شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

استدلال الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بقوله: (ولم نك من المصلين)

قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتاب الموافقات: [ فصل:

ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار؛ فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع، بقوله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:43-44].. الآية، إذ لو كان قولهم باطلاً لرد عند حكايته.

واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم: ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، وأنهم: خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، أعقب ذلك بقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف:22]، أي: ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئاً، ولما حكى قولهم: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، لم يتبعه بإبطال، بل قال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ [الكهف:22]؛ دل المساق على صحته دون القولين الأولين.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم.

ورأيت منقولاً عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، فقيل له: أكان شاكاً حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال: لا، إنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان، ألا تراه قال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]؟! فلو عمل شكاً منه لأظهر ذلك؛ فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان.

بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا [الحجرات:14]؛ فإن الله تعالى رد عليهم بقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها، وما هو منها حق مما هو باطل ].

هذا الفصل تتمة للقاعدة التي ذكرها الإمام رحمه الله تعالى فما يتعلق بحكايات القرآن، وقد ذكر القاعدة أنه إذا ورد كلام باطل أو فيه خطأ؛ فإنه يقع رد له إما قبله وإما بعده، وإذا لم يقع رد له؛ فإنه يدل على صحته في ذاته.

فأخذ من هذا هذه القاعدة ما اطرد واعتمده النظار في استدلال جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:43-44]، فالكفار يتلاومون في النار، ويقولون: إن سبب دخولهم هذه الأعمال، وهي من الفروع، فقال: لو كان قولهم باطلاً، لرد عليه عند حكايته؛ فلما لم يرد دل على صحته.

وكذا ما ذكره من آية الكهف، فقد سبقت الإشارة إليها، وما ذكره أيضاً عن سهل بن عبد الله ، وهو موجود في تفسيره، وتفسيره مطبوع، وقد طبع أيضاً حديثاً، فله طبعة قديمة وطبعة أيضاً حديثة جديدة، وما ذكره أيضاً واضح من الاستدلال بالآية أن إبراهيم عليه السلام إنما أراد ما فوق العلم وهو اليقين؛ لقوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، بخلاف ما ذكره عن الأعراب، فإنه رد عليهم بقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات:14]، فإبراهيم لم يقال له: لم تؤمن، لما قال: بلى، فدل على صحة ذلك، بخلاف الأعراب الذين رد عليهم، وكل ما سيأتي فيه هذا الجانب، نعم.

المقصود بكذب المنافقين في قوله تعالى: (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)

قال رحمه الله: [ فقد قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1].. إلى آخرها؛ فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل، فظاهرها حق وباطنها كذب، من حيث كان إخباراً عن المعتقد وهو غير مطابق؛ فقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]؛ تصحيحا لظاهر القول، وقال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]؛ إبطالا لما قصدوا فيه ].

هذه الآية من اللطائف التي لها علاقة بهذا المبحث، قال: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، ثم قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]، ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، لما قال المنافقون: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، كلامهم هذا من حيث هو بالنسبة لمعتقدهم ليس صدقاً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]، من باب الاعتراض، فالجملة اعتراضية؛ لئلا يفهم أن الله سبحانه وتعالى لما قال: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، ينفي عنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، أشار إلى كذبهم في دعواهم، وليس إلى ذات القول، فذات القول: إنه رسول الله حق، لكن المردود عليه هو زعمهم ودعواهم أنهم يشهدون بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله فرد عليهم هذه الدعوة.

قصة اليهودي الذي ذكر أن لله أصابعاً وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم

قال رحمه الله: [ وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67].. الآية، وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: ( مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: حدثنا يا يهودي! فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟!.. )، وأشار الراوي بخنصره أولاً، ثم تابع حتى بلغ الإبهام, ( فأنزل الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] ).

وفي رواية أخرى: ( جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يمسك السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] )، وفي رواية: ( فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً ).

والحديث الأول كأنه مفسر لهذا، وبمعناه يتبين معنى قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجملة، وذلك قوله: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية، وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه، وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه؛ فقال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] ].

الحرص على اتباع النص والابتعاد عن التأويل

هذا الأثر الذي ذكره ابن عباس وكذلك ورد عن غيره في قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، الرسول صلى الله عليه وسلم لما ضحك لم يستنكر، والذي روى الحديث قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً، وليس استنكاراً؛ لأن بعض المتأخرين من الذين يرون تأويل الصفات يردون هذه ويقولون: هذا من رأي الراوي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر اليهودي، وهذا لا شك أنه خلاف الأثر.

وهنا أحب أن نلتفت إلى أمر مهم، وهو أن أهل السنة والجماعة سموا بأهل الآثار؛ لأنهم يعتمدون الآثار، ويعتمدون ما جاء فيها، ولا شك أن هذا المنهج هو الأسلم والأحكم؛ لأنه لا يمكن أن يكون المتأخر أعلم ممن شاهد الحال، فالراوي شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وشاهد ما حصل، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب أو أنف مما فعل اليهودي، لو كان اليهودي قد فعل شيئاً غير صحيح لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المقام؛ لأن هذا من المقامات التي لا يصلح أن يؤخر فيها البيان؛ فدل على أن ما قاله حق، وليس بالجملة، بل بكله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض على شيء من ذلك.

أما ما يتعلق بقضية الإشارة بالأصابع أو بالإبهام، فهل هذا فيه إشكال من جهة الشرع؟ فنحن لا نناقش قضية العقل؛ لأنه إذا حكمنا العقل في مثل هذه المسائل فستخلف العقول؛ إذاً أقول: ورد في الشرع شيء يماثل ما فعله اليهودي، وذلك حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، وأشار بأصبعه بالإبهام والسبابة إلى عين نفسه وأذنه )، فهذا فعل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل سيكون المتأول المتأخر في التنزيه أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولهذا إذا جاء هؤلاء لإبطال هذا المعنى، يقولون: بأن هذا خبر آحاد، أو ما شابه ذلك، أو لعل الراوي غلط، أو يأتون بتخريجات لإسقاط النص، وليس هذا هو النص الوحيد في مثل هذه المسائل؛ ولهذا تعجب حينما تجد في بعض كتب العقائد، حينما يقولون: ولا يقال له: أين؟ أو: ولا يشار له بالأين، أو: والأينية عنه منتفية، ويرون هذا من باب التنزيه؛ فنقول: وإن كان يحمد لهم حرصهم على التنزيه إلا أن هذا يخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في حديث مسلم وهو صحيح صريح، واضح جداً، قال للجارية: ( أين الله؟ )، فهل النبي صلى الله عليه وسلم أقل بياناً وبلاغاً في هذه الأمور حتى يجيء هؤلاء المتأخرون ويزعمون في مثل هذه الأمور أنه لا يجوز أن يقال عن الله: أين؟! فلا شك أن هذا فيه إشكالاً، وسببه لا شك هو استخدام العقل المجرد، الذي لا يعتمد على النصوص، ولا يفهم من ذلك أن العقل قد ألغي مع النصوص، لكنه عقل يرتب على ما يرد في الآثار؛ ولهذا أقل الناس تخبطاً هم أهل الآثار؛ لأنهم يقفون عند الأثر ولا يتعدون، وأما كثير من المتكلمين فتجد عندهم التخبط وعدم الاتزان، بل أحياناً قد يصل إلى حد الاضطراب، وقد شهد لبعضهم بحصول الاضطراب ليس ممن يعارضهم بل ممن يوافقهم في مثل هذه الأصول الكلامية، ودللوا على ذلك بأمثلة واضحة جداً من كتبهم، أنه يحصل عندهم اضطراب.

المسألة ليس هذا مقاماً للتفصيل عنها، لكن المقصد من ذلك أننا يحسن بنا دائماً حينما نناقش هذه المسائل وقد كررتها كثيراً، أن نهرع إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نعتمد ما فيها من الآثار والألفاظ، إلا إذا كنا نريد أن نفرغ ألفاظ الشريعة من معانيها، وهذه مشكلة خطيرة جداً، بأن نقول: والله هذه ألفاظ مدلولات ولا تدل عليها، وأن لها مدلولات أخرى، والظاهر الذي تفهمونه ليس بصحيح، وإنما لها باطن لا تعرفونه، وبهذا نقع في إشكال آخر، وبهذا لا يكون عندنا في الشريعة شيء، فمن أجاز التأويل في مثل هذه الأمور من باب التنزيه كما يقول وكما قلت لكم: أنه يحمد له النظر إلى التنزيه، وإن كان لم يسلك السبيل الصحيح، ولم يصل إلى النتيجة الصحيحة، لكن نقول له: نحن له هذا، فإن التأويل لا حد له، ولا تستطيع أن تضبطه، بمعنى أنك إذا أردت تضبط التأويل العقلي المجرد، فلا يمكن أن تضبطه؛ ولهذا بعض الفلاسفة مثل ابن رشد إنما تكلموا في تأويل أو صحة أو جواز تأويل أمور المعاد بقانون التأويل الذي بنى عليه المتكلمون أصولهم، لهذا يقولون معنى كلامهم : الذي أباح لكم أن تؤولوا في صفات الله الخبرية يبيح لنا أن نؤول في أمور المعاد، فالمسلك واحد؛ ولذلك بعض علماء الكلام اضطربوا في مثل هذه الأمور، خصوصاً أيضاً من دخل منهم في الفلسفة فإنه قد اضطرب اضطراباً شديداً، وبعضهم هو الذي بدأ، وكانت عنده بدايات في أنه يجوز عقلاً، لكن يمنعه ولا يدري كيف يمنعه، فيتوقف في كيفية منعه، ويقول: هو من جهة التأويل ومن جهة العقل قد يجوز، وقد ناقشه تلميذه المغربي في مثل هذا الموضوع وصار بينهما جدال، وكل كتب في ذلك قانوناً للتأويل، وهذا القانون الكلي هو الذي كتب فيه أيضاً من جاء بعدهم، ثم استطال الأمر حتى وصل إلى مثل ابن رشد الفيلسوف، الذي يقال له: ابن رشد الحفيد ، واعتمد على قانون التأويل في تجوز تأويل أمور المعاد، وأما الفلاسفة الصرحاء مثل ابن سينا وغيره، فهم يرون ذلك بلا إشكال، وأن الأنبياء خاطبت العامة بما يعرفون، وأن هذه الألفاظ تتناسب مع الظواهر وتتناسب مع فهم العوام، ولكن الصحيح هو بواطنها وأنه ليس ثم معاد جسماني.. إلى آخره من الأشياء التي ذكر هؤلاء.

فالمقصد من ذلك أن السلامة كل السلامة في اعتماد الأثر، وليس هناك لا خوف تشبيه ولا خوف تمثيل ولا غيره، فهذ الأمثلة قد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة وسمعوها فلم يقع منهم ذلك، وحكي جيلاً بعد جيل، ولم تقع إلا عند من يكون عنده مشكلة من جهة الرأي، هو الذي تبدأ عنده هذه الإشكالية والحساسية، وإلا لو استمر جيلاً بعد جيل وحكيت ما صار عندنا فيها أي إشكال، في هذه.

والإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في بعض هذه الأمور على أصول المتكلمين يذهب إلى مذهب التأويل، ولا يعمل ظاهر النص، ولو قرأنا كتبه هذا والاعتصام؛ فسنجد عنده في هذه الأمور شيئاً من التأويل، وسيأتينا أمثلة لهذا.

قال رحمه الله: [ وقال تعالى: وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة:61]، أي: يسمع الحق والباطل، فرد الله عليهم فيما هو باطل، وأحق؛ فقال: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة:61].. الآية، ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61].

وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]؛ فهذا منع امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء؛ فرد عليهم بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47]؛ لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر، وجواب (أنفقوا) أن يقال: نعم أو لا، وهو الامتثال أو العصيان، فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض؛ انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا؛ إذ حاصله أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة؛ لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم؟! وهذا عين الضلال في نفس الحجة.

وقال تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78] إلى قوله: وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79]؛ فقوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]؛ تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما كان المجتهد معذوراً مأجوراً بعد بذله الوسع؛ قال: وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79] [الأنبياء: 79]، وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه، قال الحسن : والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين؛ لرأيت أن القضاة قد هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده، والنمط هنا يتسع، ويكفي منه ما ذكر، وبالله التوفيق ].

المثال الذي ذكره في قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا [يس:47]، واضح أنه من هذا الباب وشرح الإمام رحمه الله تعالى واضح أيضاً، وكذلك ما ورد عن داود وسليمان.

المصيب في قصة داود وسليمان مع المرأتين

لكن هنا أيضاً نحتاج في الحقيقة إلى وقفة أخرى غير ما ذكره الإمام؛ لأن ما ذكره واضح، وهنا قضية حكم فيها سليمان وحكم فيها داود، والإصابة كانت مع سليمان، وداود لم يصب، نحن في مثل هذا الكلام نتكلم في مقام النبوة، يعني في مقام نبيين كريمين.

ونلاحظ أن بعض العلماء من باب الأدب مع الأنبياء قد يتحاشون أن يذكروا مثل هذه الأمور، والسبب هو الأدب مع الأنبياء، لكن لا شك أن الأدب مع الله أولى، فكون الله سبحانه وتعالى ينص في كتابه بعبارة واضحة أن أحدهما أصاب والثاني لم يصب، فلا يمكن أن نأتي ونقول بأن الثاني أيضاً أصاب؟! ولهذا بعص المفسرين عفا الله عنهم ورحمهم! إذا جاء إلى هذه الآية يستشكل أو يستصعب أن يقول: إن داود عليه السلام قد وقع منه خطأ في هذه القضية، هو اجتهد لكنه أخطأ؛ ولهذا كلام الحسن لما قال: فإنه أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده، معنى أنه لم يصب في القضية، ولو رجعت إلى تفسير بعض العلماء فإنك تجده يتأول ويتمحل ويتكلف؛ لكي يخرج داود من أن يكو قد وقع منه في هذه القضية خطأ، مع أنها قضية واحدة، فإما هذا الحكم صواب وإما هذا الحكم صواب، ما تحتمل أكثر من هذا.

ومثله القضية التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر المرأتين التين ادعيتا ولداً، فحكم داود عليه السلام به لأحدهما، ثم حكم سليمان بأمر آخر، واكتشف أم الولد بالحيلة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يشق الغلام نصفين، نصف لهذه ونصف لهذه، فقالت الأم: بل هو لها؛ لأنها أرأف بابنها، ولو كانت الأخرى لقالت مثلها، فلما سكتت الأخرى دل على أن الأم هي من تكلمت وأرادت بقاء الولد.

إمكانية وقوع الأنبياء في الخطأ

فالمقصد من ذلك أنه لا يمكن أن نقول: إن هذا الحكم صحيح وهذا الحكم صحيح، في مثل هذه القضايا؛ فإذاً أيضاً نقول من باب الأدب مع الله سبحانه وتعالى: إن كلامه سبحانه وتعالى وبيانه أبلغ البيان، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى خاطبنا بما لا نفهم ولا نعلم ولا ندرك؛ ولكي ندرك هذه المعاني التي قالوها يلزم منها أن نتمحل ونتكلف التكلفات الباردة؛ ولهذا أحد العلماء رحمه الله كتب تنزيه الأنبياء عن ما ينسبه إليهم السفهاء أو كذا، والكتاب كله مليء بالتأويلات الباردة، الشديدة جداً، وهو يريد أن يقول: إنه لم يقع من أي نبي من الأنبياء خطأ.

وهنا نقول مرة أخرى، نؤكد عليها أن باب الأدب مع الله أولى، وأن اعتماد ظاهر نصوص القرآن أولى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد بين كلامه بأعلى البيان الذي لا يحتاج فيه إلى أن يبين؛ ولهذا لو نقلنا هذه القصة إلى أي لغة كانت فإنه سيفهم من نقلت إليه وترجمت له أن أحدهما وقع منه كذا والثاني وقع منه كذا، وأن أحدهما قد أصاب والثاني لم يصب، وقس على ذلك غيرها.

ومثل ذلك عتابات النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم أخطأ في بعض الأمور وأن الله سبحانه وتعالى عاتبه؛ لأن الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه قد عاتب نبيه، ولا يعاتبه إلا عن شيء خطأ، فاحترامنا لنبينا صلى الله عليه وسلم وتقديرنا لنبينا صلى الله عليه وسلم لا يعني أننا لا نذكر ما ذكره الله سبحانه وتعالى فيه، فالأصل هو اعتماد النصوص؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، ويقول: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]؛ فلو لم يكن أخطأ لكان العتاب في غير محله وهذا ليس من الحكمة، ولذلك قال: لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، والرسول صلى الله عليه وسلم يفسر هذه الآية، ويقول: ( لو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر )؛ فمثل هذه الأمور يحسن بنا أن نكون في ميزان وسط، فلا يجوز لنا أن ننسب للأنبياء ما لم ينسبه الله سبحانه وتعالى لهم، أو ما لم ينسبه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، ولا يجوز أن نسلب منهم أيضاً ما أثبته الله سبحانه وتعالى لهم؛ فإذاً القضية هي اتباع النصوص، وإلا لو اطلعنا على كلام الحسن رضي الله عنه لما قال: والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين، ما قال: النبيين ولا قال: عليهما السلام ولا غيره، قد يقول قائل لما ينظر هذا فيقول: هذا فيه جفاء مع مقام النبوة، فنقول: لا شك، إذا أردنا أن نناقش نقول: الأكمل أن يقول كذا، لكنه لا يعني ذلك أن ما قاله فإنه حرام، وإنه لا يجوز.. إلى آخره.

والخلاصة أن اعتماد النصوص هو الصواب وهو الأولى، وهو الذي يقينا نحن؛ فلما يأتي إنسان يجادلك، فتقول له: الله سبحانه وتعالى يصرح في كتابه، إلا إذا كنا لسنا عرباً أو أن كلام الله ليس مفهوماً، قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1]، لماذا؟ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، هذه الآية هل نحتاج فيها لما يوضح لنا أن الله سبحانه وتعالى قد نسب الذنب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه وتعالى قد غفر لنبينا صلى الله عليه وسلم ذنبه؟ لا نحتاج إلى من يبين لنا هذا المعنى؟ ولا نقول: قصد ذنب أبيه آدم فنكون مثل النصارى الذين قالوا بالخطيئة، أو بعضهم يقول: إنما المراد ذنوب أمته، أين وجه الدلالة العربية؟ فهذا في الحقيقة لو أردنا أن نحرر فنقول: مآله في الحقيقة نسب العي لمن قال هذا الكلام؛ لأنه لم يذكر لنا المعنى مباشرة ولا فيه ما يدل عليه، وهذا لا يمكن؛ فاحترامنا للأنبياء وتنزيهنا لهم فيما لم يقع منهم هذا هو الصواب، لكن أن نأتي إلى ما أخبر الله سبحانه وتعالى به صراحة ووضوحاً ونجتهد في تأويله ونتكلف فيه من باب ما نسميه نحن: تنزيه الأنبياء، أو عصمة الأنبياء؛ فهذا فيه إشكال؛ لأن من لوازمه أن هذا الكلام فيه نقص لم يتبين بوضوح، وهذا مشكل.

قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتاب الموافقات: [ فصل:

ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار؛ فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع، بقوله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:43-44].. الآية، إذ لو كان قولهم باطلاً لرد عند حكايته.

واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم: ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، وأنهم: خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، أعقب ذلك بقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف:22]، أي: ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئاً، ولما حكى قولهم: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، لم يتبعه بإبطال، بل قال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ [الكهف:22]؛ دل المساق على صحته دون القولين الأولين.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم.

ورأيت منقولاً عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، فقيل له: أكان شاكاً حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال: لا، إنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان، ألا تراه قال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]؟! فلو عمل شكاً منه لأظهر ذلك؛ فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان.

بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا [الحجرات:14]؛ فإن الله تعالى رد عليهم بقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها، وما هو منها حق مما هو باطل ].

هذا الفصل تتمة للقاعدة التي ذكرها الإمام رحمه الله تعالى فما يتعلق بحكايات القرآن، وقد ذكر القاعدة أنه إذا ورد كلام باطل أو فيه خطأ؛ فإنه يقع رد له إما قبله وإما بعده، وإذا لم يقع رد له؛ فإنه يدل على صحته في ذاته.

فأخذ من هذا هذه القاعدة ما اطرد واعتمده النظار في استدلال جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:43-44]، فالكفار يتلاومون في النار، ويقولون: إن سبب دخولهم هذه الأعمال، وهي من الفروع، فقال: لو كان قولهم باطلاً، لرد عليه عند حكايته؛ فلما لم يرد دل على صحته.

وكذا ما ذكره من آية الكهف، فقد سبقت الإشارة إليها، وما ذكره أيضاً عن سهل بن عبد الله ، وهو موجود في تفسيره، وتفسيره مطبوع، وقد طبع أيضاً حديثاً، فله طبعة قديمة وطبعة أيضاً حديثة جديدة، وما ذكره أيضاً واضح من الاستدلال بالآية أن إبراهيم عليه السلام إنما أراد ما فوق العلم وهو اليقين؛ لقوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، بخلاف ما ذكره عن الأعراب، فإنه رد عليهم بقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات:14]، فإبراهيم لم يقال له: لم تؤمن، لما قال: بلى، فدل على صحة ذلك، بخلاف الأعراب الذين رد عليهم، وكل ما سيأتي فيه هذا الجانب، نعم.

قال رحمه الله: [ فقد قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1].. إلى آخرها؛ فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل، فظاهرها حق وباطنها كذب، من حيث كان إخباراً عن المعتقد وهو غير مطابق؛ فقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]؛ تصحيحا لظاهر القول، وقال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]؛ إبطالا لما قصدوا فيه ].

هذه الآية من اللطائف التي لها علاقة بهذا المبحث، قال: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، ثم قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]، ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، لما قال المنافقون: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، كلامهم هذا من حيث هو بالنسبة لمعتقدهم ليس صدقاً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]، من باب الاعتراض، فالجملة اعتراضية؛ لئلا يفهم أن الله سبحانه وتعالى لما قال: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، ينفي عنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، أشار إلى كذبهم في دعواهم، وليس إلى ذات القول، فذات القول: إنه رسول الله حق، لكن المردود عليه هو زعمهم ودعواهم أنهم يشهدون بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله فرد عليهم هذه الدعوة.

قال رحمه الله: [ وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67].. الآية، وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: ( مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: حدثنا يا يهودي! فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟!.. )، وأشار الراوي بخنصره أولاً، ثم تابع حتى بلغ الإبهام, ( فأنزل الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] ).

وفي رواية أخرى: ( جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يمسك السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] )، وفي رواية: ( فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً ).

والحديث الأول كأنه مفسر لهذا، وبمعناه يتبين معنى قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجملة، وذلك قوله: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية، وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه، وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه؛ فقال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] ].

هذا الأثر الذي ذكره ابن عباس وكذلك ورد عن غيره في قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، الرسول صلى الله عليه وسلم لما ضحك لم يستنكر، والذي روى الحديث قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً، وليس استنكاراً؛ لأن بعض المتأخرين من الذين يرون تأويل الصفات يردون هذه ويقولون: هذا من رأي الراوي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر اليهودي، وهذا لا شك أنه خلاف الأثر.

وهنا أحب أن نلتفت إلى أمر مهم، وهو أن أهل السنة والجماعة سموا بأهل الآثار؛ لأنهم يعتمدون الآثار، ويعتمدون ما جاء فيها، ولا شك أن هذا المنهج هو الأسلم والأحكم؛ لأنه لا يمكن أن يكون المتأخر أعلم ممن شاهد الحال، فالراوي شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وشاهد ما حصل، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب أو أنف مما فعل اليهودي، لو كان اليهودي قد فعل شيئاً غير صحيح لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المقام؛ لأن هذا من المقامات التي لا يصلح أن يؤخر فيها البيان؛ فدل على أن ما قاله حق، وليس بالجملة، بل بكله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض على شيء من ذلك.

أما ما يتعلق بقضية الإشارة بالأصابع أو بالإبهام، فهل هذا فيه إشكال من جهة الشرع؟ فنحن لا نناقش قضية العقل؛ لأنه إذا حكمنا العقل في مثل هذه المسائل فستخلف العقول؛ إذاً أقول: ورد في الشرع شيء يماثل ما فعله اليهودي، وذلك حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، وأشار بأصبعه بالإبهام والسبابة إلى عين نفسه وأذنه )، فهذا فعل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل سيكون المتأول المتأخر في التنزيه أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولهذا إذا جاء هؤلاء لإبطال هذا المعنى، يقولون: بأن هذا خبر آحاد، أو ما شابه ذلك، أو لعل الراوي غلط، أو يأتون بتخريجات لإسقاط النص، وليس هذا هو النص الوحيد في مثل هذه المسائل؛ ولهذا تعجب حينما تجد في بعض كتب العقائد، حينما يقولون: ولا يقال له: أين؟ أو: ولا يشار له بالأين، أو: والأينية عنه منتفية، ويرون هذا من باب التنزيه؛ فنقول: وإن كان يحمد لهم حرصهم على التنزيه إلا أن هذا يخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في حديث مسلم وهو صحيح صريح، واضح جداً، قال للجارية: ( أين الله؟ )، فهل النبي صلى الله عليه وسلم أقل بياناً وبلاغاً في هذه الأمور حتى يجيء هؤلاء المتأخرون ويزعمون في مثل هذه الأمور أنه لا يجوز أن يقال عن الله: أين؟! فلا شك أن هذا فيه إشكالاً، وسببه لا شك هو استخدام العقل المجرد، الذي لا يعتمد على النصوص، ولا يفهم من ذلك أن العقل قد ألغي مع النصوص، لكنه عقل يرتب على ما يرد في الآثار؛ ولهذا أقل الناس تخبطاً هم أهل الآثار؛ لأنهم يقفون عند الأثر ولا يتعدون، وأما كثير من المتكلمين فتجد عندهم التخبط وعدم الاتزان، بل أحياناً قد يصل إلى حد الاضطراب، وقد شهد لبعضهم بحصول الاضطراب ليس ممن يعارضهم بل ممن يوافقهم في مثل هذه الأصول الكلامية، ودللوا على ذلك بأمثلة واضحة جداً من كتبهم، أنه يحصل عندهم اضطراب.

المسألة ليس هذا مقاماً للتفصيل عنها، لكن المقصد من ذلك أننا يحسن بنا دائماً حينما نناقش هذه المسائل وقد كررتها كثيراً، أن نهرع إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نعتمد ما فيها من الآثار والألفاظ، إلا إذا كنا نريد أن نفرغ ألفاظ الشريعة من معانيها، وهذه مشكلة خطيرة جداً، بأن نقول: والله هذه ألفاظ مدلولات ولا تدل عليها، وأن لها مدلولات أخرى، والظاهر الذي تفهمونه ليس بصحيح، وإنما لها باطن لا تعرفونه، وبهذا نقع في إشكال آخر، وبهذا لا يكون عندنا في الشريعة شيء، فمن أجاز التأويل في مثل هذه الأمور من باب التنزيه كما يقول وكما قلت لكم: أنه يحمد له النظر إلى التنزيه، وإن كان لم يسلك السبيل الصحيح، ولم يصل إلى النتيجة الصحيحة، لكن نقول له: نحن له هذا، فإن التأويل لا حد له، ولا تستطيع أن تضبطه، بمعنى أنك إذا أردت تضبط التأويل العقلي المجرد، فلا يمكن أن تضبطه؛ ولهذا بعض الفلاسفة مثل ابن رشد إنما تكلموا في تأويل أو صحة أو جواز تأويل أمور المعاد بقانون التأويل الذي بنى عليه المتكلمون أصولهم، لهذا يقولون معنى كلامهم : الذي أباح لكم أن تؤولوا في صفات الله الخبرية يبيح لنا أن نؤول في أمور المعاد، فالمسلك واحد؛ ولذلك بعض علماء الكلام اضطربوا في مثل هذه الأمور، خصوصاً أيضاً من دخل منهم في الفلسفة فإنه قد اضطرب اضطراباً شديداً، وبعضهم هو الذي بدأ، وكانت عنده بدايات في أنه يجوز عقلاً، لكن يمنعه ولا يدري كيف يمنعه، فيتوقف في كيفية منعه، ويقول: هو من جهة التأويل ومن جهة العقل قد يجوز، وقد ناقشه تلميذه المغربي في مثل هذا الموضوع وصار بينهما جدال، وكل كتب في ذلك قانوناً للتأويل، وهذا القانون الكلي هو الذي كتب فيه أيضاً من جاء بعدهم، ثم استطال الأمر حتى وصل إلى مثل ابن رشد الفيلسوف، الذي يقال له: ابن رشد الحفيد ، واعتمد على قانون التأويل في تجوز تأويل أمور المعاد، وأما الفلاسفة الصرحاء مثل ابن سينا وغيره، فهم يرون ذلك بلا إشكال، وأن الأنبياء خاطبت العامة بما يعرفون، وأن هذه الألفاظ تتناسب مع الظواهر وتتناسب مع فهم العوام، ولكن الصحيح هو بواطنها وأنه ليس ثم معاد جسماني.. إلى آخره من الأشياء التي ذكر هؤلاء.

فالمقصد من ذلك أن السلامة كل السلامة في اعتماد الأثر، وليس هناك لا خوف تشبيه ولا خوف تمثيل ولا غيره، فهذ الأمثلة قد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة وسمعوها فلم يقع منهم ذلك، وحكي جيلاً بعد جيل، ولم تقع إلا عند من يكون عنده مشكلة من جهة الرأي، هو الذي تبدأ عنده هذه الإشكالية والحساسية، وإلا لو استمر جيلاً بعد جيل وحكيت ما صار عندنا فيها أي إشكال، في هذه.

والإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في بعض هذه الأمور على أصول المتكلمين يذهب إلى مذهب التأويل، ولا يعمل ظاهر النص، ولو قرأنا كتبه هذا والاعتصام؛ فسنجد عنده في هذه الأمور شيئاً من التأويل، وسيأتينا أمثلة لهذا.

قال رحمه الله: [ وقال تعالى: وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة:61]، أي: يسمع الحق والباطل، فرد الله عليهم فيما هو باطل، وأحق؛ فقال: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة:61].. الآية، ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61].

وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]؛ فهذا منع امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء؛ فرد عليهم بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47]؛ لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر، وجواب (أنفقوا) أن يقال: نعم أو لا، وهو الامتثال أو العصيان، فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض؛ انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا؛ إذ حاصله أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة؛ لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم؟! وهذا عين الضلال في نفس الحجة.

وقال تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78] إلى قوله: وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79]؛ فقوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]؛ تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما كان المجتهد معذوراً مأجوراً بعد بذله الوسع؛ قال: وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79] [الأنبياء: 79]، وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه، قال الحسن : والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين؛ لرأيت أن القضاة قد هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده، والنمط هنا يتسع، ويكفي منه ما ذكر، وبالله التوفيق ].

المثال الذي ذكره في قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا [يس:47]، واضح أنه من هذا الباب وشرح الإمام رحمه الله تعالى واضح أيضاً، وكذلك ما ورد عن داود وسليمان.

لكن هنا أيضاً نحتاج في الحقيقة إلى وقفة أخرى غير ما ذكره الإمام؛ لأن ما ذكره واضح، وهنا قضية حكم فيها سليمان وحكم فيها داود، والإصابة كانت مع سليمان، وداود لم يصب، نحن في مثل هذا الكلام نتكلم في مقام النبوة، يعني في مقام نبيين كريمين.

ونلاحظ أن بعض العلماء من باب الأدب مع الأنبياء قد يتحاشون أن يذكروا مثل هذه الأمور، والسبب هو الأدب مع الأنبياء، لكن لا شك أن الأدب مع الله أولى، فكون الله سبحانه وتعالى ينص في كتابه بعبارة واضحة أن أحدهما أصاب والثاني لم يصب، فلا يمكن أن نأتي ونقول بأن الثاني أيضاً أصاب؟! ولهذا بعص المفسرين عفا الله عنهم ورحمهم! إذا جاء إلى هذه الآية يستشكل أو يستصعب أن يقول: إن داود عليه السلام قد وقع منه خطأ في هذه القضية، هو اجتهد لكنه أخطأ؛ ولهذا كلام الحسن لما قال: فإنه أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده، معنى أنه لم يصب في القضية، ولو رجعت إلى تفسير بعض العلماء فإنك تجده يتأول ويتمحل ويتكلف؛ لكي يخرج داود من أن يكو قد وقع منه في هذه القضية خطأ، مع أنها قضية واحدة، فإما هذا الحكم صواب وإما هذا الحكم صواب، ما تحتمل أكثر من هذا.

ومثله القضية التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر المرأتين التين ادعيتا ولداً، فحكم داود عليه السلام به لأحدهما، ثم حكم سليمان بأمر آخر، واكتشف أم الولد بالحيلة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يشق الغلام نصفين، نصف لهذه ونصف لهذه، فقالت الأم: بل هو لها؛ لأنها أرأف بابنها، ولو كانت الأخرى لقالت مثلها، فلما سكتت الأخرى دل على أن الأم هي من تكلمت وأرادت بقاء الولد.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [7] 3996 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [4] 3338 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [12] 2944 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [8] 2909 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [9] 2783 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [6] 2733 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [11] 2649 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [5] 2170 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [13] 1687 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [2] 1666 استماع