذهم، لكن لا يمكن حمل الآية: (أعرض عن المشركين) على معنى: لا تبلغهم الحق ولا تنذرهم. قال المهايمي : (وأعرض عن المشركين) أي: لا تحزن عليهم إذا أصروا على الشرك والعمى مع هذه البصائر، فلا تحزن عليهم، ولا تهلك نفسك من الحسرة والحزن عليهم لإعراضهم عنك وعن الحق. فهذه مواساة من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يقول له: إني أردت بقاءهم على الشرك والعمى؛ لأن استعدادهم يقتضي ذلك، فطينتهم طينة خبيثة ترفض الحق، واستعدادهم يميل إلى الشر، فلم يرد الله سبحانه وتعالى بهم خيراً، ولم ييسرهم اليسرى، فأعرض عنهم فإنه لا ينفع فيهم شفقتك وحرصك عليهم.

قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:107]. قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) يعني: مع وجود الاستعداد للكفر في قلوبهم، فلو أن الله شاء أن يهتدوا وأنلا يشركوا مع وجود الاستعداد للشرك فيهم فإن مشيئة الله نافذة، لكن الحقيقة أن سنة الله جرت لرعاية هذا الاستعداد الذي في قلوبهم. وقوله: (وما جعلناك عليهم حفيظاً) أي: هم وإن كان لهم استعداد للإيمان في فطرتهم فقد أبطلوا هذا الاستعداد، فأنت وإن كنت داعياً إلى إصلاح الاستعداد الفطري فما جعلناك متولياً عليهم تحفظ مصالحهم حتى تكون مصلحاً لاستعدادهم الفطري. وقوله: (وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل) أي: ما أنت بوكيل تدبر عليهم أمورهم، أو تغيرهم من استعدادهم إلى استعداد آخر، بل هذا مفوض إلى الله تعالى يفعل بهم بمقتضى استعدادهم الطبيعي لهم من غير تغيير له، بل هو مفوض إلى اختيارهم. وفي قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) دليل على أن الله تعالى لا يريد إيمان الكافر، لا بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يمنعه عن الإيمان مع توجهه إليه، بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه؛ لعدم ترك اختياره الجزئي نحو الإيمان وإصراره على الكفر. أي أن الله تعالى يكله إلى نفسه ويخذله ولا يمده بالتوفيق والهداية إلى الحق، فإذا وكل إلى نفسه لا يأتي منها إلا الشر. وقوله تعالى أيضاً: (ولو شاء الله ما أشركوا) أي: كل ما يقع فإنما يقع بمشيئة الله، ولا شك في أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك وأسباب ذلك من تعليم الأذى والعادات وغيرها واقعة بإرادة من الله، وإلا لم تقع؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريد، فإن آمنوا بذلك فبهداية الله، وإلا فهون على نفسك؛ فما جعلناك تحفظهم عن الضلال، وما أنت بموكل عليهم بالإيمان. وهل قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) يتنافى مع ما عيرهم به فيما بعد من قوله تبارك وتعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]؟ وهل هذا يتعارض مع ذاك؟ الجواب: مستحيل أن يتعارض القرآن بعضه مع بعض، وإنما المقصود بقوله عز وجل: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148] أنهم قالوا ذلك احتجاجاً بالقدر في منع الشرك؛ لأنهم لو قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] على سبيل الاعتراف أو الإقرار بالقضاء والقدر لكان هذا شيئاً حسناً منهم، فإن قصدوا ذلك فهذا معنى محمود وصحيح؛ لأن كل شيء يجري بمشيئة الله، لكنهم ما أرادوا هذا، وإنما ساقوا هذه العبارة (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) للاحتجاج بالقدر، وليس لإثبات القدر. والقدر نحن نثبته ونقر به، لكن لا نحتج به على إبطال الشرع، وهذا كما في قوله تعالى في سورة يس: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47] أي: لو شاء الله أن يطعم هؤلاء الفقراء لأطعمهم، أي: أن ربنا شاء أن هؤلاء الفقراء يجوعون ويعرون ويفتقرون، فهل نغير ما شاءه الله؟! وكأنهم بهذا يثبتون القدر، لكن أليس الله قد شرع الشرائع وأمر بأوامر وتكليفات؟ الجواب: بلى، فقد أمركم أن تنفقوا على الفقراء، وأن تتصدقوا عليهم، فلماذا تضربون الشرع بالقدر؟ فالمؤمن يؤمن بالقدر لكن لا يحتج به، وإنما يحتج بالقدر في المصائب فقط، أي أن الاحتجاج بالقدر لا يكون إلا في المصائب التي تقع على الإنسان رغماً عنه بلا تسبب منه فيها ولا أسباب يستطيع أن يباشرها، فمثل هذا يحتج بالقدر، ولذلك تقول فيما فاتك مما لا سبيل إلى التفادي فيه: قدَّر الله وما شاء فعل. أو: قَدَرُ الله وما شاء فعل. فتأتي إلى مصيبة الموت فتقول: هذا قدر الله، ولكل أجل كتاب. وتتعزى في مصيبة الموت بالقدر، لكن هل إذا خالفت الشرع بارتكاب ما حرمه الله تقول: قدر الله أني فعلت هذا الذنب؟ وقدر الله وما شاء فعل؟ الجواب: لا يجوز لك ذلك، وهذه سنة من سنن المشركين، أعني الاحتجاج بالقدر في تعطيل الشرع. فإن تأملت الذنب الذي فيه مخالفة للشرع فستبقى طول عمرك تستغفر الله سبحانه وتعالى منه وتندم عليه، ولا يجوز لك أن تحتج بالقدر، فهؤلاء لو كانوا ساقوا هذه العبارة (لو شاء الله ما أشركنا) لإثبات القدر لكان هذا الكلام صحيحاً، لكن ما أوردوها إثباتاً للقدر، وإنما قالوها عناداً للشرع، وإبطالاً للشرع الذي يأمرهم أن يخرجوا من الشرك إلى التوحيد. فقولهم ذلك وإن كان صدقاً في نفس الأمر لكنهم كانوا به مكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين -أيضاً- بإرادة الله، فلماذا نحتج بالقدر فقط فيما يوافق أهواءنا؟! فيرتكب أحدهم المعاصي ويقول: هذا مكتوب عليّ! فلماذا لم تؤمن ولم تصل ولم تتصدق وتفعل الطاعات وتقول: إن هذا -أيضاً- قدر قد كتبه الله عليك؟! ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين، بل لكانوا موحدين، لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم، فلذلك عيرهم به، لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر، فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله. فمن أين لك أن الله لم يشأ ذلك منك؟! وهل اطلعت على مشيئة الله وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق لم يرد إيمانهم الآن؟! فإنه ليس كلهم مطبوع القلب، بدليل إيمان من آمن منهم، فلو كان فيما مضى شاء الله أن تشرك فما يدريك الآن في هذه اللحظة أن الله شاء أن تقرأ أو تعمل عملاً ما؟ فربما يكون الله عز وجل شاء في هذا الزمان الحاضر أن تكون مؤمناً، بدليل أن من المشركين من أسلم بعد ذلك، فهل اطلعت على مشيئة الله لتعلم أن الله شاء منك أن تبقى على هذا الكفر؟! فلعله شاء منك أن تخرج من الكفر إلى الإيمان، كما قال جعفر الصادق : إن الله أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء -يعني: ما كتبه علينا من القدر والقضاء، وأراد منا الإرادة الشرعية التي كلفنا بها - فما أراده بنا كتمه عنا، وما أراده منا كشفه لنا، فما بالنا ننشغل بما أراده بنا عما أراده منا؟! يعني كونك من أهل الجنة أو من أهل النار وخاتمتك ومنزلتك عند الله ذلك شيء خبأه الله سبحانه وتعالى واستأثر بعلمه، لكن الله أراد منك شيئاً وأمرك بشيء، وهذا الشيء الذي أمرك به وضحه لك. فأمرك بالصلاة وبالزكاة وبالتوحيد ونحو ذلك، وحرم عليك كذا وكذا وكذا، فأنت لم تطلع على ما غيب عنك، لكنك تعرف جيداً أن الله أمرك بهذه الطاعة، فلا يجوز أن تلتفت إلى شيء مخبأ عن شيء ظاهر كلفت به وسوف تحاسب عليه.

قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108]. قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) يعني: لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح؛ لئلا يتجاوزوا إلى الجناب الرفيع. أي: إذا كان الحال أن المشركين إذا سببتم آلهتهم بالشتم والتقبيح وتعرفون من أحوالهم أنهم يردون عليكم بسب الله عز وجل فمن باب سد الذرائع لا تشرعوا في سب آلهتهم حتى لا يردون بسب الله عز وجل، مع أن آلهتهم تستحق السب، لكن نظراً إلى هذا المنكر الذي يترتب على إنشاء هذا الفعل من أجل ذلك نهى الله عن سب آلهتهم، وإن كان سبهم حقاً. روى عبد الرزاق عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهوا عنه لذلك. وقال الزجاج : نهوا أن يلعنوا الأصنام التي كانت تعبدها المشركون. وقوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) جملة (الذين يدعون) صلة تفتقر إلى العائد الذي هو الضمير الذي يعود على ما مضى، والعائد هنا مقدر، تقديره: ولا تسبوا الذين يدعونهم من دون الله، يعني الأصنام، والتعبير بـ (الذين) على زعمهم أنهم من أولي العلم، أو بناءً على أن سب آلهتهم سب لهم، كما يقال: ضرب الدابة صفع لراكبها. فإذا ضربت الدابة فكأنك تصفع من يركبها، وكذلك إذا شتمت الأصنام فكأنك تشتم عبَّادها، فمن ثمَّ قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) . فإن قيل: إنهم كانوا يقرون بالله وعظمته، وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون لهم شفعاء عنده فكيف يسبونه؟! أي: كيف يتوقع أن المشرك يسب الله سبحانه وتعالى ونحن نعلم أنهم كانوا يعظمون الله، وكانوا إذا عوتبوا فيما يأتونه من الشرك كانوا يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] ويقولون: نحن نعلم أنها لا ترزق ولا تحيي ولا تميت، ولكن نحن نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى ونتوسل بها إلى الله سبحانه وتعالى؟ فإذاً: كيف يسبونه؟! وهل يتصور مع تعظيمهم لله بهذه الطريقة أنهم يسبون الله؟! فالجواب أنهم لا يفعلون ذلك صريحاً، بل يفضي كلامهم إلى ذلك، وكأن مثل هذا أنك إذا سببت آلهته يشتمك ويشتم من أمرك بذلك، والعياذ بالله! ويحصل هذا الكفر الشنيع من بعض الناس، فقد يسب أحد الإنسان ويسب الذي خلقه، والعياذ بالله! فيرتد من الإسلام في طرفة عين، ويخرج من الملة صراحة، فإذا سب الشخص الذي يكلمه وسب -أيضاً- الذي خلقه -والعياذ بالله- فهذا كفر صراح بواح لاشك فيه على الإطلاق، ومثل هذه العبارات الشنيعة ينطق بها السفهاء. ولذلك فسرت كلمة (فيسبوا الله عدواً بغير علم) بأنهم لا يسبونه سباً صريحاً، وإنما يتلون في الكتاب بهذه الطريقة، أي: أنهم يأتون بكلام يفضي إلى سب الله، كشتمهم له ولمن يأمره بذلك أيضاً، فيشتمك ويشتم من أمرك بأن تشتم هذه الآلهة أو أمرك بأن تعظه به، وهذا تفسير حسن جداً، كما يقول القاسمي . وقوله: (فيسبوا الله عدواً بغير علم) فيه احتمال آخر، وهو أن سب الله سبحانه وتعالى يقع منهم بالفعل، أي: يسبون الله مباشرة وهم يعلمون أنهم يحبون الله، مع أنهم في وقت آخر يزعمون تعظيم الله؛ لأن الغيرة والغضب ربما حملهم على سب الله صريحاً، ألا ترى المسلم الذي ينتسب إلى الإسلام قد تحمله شدة غضبه على التكلم بالكفر، وهذا شيء نراه، وهو يزعم أنه مسلم وأنه موحد وأنه يشهد الشهادتين، ومع ذلك ربما يتمكن منه الشيطان إذا غضب حتى إنه لينطق بكلمة الكفر الصريح ويسب الله عز وجل والعياذ بالله! فمن باب أولى أن المشرك الذي يعبد الأصنام إذا تملكه الغضب والحمية الجاهلية يسب الله سبحانه وتعالى صراحة، وإن زعم في وقت آخر أنه يعظم الله، وأنه إنما يعبد الأصنام لتقربه إلى الله زلفى. وقوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (عدواً) هنا مصدر، يعني: ظلماً وعدواناً. يقال: عدا عليه عدواً كـ (ضربه ضرباً)، ويقال: عدا عليه عُدُوَّاً وعداءً: إذا تعدى وتجاوز، وهو مفعول مطلق لـ(تسبوا) من معناه؛ لأن السب عدوان. فقوله: ( فيسبوا الله عدواً) أي: فيسبوا الله سباً، فعبر عن المفعول المطلق الذي هو السب بالعدوان؛ لأن السب نوع من العدوان، أو أنها مفعول له، أو حال مؤكدة، مثل (بغير علم). قال ابن الفرج في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا ولا دينهم. فمتى ما خفت وتوقعت من الكافر الذي تناظره أو تتعامل معه أنك إذا سببت آلهته أو أصنامه يرد عليك بأن يسب الله أو يسب الرسول عليه الصلاة والسلام أو يسب القرآن ففي هذه الحالة لا يجوز لك أن تسبهم، ولا أن تسب دينهم وآلهتهم.

الاستدلال بهذه الآية على قاعدة سد الذرائع

وهذه الآية أصل في قاعدة سد الذرائع، فقاعدة سد الذرائع الدليل الأصلي لها الذي تقوم عليها هو هذه الآية الكريمة: (( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )). وقال السيوطي : وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا يترك كل فعل مطلوب إذا ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه. وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن الحسن يصير قبيحاً إذا كان يحصل بفعله مفسدة. فلا يدفع الإنسان في هذه الحالة حسن النية، بل لابد مع حسن النية من بصيرة وحسن تقدير للعواقب، فالإنسان الذي يهجم على فعل أشياء دون النظر إلى العواقب لا يمدح، وإنما يكون مقصراً، فالفعل -حتى لو كان أصلاً جائزاً- إذا كان يترتب عليه مفسدة أشد من الفعل الذي ينهى عنه فمن الفقه أن لا يرتكب هذا الفعل الذي يؤدي إلى المفسدة الأقوى أو الأكبر. وقال الحاكم : نهوا عن سب الأصنام لوجهين: أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها. يعني: أن الصنم جماد؛ لأنه من حجارة أو خشب أو عجوة أو نحو ذلك، فالأصنام جمادات، فإذا سببتها فأنت تسب جمادات. الثاني: أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسب الله تعالى. وهذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفاً. وهل معنى ذلك أن تسكت عن عبادة الأصنام؟ الجواب: لا، وإنما لا تسب آلهتهم إذا كان يترتب على السب أن يقابلوا سبك بسب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام أو سب القرآن، لكن لا يعني ذلك أن تسكت عن بيان أنه لا يجوز عبادتها، وأنها لا تنفع ولا تضر ولا تستحق العبادة، فهذا كله ليس بسب، وليس بداخل في السب. ولهذا قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم صفين: لا تسبوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم. أي: اذكروا أفعالهم القبيحة.

ترك النهي عن المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر

قال الزمخشري : فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت: رب طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها؛ لأنها معصية لا لأنها طاعة؛ لأنها متى ما علم أنه يترتب عليها مفسدة فتخرج من حيز الطاعة إلى حيز المعصية، فيجوز أن ينهى عنها. يقول: كالنهي عن المنكر، بل هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، فوجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر. فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة، فرأى محمد -يعني: ابن سيرين - نساءً خرجن مع الجنازة فرجع محمد بن سيرين ، فقال: الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا يعني: هذا سيسقط علينا ديننا سريعاً، ويهلك ويضعف ديننا وإيماننا لو تركنا الطاعة لأجل المعصية. وقال -كما روي عنه أيضاً-: لا ندع حقاً لباطل. يعني: إذا كان أقرباء الميت -خاصة النساء- لا يراعون حرمات الله سبحانه وتعالى، فهل معنى ذلك أنك إذا مات أخوك المسلم الذي يرتكب أقاربه هذه المخالفات تقصر في حقه من اتباع جنازته أو الدعاء والاستغفار له؟! فهو ميت الآن وغير مكلف، وقد انتهى عمره، وطويت صحيفته، فبقي له عليك حق صلاة الجنازة وتشييعها والدعاء له والاستغفار... إلى آخره. فلو أننا -خاصة في مثل هذا الزمان- تركنا هذا الحق لأجل الباطل الذي طرأ، وهو خروج النساء أو حصول كثير من المنكرات في الجنائز الآن فمعنى ذلك أنه لن تشيع جنائز إلا في القليل النادر؛ لأن الناس الذين يلتزمون بالشرع قلة، وهل هناك أسرة تخلوا من أناس لا يلتزمون بالشرع؟ فيوجد من النساء من تخرج تصرخ أو تنوح، ويمكن أن يوجد من أقرباء الميت من يأتي بالزهور، وربما وقع أشد من ذلك من الأحوال المعروفة في الجنائز. فالمقصود من الكلام أننا لو تركنا الطاعة لأجل معصية لأسرع ذلك في ديننا، كما قال الحسن . فهذا الفعل الذي فعله ابن سيرين ليس مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل في الجنازة طاعة، وهل حضور مثل هذه الجنازة التي خرج فيها النساء يكون سبباً في خروج النساء؟ وهل علاقة الحضور بوجود النساء علاقة السبب بالمسبب؟ أي: هل كان وجود ابن سيرين في الجنازة هو السبب الذي أخرج النساء كي يشيعن الجنازة؟ وهل إذا تخلف ابن سيرين سيتخلف وجود النساء أم سيبقين في الجنازة؟ فإذاً: لا يجوز الربط بين هذه الحادثة وبين ما نحن بصدده الآن من كلام في معنى الآية؛ لأن سب المشركين نهي عنه؛ لأنه يكون سبباً في أن يسبوا الله، فإذا سكت عن سبهم سكتوا عن سب الله، وهل وجود هذا الرجل سبب في وجود النساء؛ بحيث إذا انتفى السبب ينتفي المسبب، بمعنى أنه إذا تخلف سينقطع هذا المنكر؟ الجواب: لا ينبغي قياس هذا على ذاك، ولا يقاس هذا الموقف على ما نحن بصدده في معنى الآية. فمن ثمَّ يقول الزمخشري : فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر، فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنها حضرا جنازة فرأى محمد نساءً فرجع، فقال الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل الجنازة طاعة، وليس سبباً لحضور النساء؛ لأنهن يحضرنهن، سواء حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة، وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله، حتى نبه عليه الحسن . انتهى كلام الزمخشري . فـابن سيرين اعتبر هذا الموقف مثل الموقف المذكور في الآية حتى نبه عليه الحسن وبين خطأه في ذلك. ومنه قال بعض مفسري الزيدية: واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة سواء فعل الحسن أم لا لم يسقط الواجب، لا يقبح الحسن. وقال الخفاجي : إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وكانت سبباً لها وجب تركها، بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها، وكثيراً ما يشتبهان، فلم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء، وخالفه الحسن للفرق بينهما. وقال الرازي : وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين؛ لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب؛ لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها. وهذا تنبيه مهم جداً، فليس معنى عدم سب الآلهة عدم بيان بطلان عبادتها، وأنها لا تستحق العبادة، وأنها لا تضر ولا تنفع، فهذا لابد منه، وهذا هو من التوحيد، وهذه هي الدعوة إلى الكفر بالطاغوت، لكن السب شيء وبيان بطلانها وعدم استحقاقها العبادة شيء آخر، فالنهي هنا عن سب الآلهة إذا كان يؤدي إلى سب الله سبحانه وتعالى. فإذاً: الذي يدعو الناس إلى الدين ينبغي أن لا يتشاغل بشيء لا يؤدي إلى فائدة مطلوب منه أن يحصلها. لكن يصف الأوثان بأنها جمادات، وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ولا تملك لهم شيئاً، مما يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة إلى سبها مادام عندنا الأدلة والحجة على إبطال استحقاقها للعبادة، فنحن بعد ذلك لا نحتاج إلى شتمها.

تزيين الباطل و سهولته على النفس

ثم قال تعالى: (( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ )) أي: كذلك زينا لكل أمة من الأمم الماضية الضلال. وقوله: (ثم إلى ربهم مرجعهم) يعني: بالبعث بعد الموت. قوله: (فينبئهم) يعني: يخبرهم بما كانوا يعملون في الدنيا، وذلك بالمحاسبة والمجازاة عليه. وقوله: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) يعني أن كل ما يظهر في هذه النشأة في الدنيا من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة. مثلاً: المعاصي هي سموم قاتلة، لكنها برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة، كما نطقت هذه الآية (كذلك زينا لكل أمة عملهم). فالمعاصي تظهر في هذه الدنيا بصورة غير صورتها الحقيقية عند هؤلاء العصاة، فأحدهم يعتبر أن تحصيل المعصية نوع من المكسب العظيم إن استطاع أن ينجز هذا الإنجاز وأن يحصل على هذا المكسب، مع أن المعاصي في الحقيقة هي سموم قاتلة، فبرزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة كما نطقت به هذه الآية الكريمة. وكذا الطاعات، مع أن الطاعات هي أحسن المحاسن، لكنها ظهرت عند هؤلاء بصورة مكروهة مستثقلة، فيكره أحدهم العبادة والطاعة، ويرى فيها مشقة وعبئاً عليه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) فقوله: (حفت الجنة بالمكاره) يعني الأشياء التي تشق على النفوس (وحفت النار بالشهوات) يعني أن دخول بابها سهل؛ لأن الشيطان يدعو إليه، والنفس تدعو إلى المعاصي والهوى. فعوامل التردي والهدم كثيرة جداً، والهوى يساعد على ذلك، أما الجنة فتحتاج إلى نوع من المجاهدة والمقاومة، فحفت الجنة بالمكاره التي لا تخلو من مشقة على النفس، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] والتكليف شاق على المكلف، والتكليف الشرعي داخل في معنى المشقة، لكنها مشقة تدخل في طوق الإنسان وفي قدرته، وليست المشقة غير الاعتيادية؛ لأنه إذا كانت المشقة غير اعتيادية فإنه يأتي معها تخفيف عن المكلف. لكن أي عبادة لا تخلو من مشقة، فالصيام فيه مشقة، والصلاة فيها مشقة، والوضوء فيه مشقة، لكن هذه المشقة تدخل في استطاعة الإنسان، فهو مكلف بأن يتحمل هذه المشقة وهذه المكاره. فإذاً: الأعمال التي يعملها الكفرة برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة تستحسنها الغواة، وتستحبها الطغاة، لكنها في النشأة الآخرة ستظهر بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة، فعند ذلك يعرفون حقيقة هذه الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا، فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها. قوله: (فينبئهم بما كانوا يعملون) يعني: يظهرها لهم في صورتها الحقيقية حتى يعلموا حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا، وأنها إنما زينت لهم هذه المعاصي، وهذا هو سبب عدم توبة أكثر الناس؛ لأنهم يرون الأشياء على غير حقيقتها. كما قال تبارك وتعالى: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة:37] وقال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، وهذا كحال الكافر والمبتدع، فأحدهما يرى الشيء القبيح حسناً، فإذا رآه حسناً هل يتصور أنه يتوب منه؟ لا يتصور؛ لأنه يراه حسناً، ولذا لن يفكر في التوبة. فمن ثمَّ قال بعض السلف: ليس لصاحب بدعة توبة. بمعنى أنه يستحسن البدع، ويراها بصورة حسنة، فكيف يتوب؟ فمن ثمَّ لا ترجى له توبة، بخلاف العاصي، فإن أمره أخف؛ لأن العاصي، الموحد يرى معاصيه فيبغضها، لكن الهوى يغلبه، فمن ثمَّ يرجى له التوبة، أما المبتدع فقد زين له سوء عمله فرآه حسناً. وقد قال تعالى في اليهود الذين عبدوا العجل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] يعني: تغلغل حب العجل في قلوبهم على أنه هو إلههم، وتخلل في قلوبهم حبه حتى أشربوه، وتشبعوا به، فصاروا يحبونه حباً ملك عليهم كيانهم. قيل لـسفيان الثوري رحمه الله: ما بال أهل الأهواء شديدو المحبة لأهوائهم؟ فقال: ألم تر إلى قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93]؟ فلا تعجب إذا رأيت صاحب مبدأ هدام أو مبدأ ضال أو عقيدة إلحادية أو شركية أو كفرية وهو سعيد جداً بما هو عليه؛ لأنه زين له سوء عمله، والشيطان يزين له هذه الأشياء، فهو يعتقد أنه على الحق، وأنه على الصواب، وأنه مستعد لأن يضحي بروحه في سبيل نصرة هذه الباطل الذي هو عليه.

وهذه الآية أصل في قاعدة سد الذرائع، فقاعدة سد الذرائع الدليل الأصلي لها الذي تقوم عليها هو هذه الآية الكريمة: (( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )). وقال السيوطي : وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا يترك كل فعل مطلوب إذا ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه. وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن الحسن يصير قبيحاً إذا كان يحصل بفعله مفسدة. فلا يدفع الإنسان في هذه الحالة حسن النية، بل لابد مع حسن النية من بصيرة وحسن تقدير للعواقب، فالإنسان الذي يهجم على فعل أشياء دون النظر إلى العواقب لا يمدح، وإنما يكون مقصراً، فالفعل -حتى لو كان أصلاً جائزاً- إذا كان يترتب عليه مفسدة أشد من الفعل الذي ينهى عنه فمن الفقه أن لا يرتكب هذا الفعل الذي يؤدي إلى المفسدة الأقوى أو الأكبر. وقال الحاكم : نهوا عن سب الأصنام لوجهين: أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها. يعني: أن الصنم جماد؛ لأنه من حجارة أو خشب أو عجوة أو نحو ذلك، فالأصنام جمادات، فإذا سببتها فأنت تسب جمادات. الثاني: أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسب الله تعالى. وهذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفاً. وهل معنى ذلك أن تسكت عن عبادة الأصنام؟ الجواب: لا، وإنما لا تسب آلهتهم إذا كان يترتب على السب أن يقابلوا سبك بسب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام أو سب القرآن، لكن لا يعني ذلك أن تسكت عن بيان أنه لا يجوز عبادتها، وأنها لا تنفع ولا تضر ولا تستحق العبادة، فهذا كله ليس بسب، وليس بداخل في السب. ولهذا قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم صفين: لا تسبوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم. أي: اذكروا أفعالهم القبيحة.