شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

أقسام العلوم المضافة إلى القرآن الكريم

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ المسألة السابعة:

العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم إلى أقسام:

قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه؛ كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها، وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا نظر فيه هنا.

ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن، وأما غير ذلك؛ فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضاً ولا يكون كذلك، كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وزعم ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه بـ (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة.

وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير؛ فلينظر امرؤ أين يضع قدمه، وثم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور، ولا ينبئك مثل خبير؛ فـأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه ].

هذه المسألة وهي المسألة السابعة جعلها المؤلف للعلوم المضافة إلى القرآن وذكر فيها أقساماً.

فالإمام رحمه الله تعالى قال بعد أربعة أسطر تقريباً: (فهذا لا نظر فيه هنا)، وهنا يقع إشكال في مراد المؤلف بالعلوم المضافة إلى القرآن، ما هي العلوم المضافة إلى القرآن حقيقة عنده، وهذه ستأتي لاحقاً؛ لأنه لماذا أخرج هذه العلوم من كونها هي المراد عنده بالعلوم المضافة إلى القرآن، إذاً: نتأمل القسم الأول الذي جعله كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من فوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى.

ذكر رحمه الله أنه قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة، أي: وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، ثم ذكر ما هو وسيلة من العلوم، فذكر ستة علوم:

علم العربية، وهذا يشمل أصنافاً من العلوم داخله، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم أسباب النزول، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه.

فإذا أخذنا بالعد عنده فستكون ستة، فنحتاج إلى نظر في مراد المؤلف رحمه الله تعالى بالعلوم المضافة إلى القرآن التي جعلها كالأداة لفهم القرآن.

جوانب التعامل مع القرآن

التعامل مع القرآن عندنا فيه جانبان:

جانب البيان الذي هو التفسير، وجانب الاستنباط.

وكأن المؤلف رحمه الله تعالى من خلال كلامه يدور حول الجانبين معاً؛ لأنه قال: إنها (كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه)؛ فلو نظرنا إلى مراد الله تعالى، من قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3]، ما مراد الله من هذه السورة؟

لو تأملنا فسيكون عندنا نظران:

النظر الأول: أن مراد الله أن يستغفر الرسول صلى الله عليه وسلم ويسبح ربه بعد أن جاءه هذا النصر والفتح، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً [النصر:1-2]؛ فظاهر المعنى: إذا حصل هذا فسبح بحمد ربك واستغفره؛ لأنه كان تواباً.

النظر الآخر مرتبط بالاستنباط: وهو الإشارة إلى دنو أجل النبي صلى الله عليه وسلم، فالأول: بيان للمعنى، والثاني: استنباط، وهو استنباط ليس مخالفاً للمعنى، وسيأتي مثاله ونقاشه إن شاء الله.

ويجب أن ننتبه إلى أن المؤلف رحمه الله تعالى دمج بين ما فهم من جهة المعنى وما فهم بعد جهة المعنى وهو جهة الاستنباط.

فهذه العلوم التي ذكرها مثل: علم العربية، كالنحو ومتن اللغة التي هي المفردات وما يتعلق بها، والتصريف والاشتقاق والبلاغة، هذه العلوم المجموعة إذا نظرنا إليها نجد أنها مفيدة في الجانبين، في جانب فهم المعنى، وفي جانب ما بعد فهم المعنى الذي هو الاستنباط، واستخراج الفوائد.

إذاً: هي لازمة في الجانبين، وإن كانت في استخراج الفوائد ألزم منها في بعض علومه من بيان المعنى.

على سبيل المثال: حينما نأتي إلى بيان المعنى، فالعلم الذي نحتاجه من علوم العربية هو ما يسمى بمتن اللغة، الذي هو بيان المفردات، ولو فاتتنا بعض البلاغة في كثير من الآيات؛ فإنه لا يفوتنا بيان المعنى، لكن إذا أردنا أن نستنبط فلا شك أننا نحتاج إلى مثل هذه العلوم الأخرى؛ لكي يقع الاستنباط صحيحاً.

ولو جئنا إلى الناسخ والمنسوخ وأخذنا باعتبار مصطلح السلف أو باعتبار مصطلح المتأخرين، ففي النهاية هو محتاج إليه بأي المصطلحين كان؛ لأننا حينما نستخدم الناسخ والمنسوخ بمعنى: تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو بيان المجمل، أو الاستثناء، أو النسخ الاصطلاحي الذي هو: النسخ الكلي للحكم، فهذه الخمسة إذا تأملتها تجد أن فيها رفعاً لشيء مما في الآية من معنى، إما رفعاً جزئياً في الأنواع الأربعة، وإما رفعاً كلياً في النوع الأخير الذي يسمى عند المتأخرين بالنسخ، ففي جميع هذه الأنواع الخمسة، نحتاج هذا العلم في الجانبين: في جانب التفسير الذي هو فهم المعنى وفي جانب استخراج الفوائد الذي هو الاستنباط.

أما إذا جئنا إلى علم أسباب النزول، فقد سبق أن أخذنا كلامه، وكلامه واضح، ونحتاجه في بيان المعنى.

أيضاً علم المكي والمدني نحتاجه في جانبين، فقد نحتاجه أحياناً في بيان المعنى؛ لأن هناك أحداثاً مكية لا تنطبق على المدني، وهناك أحكام مدنية أو حوادث مدنية لا تنطبق على المكي؛ فحمله على أحدهما يقع فيه إشكال؛ فمعرفة كون الآية مكية أو مدنية، أو كون السورة مكية أو مدنية؛ يقي من الخطأ في تحديد المعنى، وعلى سبيل المثال: لما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، فهذه السورة مكية، وبعض السلف فسر الزكاة والصلاة هنا بزكاة الفطر وصلاة العيد؛ مع أن الآية مكية؛ فهنا نقول: إذا كان هذا مراده؛ فإن في هذا نظراً؛ لأن الآية نزلت بمكة، ولم يكن ثم عيد، وقد يقول قائل: فما المانع من أن يشير إليها ولو لم تفرض بعد؟ نقول: إن الآية عامة، ومن قال بزكاة الفطر وصلاة العيد؛ فإنه ذكر مثالاً لزكاة وصلاة وذكر، ولا يلزم أن يكون هو المراد الأول؛ إذاً: هذا من جهة بيان المعاني.

أما من جهة الاستنباط فلا يشكل لأننا قد نحتاج المكي والمدني من جهة استنباط الفوائد واستخراجها، إذاً: فعلم المكي والمدني نحتاجه في البيان وفي الاستنباط واستخراج الفوائد.

أما علم القراءات ففيه جانبان:

الجانب الأول: جانب الأداء، وهذا ليس فيه بيان المعاني، ولا استنباط واستخراج الفوائد.

وأما الجانب الثاني والذي يرتبط بتأثر المعنى: فهو الذي يكون جزءاً من توجيه القراءات فيتأثر به المعنى؛ وهذا فيه جانبان:

جانب بيان المعاني، وجانب استخراج الفوائد.

أيضاً عندنا علم أصول الفقه، الأصل أنه في الجانب الآخر، الذي هو جانب استخراج الفوائد والاستنباط، فعلم أصول الفقه يحتاجه من أراد أن يستنبط ويستخرج الفوائد، وحاجة المفسر إليه قليلة جداً، ويحتاجه في الأغلب من أراد أن يستخرج الفوائد ويستنبط من القرآن.

أهمية معرفة علوم القرآن ومراتبها

هذه العلوم الستة إذا نظرنا إليها بهذا النظر؛ فيمكننا أن نقول: إن كل علم يحتاج إليه في بيان المعاني؛ فإنه يحتاج إليه في استخراج الفوائد والاستنباط من باب أولى.

فإذا صح الأول الذي هو المعنى؛ جاز في الثاني الصحة؛ لأن بعض الاستنباطات قد تكون ليست بدقيقة وإن كان المعنى صحيحاً. إذاً فالطريق إلى الاستنباط الصحيح واستخراج الفوائد الصحيحة هو معرفة المعنى على الوجه الصحيح؛ لأنه إذا اختل فهم المعنى مباشرة يختل الاستنباط واستخراج الفوائد، هذا هو الأصل، أي إن التفسير الخطأ ينتج عنه استنباط واستخراج فائدة خاطئة.

والتفسير الصواب يرشد إلى الاستنباط الصواب واستخراج الفوائد الصواب، لكن لا يلزم منه أن كل استنباط أو استخراج فوائد يكون صحيحاً، فهناك فرق بين هذا وذاك ولا تلازم بينهما، لكن هذا طريق إلى ذاك.

فالمقصد أن ترتب في هذه العلوم هذه المعاني إذا كان مقصد الإمام رحمه الله تعالى بقضية فهم القرآن يشمل بيان المعنى ويشمل الاستنباط، كما هو ظاهر من مراده في بداية كلامه، لما قال: كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله منه، فهذه ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: الفهم: أن يكون المراد بها بيان المعاني، واستخراج الفوائد، الذي هو: الاستنباط، أي: التطبيق، وسيأتي إن شاء الله أمثلة للإمام يبين فيها هذا الأمر؛ وكأنه يريد بقوله: مراد الله تطبيق أوامر الله، ماذا أراد الله من هذه الآية؟ وبعد ذلك نطبق ما أمر الله سبحانه وتعالى به.

فالإمام رحمه الله تعالى في العلوم المضافة إلى القرآن يقول: إن هناك نوعاً كالأداة لفهمه، وليست مأخوذة من القرآن لكنها مضافة إليه، أي ليست من العلوم التي يتضمنها القرآن؛ لأنه يريد أن يناقش ما هي العلوم التي يتضمنها القرآن؟ فهل هذه العلوم يتضمنها القرآن؟ أي أنها من علوم القرآن نفسه، التي دل عليها القرآن، أو هي وسيلة لفهم القرآن وفهم ما فيه من العلوم؟ واضح أنها وسيلة لفهم القرآن وفهم ما فيه من العلوم، وهذا الذي جعله يقول: (فهذا لا نظر فيه هنا)؛ لأنه يريد العلوم التي يتضمنها القرآن، وكل الكلام سينصب على العلوم التي تضمنها القرآن.

لما اعترض الإمام الشاطبي على الرازي في كونه رحمه الله جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم القرآن، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6].

فعبارته واضحة، قال: فقد يعده بعض الناس وسيلة ولا يكون كذلك، وذكر مثالاً للرازي ، حيث أن الرازي رحمه الله لما جعل علم الهيئة يعين على فهم: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وهاهنا مسألة دقيقة نحتاج أن نتنبه لها، وترتبط أيضاً بكثير ممن دخل فيما يسمى بالإعجاز العلمي أو بالتفسير العلمي اليوم.

هل جهلنا بتفاصيل علم الهيئة يؤثر على فهمنا للمعنى أم لا يؤثر؟ إذا فهم هذا فإنه يزيل لبساً كبيراً عند من يدخل في مثل هذه الأمور ويلزم علماء الشريعة المعاصرين بأن يفهموا هذه المسألة لكي يقدموا الإسلام تقديماً حضارياً أو مناسباً لعقول المعاصرين.

فلو أن مفسراً أراد أن يفسر هذه الآية: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وهذا هو الأصل من المفسرين، ولا يعرف تفاصيل علم الهيئة، فإن بيانه للمعنى لا ينقص، وبما أنه لا ينقص فمن كان عنده علم بعلم الهيئة بالفلك فلا يزيد بيانه للمعن، والذي سيزيد عند عالم الهيئة هو التفاصيل، مثلاً: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [ق:6]، لا نحتاج إلى علم الهيئة؛ لكي نعلم أن السماء فوقنا.

وعندما يقول: (كَيْفَ بَنَيْنَاهَا)، هل نحتاج من جهة المعنى إلى علم الهيئة ليبين لنا (كيف بنيناها)؟ مثل طبقات الجو وما إلى ذلك، إذا دخلنا في تفاصيل مثل طبقات الجو مثلاً، أو قانون الجاذبية، أو يذكر مثلاً في طريقة بناء السماء فوق الأرض شيئاً ما من أسرار الله سبحانه وتعالى وحكمه التي وضعها، فهذا كله يدخل ضمن قوله: (كَيْفَ بَنَيْنَاهَا).

ثم أيضاً: (وَزَيَّنَّاهَا)، زينت السماء بالنجوم.

فعندما يتكلم عن زينة السماء بالنجوم، وكيف أن مقدار النجم الفلاني في الإضاءة غير مقدار النجم الفلاني في الإضاءة، وأن بعد النجم الفلاني عن النجم الفلاني كذا، وأن النجم الفلاني إذا حصل له كذا.. إلى آخره، فهذه كلها تفاصيل.

وعندما يأتي إلى: (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)، وأنها ليس فيها تشققات، وليس فيها تصدع؛ لأن التصدع من لوازم الخلل؛ فإذا جاء بهذه التفاصيل فهو لم يضف إليها من جهة بيان المعنى شيئاً؛ لأن المعنى واضح ومنتهٍ، كما فهمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما فهمه الصحابة، وكما فهمه التابعون، وكما فهمه الأسلاف إلى يومنا الحاضر، وعندما يدخل عالم الفلك في مثل هذه الأمور ويبين دقائق صنع الله سبحانه وتعالى؛ فهو في الحقيقة ليس مفسراً، وإنما هو مفصل لأشياء أجملت والمعنى فيها واضح، وهذه مهمة جداً، لو تنبه إليها بعض من يتكلم في التفسير العلمي أو في الإعجاز العلمي؛ لحلت عنده إشكالات في ظنه أن المتقدمين من العلماء لم يفهموا معنى الآية على حقيقته، وهذا ليس بصحيح إطلاقاً، بل هم فهموا فهماً واضحاً وتاماً، لكن زادت تفاصيل في مسائل ليس لها علاقة بالبيان، وليس كل ما يتكلم فيه بالتفسير العلمي والإعجاز العلمي، لكن هذا جزء مما يقع فيه الحديث عند من يتكلم في الإعجاز العلمي؛ لأنه جانب آخر، هو جانب البيان، ونحن نتكلم عن جزء مما يتعلق بالإعجاز العلمي وبحقيقته هنا.

وليس من شروط المفسر المعاصر أن يعرف هذه الأشياء؛ لأن الرازي جعل علم الهيئة وسيلة لا يفهم القرآن إلا به، ونحن نقول: كل ما لا يفهم القرآن إلا به؛ فإنه يلزم المفسر أن يعرفه.

وهو جزء مما يتعلق بما يسمى بالتفسير العلمي، والإعجاز العلمي له جانب آخر.

فهم ابن رشد للشريعة والفلسفة

ولـابن رشد الحفيد كتاب (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، يقول فيه: إن عين الشريعة هي عين الفلسفة، أو هو يصل إلى هذا المعنى، وليس بين الفلسفة وبين الشريعة خلاف، بل إنه زعم في كتابه: وجوب تعلم الفلسفة وأن الشريعة دلت على ذلك، ومن يقرأ كتابه وليس عنده خلفية شرعية يلتبس عليه الأمر؛ لأنه بناه بناءً عقلياً يلتبس على البعض، ومن قرأ في هذا الكتاب في بداياته يشعر بالفعل بوجه اللبس الذي ورد على ابن رشد وأيضاً أورده على غيره، ولم ينظر إلى جسامة الأخطاء التي عند هؤلاء الفلاسفة وما وقعوا فيه؛ فهو مؤول في النصين، أي: مؤول في كلام الفلاسفة أحياناً؛ ليوافق ظاهر الشريعة، ومؤول أحياناً في ظاهر الشريعة؛ ليوافق كلام الفلاسفة؛ لأنه لا يمكن الجمع بين ما قاله الفلاسفة وهم لا دين لهم وبين ما أنزله الله سبحانه وتعالى من الوحي، الذي هو حياة المسلمين، حياة قلوبهم وليس بينهما أي ارتباط، ولو نظرت إلى نسبة ما عندهم من الإلهيات أي غير الرياضيات أو الطبيعيات لوجدتها ضئيلة جداً.

وغاية علم الفلاسفة في الإلهيات إثبات الربوبية، هذا من جهة، والمراد الكلي كما يذكر أو يحكي بعضهم عنهم أن المراد الكلي من علم الفلسفة هو التشبه بالإله، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه بعد قليل ونناقشه، لكن المقصد أن كل كلام الفلاسفة لو تأملته لا يعدو أن يكون إثبات الربوبية آخر حده، وأحسنهم حالاً من يثبت الربوبية، أما ما بعد ذلك من التفاصيل فإنه لا يمكن أن يتعلم إلا من طريق الوحي، وكون العقل يدل على الربوبية، فإنه يدل عليها إجمالاً وليس تفصيلاً؛ ولهذا فقد ضل هؤلاء من الفلاسفة؛ لأنهم أخذوا الأمر بمجرد العقل المطلق، وتوصلوا فيه إلى أشياء حتى صار عندهم مزاعم كثيرة جداً في الإله وكلامهم عنه بكلام لا يليق، والسبب في ضلالهم أنه لم يكن عندهم وحي؛ فمحال أن يتفق ما تنتجه العقول المحضة من دون اهتداء بشرع الله مع ما ينزله الله سبحانه وتعالى من وحيه المفصل، الواضح، المبين.

وهكذا زعم ابن رشد عفا الله عنه في هذا الكتاب، وأقامه لكي يثبت أن ما ورد عن الفلاسفة هو الذي ورد في الشريعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن؛ ولهذا قال الشاطبي: (ولو قال قائل إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة).

فإذاً: علوم الفلسفة قطعاً ليست مطلوبة في فهم القرآن ولا في فهم السنة، إطلاقاً، أي ليست مطلوبة كما ذكر الشاطبي رحمه الله تعالى.

واستدل في الرد على الرازي والرد على ابن رشد المطلع بحال السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهل كانوا آخذين بها أم تاركين لها وغافلين عنها؟ ففي الأحوال هذه مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، نقول: إنهم فهموا القرآن فهماً تاماً، سواءً تركوا هذه أو غفلوا عنها؛ وهذا يدل على أنها ليست من العلوم التي يحتاج فيها إلى البيان.

العلوم المعتبرة عند السلف

أريد أن ننتبه إلى مسألة مهمة جداً:

المسألة الأولى نبه عليها الشاطبي أيضاً في غير هذا الموطن، وهي: أن العلوم التي اعتنى بها السلف أو أشاروا إليها ولو مجرد إشارة؛ فإنها من العلوم المعتبرة في الإسلام وهذه قاعدة، أي أنا ندرسها ونتحقق فيها وهي العلوم التي نأخذها من السلف، ولو جئنا إلى التفسير، هل هو علم مهم أو غير مهم؟ وما الدليل على ذلك؟ وإذا نظرنا في حال السلف، هل اعتنوا بهذا العلم أو ما اعتنوا به؟

إذاً: ما دام أنهم اعتنوا به؛ فهذا يدل على أنه من العلوم المعتبرة.

ننظر إلى علم أشاروا إليه ولو إشارة: (مبهمات القرآن)، هل هو من العلوم المعتبرة أو من العلوم غير المعتبرة؟

من العلوم المعتبرة.

واخترت علم المبهمات بالذات؛ لأننا نعرف كلام المتأخرين في المبهمات، وأنه علم ليس فيه فائدة.

والمبهمات على قسمين؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى في قصة موسى: فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا [الكهف:65]، فسر العبد المبهم ونص على اسمه وأنه الخضر، فإذاً: هذا فيه بيان للمبهم.

فهذا أصل في بيان المبهمات، ولا يعني ذلك أن كل مبهم لا بد أن يكون معلوماً، ولهذا فبعض المبهمات قد لا يفيد معرفتها شيئاً، وهذه القاعدة الكلية في المبهمات: أن معرفتها من جهة المعنى لا تفيد شيئاً، لكن قد تفيد من جهة أخرى؛ فالقصد من ذلك أن ننتبه إلى هذه القضية وهي: أن وجود إشارة من عمل السلف أو قولهم في علم من العلوم؛ تجعله علماً معتبراً، وكل علم بقدره، ولا يقول قائل: ما دامت العلوم معتبرة؛ إذاً نبحث كل تفاصيلها.. نقول: لا، هو على قدره.

مدى فهم السلف جميع مسائل الشريعة

القضية الثانية وهي مهمة جداً: لما قال: (مع القطع بتحققهم بفهم القرآن)، وهذه مسألة مهمة وينبغي لطالب العلم أن يوقن بها إيقاناً تاماً، وهو أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين قد تحقق فهمهم للقرآن، بمعنى أننا يجب أن نعلم يقيناً أن الصحابة بجمهورهم وكذلك التابعون بجمهورهم وكذلك أتباع التابعين بجمهورهم قد علموا معاني القرآن علماً كاملاً، هذه قضية مهمة؛ لأننا لو قلنا بغير ذلك؛ فإننا ننسب النقص إلى الشريعة من الجهة العقلية المعروفة، إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين، وهذا محال، وإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بين وأخفاه الصحابة، وهذا أيضاً الواقع لا يشهد به، وإما أن يكون الصحابة بينوا وأخفاه التابعون، والواقع لا يشهد به.. إلى آخر القضايا العقلية هذه.

فإذاً: المقصد من هذا أن معرفة معاني القرآن تامة وكاملة في هذه الطبقات، وأن من جاء بعدهم فإنه يرجع إلى أقوالهم، ولا يمكن أن يكون الحق معه بخلاف هؤلاء إطلاقاً، وهذه قاعدة مهمة جداً؛ لأننا سنبني عليها رفض كلام من يقول: إن فهم المتقدمين غلط، فمن جاء بفهم جديد وأسقط فهم المتقدمين فإننا نجزم يقيناً بأن قوله إما خطأ وإما فهمه هو خطأ وطريقة تعامله مع التفسير خطأ، أي إن كان قوله باطلاً خطأ؛ فتفسيره كله خطأ، وإما أن طريقته في التعامل مع التفسير خطأ، أما أن يضيف معنىً جديداً مع صحة الأول فهذه قضية أخرى وقد ناقشناها سابقاً، ولعلها تأتي إن شاء الله لاحقاً.

هذا ما يتعلق بهذا القسم الأول الذي هو كالأداة لفهم القرآن، وكما نلاحظ فإنه جعله قسماً، وليس هو المقصود فيما سيتكلم عنه في العلوم المضافة للقرآن.

إعجاز القرآن الكريم

قال رحمه الله: [ وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو، وذلك ما فيه من دلالة النبوة، وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا المعنى ليس مأخوذاً من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية؛ إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما، وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله، وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء، ولا سورة دون سورة، ولا نمط منه دون آخر، بل ماهيته هي المعجزة له، حسبما نبه عليه الصلاة والسلام: ( ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )؛ فهو بهيئته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيها عجز الفصحاء اللسن، والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه، ووجه كونه معجزاً لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع؛ لأنه كيفما تصور الإعجاز به؛ فماهيته هي الدالة على ذلك؛ فإلى أي نحو منه ملت دلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا، وموضعه كتب الكلام ].

لو أردنا أن نعنون لهذا الكلام الذي ذكره، فهو يتكلم عن إعجاز القرآن من جهة وفيه جانبان: في النظر البلاغي في إعجاز القرآن، وفي النظر الكلامي، الذي هو الاحتجاج في إعجاز القرآن، فأيهما يريد؟

هو لا يريد البلاغي؛ لأنه يقول: موضعه كتب الكلام، لو كان يريد البلاغي فسيكون موضعه كتب العربية وغيرها، التي هي كتب إعجاز القرآن.

نريد أن ننتبه إلى أن الكلام في إعجاز القرآن له جانبان:

فالجانب البلاغي، الذي هو من جهة عربيته ونظمه، وهذا لما تكلم عنه قال: (فإن هذا المعنى ليس مأخوذاً من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية؛ إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرها، وإنما فيه التنبيه على التعجيز بأن يأتوا بسورة مثله؛ وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء، ولا سورة دون سورة ولا نمط من دون آخر). فإذاً: هو مستو في الإعجاز، والكلام هنا كله عن الاحتجاج بالإعجاز، وهذا القسم مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو، أي من كونه هو كلام، وما فيه من دلائل النبوة هو في النهاية دال على كونه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم.

ولما ذكر القضية الثانية (ووجه كونه معجزاً..) قال: لا يحتاج إلى تقرير في هذا الموضع؛ لأنه كيفما تصور الإعجاز به؛ إشارة إلى أنواع الإعجاز؛ فهو في النهاية معجز، أي أن ماهيته معجز، كيفما تصور.

أقسام الإعجاز في القرآن الكريم

لو تأملنا الكلام في الإعجاز فسنجد أنه ينقسم إلى قسمين كليين:

القسم الأول: النظر العربي إلى القرآن من جهة ألفاظه ونظمه وأساليبه.

والقسم الثاني: النظر إلى معانيه.

فالنظر إلى معانيه يشمل الإعجاز الغيبي والتشريعي والعقدي والعلمي والتاريخي.

فأي شكل من أشكال الإعجاز هذه هي في النهاية مرتبطة بالمعاني.

فإذاً: الذين تكلموا في الإعجاز إما أن يكون نظرهم إلى النظم العربي من حيث هو عربي، وإما أن يكونوا نظروا إلى المعاني، وسواء هؤلاء أو هؤلاء فهم في النهاية ليسوا داخلين فيما يتكلم عنه، أي ليس هو الكلام الذي يريده، وإنما يريد كون هذا القرآن معجزاً، والاحتجاج لإعجاز القرآن، وكما قال: (فهذا القسم أيضاً لا نظر فيه هنا)، وموضعه كتب الكلام.

ولو أردنا أن نأخذ مثالاً لكتب إعجاز القرآن من الجهة الكلامية فمن أمثلته الباقلاني، فهناك جانب الكلام في بعض مقدماته، وأيضاً تكلم في جوانب أخرى في كتابه، وفيه الجانب البلاغي، فـالباقلاني متكلم حاول أن يمزج بين الطريقتين.

ولو رجعنا إلى الجاحظ عندما تكلم عن نظم القرآن، فالإشارات التي أشار إليها في كتابه (نظم القرآن) هي في الجانب الكلامي، وأول ما بدأ الكلام عن القرآن في الجانب الكلامي بدأ عند المعتزلة؛ لأنه في مقام الاحتجاج، ويظهر أنه من أسباب الكلام في إعجاز القرآن عند هؤلاء أن قولهم في القرآن فيه إضعاف لمعنى الإعجاز؛ لأن قولهم في القرآن: مخلوق هذا يضعف معنى الإعجاز، أما قولنا: القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته؛ فهذا الكلام من حيث هو معجز، لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله؛ لأنه كلام الله.

المعتزلة يقولون: لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله؛ لأن الله وضع فيه الإعجاز.

إذاً: الذي وضع فيه الإعجاز سيكون من غير المخلوق.

لكن على كلام أهل السنة هو بذاته معجز؛ ولهذا في نظري كلام النظام أقرب إلى طريق المعتزلة وفكرهم في القرآن من كلام الآخرين؛ لأن النظام قال بأنهم قد صرفوا؛ فالقول بالصرف أنسب إلى قول المعتزلة بأنه مخلوق من قول الذين عارضوه من المعتزلة؛ وهذه من الدقائق التي يحسن التنبه لها.

أيضاً من قال بالكلام النفسي فعنده إشكال من جهة، وهذا حكاه المتقدمون منهم، هل المعجز هو الكلام النفسي القائم بالذات أو العبارة وهو القرآن الذي بين يدينا؟ وهذه العبارة عن كلام الله كما يقولون، بعضهم يشير إلى أنه مخلوق، أي أن العبارة مخلوقة، بل هذا هو مؤدى العبارة؛ لأن مؤدى العبارة أن هذه مخلوقة، ليست هي كلام الله سبحانه وتعالى وإنما هي من كلام جبريل أو من محمد صلى الله عليه وسلم كما نص عليه بعض جهابذة من يقول بالكلام النفسي.

ففي النهاية القرآن الذي بين يدينا على هذا القول مخلوق؛ ولهذا قال قائلهم: العجز الذي هو الإعجاز إنما هو من خالق العجز، وإلا فالقرآن بالنسبة له ليس معجزاً بذاته، وإنما المعجز وخالق العجز هو الله سبحانه وتعالى.

إذاً: يقع إشكال في مفهوم الإعجاز على الجانبين، على جانب كونه كلاماً نفسياً، وهذا أبطله بعض المتأخرين منهم؛ لأنه إذا كان كلاماً نفسياً؛ فكيف يتحدى الناس بشيء لا يستطيعونه وليس تحت طاقتهم.

وإن قيل: بأنه العبارة ففي النهاية تؤول إلى أنها مخلوقة؛ فنرجع إلى كلام المعتزلة في ذلك؛ فهذا يضعف جانب الكلام في الإعجاز عند من يقول بهذا المذهب، الذي هو مذهب الكلام النفسي.

وهكذا قدر الله أن هؤلاء سواء، من قال بالكلام النفسي أو من قال بكونه مخلوقاً، وهم من أكثر من تكلم في هذا الباب من جهة الاحتجاج. ويظهر والله أعلم أن سبب ذلك هو ضعف قولهم في القرآن.

أما أهل السنة؛ فإن الكلام عندهم بذاته معجز؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ المسألة السابعة:

العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم إلى أقسام:

قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه؛ كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها، وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا نظر فيه هنا.

ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن، وأما غير ذلك؛ فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضاً ولا يكون كذلك، كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وزعم ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه بـ (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة.

وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير؛ فلينظر امرؤ أين يضع قدمه، وثم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور، ولا ينبئك مثل خبير؛ فـأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه ].

هذه المسألة وهي المسألة السابعة جعلها المؤلف للعلوم المضافة إلى القرآن وذكر فيها أقساماً.

فالإمام رحمه الله تعالى قال بعد أربعة أسطر تقريباً: (فهذا لا نظر فيه هنا)، وهنا يقع إشكال في مراد المؤلف بالعلوم المضافة إلى القرآن، ما هي العلوم المضافة إلى القرآن حقيقة عنده، وهذه ستأتي لاحقاً؛ لأنه لماذا أخرج هذه العلوم من كونها هي المراد عنده بالعلوم المضافة إلى القرآن، إذاً: نتأمل القسم الأول الذي جعله كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من فوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى.

ذكر رحمه الله أنه قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة، أي: وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، ثم ذكر ما هو وسيلة من العلوم، فذكر ستة علوم:

علم العربية، وهذا يشمل أصنافاً من العلوم داخله، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم أسباب النزول، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه.

فإذا أخذنا بالعد عنده فستكون ستة، فنحتاج إلى نظر في مراد المؤلف رحمه الله تعالى بالعلوم المضافة إلى القرآن التي جعلها كالأداة لفهم القرآن.