خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/1538"> صفحة د. مساعد الطيار . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/1538?sub=5010"> شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [10]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى: [ وقال في قوله: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل:44]: الصرح: نفس الطبع، والممرد: الهوى إذا كان غالباً ستر أنوار الهدى، بالترك من الله تعالى العصمة لعبده.
وفي قوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52]؛ أي: قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون، والبيوت القلوب، فمنها عامرة بالذكر، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر.
وفي قوله: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50]؛ قال: حياة القلوب بالذكر، وقال في قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم:41].. الآية: مثل الله القلب بالبحر، والجوارح بالبر، ومثله أيضاً بالأرض التي تزهى بالنبات، هذا باطنه.
وقد حمل بعضهم قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة:114] على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله.
ونقل في قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] أن باطن النعلين هو الكونان: الدنيا، والآخرة؛ فذكر عن الشبلي أن معنى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12]: اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية، وعن ابن عطاء : فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] عن الكون؛ فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب، وقال: النعل: النفس، والوادي المقدس: دين المرء، أي: حان وقت خلوك من نفسك، والقيام معنا بدينك، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف.
وهذا كله إن صح نقله خارج عما تفهمه العرب، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه، ولقد قال الصديق : أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وفي الخبر: ( من قال في القرآن برأيه فأصاب؛ فقد أخطأ ).
وما أشبه ذلك من التحذيرات، وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء، وربما ألم الغزالي بشيء منه في الإحياء وغيره، وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم، فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين: منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره، ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه فربما كذب به أو أشكل عليه، ومنهم من يكذب به على الإطلاق، ويرى أنه تقول وبهتان، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم، وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف، ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقدم أصل مسلم، يتبين به ما جاء من هذا القبيل ].
هذه الأمثلة التي ذكرها هي متممة للأمثلة السابقة، وما قيل في الأمثلة السابقة يقال هنا، فبعضها قد يكون مقبولاً من جهة، وبعضها قد يكون مردوداً من جهة؛ فلو أخذنا مثلاً قوله سبحانه وتعالى كما في المثال الأول: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل:44]، لو أردنا أن نضع رابطاً بين ألفاظ الآية وما ذكره من الإشارة المذكورة، لو تأملناها فإننا لا نجد فيها أي تقارب من أي جهة كانت، ولو حتى من وجه ضعيف؛ فمثل هذا لا شك أنه لا يقبل.
وفي المثال الآخر: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52]، قال: "أي: قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون.. " فجعلها هي البيوت، وقال: "والبيوت: القلوب: فمنها عامرة بالذكر، ومنها خراب بالغفلة عن ذكر الله.. " قال: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52]؛ فلذلك جعل البيوت مثالاً للقلوب، وما تحويه هذه القلوب مثال للعمل، فإن كان عملاً باطلاً فهي خاوية، وإن كان عملاً حقاً فإنها عامرة.
فإن كان عامراً بطاعة الله كان كالبيت العامر بسكانه، وإن كان خراباً فهو كالقلب الخراب بالمعصية فهذا فيه نوع من المشابهة.
لكن الآية لا تدل عليه بأي وجه من الوجوه.
فإذا تأملنا المعنى المذكور من حيث هو، يعني لو وعظ واعظ، مثلاً فقال: يا أيها الناس! إن هذه القلوب كالبيوت فبيت عامر بسكانه كقلب عامر بطاعة الله، وبيت خراب خاو من سكانه كقلب خاو من طاعة الله، كلام عام، فهذا الكلام مقبول وصحيح، لكن لما نقول: إن قوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52] يدل على هذا المعنى، فهذا فيه إشكال، والذي دعا سهل بن عبد الله أن يذكر هذا المعنى وهذا نوع دقيق مما يتعلق بالتفسير الإشاري هي قضية المقايسة والمشابهة، بمعنى أن التقسيم المذكور في الآية يشبه هذا الذي ذكره هو، لكن لا يعني أن الآية دلت عليه بأي وجه من الوجوه، ومثله تماماً ما ذكره في قوله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، قال: أهل البدع يخربون قلوبهم ببدعهم، فلو نظرنا إلى الكلام من حيث هو وهو أن أهل البدع يخربون قلوبهم ببدعهم فإن هذا كلام صحيح.
المرحلة الثانية ننظر: هل الآية في قوله سبحانه وتعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، دلت على هذا المعنى الذي ذهب إليه سهل بأي وجه من وجوه الدلالة؟
الجواب: لا، لكن لما ننظر وجه المشابهة، في قول الله سبحانه وتعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، فإنه يشبه عمل أهل البدع بإخرابهم قلوبهم ببدعهم، فإيراده لهذا الكلام ضمن هذه الآية من باب المقايسة؛ ولا يدخل ضمن التفسير المعروف، الذي هو التفسير الظاهر، ولا أيضاً يدخل ضمن أي نوع من أنواع الروابط التي تربط بين الآيات بإشارة أو فحوى أو غيره؛ فبينهما انفصال تام، لكن هذا مما يرد عند الصوفية ويذكرونه. وكما قلت: قدر يرد أيضاً عند غير الصوفية ممن يتعاطى الاستنباط، مثل: التربويون، والوعاظ.. وأحياناً قد يكون مقايسات عند الفقهاء، لكن في النهاية كل هذا ينظر فيه إلى ما سبق أن قررته في النظر إلى أصل الكلام، هل هو حق أم لا؟
فإذا كان حقاً ننظر هل دلت الآية عليه بوجه من وجوه، حتى ولو كان ضعيفاً؟
فإن دلت عليه بوجه من الوجوه فله ارتباط بالآية، فإن لم تدل عليه فإننا نقول: هذا كلام صحيح، لكن الآية لا علاقة لها بهذا الكلام.
فإن قيل: إن سهلاً في الأمثلة السابقة يقتطع الآية عن سياقها.
فيقال: هذا له أصل عند السلف الصالح.
فلو رجعنا إلى قول الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، فهذا مقطع في آية ومع ذلك قال عنه أبو أمامة الباهلي ؟ قال: هم الخوارج، مع أن الآية نزلت في سياق بني إسرائيل، الذين هم اليهود، فـأبو أمامة رحمه الله تعالى اقتطع هذا وجعله في الخوارج.
وكذلك عمر لما قال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، اقتطع.
إذاً فكرة اقتطاع جزء من الآية والتعليق عليها هذا موجود في عمل السلف، لكن ننظر هل هو من باب التفسير، أو من باب الاستنباط؟ وهنا فرق دقيق ويمكن أن نركب عليه قاعدة، فنقول:
التفسير مرتبط بالسياق، والاستنباط يمكن أن يكون من جزء من الآية، وهذه قاعدة مهمة ينتبه لها وهي: إذا أردنا أن نفسر فنحن ملزمون بالسياق؛ لأن القضية فهم المعنى، وفهم المعنى لا بد أن يكون أن من خلال السياق، وأي معنى لا يتناسب مع السياق فإما أن يكون باطلاً، وإما أن يكون استنباطاً، إما أن يكون باطلاً، يعني: ضعيف، وإما أن يكون استنباطاً.
وأخذنا هذه القاعدة من استقراء السلف، فلا نجد في تفسير السلف تركيب أجزاء من الآية من جهة التفسير، وإنما من جهة الاستنباط، والاستنباط باب واسع، فعندنا مثلاً في قضية الاستنباط تنزيل الآيات على واقع الإنسان، فهذا نعتبره جزءاً من الاستنباط، والاستشهاد جزء من الاستنباط؛ لأن فيه نوعاً من مقايسة، فحاله هذه قد تتناسب مع هذا المقطع من الآية مثل ما فعل عمر بن الخطاب ، فإذاً لا يؤتى على عمل سهل هذا أو غيره من هذا الباب، نقول: لأن سهلاً أو غيره من الصوفية الذين ينحون هذا المنحى بابهم باب الاستنباط وليس باب التفسير.
كذلك تفسير قوله: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50]، قال: "حياة القلوب بالذكر.. " فجعل الأرض مثلاً للقلب، وجعل حياة هذا المطر مثلاً للذكر، وهو نفس الفكرة السابقة؛ فالمعنى الذي ذكره صحيح، لكن الآية لا يلزم أنها تدل عليه.
أيضاً: المثال الآخر في قوله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم:41]، وأيضاً: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة:114]، كل هذه معان صحيحة، لكن الآية لا تدل عليها مباشرة.
أما المثالين الأخيرين في قوله: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12]، قال: إن باطن النعلين، الذي هو التفسير الباطني الآن الذي هو غير الظاهر، قال: هو الكونان: الدنيا والآخرة، يعني كأنه يقول: "اخلع الدنيا والآخرة من قلبك".
ننظر إلى قوله: "اخلع الدنيا والآخرة من قلبك" نجد هذا المعنى غير صحيح وغير موافق للشريعة؛ ولهذا هذه المنزلة عند الصوفية يرون فيها كما روي عن رابعة العدوية وغيرها، الذي قال: "عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك" وهذا غير صحيح، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر وأعظم من مشى على الأرض، وأفقه من فقه عن ربه كان يسأل ربه الجنة، ويستعيذ بالله من النار؛ فإن كان هو صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؛ فلا يفعله عبثاً أبداً، وإنما يفعله طاعة وقربة لله، ويخاف مثل ما يخاف غيره من ربه سبحانه وتعالى؛ ولذا هو أخوف الناس من الله وأتقى الناس لله سبحانه وتعالى.
فإذاً كلامه هنا رحمه الله تعالى الذي هو الشبلي هذا، أن تخلع الدنيا والآخرة من قلبك، هذا معنى مخالف للشريعة؛ فما دام معنى مخالفاً للشريعة، فالقرآن لا يدل عليه بحال، وهذه قاعدة ذكرناها سابقاً، وهي: أن أي معنى باطل فإن القرآن لا يمكن أن يدل عليه بحال.
كذلك ما ذكره عن الشبلي ، قال: "اخلع الكل منك؛ تصل إلينا بالكلية".. وهنا فائدة ننتبه إليها: إنه مما يلاحظ أن عبارات الصوفية أحياناً فيها غموض شديد، وهي مرتبطة بالمصطلحات الخاصة بهم؛ بحيث إنك تحتاج إلى أن تستفهم ما مراد الشبلي بخلع الكل؟ وما مراده بالوصول إلى الله سبحانه وتعالى بالكلية؟ فلا يمكن أنت أن تحكم حكماً دقيقاً على هذا هل هو صحيح أو باطل إلا بالتعرف على المرادات والمصطلحات، ومن قرأ في كتاب أبي عبد الرحمن السلمي يجد هذا النوع من التفسير، الذي هو مرتبط بالمصطلحات، فعلى القارئ أن يفهم ماذا يريد هذا، لكن نحن لما ننظر إلى الكلام إن كان: "اخلع الكل منك.." إذا كان شبيهاً بخلع الدنيا والآخرة؛ فهو معنى باطل؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يخلع الكل منه، ولا حتى المتصوف لو زعم هذا فلا يمكن، بدلالة أنه لا يمكن أن ينفرد بنفسه في هذا العالم فلا يحتاج أحداً، يعني: لا يحتاج أحداً أن يسقيه، ولا يحتاج أحداً أن يعينه في أي شيء، هذا مستحيل! ومما يدل على هذا أن هذا المعنى فيه إشكال وهو باطل، فهو باطل واقعاً وباطل شرعاً.
كذلك ما قال عن ابن عطاء قال: "اخلع نعليك عن الكون؛ فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب" وقال: "النعل: النفس، والوادي المقدس: دين المرء، أي: حان وقت خلوك من نفسك والقيام معنا بدينك.. " هذا الكلام قد يكون حقاً من جهة، وقد يكون باطلاً من جهة، مع أن الآية لا تدل عليه، فليس بينه وبين الآية دلالات، لكن قوله الأول الذي هو: فلا تنظر بعد هذا الخطاب هو نفس الكلام فيما سبق، إنه غير ممكن.
أما إذا كان قال: "النعل: النفس، والوادي المقدس: دين المرء، أي: حان وقت خلوك من نفسك والقيام معنا بدينك.. " فهذا صحيح، لكنه لا يعني أن الإنسان منقطع انقطاعاً تاماً؛ لأن هذا لا يتأتى.
فإذاً نلاحظ أن مثل هذه الأمثلة التي ذكرها الإمام رحمه الله تعالى أن بعضها مقبول ومحتمل والآية تدل عليه، يعني في بينه وبين الآية دلالة، وبعضها مقبول من حيث هو لكنه مردود من حيث ربطه بالآية، وبعضها غير مقبول لا من جهة المعنى فهو باطل، ومن باب أولى من جهة ربطه بالآية؛ فهذه الأقسام الأوائل التي ذكرها ممكن تنقسم على هذه الأقسام الثلاثة، وهي تشمل جميع ما يتعلق بالتفسير الإشاري، سواءً ما ذكر هو أو غيره.
قال: "وهذا كله إن صح نقله.." يعني عن سهل أو عن غيره " خارج عما تفهمه العرب، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه.. " وذكر كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
جلالة القائل ليست سبباً في تبرير أقواله
الإشكالية التي هنا: أن الشاطبي رحمه الله تعالى في الفصل الذي لم نقرأه، المتعلق بوضع الشريعة للأفهام، وقوله: إن هذه الأمة أمية وأن الشريعة أمية عربية، تقريره هناك لا يتناسب مع ما ذكره هنا من محاولة قبول ما يقوله أهل التصوف؛ لأنه لما ذكر هذا الكلام أراد أن يعتذر، فقال: (وإنما احتيج إلى هذا كله..) يعني الذي هو التعليل لهم، قال: (لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء..) وهذه إشكالية، بمعنى أننا الآن هل نحن محتاجون للاعتذار عما يحمل به هؤلاء كتاب الله، أو نحن محتاجون إلى معرفة العلم الصحيح ورد ما سواه؟! الذي نحتاجه هو الثاني في الحقيقة، وهذه قاعدة مهمة جداً، بمعنى: إنه يجب أن نفرق بين جلالة من قال بالقول، وكوننا نقول: إن هذا القول خطأ؛ فتخطئته لا يعني ذمه مطلقاً، وأنا أستغرب جداً من الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا الموقف، فالتصوف مخالف لمنطقه الفكري والعقلي فيما يتعلق بالبدع لما كتب الاعتصام، أو فيما يتعلق بتقريره قضية أمية الشريعة، وكيف أنه ترك تقريره في أمية الشريعة -الذي قرره- وحاول أن يقبل أقوال هؤلاء، مع أنها مخالفة، والعلة التي ذكرها هي مجرد جلالة هؤلاء، ولا تكفي في قبول أقوالهم؛ لأنا نعلم أنهم غير معصومين، وهذه قاعدة مقررة، إنما المعصوم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع، فلو أجمعت الأمة على أمر ما فهذا إجماع معصوم، أما قول فلان وفلان.. مهما بلغوا مبالغهم من الزهد والعبادة فلا يعني أن نعتذر بأقوالهم بهذا الاعتذار، إن استطعنا أن نخرجه ونحمله على المحمل الحسن فعنم، لكن إن لم نستطع ذلك فنقول عنه: قول خطأ، وليس هناك أي إشكال ولا غضاضة.
وأعيد وأزيد في هذه القاعدة أن تخطئة عالم من العلماء أو أحد من الفضلاء الزهاد والعباد لا يعني ذمه مطلقاً، وإنما يعني أن هذا القول فيه إشكال؛ ولهذا ذكر كلام الغزالي ، والحقيقة أن الغزالي في كتابه" الإحياء" أو " جواهر القرآن" وغيره، قال بأشياء واضحة وصريحة البطلان فكوننا نقول: هذا الذي قاله الغزالي رحمه الله تعالى خطأ، لا يعني أنا نقول: إن الغزالي كله خطأ، وإنما كلامه عن هذه القضية أو هذه الحيثية، لكن قد يأتي من يقول: أنت لم تفهم كلامه وهذا لا يفهمه إلا أهل الحقائق، أما أنتم يا أهل الفقه والظاهر لا تفهمون هذا الكلام؛ نقول: هذه دندنة معروفة منذ زمن عند المتصوفة، ويزعمون أن مثل هذا الكلام لا يفهمه إلا أرباب السلوك، وهذا في الحقيقة لا شك أنه خلل في قضية التفكير، ونلاحظ أن الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى قد كرر في أكثر من مرة التنبيه على فهم السلف، وهل هو وارد عند السلف أو غير وارد، وهذا لا شك إنه أحد الموازين التي يوزن بها كلام المتأخرين.
الإشكالية التي هنا: أن الشاطبي رحمه الله تعالى في الفصل الذي لم نقرأه، المتعلق بوضع الشريعة للأفهام، وقوله: إن هذه الأمة أمية وأن الشريعة أمية عربية، تقريره هناك لا يتناسب مع ما ذكره هنا من محاولة قبول ما يقوله أهل التصوف؛ لأنه لما ذكر هذا الكلام أراد أن يعتذر، فقال: (وإنما احتيج إلى هذا كله..) يعني الذي هو التعليل لهم، قال: (لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء..) وهذه إشكالية، بمعنى أننا الآن هل نحن محتاجون للاعتذار عما يحمل به هؤلاء كتاب الله، أو نحن محتاجون إلى معرفة العلم الصحيح ورد ما سواه؟! الذي نحتاجه هو الثاني في الحقيقة، وهذه قاعدة مهمة جداً، بمعنى: إنه يجب أن نفرق بين جلالة من قال بالقول، وكوننا نقول: إن هذا القول خطأ؛ فتخطئته لا يعني ذمه مطلقاً، وأنا أستغرب جداً من الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا الموقف، فالتصوف مخالف لمنطقه الفكري والعقلي فيما يتعلق بالبدع لما كتب الاعتصام، أو فيما يتعلق بتقريره قضية أمية الشريعة، وكيف أنه ترك تقريره في أمية الشريعة -الذي قرره- وحاول أن يقبل أقوال هؤلاء، مع أنها مخالفة، والعلة التي ذكرها هي مجرد جلالة هؤلاء، ولا تكفي في قبول أقوالهم؛ لأنا نعلم أنهم غير معصومين، وهذه قاعدة مقررة، إنما المعصوم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع، فلو أجمعت الأمة على أمر ما فهذا إجماع معصوم، أما قول فلان وفلان.. مهما بلغوا مبالغهم من الزهد والعبادة فلا يعني أن نعتذر بأقوالهم بهذا الاعتذار، إن استطعنا أن نخرجه ونحمله على المحمل الحسن فعنم، لكن إن لم نستطع ذلك فنقول عنه: قول خطأ، وليس هناك أي إشكال ولا غضاضة.
وأعيد وأزيد في هذه القاعدة أن تخطئة عالم من العلماء أو أحد من الفضلاء الزهاد والعباد لا يعني ذمه مطلقاً، وإنما يعني أن هذا القول فيه إشكال؛ ولهذا ذكر كلام الغزالي ، والحقيقة أن الغزالي في كتابه" الإحياء" أو " جواهر القرآن" وغيره، قال بأشياء واضحة وصريحة البطلان فكوننا نقول: هذا الذي قاله الغزالي رحمه الله تعالى خطأ، لا يعني أنا نقول: إن الغزالي كله خطأ، وإنما كلامه عن هذه القضية أو هذه الحيثية، لكن قد يأتي من يقول: أنت لم تفهم كلامه وهذا لا يفهمه إلا أهل الحقائق، أما أنتم يا أهل الفقه والظاهر لا تفهمون هذا الكلام؛ نقول: هذه دندنة معروفة منذ زمن عند المتصوفة، ويزعمون أن مثل هذا الكلام لا يفهمه إلا أرباب السلوك، وهذا في الحقيقة لا شك أنه خلل في قضية التفكير، ونلاحظ أن الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى قد كرر في أكثر من مرة التنبيه على فهم السلف، وهل هو وارد عند السلف أو غير وارد، وهذا لا شك إنه أحد الموازين التي يوزن بها كلام المتأخرين.
قال رحمه الله: [ وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف؛ فلا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم، يتبين به ما جاء من هذا القبيل؛ فنقول:
الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر إذا صحت على كمال شروطها؛ فهي على ضربين:
أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن، ويتبعه سائر الموجودات؛ فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه حجب الأكوان من غير توقف، فإن توقف؛ فهو غير صحيح أو غير كامل، حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك.
والثاني: ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها، ويتبعه الاعتبار في القرآن.
فإن كان الأول فذلك الاعتبار صحيح، وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال؛ لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن، وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين، وبحسب التكاليف وأحوالها لا بإطلاق، وإذا كانت كذلك فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم، ولأن الاعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملاً به على تقليد أو اجتهاد، فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه، ويلزم من ذلك أن يكون معتداً به لجريانه على مجاريه، والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه، فإنه كله جار على ما تقتضي به العربية، وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل ].
نلاحظ أنه ما زال يريد أن يصحح ما يرد عن الصوفية من هذه الأمثلة، وذكر أن الذي يرفع الإشكال فيما تقدم هو المسألة العاشرة التي ناقشها في قضية الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر.
طبعاً هو في النقطتين الأوليين فيها نوع من الغموض والإشكال؛ لأنها أيضاً نفس القضية مشت على مصطلحات لم يبين مراده بها، كيف أن يكون: "أصل انفجاره من القرآن.. " الذي هو الاعتبار "ويتبعه سائر الموجودات؛ فإن الاعتبار الصحيح في الجملة والذي يخرق نور البصيرة فيه حجب الأكوان من غير توقف، وإن توقف فهو غير صحيح.. " هذا الكلام فيه غموض، لكن لما أراد أن يشرح الأول فهو واضح جداً منه أنه يريد أن يقول: إننا نستنبط من القرآن مباشرة، يعني القسم الأول من الاعتبارات أن ننظر إلى النص القرآني ونستنبط منه مباشرة، وهذا هو منهج السلف الصالح، الذي هو: اعتماد النص القرآني والانطلاق منه إلى الاستنباط.
على سبيل المثال: المثال الذي أيضاً سبق أن ذكرناه في استنباط ابن عباس رضي الله عنه وموافقة عمر له في أن سورة النصر فيها إشارة إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يدخل في باب الاستنباط، وهو يدخل في القسم الأول الذي هو معتبر.
إذاً نقول: إذا انطلقنا من القرآن إلى الاستنباط فهذا هو الصحيح وهو الاعتبار المحتمل، وهذا عليه أمثلة كثيرة جداً، مثل ما ذكر هو أنه أصل فهم السلف، على ما تقتضيه اللغة العربية، وأنت إذا جئت بأي استنباطاً من هذا فإنه سيكون صحيحاً، مثل ما ذكر بعضهم في قوله سبحانه وتعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، الذي هو الكتاب المكنون؛ فقالوا: أيضاً إن حلاوة هذا القرآن وذوقه وفهمه لا تدركه إلا القلوب الطاهرة من المعاصي، فهذا نوع من الإشارة، وهو مستنبط من القرآن.
سنأتي الآن إلى القسم الثاني الذي تنعكس فيه القضية، ينطلق من الموجود إلى القرآن، الأول: ينطلق من القرآن إلى الموجود، والثاني: ينطلق من الموجود إلى القرآن، الذي عبر عنه: " أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها، ويتبعه الاعتبار في القرآن" فهو في الأول جعل الأصل القرآن والاستنباط تابع له، وفي الثاني: جعل القضية الخارجة أصل ثم بحث لها عن اعتبار في القرآن.
قال رحمه الله: [ وإن كان الثاني فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن لازم، وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع؛ لأنه بخلاف الأول فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن، فنقول:
إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني، وهو الوجودي، ويصح تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي أيضاً، فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص، فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه المربي، وهو أمر خاص، وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع، فلذلك يوقف على محله، فكون القلب جاراً ذا قربى، والجار الجنب: هو النفس الطبيعي، إلى سائر ما ذكر، يصح تنزيله اعتبارياً مطلقاً، فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جداً عند أربابه، غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ.
وأيضاً فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد، وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآني والوجودي، وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك، سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه، ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم.
و للغزالي في "مشكاة الأنوار" وفي كتاب الشكر من "الإحياء" وفي كتاب "جواهر القرآن" في الاعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة، فتأملها هناك، والله الموفق ].
كما نلاحظ أن الإمام رحمه الله تعالى في هذا النوع الثاني من باب تخريج أقوال هؤلاء الفضلاء؛ رعاية لفضلهم؛ فقدم رعاية فضل هؤلاء على رعاية القضية العلمية، وهذا لا شك أنه مشكل.
فلم يذكر مثالاً إلا ما ذكره في الجار الجنب، لكن لعلي أذكر مثالاً قد يكون أوضح:
بعض المفسرين وهذا ذكره الكرماني في " غرائب التفسير" وأيضاً ذكره شيخ الإسلام في المقدمة في أصول التفسير، قال: " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]: أبو بكر ، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح:29]: عمر ، رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]: عثمان ، تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح:29]: علي " وهذا الذي أورده شيخ الإسلام و الكرماني أورد أيضاً الأخرى بقية العشرة.
فكيف نفهم هذه القضية بقضية الوجود؟ بمعنى أنه إذا نظرنا إلى الموجود، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( عشرة في الجنة.. ) ثم قال: ( أبو بكر في الجنة، و عمر في الجنة .. )، إلى آخره، هذا الآن نظر إلى هذا الأمر الموجود، ولما قرأ في هذه الآيات وجد هذه المتعاطفات فحملها على الموجود، فهو الآن انطلق من الموجود وحمل الآيات عليها.
كذلك الآن المتصوفة عندهم مصطلحاتهم وعندهم تقسيماتهم؛ فانطلقوا من تقسيماتهم وحملوا آيات القرآن عليها، فهذا العمل من حيث هو لا يصح، سواءً كان باسم التصوف أو بغير اسم التصوف، فالانطلاق من هذه الأمثلة أو من هذه القضايا الوجودية إلى القرآن لا تصح، وبهذا نعلم أن كثيراً مما يتعلق بقضية الأعداد هي تدخل في هذا الصنف، فهي قضايا وجودية، ثم يبحث لها عن ما يصححها من القرآن.
فإذا هذه كما قال هو: مزلة قدم، لكن لا يعني ذلك أننا كما ذهب هو رحمه الله تعالى نعتذر لهؤلاء، ونجعل أن هذا لا يفهمه قوم وفهموه هم، هذا ليس بصحيح؛ لأن الشريعة كما قال هو: وضعت للإفهام؛ فإذا كان هؤلاء يخالفون الوضع الميسر في الشريعة، فمعنى ذلك أنهم جاءوا بشيء جديد لا يمكن إدراكه، وهو كما قال: لم يكن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كان عليه عمل السلف الصالح، وقد جعل من شروط قبول الأمر: أن يكون جرى عليه عمل السلف الصالح، بل هو أشار كما سبق وذكرنا في قضية أنواع العلوم من القرآن أن يكون له ذكر في كلام السلف، يعني: أن يكون السلف قد اعتنوا به، فإذا كان هو في أكثر من موطن يقرر قضية فهم السلف، في المقدمات التي ذكرها، وفي ثنايا هذا الكتاب في أكثر من موطن، فنلاحظ إشكالية وهي: لما جاء عند هذا الموطن اختل عنده قضية الوزن، فبدلاً من أن يدخل هؤلاء في القاعدة الكلية التي قررها أخرجهم بلا دليل، فخصص هؤلاء من القاعدة التي نذكرها بلا دليل، بل مجرد رعاية لجناب هؤلاء، وهذا ليس هو الصواب في العلم، بل الصواب في العلم هو حفظ حقوق هؤلاء من جهة فضلهم، ولكن لا يعني قبول ما قالوه من أخطاء؛ فالصحابة وهم الصحابة فيما بينهم كان يقع بينهم هذا، ومع ذلك يردون على الخطأ، ولكن يبقى بينهم ما يبقى من الود والاحترام، لكن أن نقبل قول فلان؛ لأنه قاله الغزالي ؛ فهذا لا يوجد في الشريعة، ولا يقبل إلا لأنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يقبل لأنه قول سهل أو لأنه قول الجنيد أو لأنه قول فلان، إنما نقول: يقبل لأنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم، أما من دونه فلا بد فيه من الاحتجاج، فكل من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يحتج له ولا يحتج به.
قال رحمه الله: [ فصل:
وللسنة في هذا النمط مدخل، فإن كل واحد منهما قابل لذلك الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد، وقابل أيضاً للاعتبار الوجودي، فقد فرضوا نحوه في قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ).. إلى غير ذلك من الأحاديث، ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب ].
فقالوا في: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ) جعلوا البيت القلب فلا تدخله الطاعات مثل ما فعلوا في القرآن فعلوا في الأحاديث، لكن فعلهم في القرآن أكثر.
قال رحمه الله: [ المسألة الحادية عشرة:
المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله.
وأول شاهد على هذا أصل الشريعة؛ فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق، ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام، ويليه تنزيل سورة الأنعام، فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين، وقد خرج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة، هذا ما قالوا.
وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب؛ تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية، التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كلي.
ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام، فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبين في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي: قواعد الإسلام، والعادات: من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات: من البيوع والأنكحة وما دار بها، والجنايات: من أحكام الدماء وما يليها.
وأيضاً فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها، وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها، كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنياً عليها، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك، حذو القذة بالقذة، فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى، فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه ].
فائدة معرفة المكي والمدني
المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، هذه قاعدة، نستفيد منها في باب الأحكام وفي باب التفسير، نأخذ أولاً باب الأحكام، سواء كانت أحكاماً عقدية أو أحكاماً فقهية عملية، فلا شك أن المدني منزل في الفهم على المكي، وكذلك المكي المتأخر منزل على المكي المتقدم، والمدني أيضاً المتأخر منزل على المدني المتقدم، وهذا نستفيده في باب الأحكام من جهتين: من جهة التدرج في الأحكام، ومن جهة النسخ، يعني نستفيد من قضية أن المتأخر مبني على المتقدم، هذا من جهة الأحكام.
لكن من جهة المعاني، يعني من جهة التفسير، هل يلزم أن يكون التفسير مبنياً على هذا؟ نأخذ مثال؛ ليكون فيه تصور.
الآن قوله سبحانه وتعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10] هذه وردت في سورة الأحقاف، وسورة الأحقاف مكية، فبعض السلف قال: نزلت في عبد الله بن سلام ، الآن إذا قلنا: إن الآية مكية باتفاق -على سبيل المثال- وقيل: إنها نزلت في عبد الله بن سلام ، فهذا لا يصح مطلقاً؛ لأنه أسلم في المدينة، بلا شك.
ويصح أن نحمل الحدث المدني على آية مكية أو الحدث المكي المتقدم على آية مدنية متأخرة من باب التفسير، وشاهد ذلك هو مرتبط بقضية التأويل، مفهوم التأويل، الذي هو وقوع الحقائق، فقوله سبحانه وتعالى في سورة القمر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]، كان عمر يقول: كنت أقول: أي جمع سيهزم؟! حتى حدثت غزوة بدر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نزل في درعه وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] )؛ فنبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه الآية لما نزلت في مكة تأويلها إنما وقع في المدينة، لما نجمع هذه الفكرة عموماً، فمثل هذا المثال وغيره نجد أنه في باب التفسير والاستنباط الأمر أوسع من هذه الجهة، فإنه يجوز حمل المكي على المدني والمدني على المكي؛ لأن المراد بيان المعنى.
أما إذا جاءت قضية الأحكام العملية؛ فهذه لا بد من حمل المدني على المكي، أو قضية التدرج في التشريع؛ فهذا لا بد من حمل المكي على المدني، ولهذا نلاحظ أنه يكثر في القرآن المكي الأمر: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر وتحمل الأذى الذي يأتيه من الكفار، ولما جاء القرآن المدني، وشرع الجهاد، صار يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم برد الاعتداء.
فما نأخذه من هذه الآيات أنها من باب التدرج، فلا يكون هناك أي إشكال، ولا نحتاج إلى قضية النسخ، حيث يقول بعضهم مثلاً: إن آية السيف نسخت كذا.. وهذا لا نحتاجه، إنما نقول: هذا إنما هو تدرج، الحال في مكة غير الحال في المدينة، ونحن نعلم أنه قد فرضت فرائض في مكة وأتم تشريع بقية الفرائض في المدينة، وفيها كمل الدين؛ لما قال الله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، لكن لم تشرع كلها مرة واحدة، كما أخبرت عائشة في قضية تشريع تحريم الخمر، وإنما جاء بالتدرج، وغيره قس عليه، حتى قيل في صوم رمضان: لم يشرع دفعة واحدة، وإنما شرع بادي الأمر تخييراً، أن من أراد أن يصوم فليصم، ومن أراد أن يفطر فعليه أن يطعم بدل ذلك اليوم.
المقصد من ذلك أن الفكرة التي طرحها الشاطبي هنا هي تنفعنا في باب الأحكام من جهة النسخ ومن جهة التدرج في التشريع، أما في باب التفسير والاستنباط فيمكن حمل المكي على المدني أو المدني على المكي؛ لأن المقصود هو البيان وليس المقصود ترتيب الأحكام، هذا ما يتعلق بهذه المسألة التي ذكرها.
الوحدة الموضوعية للسورة
يبقى عندنا في هذه المسألة تنبيهات، عندنا التنبيه الأول:
لما ذكر أن سورة الأنعام قال: "فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين.. " من مثل هذه العبارة أخذ بعض المعاصرين ما يسمى بالوحدة الموضوعية للصورة، وأن الصورة تدور حول موضوع واحد، كذلك لما ذكر ما يتعلق بسورة البقرة، وأنها متعلقة بأحكام العبادات.
أقول هنا: إنه يحسن التنبه في مثل هذا الأمر إلى فائدة مهمة جداً في من يريد أن يتعاطى تفسير القرآن، نحن الآن لما نأتي نفسر القرآن يعاب علينا أحياناً أننا نفسره تفسيراً تحليلا مقطعاً، بحيث أن الطالب إنما يخرج بما سمعه من الآيات فقط، ولا يعرف ما قبلها ولا بعدها، كيف نستطيع أن نتخلص من هذه الإشكالية؟ إشكالية واردة وصحيحة، لكن هكذا مشى علم التفسير منذ أن بدأ يتكلم فيه السلف، وإن كان لهم إشارات أحياناً إلى مثل هذه الإشكال.
فأقول: من أراد أن يشرح سورة من السور، خاصة ولله الحمد والمنة الآن التقدم التقني يساعد كثيراً، على سبيل المثال الورقة التي فيها جدولة للمسائل التي طرحها الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه، يعني لما نكتب مثلاً جدولة للموضوعات التي تحدثت عنها السورة؛ فتكون بين يدي الطالب؛ فمثلاً سورة البروج، تضع عند سورة البروج الموضوع الذي يتحدث عنه تحته، ما هو الموضوع الرئيس الذي تحدثت عنه هذه السورة.. كذا، ثم تبدأ تذكر تفريعات ما هي موضوعات الآيات.
يعني: مثلاً أول السورة إقسامات من الله سبحانه وتعالى بكذا، ثم قصة أصحاب الأخدود، ثم ذكر صفات الله سبحانه وتعالى الدالة على انتقامه من الكفار ونصره للمؤمنين، ثم الخبر عن أمثلة لإهلاك الله سبحانه وتعالى بعض الأقوام، ثم ذكر هذ الكتاب العزيز، فلما يتأملها الطالب يكون قد استوعب موضوعات السورة، واستوعب الفكرة التي تدور حولها السورة؛ فنكون تخلصنا من جزء من هذه الإشكالية التي تذكر؛ فإذا كانت هذه مع الطالب فسيدخل في التفسير وعنده هذا الخريطة وأنت تتحدث مثلاً في البروج عن قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، وهو أمامه الآن إنه من آية كذا إلى آية كذا، يتحدث عن الموضوع الفلاني، يعرف ما الذي قبله وما الذي بعدها، طبعاً لو كان ممكن أيضاً تطوير الموضوع إلى أنه يذكر الروابط، فهذا يفيد في هذا الجانب الذي قد يعده بعضهم نقصاً؛ فنكون استفدنا في مثل هذا بأمرين: أنا عرفنا الموضوع التي تدور حوله السورة، ويسمى أحياناً: مقصود السورة، وأيضاً استطعنا أن نجعل الطالب يتصور موضوعات السورة.
وأيضاً يمكن تطوير هذا العمل أكثر وهو أن تجزئ السورة بالألوان، وخاصة عندنا الآن من جهة الرسم العثماني لمصحف المدينة النبوية الإلكتروني الذي خرج، يمكن أن تأخذ منه نسخة ونفس القضية تجعل هذه الآيات بالألوان، فكل جزء من الموضوعات بلون مغاير؛ بحيث لما يتأملها الطالب وأنت تشرح وهي أمامه معروضة يعرف أن كل لون ينتقل منه من فكرة إلى فكرة؛ فهذه أيضاً مفيدة في قضية التفسير وتعطي تجديداً معيناً في إلقاء درس التفسير.
نقول: لا زال الناس عامة وطلبة العلم يطالبون أهل التخصص في التفسير أن يبدعوا في إيصال هداية القرآن للناس، وإيصال معاني هذا الكتاب العزيز للناس، وأنا أقول: إن هذا لا شك واجب ومهم جداً على أصحاب التخصص؛ فمن كان من الله سبحانه وتعالى عليه بأن يكون من المتخصصين في علوم القرآن، فمن حق الأمة عليه أن يوصل إليها رسالة هذا الكتاب، وأن يوصله إليها بالطرق التي تناسب هذا العصر، وإن كانت الطريقة القديمة لا زال لها أصلها وهي موجودة، فأنا لا أتكلم حينما أقول: نستخدم الطريقة.. أن نلغي الطرق الأخرى، وإنما نقول: هذه إحدى الطرق التي يمكن أن تجذب الناس وتجعلهم يستمعون إليك، هذه إشارة موجزة إلى هذه القضية.
هنا أيضاً باب الفوائد السريعة، لما تكلم الإمام عن قواعد علم التوحيد ذكر ما صنف فيه المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة، هذا التقسيم الذي يذكره وإن كان أشار إليه إشارة سريعة وهو تقسيم المتكلمين للعقائد، ونحن نعلم أن قضية واجب الوجود، هذا من مصطلحات المتكلمين؛ ولذا فقط يشار إلى أن الإمام رحمه الله تعالى كما يلاحظ في أغلب كلامه من هذه الجهة أنه متأثر بأهل الكلام في هذا الباب، وأصلاً كانت دراسته رحمه الله تعالى هي دراسة في كتب أهل الكلام، يعني الموضوع فيه أشياء.
السورة التي ذكرت مقاصد الشريعة الخمس
وقوله: فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس، والعقل، والنسب، والمال، مضمن فيها.." التي هي سورة البقرة " وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل.." هذا أيضاً موضوع نفيس جداً، ينتبه له في قضية البحوث القرآنية، وسبق لي أن نبهت أن هذا القسم الذي يتكلم فيه الإمام الشاطبي فرصة لأصحاب دراسات القرآن أن يستنبطوا منه موضوعات تصلح للرسائل العلمية، فهذا الآن الموضوع الذي يتكلم عنه أيضاً يصلح أن يكون ضمن رسالة علمية، وهو حفظ الضرورات الخمس وتطبيقاتها من خلال سورة البقرة.
ثم بعد ذلك الأمور التي تكلم عنها تكميلية لهذا الأمر، فهو قال: إن المراد بها حفظ الدين، حفظ الناس وحفظ العقل وحفظ النسب وحفظ المال، التي هي الضرورات الخمس، جاءت سورة البقرة في هذا الموضوع.
الموضوعات الأخرى يقول: " ما خرج عن المقرر فيها؛ فبحكم التكميل.. " يعني تكميل لهذه الضرورات الخمس، ثم قال: "فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها.. " أيضاً نفس الفكرة وهذه حاول أن يطبق شيئاً منها في فكرته سعيد فودة رحمه الله تعالى في كتابه "الأساس في تفسير القرآن " لكنه ذهب إلى فرضية أن سورة الفاتحة ذكرت قضية مجملة فصلت في سورة البقرة، وسورة البقرة تذكر قضية مجملة يأتي تفسيرها في سورة آل عمران، وسورة آل عمران يأتي فيها قضية مجملة يأتي تفصيلها في سورة النساء.. وهكذا مشى على القرآن، وهذا قد يكون فيه نوع من التكلف، لكنها فكرة حاول أن يطبقها في تفسيره، وقضية: هل أجاد أو ما أجاد أو وصل إلى تطبيق جميع أفكاره.. هذه قضية للباحث أن ينظر فيها وقد يقتنع بها بعض، وقد يخالف بعض، لكن كونه ذهب إلى هذه الفكرة وحاول أن يطبقها فهذا فيه نوع من إبداعه.
وندعو إلى أن يكون هناك نوع من التفكير الموضوعي في موضوعات القرآن، لا يلزم أنه يكون على نفس نمط التفسير الموضوعي، أن نبحث عن موضوع في القرآن ونناقشه، أو عن موضوع من خلال السورة.. لا، الموضوعات الكلية هذه يحسن أيضاً أن نبحث فيها، على سبيل المثال لما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، قضية التكامل في الشريعة من خلال القرآن، كيف يمكن طرحه من خلال القرآن؟ على سبيل المثال: هل هناك علاقة بين الصلاة كعبادة مفروضة في القرآن وقضية الجهاد كعبادة مفروضة في القرآن؟ ما هو الشيء الذي يربط هذه بهذه؟ مثلاً صلاة الخوف لو انطلق إنسان من صلاة الخوف وحاول أن يربط بين عبادة الصلاة وعبادة الجهاد، وهل هناك نوع من تكامل؟ هل هناك عبادة إذا وجدت أسقطت العبادة الأخرى أو هذه العبادات متكاملة، ويمكن إجراءها مع بعض في حياة المسلم، لو نظر شخص إلى القرآن واستنبط منه مثل هذه الأفكار فإنه سنجد أن دائرة ما يسمى بالتفسير الموضوعي أوسع بكثير من أنا نأخذ مثلاً الملائكة في القرآن، أو الجن في القرآن، أو المرأة في القرآن.. فهذه قضايا واضحة ظاهرة، لكن عندنا قضايا فيها نوع من الخفاء تحتاج إلى تأمل، وتحتاج إلى أنا نجمع فيها، مثل حفظ الشريعة التي كنا نتكلم عنها من خلال القرآن، كيف حفظ الله سبحانه وتعالى الشريعة من خلال القرآن؟ لما يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، كيف وقع حفظ هذا القرآن؟ من خلال القرآن نفسه أولاً، ثم من خلال الأحوال التي حفت بالقرآن ثانياً، مثل ما جعل الله سبحانه وتعالى من قضية جمعه هو في ذاته، وكذلك جمع اللغة العربية، أليس جمع اللغة العربية منبثق من الحفاظ على القرآن ولغته، وهو أيضاً من لوازم الحفظ للقرآن أيضاً، فنلاحظ أن القرآن صار سبباً في جمع لغة العرب، ثم صار هذا الجمع من أسباب حفظ القرآن: حفظه من جهة الألفاظ، وحفظه من جهة المعاني.
المكي والمدني في السنة
قال رحمه الله: [ وللسنة هنا مدخل؛ لأنها مبينة للكتاب؛ فلا تقع في التفسير إلا على وفقه، وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث، كما يتبين ذلك في القرآن أيضاً، ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات، فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت، ففهم منها ما يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات؛ كحديث: ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة )، أو حديث: ( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار ).
وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين، فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق، وكان ما عارضها مؤولاً عند هؤلاء، وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه، حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر.
ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا: إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين، وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي، ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلاً، وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه؛ لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد، فلم يضيع من أمر إسلامه شيئاً، كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه؛ لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ [المائدة:93].. الآية، وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة ].