خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/1538"> صفحة د. مساعد الطيار . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/1538?sub=5010"> شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [13]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة الرابعة عشرة: إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيضاً ما يقتضي إعماله، وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق رضي الله عنه، فإنه نقل عنه أنه قال وقد سُئل عن شيءٍ من القرآن: (أي سماء تظلني وأي أرضٍ تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)، وربما رُوي فيه: (إذا قلت في كتاب الله برأيي)، ثم سُئل عن الكلالة المذكورة في القرآن فقال: (لا أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، الكلالة كذا وكذا).
فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن وهما لا يجتمعان، والقول فيه أن الرأي ضربان:
أحدهما: جارٍ على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالمٍ بهما لأمور:
أحدها: أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد، ولم يأتِ جميع ذلك عن من تقدم، فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها وأكثرها وذلك غير ممكن، فلا بد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك كله بالتوقيف، فلا يكون لأحدٍ فيه نظر ولا قول، والمعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيراً مما يدركه أرباب الاجتهاد في اجتهادهم، فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد عُلم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، وتوقيف ينافي هذا، فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح.
والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن، لأن النظر في القرآن من جهتين:
من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه، وترك الرأي والنظر جدلاً.
ومن جهة المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين، وهو باطل، فاللازم عنه مثله، وبالجملة فإنه أوضح من إطناب فيه].
هذه هي المسألة الرابعة عشر وهي الأخيرة في ما طرحه الإمام الشاطبي فيما يتعلق بقسم الكتاب.
إعمال أبي بكر للرأي وسببه
ذكر في أول مسألة قضية إعمال الرأي في القرآن، فقال: جاء ذمه وجاء ما يقتضي إعماله، وهذا صحيح فإذا رجعنا إلى الآثار فإننا سنجد آثاراً تذم القول بالرأي، سواءً في القرآن حتى في الشريعة عموماً.
ونجد آثاراً أخرى تقول بالرأي إما تطبيقاً وإما أمراً به، وقد ذكر مثالاً وهو من أوضح الأمثلة وهو حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله سبحانه وتعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]، قال: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم).
ثم لما سُئل عن الكلالة قال: (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان).
فإذا نظرنا إلى هذين الأثرين نجد أن بينهما تناقض، فمرة توقف أبو بكر ومرة لم يتوقف، والسؤال الذي يُسئل ما هو سبب توقفه في الأول وعدم توقفه في الثاني؟
فلو جهل أبو بكر معنى الأب، فجهل كثير من الناس لا يؤثر، لأن الجهل بهذه المفردة وهي الأب لا يؤثر في فهم المعنى المجمل للآية وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]؟ لا شك أن هذا لا يؤثر.
أما إذا جُهل معنى الكلالة، فإنه يؤثر هذه قضية.
القضية الثانية: هل معرفة الأب لها أثر عملي على الناس؟ الجواب: لا ليس لها أثر، وهل معرفة الكلالة لها أثر عملي على الناس؟ الجواب: نعم لها أثر. لأن الكلالة يُبنى عليها حكم شرعي، وبهذا نفهم سبب اجتهاد أبي بكر في الكلالة دون اجتهاده في الأب.
وكأنه يقول بما أنه إمام المسلمين وهو المرجع العلمي الأول اضطر إلى أن يجتهد في الكلالة؛ لأنه يُبنى عليها عمل، أما في الأب فلا يُبنى عليها عمل فتوقف فيها ولم يضره ذلك، إذاً فهذا ملحظ يحسن أن ننتبه له حينما نعرف مثل هذا الأثر الوارد عن أبي بكر ، وسبب توقف أبي بكر رضي الله عنه.
تفصيل القول في التفسير بالرأي
وعند رجوعنا إلى كتاب ابن عبد البر جامع بيان العلم، فإننا نجد أنه رحمه الله تعالى من أفضل من ذكر ما ورد عن السلف في إعمال الرأي وفي ذم الرأي؛ لأنه قد يرد ذم الرأي وإعماله عن شخصٍ واحد، وذكر هذا عن جماعة، ونبه على أن مرادهم بالرأي مختلف، فالرأي الذي قالوا به أو مدحوه هو الرأي المحمود، والرأي الذي ذموه هو الرأي المذموم، الذي يكون عن جهلٍ أو هوى.
وهنا فائدة في مثل هذه المسألة العلمية يحسن إذا أراد أن يطرحها الباحث ألا يشقق فيها؛ لأن تشقيق المسائل إنما يكون للتدريب مع الطلاب وليس للتأليف في الكتب، فلا يُقال اختلف السلف في التفسير بالرأي على قولين:
القول الأول: من يرى أنه مذموم مطلقاً، والقول الثاني: من يرى أنه محمود، والصواب هو الجمع بين القولين أو التفصيل في هذا، فمثل هذا لا نحتاجه، لأن هذه الطريقة من تركيب المسائل غير مناسبة في التأليف، ما دام الموضوع واضحاً من أصله وهو متضح، ولهذا مثل ابن عبد البر رحمه الله تعالى لما ساق هذه الآثار ذكر الخلاصة، أن الجهة منفكة في مسألة الرأي، فالرأي المذموم غير الرأي المحمود، وضابط الرأي المذموم أن يكون عن جهل أو عن هوى، والرأي المحمود هو ما كان عن علم، سواءً كان علماً يقينياً أو كان غلبة أو ظناً.
فإذا أخذنا مسألة التفسير بالرأي بهذه الطريقة، فإنا لا نحتاج إلى أن نكثر الكلام عن هذا الرأي المحمود أو مذموم، وبهذا يتضح قضية الرأي المحمود أو المذموم.
قال: إن الرأي ضربان، ذكر الضرب الأول فقال: أحدهما جارٍ على موافقة كلام العربي وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالمٍ بهما لأمور، والسبب لأن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنىً أو استنباط حكمٍ أو تفسير لفظٍ وفهم المراد منه، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، قال: فإما أن يتوقف دون ذلك، فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير ممكن، فلا بد من القول فيه بما يليق.
هنا نحتاج إلى شيء من التفصيل؛ لأنه تكلم عن التفسير، وأدخل التفسير والاستنباط والأحكام الشرعية التي في القرآن.
تفسير السلف لجميع القرآن
فإذا تكلمنا عن التفسير، فلابد أن ننظر تاريخ التفسير الطبقات الأولى، وهذه حقائق نسميها حقائق، وإن كنت في العلم لا أحب دائماً أن يجزم الإنسان في كل ما يقول جزماً تاماً، لكن من خلال القراءة في كتب العلماء المحققين، وكذلك من خلال الاطلاع على تفسير السلف، أنه يوجد عندنا حقائق واضحة جداً تتعلق بهذا الكلام نذكر منها: أولاً: قضية يجب أن يعلمها طالب علم التفسير أن السلف قد تكلموا على الآيات جمعيها، وما تركوا منها إلا ما كان ظاهراً ظهوراً واضحاً، لا يحتاج فيه إلى بيان، فما دام تكلموا في جميع الآيات فمعنى ذلك أنه يمكن لطالب العلم أن ينتخب معاني الآيات من خلال كلام السلف، إن اتفقوا وإن اختلفوا، وفي حال الاختلاف يحتاج إلى المرجحات التي ترجح قولاً على قول.
ومعنى هذا أنه يمكن أن ينتخب تفسيراً من كلام السلف، وأن يكون كل القرآن قد تُكلم فيه، وهو داخل فيما يُفهم معناه عندهم.
القضية الثانية: فيما يتعلق بقضية استنباط الأحكام، فنقول: إن السلف لم يتعرضوا لجميع ما يمكن أن يستنبط من الأحكام من القرآن، وإنما تعرضوا لما يحتاجون إليه، ولهذا نزلوا بعض الآيات على بعض الواقع الذي كان عندهم، ولم يجتهدوا في تتبع غير هذا، وإنما ذكروا ما كانت الحاجة ماسة إليه.
على سبيل المثال: تفسير قوله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] يقول قتادة : إن لم يكن هؤلاء هم القدرية فلا أدري من هم؟ فقوله هذا من باب تنزيل هذه الآية على هؤلاء الصنف، وبعضهم ينزلها على الخوارج، فهذه التنزيلات هي في الحقيقة اجتهاد من المفسر في أن هؤلاء القوم يدخلون في معنى هذه الآية.
هذا نوع من الاستنباط، لكن نقول: إن الاستنباط لم ينته، فيمكن أن يستنبط المسلم بعد ذلك كثيراً من الفوائد والعبر والأحكام التي تناسب واقعهم وتناسب أحوالهم.
شرط إضافة قول جديد في تفسير القرآن
فإذا جئنا إلى التفسير فقد يقول قائل: إنه إذا كان التفسير قد عُلم من جهة النبي صلى الله عليه وسلم كله وهذه مسألة أخرى ستأتي، فيقول: فإنه يلزم التوقيف؛ لأن جميع ما وصلنا عن النبي صلى الله عليه وسلم نتوقف على ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن لم يكن مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم كله فيكون مروياً عمن هو دونه، الذين هم الصحابة ثم التابعون ثم أتباع التابعين.
فهل قولنا إن التفسير قد كمل بالنسبة إلى هذه الطبقات الثلاث، يلزم منه أن نتوقف على ما فهمه هؤلاء، ولا نضيف إلى ما فهموه فهماً آخر؟
نقول: لا يلزم هذا، بل إن إضافة فهمٍ جديد ممكنة، لكن لا بد أن يتحقق فيها ضوابط لقبول وصحة هذا الفهم.
وإضافة شيء جديد هو إعمال للرأي، فهذا الإعمال للرأي لا بد أن يكون عن علم، وقد يشوبه أمران: إما نقص في العلم، وإما نقص في المصادر التي يرجع إليها.
نقص في العلم واضح جداً، حينما يأتي مثلاً بعض من يتعاطى الإعجاز العلمي مثلاً، ويريد أن يجعل هذه الآية تدل على حدثٍ فلكي، أو على حدثٍ أرضي أياً كان، ويقول: إن هذه الآية تدل على هذا المعنى، فقد يكون عنده نقص في العلم، لم تكتمل الأداة العلمية عنده، وقد يكون عنده نقص في المصادر، أي في التعاطي مع مصادر التفسير، ومن أهم مصادر التفسير-وسنأتي إلى ترتيبها بعد قليل-الذي هو تفسير السلف؛ لأننا قلنا: إن جميع القرآن قد عُلم وفُهم معناه بالنسبة لهم.
إذاً: لماذا نفهم كلام السلف؟ نفهم كلامهم لكي لا ننقض قولهم، لأنه ينتج عن نقض قولهم مخالفة الإجماع.
ومعناه هذا أنه إذا جاء عندنا كلام للسلف على وجه واحد، أو اختلفوا فيه، فجاء متأخر وقال: كل ما فهمه هؤلاء غير صحيح، فيقال له: ما هو الصحيح؟ يقول: الصحيح هو هذا الفهم، وهذا الكلام قد يقوله بهذا الأسلوب أو يقوله بأسلوب آخر، إن القول الصحيح الذي لا معدل عنه هو كذا، إلى القول المعاصر.
ولازم هذا القول أن كل من سبقنا من الصحابة، وقد يتعدى الحال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا معنى هذه الآية، ومعنى هذا أنه صار معنى هذه الآية مجهول لهؤلاء كلهم، ولم يعرفه إلا فلان بن فلان في هذا العصر، فهل هذا القول يُقبل؟ وهل هذا القول معقول؟ نقول: هذا قول غير مقبول، لأن هذا هو لازم هذا الأسلوب الذي ينتهجه بعض من يفسر القرآن في هذا الوقت.
ولزيادة الإيضاح أقول: إذا جاء شخص يفسر القرآن بأي وجه من الوجوه يسميه إعجازاً علمياً أو تفسيراً معاصراً أياً كان هذا الاسم، إذا جاء إلى آية وظهر له منها معنىً جديداً، وقال: إن المعنى الذي أذكره هو المعنى الصواب، وأن من سبقني قد أخطأ في معنى هذه الآية، بأي شكل من الأشكال قالها، لكن محصلة قوله أن هذا الذي ذكره هو هو المعنى الصحيح الذي لا محيد عنه، وغيره من الأقوال غير صحيح، فيلزم من قوله هذا أن هذه الآية أو المقطع من الآية أو هذه اللفظة لم يعلم معناها أحد ممن سبق أبداً على أي وجه من الوجوه، وكلهم قد جهلوا معناها حتى جاء هذا الوقت ففهمها فلان بن فلان، هذا هو فحوى قوله، ونقول: هذا كلام غير صحيح، أو هذا الأسلوب غير صحيح، ولكن الأسلوب الصحيح أن نقول لما نفهم معنىً جديداً أن هذا المعنى الجديد هو إضافة لما ذكره العلماء السابقون.
فالذي نريده الآن هو الإضافة وليس النقل، وهذه الإضافة لها ضوابطها وشروطها، وقد سبق ذكرها، فإذا جاء معنىً جديد فنحن نُعمل فيه الضوابط والقواعد، ثم ننظر هل هو صحيح أو غير صحيح؟
أما أننا نقبله على إطلاقه فهذا غير صحيح، أو نرده بدون تفكير فيه كذلك هذا غير صحيح، ولكن الذي ينبغي أننا نتأمل فيه وننظر، فإن كان صحيحاً قبلناه وصار إضافة.
ومن هذه الضوابط التي تجعلنا لا نقبله مناقضته لأقول السلف؛ لأنه يلزم منه أن هذه الآية لم يُعلم معناها أبداً، حتى جاء فلان وعلم معناها؛ لأن الإتيان بقول جديد في التفسير يزعم فيه قائله أنه لم يعلمه أحد ممن سبق قول غير صحيح، أما مسألة الاستنباط فباب الاستنباط أوسع من باب التفسير، وقد يأتي فيه عند المعاصرين ما لم يكن عند المتقدمين، لكن يبقى هذه القضية أنه إذا نقض أقوالهم، سواء كانت الأقوال مختلفة أو الأقوال متفقة، فإنه لا يجوز أسقط أقوالهم.
بعض أوجه التفسير الجديدة
وقد كتبت عن هذه المسألة في مجلة معهد الإمام الشاطبي العدد الثاني، تكلمت عن هذه المسألة بالذات، في قضية الموقف من تفسير السلف خلال معالجة التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، كيف تكون؟ وفصلت ووضحت، وفيها أمثلة، لكن الملاحظ أن بعض المعاصرين لما يأت يتكلم عن آية، يقول: وقد تخبط المفسرون، وقد حار في هذه العلماء ولم يفهموا وجهها، مثال ذلك قضية البرزخ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:20]، يقول أحد الباحثين: حار المفسرون في فهم هذا المعنى، ولم يصلوا فيه إلى كذا، ويبدأ يتكلم فيفهم من كلامه أن كل ما قاله المفسرون غير صحيح، ويرى أن الصحيح ما اكتشف في العصر الحاضر من قضية البرزخ الذي بين النهرين وبين البحرين.. إلى آخره، وما يكون فيه من نوع الحياة ويذكر ويفصل في هذه.
ووجه الإشكالية في هذا، أنه إذا قلنا أن هذا هو البرزخ دون غيره، يدل على أن كل ما فهمه السابقون باطل، ولازم ذلك أن كل من سبقنا لم يعرفوا معنى قوله: بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:20]، فكلهم قد جهلوا هذا المعنى، وهذه هي المشكلة، مع أن الآية فيها أقول كثيرة، منها أن المراد بمرج البحرين: بحر السماء وبحر الأرض، ومنها مرج البحرين أن كل بحرين يدخل بعضه مع بعض يكون بينهما برزخ لا يبغيان.
وهناك أقوال أخرى مثل: بينهما برزخ لا يبغيان أي: الأرض اليابسة التي تحبس البحار، فإذا شاء الله في آخر الدنيا كسر هذه الحواجز، الذي هو البرزخ ودخل ماء على الماء.
فهذا الذي تكلم بهذا الكلام لم يبحث هل هذه المعاني التي قالها المفسرون صحيحة ولها وجه من التأويل أو غير صحيحة، فإذا كانت صحيحة فيقول: هذه المعاني صحيحة وهي نوع من البرزخ قال به قتادة ، وهذا نوع من البرزخ قال به ابن عباس ، وهذا نوع من البرزخ قال به فلان، وكل هذه يصدق عليه أنها برزخ، وهناك نوع من برزخ اكتشفه العلم الحديث ويصدق عليه ... فنضيفه، وهذا فرق واضح بين الطريقتين، هذا هو الذي نريد الآن، أن يقال: أنت صحح أقول السابقين وافهم وجهها ثم أضف ...
ولم يدخل في ذهن هذا القائل أن هذا المعنى هو الصواب وغيره غير صواب، ثم إن قائل هذا القول قد يكون من الفضلاء الذين لو نبهوا على لازم أقوالهم لقال: أنا أعدل عبارتي ولا أريد هذا، ولم يقرب من ذهني أني أقول بهذا القول، فهي أحياناً إشكالية في العبارة فقط.
فهذه القضية تعتبر مهمة جداً، فينتبه لها من يتعاطى هذا النوع من التفسير، وهي كيف يتعامل مع أقوال السلف، وكيف يخرج بالقول الجديد دون أن يبطل أقوال السلف، وهذا هو النوع الثاني الذي هو النقص في التعامل مع مصادر التفسير، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله.
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن
المسألة الثانية: بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن، وهذه قضية الحقيقة شائكة من جهة، وهي هل الرسول صلى الله عليه وسلم بين جميع معاني القرآن أو لم يبين؟ هذه تحتاج إلى نظر تاريخي ونظر في الآثار.
فإذا رجعنا إلى الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في البيان المباشر للألفاظ، نجد أنه قليل جداً، ولهذا بعض العلماء قال: إن بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن قليل جداً -يريد التفسير-؛ وذلك لأن أغلب المعاني معروفة للصحابة، فإن أشكل عليهم معنىً سألوا عنه، وهذا تدل عليه الآثار، فلما استشكلوا قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين لهم.
وبهذا الأثر نستدل على أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن على حسب ما يعرفونه من لغتهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]، ففهموه على لغتهم، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عما استشكلوه.
إذاً فنحن نقول: يقيناً أنه ليس هناك شيء في القرآن يحتاج إلى بيان إلا وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بلا إشكال؛ لأنه ما توفي صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين لهم جميع البيانات.
يأتي استشكال آخر وهو قد يكون بعض الصحابة علموا وبعضهم لم يعلموا، لكن هذا لا يلزم منه أنه صلى الله عليه وسلم أبان لهم عن بعض الألفاظ، مثل ذلك: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا [العاديات:1]، هل يمكن لأحدٍ أن يجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم المراد بالعاديات؟ والجواب: لا يمكن ذلك؛ لأنه إذا رجعنا إلى الآثار التي بين أيدينا نجد أن هناك خلافاً بين السلف، وبعض الصحابة فيقول بعضهم: العاديات: الإبل، وبعضهم يقول: العاديات: الخيل.
فلو كان عند واحد منهم في العاديات أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذكره في حال الخلاف، ولهذا نراهم في مثل هذه القضية اختلفوا، ولم يذكر أحدهم ما عنده من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حال الاختلاف، وفي مثل هذا الاختلاف لم نجد ما يدل على أنهم ذهبوا في تفسير العاديات إلى ما يعرفونه من لغتهم، وهذه مسألة محتملة لهذه وهذه، وهي مجال للاجتهاد، فقال بعضهم في العاديات: إنها الإبل، وقال بعضهم العاديات: إنها الخيل.
وبهذا يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ما كانوا يحتاجون فيه إلى بيان، أما ما يتعلق بالألفاظ التي يعرفونها من لغتهم والأساليب التي يعرفونها من لغتهم فلم يأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما أشكل عليهم، أما ما لم يشكل عليهم فهو كأنه مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم.
تفسير الصحابة للقرآن والتوقف عليه
القضية الثالثة: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد عُلم أنهم فسروا القرآن على ما فهموه، ومن جهتهم بلغنا تفسيره ومعناه، والتوقيف ينافي هذا، فإطلاق القول بالتوقيف هو المنع من الرأي وهذا لا يصح.
وهنا مسألة أخرى وهي لو أننا قلنا: إن التفسير يؤخذ عن الصحابة فقط.
فلما نأني إلى الوارد عن الصحابة، فلن نجد في جميع الآيات كلاماً عن الصحابة والسبب لأنا نجد كلاماً لهم عن بعض الآيات، لكن في كثير من الآيات قد لا نجد، ونحن نحتاج إلى فهم معناه، فلو قلنا بتوقيف التفسير على الصحابة، لكانت النتيجة القول بتوقف علم التفسير.
كذلك لو قلنا لا يؤخذ إلا من التابعين فقط مع الصحابة، لزم منه توقف التفسير عندهم، ولو قلنا عن أتباع التابعين لزم أيضاً توقف التفسير عندهم، لكن لما رجعنا إلى مجموع هذه التفسيرات وجدنا أن أغلب وجوه بيان القرآن قد صدرت عنهم، وما أضيف إليهم من وجوه البيانات إما أن يدخل في أقوالهم، وإما أن يكون موازياً لأقوالهم، وإما أن يكون مضيفاً معنىً، وهذا المعنى قد يكون صحيحاً محتملاً، وقد لا يكون صحيحاً فلا يحتمل، هذا ما يتعلق بالقضية الثالثة.
تفسير القرآن باللغة العربية
القضية الرابعة: أن هذا الفرض لا يمكن لأن النظر في القرآن من جهتين:
من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف، وهذا صحيح؛ لأنه الأصل أنه ما من أمر شرعيٍ إلا وقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
واختلاف العلماء فيه لا يعني عدم بيان النبي صلى الله عليه وسلم له، كاختلافهم في (القرء) هل هو الطهر أو الحيض؟ لقوله: وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، قد يقول قائل: اختلافهم في (القرء) يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين، نقول: كلا؛ لأن كل واحدٍ منهم أخذ بالسنة هنا، واختلفوا في فهمها، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين، لكن وقع الإشكال عند الناظر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وليس في كلامه أو في بيانه.
فإذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بين معانيها، ومع هذا وقع الاختلاف بعده وليس في كلامه، وهذه قضية مهمة، أنه ما من قضية شرعية إلا والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بينها وأوضحها، فقد تكون خفيت على بعض وعلمها غيرهم.
قال: من جهة المآخذ العربية، قال: [وهذا لا يمكن فيه التوقف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين وهو باطل].
أي أن اللغة العربية مصدر من المصادر، فلو قلنا: إنه لا يجوز الأخذ بها أو أن نتوقف على ما ذكره الصحابة منها، للزم أن يتوقف فيها من جاء بعدهم، ومع ذلك علم أن علم التفسير قد توقف، وهذا لم يقل به أحد.
تفسير القرآن بمجرد الرأي
الملقي: قال رحمه الله: [وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية، أو الجاري على الأدلة الشرعية، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، فما كان مذموماً في القياس أيضاً، حسب ما هو مذكور في كتاب القياس، بأنه تقول على الله بغير برهان، فيرجع إلى الكذب على الله تعالى، وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء، كما رُوي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (ستجدون أقوماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما أخاف عليكم رجلين، رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه)، وعن عمر أيضاً: (ما أخاف على هذه الأمة من مؤمنٍ ينهاه إيمانه، ولا من فاسقٍ بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله)، والذي ذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سُئل عن قوله: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]، فقال: أي سماء تظلني .. الحديث، وسأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن: يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، فقال له ابن عباس : فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، قال الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما، نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم، وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سُئل عن شيءٍ من القرآن قال: أنا لا أقول في القرآن شيئاً. وسأله رجل عن آية، فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه. يعني عكرمة ، وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك، وقال ابن سيرين : سألت عبيدة عن شيءٍ من القرآن، فقال: اتق الله وعليك بالسداد، فقد ذهب الذي يعلمون في ما أنزل القرآن، وعن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله، وعن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه، وعن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله، وإنما هذا كله توقٍ وتحرز أن يقع الناظر فيه بالرأي المذموم، والقول فيه من غير تثبت.
وقد نُقل عن الأصمعي وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة، أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله، وإذا سُئل عن ذلك لم يجب، انظر الحكاية عنه في الكامل للمبرد ].
ذكر هنا الرأي المذموم، وهو الرأي غير الجاري على موافقة العربية، أو غير الجاري على الأدلة الشرعية، قال: فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، مثل ما في القياس.
مصادر التفسير المعتبرة
وهنا يحتاج إلى أن نرجع إلى قضية طبقات المفسرين، ونحتاج إلى معرفة ما هي المصادر الكلية التي يرجع إليها أي مفسر، بغض النظر عن طبقتهم الآن.
إذا جئنا إلى الصحابة الذين هم أول من فسر القرآن، فأول مصدر: هو القرآن، والمصدر الثاني: السنة، والمصدر الثالث: اللغة، فهذه هي المصادر الثلاث الكلية.
وأسباب النزول وقصص من نزل فيهم الخطاب كله يمكن أن تدخل ضمن السنة لأنها من باب الرواية، فيكون الكتاب والرواية، والمقصود بالرواية هو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أسباب النزول أو غيرها، وهذه كلها تدخل في حكم المرفوع، ثم يأتين اللغة العربية، وهذه هي المصادر الكلية لهم.
فالاجتهاد والرأي هو أداة يعملونه في هذه المصادر الكلية، لأن تفسير الصحابة لم يخرج عن هذه المصادر في الغالب، فإذا جاء الصحابي يفسر اعتمد على هذه المصادر.
فإذا نزلنا طبقة عن الصحابي جاء التابعي، فيعتمد على هذه المصادر الثلاث الكلية ويزيد فيها مصدراً نسبياً الذي هو الصحابي، يعني تفسير الصحابي صار بالنسبة ... لكن تفسير الصحابي بالنسبة للصحابي نفسه لا يعد مصدر، لأنه هو القائل، أما بالنسبة للتابعي فيعد مصدراً.
فإذا نزلنا إلى طبقة تابع التابعي تفسير الصحابي والتابعي بالنسبة له يعد مصدراً، فإذا جئنا إلى من بعد أتباع التابعين فإن تفسير الصحابة والتابعين وأتباع التابعين بالنسبة لهم مصدر.
وعند التحقيق سنجد أن هذه المصادر، بالنسبة لما نحن فيه الآن فإن هذه المصادر لا تعدوا أن تكون إما من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وإما أن يكون اعتماد السنة وما شابهها، وإما أن يكون اعتماد لغة العرب، وإما أن يكون اعتماد المصدر النسبي الذي هو تفسير السلف، لما نرجع في تفسير السلف نجده رجع إلى هذه الثلاثة السابقة.
فالصحابي بالنسبة لنفسه لا يعد مصدراً، وتابع التابعي يعتبر التابعي مصدراً، والتابعي إذا أخذ عن تابعي آخر صار مصدراً له، ولكن التابعي نفسه لا يكون مصدراً لنفسه، والصحابي نفسه لا يكون مصدراً لنفسه، أما إذا كان صحابي عن صحابي فقد يكون مصدراً، أما مثلاً ابن عباس بالنسبة لنا فمصدر، لكن ابن عباس بالنسبة لـابن عباس ما نسميه مصدر؛ لأنه هو القائل الأول.
تفسير الصحابة للقرآن بالرأي
فإذا نظرنا إلى هذه الطبقات بهذا الشكل، فهل الصحابة عندهم تفسير بالرأي أو ليس عندهم تفسير بالرأي؟ وبناءً على هذا التقسيم فإن الصحابة والتابعون كانوا إذا فسروا فإنهم يفسرون بالرأي، وكذلك أتباع التابعين كانوا يفسرون بالرأي.
وعلى هذا فمجال التفسير بالرأي أكثر لأن ما فسروه برأيهم أكثر، ولكن هذا الرأي الذي فسروا به هو الرأي المحمود.
إذاً ممكن أن نقول: إن جل تفسير الصحابة والتابعين وأتباع التابعين هو تفسير بالرأي؛ لأن ابن عباس إذا فسر لا يسند هذا التفسير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يرويه عن غيره من كبار الصحابة كأن يقول: عن عمر أو عن علي ، وإنما يفسر باجتهاده، وهكذا غيره كـابن مسعود و علي بن أبي طالب و عمر بن الخطاب كلهم إذا فسروا فسروا باحتهادهم.
بناءً على هذا فإذا أعمل المفسر هذه المصادر الثلاثة الذي هو الكتاب والسنة وما يدخل فيها من المرويات واللغة العربية فإنه يكون مجتهداً برأيه، وعليه فيعلم، ولهذا لماذا يختار بعضهم تفسير العاديات: بالإبل، ويختار آخرون: الخيل، وهذا هو الرأي والاجتهاد في هذا. إذاً هذا هو أصل الأخذ بالرأي.
الرأي عند المتأخرين
أما بالنسبة للمتأخرين أي المتأخرين عن هذه الطبقات، فالرأي بالنسبة لهم قسمان:
القسم الأول: التخير من أقول السابقين وبيان الراجح من المرجوح مثلما فعل الطبري ، القسم الثاني: إضافة قول جديد.
إذاً الرأي بالنسبة لنا له مجالان:
مجال التخير من أقوالهم، وهذا لا بد فيه من العلم، لأنك حينما يختلفون تقول هذا هو الصواب، ثم تعلل لأنه كذا وكذا. وإما ذكر قول جديد لم يذكروه ألبتة، وهذا يحتاج إلى الضوابط التي سبق الإشارة إليها، فإذاً هذا هو الرأي بالنسبة للمتأخرين.
وقت حدوث الرأي المذموم وسببه
فإذا رجعنا إلى قضية الرأي المذموم، فهل الرأي المذموم وقع في تفاسير الصحابة والتابعين وأتباع التابعين؟ والجواب: الأصل عدم وقوع التفسير بالرأي المذموم في هذه الطبقات الثلاث المعروفة، لكنه وقع عند الأقوام المخالفين، وهذا الأمر ابتدأ مع بداية المذاهب والفرق، خصوصاً الكلامية والعقائدية ومع ظهور مثل هذه الفرق بدأت تخرج الآراء المذمومة الذي يكون فيها تفسير القرآن تبعاً للمذهب، لأن القوم اعتقدوا ثم فسروا، فبدأت تخرج هذه الآراء المذمومة.
مثل ذلك تفسير قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ففسروا استواؤه بمعنى استولى، وهذا من الرأي المذموم، وهذا الرأي المذموم إما أن يكون عن هوى وإما أن يكون عن جهل، وسبب الأخير هو الجهل بالمصادر الأصلية أو نقص في النظر في هذه المصادر الأصلية.
وهذا هو التفصيل فيما يتعلق بقضية الرأي باختصار من خلال تاريخ التفسير، ومعرفة المذموم منه تترتب على معرفة الأصول المعتبرة عندنا، فإذا خالفت نقول: إنه مخالف للأصول.
وغالباً ما يكون التفسير بالرأي المذموم بالهوى وذلك لأنه علم الحق ولكنه لم يأخذ بعلمه، وإما الجهل، وسببه نقص في العلم.
مناقشة القول في ذم التفسير بالرأي
أما التشديد الذي جاء عن السلف، فأغلب ما ورد من التشديد ورد في طبقة التابعين، أما في طبقة الصحابة فلا أذكر إلا كلاماً لـجندب بن عبد الله ، وله توجيه، ولا أذكر أن واحد من الصحابة توقف التوقف الكلي الذي تكلم عنه، أو الأغلبي، فـأبو بكر مثلاً أو عمر يروى عنهم فيه أمثلة، حتى ابن عباس وهو من أكثر الصحابة تفسيراً توقف في بعض كلام الله وقال عبارته: (نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم)، فإذاً هو توقف في بعض الآيات، وهذا معروف عنهم، أما التوقف الكلي أو الأغلبي فأنه يغلب على الإنسان عدم الكلام عن التفسير، فهذا لم يكن إلا في طبقة التابعين فقط.
وطبقة التابعين من أصحاب المدينة ومن أصحاب الكوفة فقط أي: جملة من علماء المدينة وليس كلهم، وجملة من علماء الكوفة، وليس كلهم توقفوا عن التفسير، وهم الذين حكى أقولهم.
وعلى سبيل المثال: سعيد بن المسيب كان إذا سُئل عن شيء من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئا، وهذا ليس على إطلاقه؛ لأنه ورد عنه روايات كثيرة في التفسير، وقيل عنه في رواية أخرى: كان لا يتكلم إلا بالمعلوم، ويظهر أن المراد أنه لا يتكلم إلا بما سمع فيه كلاماً، أي ما كان عنده فيه رواية فيتكلم به، ولا يحرص على الاجتهاد في التفسير فيتوقف.
لما سُئل عن القرآن قال: سل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه، ويقصد عكرمة ، و عكرمة بالذات كان عليه مؤاخذ عند علماء التابعين، سواءً من علماء المدينة أو من علماء مكة، أي: من التابعين، الذين هم تلاميذ ابن عباس وغيرهم، ويظهر أن بعض المآخذ التي ذكروها فيها نظر؛ لأن عكرمة من أخص تلاميذ ابن عباس ، يقول عن نفسه: كان يضع في رجلي الكبل يعلمني القرآن والسنة، يعني يقيده للتعليم، بحيث لا يذهب لا يميناً ويساراً، وكان هو القريب من ابن عباس لأنه مولاه، لأنه يذهب معه في كل مكان في أسفاره وفي حضره، وكان يوقفه أعلى الباب ويقول له: إذا جاك أحد يستفتيك فأفته، فكان يقوم من على الباب فيفتي، و ابن عباس يسمع، وكذلك التفسير كان يفسر على العلم.
كذلك انعقد له مع تلاميذ ابن عباس جلسة لمعرفة رواية ابن عباس فكل كانوا يصححون له، إلا في عبارة واحد وهي خلاف تنوع، عن ابن عباس عن حوت موسى قال: كان في مكتل، فقال سعيد بن جبير : أشهد على ابن عباس أنه قال كان في زنبيل ونكتل أو زنبيل واحد، فالمعنى واحد، ولم يلحظوا عليه أي خللٍ في أقوله عن ابن عباس ولم يكن يكذب عن ابن عباس كما اتهم فيه.
فالمقصد من ذلك أن ما ذكره الإمام وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك، نقول: ليس هذا، وإنما الإنكار على عكرمة من حيث هو عكرمة ، فذكر هذا القول عنه.
وأما ابن سيرين فما ذكره مرتبط بأسباب النزول، فيما أنزل القرآن؟ وأسباب النزول تحتاج إلى أثر.
وأما كلام مسروق فهو يتكلم عن طبقة التابعين في الكوفة، وكذلك إبراهيم النخعي يتكلم عن طبقة التابعين في الكوفة، هشام بن عروة : ما سمعت أبي تأول آية في كتاب الله وهؤلاء من أهل المدينة، مع أن هشاماً له تفسير بالرأي من ذلك نقاشه مع عائشة في قضية: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، كان له فهم وصوبته له عائشة ، وهذا إشارة سريعة إلى ما يتعلق بقضية تاريخ التفسير بالرأي عند السلف.
أما التوقي في أهل اللغة الذي ذكر منهم الأصمعي ، فقد ورد عن الأصمعي تفاسير لكنها قليلة جداً، وكان لا يحب أن يتكلم في القرآن وفي أيضاً شرح السنة وفي النجوم.
ولذا ورد الكلام عنه قليلاً جداً، بل هو من النادر، ويعتبر كلام الأصمعي عن القرآن أنه هو من باب يفسر لفظة من ألفاظ القرآن، وكان يحرص ويتوقى بشكل شديد، حتى إنه كان في بيت شعر شيء من القرآن فحرص ألا يبن معناها، وكل هذا من باب التوقي.
لكن هذا يعتبر من باب المذهب الخاص، أي أنه هذا مذهب خاص بفلان وفلان وفلان، لكن جمهور التابعين وقبلهم الصحابة كانوا يفسرون بالرأي. ولذا بقي عندنا ولله الحمد والمنة شيء كثير من منثور كلامهم في التفسير.
أسباب ذم القول بالقرآن بالرأي
قال رحمه الله: [فصل: في الذي يُستفاد من هذا الموضع أشياء، منها: التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة، فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات: إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين، كالصحابة والتابعين ومن يليهم، وهؤلاء قالوا: مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم، ونحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم وهيهات.
و
ذكر في أول مسألة قضية إعمال الرأي في القرآن، فقال: جاء ذمه وجاء ما يقتضي إعماله، وهذا صحيح فإذا رجعنا إلى الآثار فإننا سنجد آثاراً تذم القول بالرأي، سواءً في القرآن حتى في الشريعة عموماً.
ونجد آثاراً أخرى تقول بالرأي إما تطبيقاً وإما أمراً به، وقد ذكر مثالاً وهو من أوضح الأمثلة وهو حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله سبحانه وتعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]، قال: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم).
ثم لما سُئل عن الكلالة قال: (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان).
فإذا نظرنا إلى هذين الأثرين نجد أن بينهما تناقض، فمرة توقف أبو بكر ومرة لم يتوقف، والسؤال الذي يُسئل ما هو سبب توقفه في الأول وعدم توقفه في الثاني؟
فلو جهل أبو بكر معنى الأب، فجهل كثير من الناس لا يؤثر، لأن الجهل بهذه المفردة وهي الأب لا يؤثر في فهم المعنى المجمل للآية وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]؟ لا شك أن هذا لا يؤثر.
أما إذا جُهل معنى الكلالة، فإنه يؤثر هذه قضية.
القضية الثانية: هل معرفة الأب لها أثر عملي على الناس؟ الجواب: لا ليس لها أثر، وهل معرفة الكلالة لها أثر عملي على الناس؟ الجواب: نعم لها أثر. لأن الكلالة يُبنى عليها حكم شرعي، وبهذا نفهم سبب اجتهاد أبي بكر في الكلالة دون اجتهاده في الأب.
وكأنه يقول بما أنه إمام المسلمين وهو المرجع العلمي الأول اضطر إلى أن يجتهد في الكلالة؛ لأنه يُبنى عليها عمل، أما في الأب فلا يُبنى عليها عمل فتوقف فيها ولم يضره ذلك، إذاً فهذا ملحظ يحسن أن ننتبه له حينما نعرف مثل هذا الأثر الوارد عن أبي بكر ، وسبب توقف أبي بكر رضي الله عنه.