خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/1538"> صفحة د. مساعد الطيار . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/1538?sub=5010"> شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الشاطبي رحمه الله تعالى: [ وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس ، وقال: قل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً؛ لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187] إلى قوله: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لـمروان ].
هذا الأثر عن ابن عباس ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى تحت الوجه الثاني فيما يتعلق بمعرفة أسباب النزول، وهو أن الجاهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، فنلاحظ مثلاً: أن مروان استشكل معنى هذه الآية، فحمل معنى هذه الآية على ظاهرها، خصوصاً في الأمور الدنيوية فإن الإنسان كما قال مروان قد يحصل منه أنه يفرح بما أوتي، وأنه يحب أن يحمد بما لم يفعل.
فـابن عباس نبهه على أن المعنى الذي فهمه واستشكل من أجله هذا الاستشكال ليس هو المراد بالآية؛ لأن المراد بالآية قضية مرتبطة بالاعتقاد، فهي نزلت في قضية خاصة في اليهود، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سألهم عن شيء يتعلق بكتبهم من نبوءاته صلى الله عليه وسلم، كتموا هذا الأمر وأخبروه بغيره، فهم في مثل هذه الصورة فرحوا بما أوتوا من العلم، وأيضاً أحبوا أن يحمدوا بما لم يؤتوا، فمن كان على هذه الصورة في مثل هذا المجال، فلا شك أنه يدخل في معنى هذه الآية، لكن ما فهمه مروان لا يدخل في معنى هذه الآية؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: ما لكم ولهذه الآية؟
ولا يفهم من ذلك أن الآيات التي نزلت في اليهود لا تحمل على ما شابهها في المسلمين، فالقاعدة المعروفة عندنا هي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن اعتراض ابن عباس رضي الله عنه على فهم مروان أن الصورة مختلفة، والذي حل هذا الإشكال هو سبب النزول.
أهمية معرفة سبب النزول في تحديد معنى القنوت
قال رحمه الله: [ والقنوت يحتمل وجوهاً من المعنى يحمل عليه قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فإذا عرف السبب؛ تعين المعنى المراد ].
المؤلف لم يشر إلى السبب والسبب أنها نزلت في أمر الصلاة، فقد كانوا يتكلمون في الصلاة، فنزل قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
والقنوت يحتمل وجوهاً، وهذه مشهورة في كتب التفسير، وكذلك في كتب اللغة، والمحقق أشار إلى بعض ما ذكره من سبقه من المحققين، فقال بعضهم: القنوت كالانقياد وكمال الطاعة والذكر والخشوع وطول الركوع، وألا يلتفت ولا يقلب الحصى.. إلى آخره مما فسر به القنوت، كما في قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فالقنوت يحتمل وجوهاً في هذه الآية، والذي يحدد أحد المعاني هو سبب النزول، لكن معنى القنوت في القرآن له أكثر من وجه.
ولهذا أصحاب كتب الوجوه والنظائر يذكرون القنوت في كتب الوجوه، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة لطيفة صغيرة: ذكر فيها معاني القنوت في القرآن.
استحلال قدامة بن مظعون الخمر بسبب جهل أسباب النزول
قال رحمه الله: [ وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر ، فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر : من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر : يا قدامة ! إني جالدك! قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر : ولم؟ قال: لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ [المائدة:93].. إلخ، فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، وفي رواية: فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر : وأي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟! قال: إن الله يقول في كتابه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:93].. إلى آخر الآية، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد؛ فقال عمر : ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات أنزلن عذراً للماضين، وحجة على الباقين؛ فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90]، ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر : صدقت! الحديث.
وحكى إسماعيل القاضي، قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:93].. الآية، قال: فكتب فيهم إلى عمر ، قال: فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك! فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين! نرى أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به.. إلى آخر الحديث.
ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات ].
هذا من الأمثلة الواضحة التي ذكر فيها الإمام الشاطبي عدداً من الروايات في معنى قوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93]، فما رواه عن قدامة وكذلك عن غيره أنهم فهموا معنى الآية على ظاهرها، وما دام الإنسان قد اتصف بهذه الأوصاف، فليس عليه جناح فيما طعم عموماً، أي أنهم حملوا الآية على العموم، على جواز أن يطعموا، وكان شرب الخمر مما اعتادوا عليه.
فلما قال قدامة لـعمر : لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، فجعل حجته فيما فعل القرآن واعتمد على ظاهر الآية، طلب عمر من الناس أن يردوا؛ فكان حبر الأمة هو أقرب الناس إلى الجواب، فأجاب: أن هذه نزلت بشأن سؤال واستفسار من الصحابة عما يحصل لأصحابهم ممن قد طعموا من الخمر وكانوا قد شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فأنزل الله سبحانه وتعالى رداً عليهم هذه الآيات فحمل قدامة الآية على ظاهرها دون مراعاة السبب وبمعرفة السبب لا حجة لـقدامة فيها.
فالمراد من قول عمر رضي الله عنه: إنك أخطأت التأويل أي: التفسير، وهو أحد معاني التأويل فـقدامة قد أوقع الآية على غير الفهم الصحيح.
ومن الفوائد في هذه القصة علم ابن عباس وإدراكه معاني القرآن، وهو في عهد عمر رضي الله عنه لا يزال عمره صغيراً، فالرسول صلى الله عليه وسلم توفي وعمره ثلاث عشرة سنة على أحد الأقوال حتى في أواخر عهد عمر فإنه لا يزال صغيراً، ولكنه قد أوتي من فهم القرآن ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.
دور معرفة سبب النزول في المراد بالدخان في قوله: (يوم تأتي السماء بدخان مبين)
قال رحمه الله: [ وجاء رجل إلى ابن مسعود ، فقال: ( تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه، يفسر هذه الآية: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10]، قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ بأنفاسهم، حتى يأخذهم كهيئة الزكام، فقال ابن مسعود : من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؛ فأنزل الله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10].. الآية )، إلى آخر القصة ].
في هذا الأثر اعترض ابن مسعود وهو من علماء القرآن على فهم هذا المفسر، الذي يفسر برأيه، وجعل آية: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10]، ليس المراد بها الدخان الذي يكون في آخر الزمان، وإنما المراد بها ما حصل لقريش في سني القحط، وكأنه يرى أن الآية نزلت في شأن قريش في هذه الحالة.
لن أناقش فهم ابن مسعود لكن ليعلم أن السورة مكية وأن الحدث مدني بعد الهجرة، فإذا كان فهم ابن مسعود صحيحاً فهو قرآن مدني في سورة مكية وعلى كل فهو محل خلاف بين العلماء هل المراد بالدخان ما يكون في آخر الزمان أم ما فهمه ابن مسعود ، لكن المقصد من ذلك أن ابن مسعود لما اعترض على هذا المفسر، اعترض عليه بناءً على أن نزول هذه الآية إنما كان بشأن قريش لما حصل منهم ما حصل بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الباب وهذا الأثر والأثر الذي قبله، الذي هو أثر قدامة يدخل في باب يمكن أن نسميه استدراكات السلف في التفسير، وهو بحث لطيف جداً، وبنعمة الله سبحانه وتعالى قد انتهى أحد الباحثين وهو الأخ نايف الزهراني في جامعة أم القرى من هذا البحث بحث ماجستير، ولعله يطبع؛ لأن فيه فوائد لطيفة، هو نفسه سماه: استدراكات السلف في التفسير، فجمع مثل هذه الأمثلة، وذكر ما فيها من وجه الاستدراك ومصدر الاستدراك، يعني: هل هو استدراك اعتمد على اللغة أو على ظاهر القرآن أو على السنة أو غير ذلك؟ وسبب الاستدراك وفيه فوائد متعددة ومتنوعة فيما يتعلق بالاستدراكات.
وقول الرجل الذي جاء لـابن مسعود : تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه، من باب الإخبار لا الإنكار، ففي علم المعاني والبيان معرفة الكلام ترجع إلى مقتضيات الحال، فكأنه يرى أن فعل هذا الرجل من باب الفعل المذموم، فكأنه من باب الإنكار في الرأي، وهذا مثال صالح لاعتراض السلف على الرأي المذموم.
ونستفيد أيضاً من الحديث فوائد متعلقة بطالب العلم والعالم، وهي ما قاله ابن مسعود : من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فقول الإنسان: الله أعلم، يقطعه عن كل إحراج، ولكن كلامه فيما لا يحسن، فقد يحسن شيئاً منه ولكنه إن يتكلم فيما لا يعلم، فقد يورثه أنه لا يستطيع أن يتراجع عما قال، فيبقى على الخطأ والباطل، وإذا قال: لا أعلم، انتهى الأمر.
وتعويد الإنسان نفسه على أن يقول: لا أعلم يريحه في كثير من المسائل، سواءً كانت مسائل دينية أو دنيوية، فإنه لا يتحمل أي تبعة بعد ذلك إطلاقاً، أما إذا أجاب عن السؤال فإنه قطعاً سيتحمل التبعة فيما قال.
ولا يفهم من هذا أن ابن مسعود ينكر الدخان آخر الزمان، وإنما أنكر حمل هذه الآية على آخر الزمان.
ومن الفوائد أيضاً: أن النظر في بعض الآثار ينقص أحياناً فندعي على بعض السلف ما لا يعتقد، وأشير في هذا إلى مسألة مهمة، وهي: أثر ابن عباس رضي الله عنه لما فسر الساق.
فبعض المتأخرين في قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، يعتمد على قول ابن عباس في نفي الساق عن الرب سبحانه وتعالى، ويزعم أن ابن عباس أول، وهذا في الحقيقة نقص في النظر؛ لأن الزعم بأن ابن عباس قد أول يلزم منه أن نقول: إن ابن عباس قد فهم المعنى على أنه ساق الرب، ثم بعد ذلك نفى، مع أن الآية عند ابن عباس لا علاقة لها بساق الرب سبحانه وتعالى، أي أن: تفسير ابن عباس لها يدل على أنها ليست من آيات الصفات؛ وبعض المتأخرين يعتمد على هذا الأثر عن ابن عباس على أنه من باب التأويل، لكننا نقول له: قد أخطأت الفهم في هذه المسألة، وإلا لجاز لنا أيضاً أن نقول: إن ابن مسعود ينكر الدخان بناءً على هذا الأثر.
فحينما يحمل بعض السلف الآية على معنى؛ لا يلزم منه أنه ينفي قضية أخرى هذه القضايا، فلو كان ابن عباس قيل له هذا الحديث، وأول حديث كشف الساق لصح أن نقول: إن ابن عباس أول، لكن لم يقع من ابن عباس تأويل إطلاقاً؛ لأن تفسيره للآية يدل على أنها ليست من آيات الصفات عنده، بل إن قراءته التي نسبت إليه رضي الله عنه تدل على أنها بعيدة عن آيات الصفات؛ لأنه كان يقرأ: يوم تكشف عن ساق، (وتكشف) مؤنث؛ ولهذا فقد فسرها وكذلك تلاميذه من بعده: تكشف القيامة عن ساق، ولعل هذه الفائدة تقيد مع هذا الأثر، نعم.
قال رحمه الله: [ والقنوت يحتمل وجوهاً من المعنى يحمل عليه قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فإذا عرف السبب؛ تعين المعنى المراد ].
المؤلف لم يشر إلى السبب والسبب أنها نزلت في أمر الصلاة، فقد كانوا يتكلمون في الصلاة، فنزل قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
والقنوت يحتمل وجوهاً، وهذه مشهورة في كتب التفسير، وكذلك في كتب اللغة، والمحقق أشار إلى بعض ما ذكره من سبقه من المحققين، فقال بعضهم: القنوت كالانقياد وكمال الطاعة والذكر والخشوع وطول الركوع، وألا يلتفت ولا يقلب الحصى.. إلى آخره مما فسر به القنوت، كما في قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فالقنوت يحتمل وجوهاً في هذه الآية، والذي يحدد أحد المعاني هو سبب النزول، لكن معنى القنوت في القرآن له أكثر من وجه.
ولهذا أصحاب كتب الوجوه والنظائر يذكرون القنوت في كتب الوجوه، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة لطيفة صغيرة: ذكر فيها معاني القنوت في القرآن.
قال رحمه الله: [ وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر ، فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر : من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر : يا قدامة ! إني جالدك! قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر : ولم؟ قال: لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ [المائدة:93].. إلخ، فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، وفي رواية: فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر : وأي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟! قال: إن الله يقول في كتابه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:93].. إلى آخر الآية، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد؛ فقال عمر : ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات أنزلن عذراً للماضين، وحجة على الباقين؛ فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90]، ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر : صدقت! الحديث.
وحكى إسماعيل القاضي، قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:93].. الآية، قال: فكتب فيهم إلى عمر ، قال: فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك! فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين! نرى أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به.. إلى آخر الحديث.
ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات ].
هذا من الأمثلة الواضحة التي ذكر فيها الإمام الشاطبي عدداً من الروايات في معنى قوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93]، فما رواه عن قدامة وكذلك عن غيره أنهم فهموا معنى الآية على ظاهرها، وما دام الإنسان قد اتصف بهذه الأوصاف، فليس عليه جناح فيما طعم عموماً، أي أنهم حملوا الآية على العموم، على جواز أن يطعموا، وكان شرب الخمر مما اعتادوا عليه.
فلما قال قدامة لـعمر : لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، فجعل حجته فيما فعل القرآن واعتمد على ظاهر الآية، طلب عمر من الناس أن يردوا؛ فكان حبر الأمة هو أقرب الناس إلى الجواب، فأجاب: أن هذه نزلت بشأن سؤال واستفسار من الصحابة عما يحصل لأصحابهم ممن قد طعموا من الخمر وكانوا قد شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فأنزل الله سبحانه وتعالى رداً عليهم هذه الآيات فحمل قدامة الآية على ظاهرها دون مراعاة السبب وبمعرفة السبب لا حجة لـقدامة فيها.
فالمراد من قول عمر رضي الله عنه: إنك أخطأت التأويل أي: التفسير، وهو أحد معاني التأويل فـقدامة قد أوقع الآية على غير الفهم الصحيح.
ومن الفوائد في هذه القصة علم ابن عباس وإدراكه معاني القرآن، وهو في عهد عمر رضي الله عنه لا يزال عمره صغيراً، فالرسول صلى الله عليه وسلم توفي وعمره ثلاث عشرة سنة على أحد الأقوال حتى في أواخر عهد عمر فإنه لا يزال صغيراً، ولكنه قد أوتي من فهم القرآن ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.
قال رحمه الله: [ وجاء رجل إلى ابن مسعود ، فقال: ( تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه، يفسر هذه الآية: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10]، قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ بأنفاسهم، حتى يأخذهم كهيئة الزكام، فقال ابن مسعود : من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؛ فأنزل الله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10].. الآية )، إلى آخر القصة ].
في هذا الأثر اعترض ابن مسعود وهو من علماء القرآن على فهم هذا المفسر، الذي يفسر برأيه، وجعل آية: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10]، ليس المراد بها الدخان الذي يكون في آخر الزمان، وإنما المراد بها ما حصل لقريش في سني القحط، وكأنه يرى أن الآية نزلت في شأن قريش في هذه الحالة.
لن أناقش فهم ابن مسعود لكن ليعلم أن السورة مكية وأن الحدث مدني بعد الهجرة، فإذا كان فهم ابن مسعود صحيحاً فهو قرآن مدني في سورة مكية وعلى كل فهو محل خلاف بين العلماء هل المراد بالدخان ما يكون في آخر الزمان أم ما فهمه ابن مسعود ، لكن المقصد من ذلك أن ابن مسعود لما اعترض على هذا المفسر، اعترض عليه بناءً على أن نزول هذه الآية إنما كان بشأن قريش لما حصل منهم ما حصل بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الباب وهذا الأثر والأثر الذي قبله، الذي هو أثر قدامة يدخل في باب يمكن أن نسميه استدراكات السلف في التفسير، وهو بحث لطيف جداً، وبنعمة الله سبحانه وتعالى قد انتهى أحد الباحثين وهو الأخ نايف الزهراني في جامعة أم القرى من هذا البحث بحث ماجستير، ولعله يطبع؛ لأن فيه فوائد لطيفة، هو نفسه سماه: استدراكات السلف في التفسير، فجمع مثل هذه الأمثلة، وذكر ما فيها من وجه الاستدراك ومصدر الاستدراك، يعني: هل هو استدراك اعتمد على اللغة أو على ظاهر القرآن أو على السنة أو غير ذلك؟ وسبب الاستدراك وفيه فوائد متعددة ومتنوعة فيما يتعلق بالاستدراكات.
وقول الرجل الذي جاء لـابن مسعود : تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه، من باب الإخبار لا الإنكار، ففي علم المعاني والبيان معرفة الكلام ترجع إلى مقتضيات الحال، فكأنه يرى أن فعل هذا الرجل من باب الفعل المذموم، فكأنه من باب الإنكار في الرأي، وهذا مثال صالح لاعتراض السلف على الرأي المذموم.
ونستفيد أيضاً من الحديث فوائد متعلقة بطالب العلم والعالم، وهي ما قاله ابن مسعود : من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فقول الإنسان: الله أعلم، يقطعه عن كل إحراج، ولكن كلامه فيما لا يحسن، فقد يحسن شيئاً منه ولكنه إن يتكلم فيما لا يعلم، فقد يورثه أنه لا يستطيع أن يتراجع عما قال، فيبقى على الخطأ والباطل، وإذا قال: لا أعلم، انتهى الأمر.
وتعويد الإنسان نفسه على أن يقول: لا أعلم يريحه في كثير من المسائل، سواءً كانت مسائل دينية أو دنيوية، فإنه لا يتحمل أي تبعة بعد ذلك إطلاقاً، أما إذا أجاب عن السؤال فإنه قطعاً سيتحمل التبعة فيما قال.
ولا يفهم من هذا أن ابن مسعود ينكر الدخان آخر الزمان، وإنما أنكر حمل هذه الآية على آخر الزمان.
ومن الفوائد أيضاً: أن النظر في بعض الآثار ينقص أحياناً فندعي على بعض السلف ما لا يعتقد، وأشير في هذا إلى مسألة مهمة، وهي: أثر ابن عباس رضي الله عنه لما فسر الساق.
فبعض المتأخرين في قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، يعتمد على قول ابن عباس في نفي الساق عن الرب سبحانه وتعالى، ويزعم أن ابن عباس أول، وهذا في الحقيقة نقص في النظر؛ لأن الزعم بأن ابن عباس قد أول يلزم منه أن نقول: إن ابن عباس قد فهم المعنى على أنه ساق الرب، ثم بعد ذلك نفى، مع أن الآية عند ابن عباس لا علاقة لها بساق الرب سبحانه وتعالى، أي أن: تفسير ابن عباس لها يدل على أنها ليست من آيات الصفات؛ وبعض المتأخرين يعتمد على هذا الأثر عن ابن عباس على أنه من باب التأويل، لكننا نقول له: قد أخطأت الفهم في هذه المسألة، وإلا لجاز لنا أيضاً أن نقول: إن ابن مسعود ينكر الدخان بناءً على هذا الأثر.
فحينما يحمل بعض السلف الآية على معنى؛ لا يلزم منه أنه ينفي قضية أخرى هذه القضايا، فلو كان ابن عباس قيل له هذا الحديث، وأول حديث كشف الساق لصح أن نقول: إن ابن عباس أول، لكن لم يقع من ابن عباس تأويل إطلاقاً؛ لأن تفسيره للآية يدل على أنها ليست من آيات الصفات عنده، بل إن قراءته التي نسبت إليه رضي الله عنه تدل على أنها بعيدة عن آيات الصفات؛ لأنه كان يقرأ: يوم تكشف عن ساق، (وتكشف) مؤنث؛ ولهذا فقد فسرها وكذلك تلاميذه من بعده: تكشف القيامة عن ساق، ولعل هذه الفائدة تقيد مع هذا الأثر، نعم.
قال رحمه الله: [ وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فقد ذكر السبب؛ لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( خذوا القرآن من أربعة )، منهم عبد الله بن مسعود ، وقد قال في خطبة خطبها: والله! لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وقال في حديث آخر: والذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت, ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه، وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالماً بالقرآن.
وعن الحسن ، أنه قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت وما أراد بها، وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب.
وعن ابن سيرين ، قال: سألت عبيدة عن شيء من القرآن، فقال: اتق الله، وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن، وعلى الجملة، فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير ].
دور معرفة أسباب النزول في تجلية المعنى
وهكذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فقد ذكر السبب؛ لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص؛ فإذاً هذا يفيدنا أن بعض الآيات يتطرقها الاحتمال، ولكن معرفة النزول ترفع الاحتمال، على سبيل المثال في قوله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11].
فسر أبو عبيدة معمر بن المثنى الآية فقال: يفرغ عليهم الصبر، فذهب إلى معنىً مجازي في معنى تثبيت الأقدام، وهذا المعنى الذي ذهب إليه أبو عبيدة معنىً صحيح من جهة اللغة والسياق المجرد، لكن المراد بـ(يثبت به الأقدام): الأقدام التي تطأ الأرض، ويكون حقيقة على الأقدام؛ لأن قصة الآية تدل على ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى أنزل مطراً فكانت جهة المؤمنين رمل؛ فثبتت أقدامهم على الرمل، وكانت أرض الكفار سبخة فكانت أقدامهم تنزلق.
فإذاً هذا دل على أن تثبيت الأقدام ليس المراد به الوجه الآخر وإن كان صحيحاً من جهة اللغة، والسياق أيضاً يحتمله، وإنما المراد به تثبيت الأقدام التي يمشي عليها الإنسان، والذي جعلنا نذهب إلى هذا الاحتمال هو قضية النزول، فهو مهم جداً؛ لأنه يدفع الإشكال ويرفع الاحتمال.
علم ابن مسعود رضي الله عنه بالقرآن
وفي خطبة ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: والله! لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله.
هذا الأثر عن ابن مسعود قاله في شأن جمع القرآن، فـابن مسعود رضي الله عنه لم يعترض على جمع القرآن من حيث الجمع، وإنما اعترض رضي الله عنه على تأخيره عن أن يكون من لجنة الجمع، وهو من علماء القرآن، وهذه قضية قدرية قد مضت، والأصل في مثل هذه القضايا التي تكون بين الصحابة الأولى فيها الإمساك، لكن لا بأس من تلمس بعض الفوائد والحكم من مثل هذه القضايا القدرية التي وقعت في تاريخ السلف.
فهذه القضية لو تأملناها سنجد أن ابن مسعود رضي الله عنه من جهة نظره محق؛ لأنه كان من علماء القرآن ومن المقدمين في ذلك؛ ولذلك قال: والله! لقد أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، ويقصد بأخذته سبعين سورة: المشافهة مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن زيداً لفي بطن أمه، أي أن زيداً الذي جعل هو المسؤول عن جمع القرآن لم يولد بعد، فكيف أؤخر عن جمع القرآن، فهذا اعتراض منه رضي الله عنه، والصحابة لم يرضوا منه هذا الاعتراض، ولم يرضوا موقفه فيما يتعلق بقضية جمع القرآن واعتراضاته التي حصلت منه، مع جلالته رضي الله عنه، فقد يحصل من بعض الفضلاء ما يكون محل نظر، لكنه من المهم أن ينتبه أنه لا ينقص هذا من قدرهم ولا من علمهم، وإنما يعرف لأهل الفضل فضلهم، ومثل هذه الأشياء إن اعتبرت أخطاءً فهي قطرة في بحر فضائلهم وحسناتهم؛ ولهذا قل أن يعرج العلماء على مثل ما قاله ابن مسعود أو يعتبرونه؛ لأنه قد مضى أمره وانتهى، لكن نأخذ الفائدة من موقفه هذا.
أما ما ذكره رضي الله عنه أيضاً في الأخذ، فهو تنبيه على علمه؛ لأنه قال: من أعلمهم بكتاب الله، فهنا أراد أن ينبه أيضاً على مسألة مهمة قد تقع أحياناً؛ فهو يطلب هذا الشيء يعترض على عدم تقديمه؛ لأن عنده العلم؛ ولهذا لا بأس في مثل هذه الأمور أن يعرف الإنسان بنفسه وبما عنده إذا رأى أنه صالح لعمل معين.
في الأثر الآخر أيضاً نبه رضي الله عنه وهو في نفس المقام عن علمه رضي الله عنه بكتاب الله سبحانه وتعالى، ولاحظ أنه عمم ولم يخصص، فيقول: ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ثم قال: ولو أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني لركبت إليه، فهذا بين لنا من جهة أهمية أسباب النزول وفيما نزل، وأيضاً بين لنا من جهة أخرى آداب العالم؛ لأنه هو الآن في مرحلة العالم، وقد كان في هذا الوقت في أواخر عمره رضي الله عنه، فالعالم لا يأنف عن أن يطلب العلم؛ ولذلك قال: لو أن أحداً أعلم منه بكتاب الله تبلغه الإبل لركب إليه.
فالمقصد من هذا أن ينتبه إلى مثل هذه اللطائف المرتبطة بآداب طالب العلم وبما يحصل له من التصرف في مثل هذه القضايا المرتبطة بجهله ببعض الأشياء، وكأنه يقول: لو كان أحد أعلم مني لذهبت إليه، ولم يأنف من أن يقول هذا، وهو العالم الكبير.
وما ذكره الحسن أيضاً يدخل في هذا الباب، وهي إشارة منه رضي الله عنه إلى أنه ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت وما أراد بها، وهذا كما قال إنه تحريض على تعلم الأسباب، وهو واضح من كلام الحسن .
وكلام ابن سيرين ، لما قال: سألت عبيدة عن شيء من القرآن، لم يشر ابن سيرين عن السؤال، وإنما أبهمه وأجمله، لكنه فهم من جواب عبيدة الذي سأل عنه ابن سيرين أنه يتعلق بالنزول؛ لأنه قال: اتق الله وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن؛ فالجواب يشير إلى أن السؤال كان مرتبطاً بالنزول.
تعلم أسباب النزول بالنسبة للمفسر
وهذا هو الأصل المتفق عليه، وهو أن أسباب النزول لازمة لمعرفة معاني الآيات.
ونضيف إلى هذا التقرير فائدة، وهي أنا نقول: إن الذي ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى هو الأصل؛ لأن أسباب النزول لازمة لمن أراد معرفة معاني القرآن، وقد ترد بعض الآيات ولها أسباب نزول، لكنها تكون معلومة من جهة المعنى الظاهر وإن جهل السبب، وقد لا يفهم المعنى إلا بمعرفة السبب، مثال ذلك: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، فقد وقع إشكال: فعدم فهم السبب أورث حمله على معنىً آخر، ومثال سبب النزول الذي لا يؤثر عدم معرفته على فهم الآية، آية اللعان فلا يلزم منها أن نعرف سبب النزول أي أنها معروفة من خلال الآيات.
فعدم معرفة الحدث في اللعان لا يشكل على فهم المعنى.
وكذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى في بداية سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، فهذه الآية نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة ، لكن لو أن أحدنا لم يفهم قصة حاطب ، فلن يؤثر ذلك على فهم معنى الآية؛ لأن الآية معلومة.
فالأصل أن معرفة الأسباب لازمة لمن أراد معرفة معاني آيات القرآن، لكننا نقول في بعض الأحيان: قد تأتي آيات يفهم منها المعنى وإن لم يعلم السبب، لكن هذا ليس الأصل.
معرفة المفسر عادات العرب
قال رحمه الله: [ فصل:
ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة، ويكفيك ما تقدم بيانه في النوع الثاني من كتاب المقاصد؛ فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا المقام، ولا بد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهوماً:
أحدها: قول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج؛ لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به، لكن على تغيير بعض الشعائر، ونقص جملة منها؛ كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا، فجاء الأمر بالإتمام لذلك، وإنما جاء إيجاب الحج نصاً في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، وإذا عرف هذا؛ تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة، أم لا؟
والثاني: قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر؛ فيريد أحدهم التوحيد فيهم فيخطئ بالكفر؛ فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه، قال: فهذا على الشرك، ليس على الأيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء، لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم.
والثالث: قوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وقوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق؛ فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه؛ تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض؛ فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة؛ ولذلك قال تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:26]؛ فتأمله، واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث.
والرابع: قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم:49]؛ فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته، وهم خزاعة، ابتدع ذلك لهم أبو كبشة ، ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها؛ فلذلك عينت ].
أثر معرفة عادات العرب في فهم التفسير
هذا الفصل من الفصول النافعة، وقد كتب أيضاً فيه رسالة، وهي: آثار معرفة عادات العرب في فهم التفسير.
هذا الموضوع يمكن أن نقول: إن عندنا سبب النزول المباشر، وعندنا قصة الآية، وعندنا ما حكته الآية مما يتعلق بعادات العرب، فهذه القضايا الثلاث متشابهة؛ والجهل بها قد يورث الإشكال، أو أنه يذهب بالآية إلى احتمال ليس هو المراد.
ففي قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، اعتمد فيه على عادة العرب فيما يتعلق بحجهم فجاء قوله سبحانه وتعالى: وَأَتِمُّوا [البقرة:196]، إشارة إلى أن يوقعوه لله سبحانه وتعالى، وليس المراد إيجاب العمرة، وهذه الآية فيها خلاف في قضية إيجاب العمرة من هذه الآية وغيرها، لكن المقصد من ذلك أن الشاطبي رحمه الله ذهب في هذه الآية إلى أنها منزلة على عادة العرب؛ في أن الحج كان عندهم، وإنما نزل الإتمام: (أتموا الحج) أي: استمروا في الحج، لكن اجعلوه لله، واستمروا في العمرة واجعلوها لله؛ فأخرجها عن أن تكون من باب إيجاب العمرة، والخلاف فيها معروف.
كذلك ما فعله أبو يوسف لما قال في قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، حيث لم يدخل في الآية ما يتعلق بالأيمان بالطلاق والعتاق، وذكر أنها لم تقع بعد وإنما المراد به ما يحصل منهم من الشرك.
والمعنى الثالث الذي ذكره وإن كان فيه إشكال من جهة فيه إثبات العلو، على فرض أنه راجع إلى عادات العرب، لكن نقول: إن الصواب هو: إثبات العلو من هذه الآيات، وليس لأنهم يفهمون أن الله سبحانه وتعالى في العلو وهو ليس في العلو بل كل الناس مقرون فطرة ونظراً بأن الله سبحانه وتعالى في العلو.
الرابع: قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم:49]، فيه تعيين، وعين هذا النجم دون غيره إشارة إلى أن خزاعة كانت تعبد هذا النجم، فبين الله أنه رب هذا النجم، وأن عبادتهم للنجم كانت خاطئة، فكأنه أشار إلى تخصيص عادة من عادات العرب وهي عبادة هذا النجم، ولو تتبعنا عادات العرب فإن الأمثلة على ذلك كثيرة.
اجتماع سبب نزول وعادات العرب في آية واحدة
وأحياناً قد يجتمع في سبب النزول أن يكون قصة للآية، وأن يكون مرتبة بعادة من عادات العرب، أو عادات من نزل فيهم الخطاب، ومن أشهر ذلك ما روي عن ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ [البقرة:222]، فلما ذكر قصة المكي الذي تزوج المدنية، وما حصل من الإشكال بينهما في طريقة الجماع، فهذا راجع إلى العادات، وهي قصة وسبب نزول أيضاً؛ إذاً قد يجتمع لسبب النزول أن يكون قصة وأن يكون مرتبطاً بعادة من عادات العرب، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، مرتبط بعادة من عادات العرب فيما يتعلق بالحج؛ ومعرفة عادات العرب مهم لمن أراد التفسير، وإذا اجتمع معرفة سبب النزول مع معرفة عادات العرب فإن ذلك أقوى في التفسير.