شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [8]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ المسألة التاسعة:

كون الظاهر هو المفهوم العربي مجرداً لا إشكال فيه؛ لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربي مبين، وقال سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]، ثم رد الحكاية عليهم بقوله: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]، وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل؛ لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم، والبشر هنا حبر، وكان نصرانياً فأسلم، أو سلمان ، وقد كان فارسياً فأسلم، أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربي باتفاق منهم.

وقال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت:44]، وقد علم أنهم لم يقولوا شيئاً من ذلك، فدل على أنه عندهم عربي، وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربي فقط، وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه، فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان العربي.

فإذاً كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه ذلك؛ فهو في دعواه مبطل، وقد مر في كتاب المقاصد بيان هذا المعنى، والحمد لله ].

هذه المسألة التاسعة مرتبطة بالمسألة الثامنة التي عقدها للظاهر والباطن، وكما سبق أن الظاهر عنده المراد به: ظاهر التلاوة، الذي يفهم من خلاله المعنى، والباطن هو: المراد والمقصود بالقرآن، وكما قلنا: إنه أشار إلى قضية التطبيقات، يعني: تطبيقات الأوامر والنواهي.

في هذه المسألة ذكر أنه لا إشكال عند الموالف والمخالف أنه منزل بلسان عربي مبين، فما دام أنه نزل بلسان عربي مبين فلا يمكن أن يؤخذ فهمه إلا على ما جرى عليه اللسان العربي. إذاً لا يمكن فهم القرآن بغير اللسان العربي، وهذه قاعة واضحة جداً ولا تحتاج إلى تقرير، وإن كان قد يخالف فيها مثل ما ذكر عن ابن رشد الحفيد أو غيره، لكن هذا هو الأصل الذي لا محيد عنه؛ لأنه لا يمكن فهم القرآن بغير اللسان العربي، ومن ادعى أنه يمكن فهم القرآن بغير اللسان العربي فقد ادعى محالاً.

ثم ذكر أن الكفار زعموا أن الذي يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، وهذا البشر كما قيل كان نصرانياً فأسلم، أما القول: بأنه سلمان هذا فيه نظر؛ لأن هذه الآية مكية وشأن سلمان إنما كان في المدينة، وهذا مروي عن الضحاك كما أخبر المحقق.

وإن أريد توجيه القول بأنه سلمان من أن الضحاك أراد أن يمثل لمن لسانه ليس بعربي دون أن يكون هو المقصود أولاً، فهذا يحتمل من هذه الجهة فقط، وإلا فقطعاً ليس هو المراد؛ لأن الآية مكية.

في هذا الزعم الذي ذكروه كما يلاحظ الرد عليه موجود في باطنه، بمعنى: أن نفس الدعوى تبطل الدعوى نفسها؛ لأنه كيف يكون هذا الأعجمي أقدر من العرب الذين يتكلم محمد صلى الله عليه وسلم بلسانهم في الإتيان بهذه المعاني وبهذا النظم العجيب؛ فكأنهم أهانوا أنفسهم وبخسوا أنفسهم واستنقصوها بهذه الدعوى من جهة أنهم جعلوا من لا يحسن لسانهم أفضل منهم في الإتيان بما عندهم من النظم ومن المعاني.

ثم أورد القاعدة في قوله: (كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء)، الآن نتكلم عن المعاني المستنبطة من القرآن، ثم إنه بعد ذلك قال: (لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى ذلك فدعواه مبطلة).

ثم ذكر أين مر كلامه، فقال: (وقد مر في كتاب المقاصد)؟ مر في مسألة عقدها كبيرة وهي مسألة وضع الشريعة للأفهام، وبعضهم يقول: للإفهام، يعني أن الله سبحانه وتعالى وضعها بلسان العرب؛ لتكون مفهومة جارية على لسانهم، وقد أطال في ذلك الفصل وقراءة ذلك الفصل مهمة جداً لتبين ما سيطرحه في هذا الفصل، وهو كون الشريعة جارية على اللسان العربي، وأي إفادة في هذه الشريعة من غير اللسان العربي فإنها لا تكون صحيحة.

وهناك ناقش ما يسمى اليوم بالإعجاز العلمي، وناقش بعض الأفكار الواردة في تفسيرات الرازي وغيره، لكن لنلاحظ هنا مسألة مهمة جداً بما أنه أشار إليها ننتبه لها، وهي: أنه يجب أن نفرق بين كون هذه المصادر في العلوم التجريبية والكونية جارية في التفسير على اللسان العربي، وكونها خارجة عن اللسان العربي، بمعنى أننا حينما نعتمد مثل هذه العلوم في بيان بعض تفاصيل ما ورد في القرآن فإن كان بياننا لها خارجاً عن اللسان العربي فقطعاً نعلم أنها خطأ، وإن كان بياننا لها داخل اللسان العربي فهذا من حيث هو صحيح، لكن لا يلزم أن يكون صحيحاً من جهة التفسير بل من حيث الطريق، فالسلوك الصحيح في الاستفادة من العلوم التجريبية والعلوم الكونية في تفسير القرآن أن تخضع هذه العلوم للغة العرب، وأي معنى موجود في هذه العلوم لا يتوافق مع لغة العرب؛ فإنه ينطبق عليه ما ذكره الشاطبي هنا.

فلو كان بيان الإعجاز بغير اللسان العربي فهذا محط النزاع بين الشاطبي رحمه الله تعالى وبين من فهم خلاف مقصوده، فإن من فهم خلاف مقصوده زعم أنه يرد ما يسمى بالإعجاز العلمي، فلو بحثنا في كتب المانعين للتفسير العلمي فسنجد أنهم يذكرون الشاطبي، و الشاطبي يرده لا من جهة أنه غير جار على اللسان العربي وليس من علوم القوم، لكن لو جرى على اللسان العربي فإنه يقبل.

لنضرب لذلك مثالاً ليتبين:

الآن لما نأتي إلى اللسان العربي سنجد أنه مثلاً في قصة إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه عبدت الكواكب والنجوم، أول جرم ذكره هو الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس، فهو ذكر ثلاثة كواكب وثلاثة أجرام.

ويوسف عليه السلام قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [يوسف:4]، وأيضاً ذكر الله سبحانه وتعالى النجوم، لما قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ [الحج:18]، ثم ذكر: وَالنُّجُومُ [الحج:18]، المقصد من ذلك أننا الآن عندنا في الشريعة وفي اللغة هذه الأجرام لها مسميات، فهذه اسمها الشمس، وهذه اسمها الأرض، وهذا اسمه القمر، وهذا الكوكب، أو النجم؛ فلما نأتي الآن ونطلق على الشمس أنها نجم، وعلى القمر أنه كوكب، فهذا من جهة اللسان العربي لا يصح.

فما دام من جهة اللسان العربي لا يصح؛ فإذا جاء من يتعاطى هذا العلم ويريد أن يفسر مثل هذه الآيات الكونية فإننا لا نقبل منه أن يطلق على الأرض كوكباً، ولا على القمر كوكباً من جهة التفسير؛ لأن هذا غير وارد لا في لغة العرب، ولا في لسان الشرع: في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حتى في كلام الصحابة والتابعي، لكن إذا كان يدرس علمه من حيث هو، يعني علم الفلك، وقال: إن الأرض كوكب، فمن جهة علم الفلك نقبل هذا؛ لأنه الآن دخلنا في المصطلحات، فهو بالنسبة لهم لما يسمون القمر كوكباً والشمس نجماً، والأرض يسمونها كوكباً في علمهم لا ننازعهم في ذلك، فهو مصطلح، لكن لما يأتي ويحمل هذه المصطلحات في تفسيرها للقرآن يقع الإشكال الذي أشار إليه الشاطبي .

فإذاً لا بد أن يكون جارياً على اللسان العربي، فإذا ما جرى على اللسان العربي، ففيه إشكال.

فإذاً نحن نريد أن ينتبه إلى هذا الملحظ، وأن هناك فرقاً بين أن نجري هذه العلوم على اللسان العربي ونستفيد منها، وبين أن نأخذ هذه العلوم بمصطلحاتها ونفسر بها القرآن؛ فالمنهي عنه والمشكل هو أن نأخذ هذه العلوم بمصطلحاتها ونفسر بها القرآن. #

أمثلة على ما استنبط من القرآن وهو غير جار على اللسان العربي

قال رحمه الله: [ ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى في القرآن كـبيان بن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138].. الآية، وهو من الترهات بمكان مكين، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد، ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم، وكنه كشف عوار نفسه من كل وجه، عافانا الله وحفظ علينا العقل والدين بمنه.

وإذا كان بيان في الآية علماً له، فأي معنى لقوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، كما يقال: هذا زيد للناس، ومثله في الفحش من تسمى بالكسف، ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ سَاقِطاً [الطور:44].. الآية، فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد؟ كما تقول: وإن يروا رجلاً من السماء ساقطاً يقولوا: سحاب مركوم، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

و بيان بن سمعان هذا هو الذي تنسبه إليه البيانية من الفرق، وهو فيما زعم ابن قتيبة أول من قال بخلق القرآن، والكسف هو أبو منصور الذي تنسب إليه المنصورية].

نلاحظ هذه الأمثلة التي ذكرها في قوله سبحانه وتعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ سَاقِطاً [الطور:44]، طبعاً هذا كما قال: من الترهات، لكنه في مثل هذا المجال يحسن؛ لكي يتبين به ما ذكره الإمام من أنه غير جار على اللسان العربي.

أهمية الرجوع إلى السياق عند التفسير

وهناك مسألة أيضاً أخرى أريد أن أنبه لها، وقد استخدمها الإمام هنا وهي قضية السياق، نلاحظ الآن لما نقول: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، على أن المراد به كما يزعم هو نفسه بيان بن سمعان ، كيف يكون المعنى؟ كما نقول: هذا زيد للناس! إذاً اختل النظم.

أو لما يأتي الآخر ويقول: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ [الطور:44]، على أنه هو اسمه الكسف؛ فكأنه يقول: وإن يروا رجلاً من السماء ساقطاً؛ ولا معنى لهذا الكلام، وهذا يدلك على أمر مهم، وهو أن التفسير مرتبط بالسياق، وهذه قاعدة.

ونحن نقول: التفسير مرتبط بالسياق؛ بحيث إنه إذا جاء مفسر وفسر كلمة ليست محتملة، مثلاً كون اسم "بيان" ورد في قوله: هَذَا بَيَانٌ [آل عمران:138]، ففيه ولو شبهة احتمال، ولو ضعيفة جداً جداً، لكنا لما نجعلها في سياق الآية يقع خلل في نظم الآية؛ فهذا يدلنا على أن هذا التفسير ليس بصحيح.

على سبيل المثال لكي نتبين قضية السياق، في قوله سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، فقوله: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، معروف أنها كانت عقيدة عند الكفار بأن المحرم إذا أحرم وأرد أن يرجع إلى بيته لا يدخل بيته إلا أن يتسلق ويفتح له فتحة ويدخل منها! فهذه العقيدة التي كانت عندهم، وبعض المتأخرين زعم أن قوله سبحانه وتعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، يعني: إيتوا النساء من المكان الذي أمركم الله به، بناءً على قوله سبحانه وتعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، فحين نركب هذا المعنى في السياق نجد أنه يحدث خلل لا يتناسق إطلاقاً مع السياق، فليس هناك أي مناسبة بين قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى [البقرة:189]، وبين قوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، بل الخلل واضح.

المقصد من هذا أن ينتبه إلى هذه القاعدة المهمة، وهي أن السياق محكم في فهم المعنى.

أما إذا كنا في باب الاستنباط فقد نخرج أحياناً عن السياق؛ لأن باب الاستنباط ليس من التفسير. فهذا قد يحصل، وهذا واقع، لكن لا أريد أن نستطرد فيه؛ لأن هذا ليس مقامه، لكن أعجبني طريقة الإمام رحمه الله تعالى في بيان خطأ مثل هذه الأقوال، وأنك لو وضعت القول في مكان التفسير فكان اللفظ مفسراً فإنه يتبين لك الخلل فيه، لكن نلاحظ مثلاً لما نأتي إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51]، فمن فسرها بالرامي فإن السياق يحتملها كأنهم حمر مستنفرة فرت من الرامي، أو من الصائد وهو قول آخر: كأنهم حمر مستنفرة فرت من الأسد، فتجد فيه تناسقاً وانضباطاً في المعنى، وليس هناك أي إشكال.

قال رحمه الله: [ وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها؛ كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى بـنصر الله ، والآخر بـالفتح ؛ فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى؛ فبدل قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] بقوله: كتامة خير أمة أخرجت للناس، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا؛ لأن المتسميين بـنصر الله و الفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيصير المعنى: إذا مت يا محمد ثم خلق هذان، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ [النصر:2-3].. الآية؛ فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله.

ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر مستدلا على ذلك بقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع.

ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالاً؛ لأن الله قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]؛ فلم يحرم شيئاً غير لحمه، ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس ].

كما نلاحظ كلها أمثلة في نفس المعنى، وأيضاً يوردها في السياق؛ ليتبين خلل هذه الأقوال، وأنها خارجة عن اللسان العربي.

قال: [ ومنهم من فسر الكرسي في قوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] بالعلم، مستدلين ببيت لا يعرف، وهو:

... ولا يكرسئ علم الله مخلوق

كأنه عندهم: ولا يعلم علمه، ويكرسئ مهموز، والكرسي غير مهموز.

ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] أنه تخم من أكل الشجرة، من قول العرب: غوي الفصيل.. يغوي.. غوىً إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد؛ لأن غوي الفصيل (فَعِل) والذي في القرآن على وزن (فَعَل).

ومنهم من قال في قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179]؛ أي: ألقينا فيها، كأنه عندهم من قول الناس: "ذرته الريح"، وذرأ مهموز، وذرا غير مهموز.

وفي قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]؛ أي: فقيراً إلى رحمته، من الخلة بفتح الخاء، محتجين على ذلك بقول زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسألة ...

قال ابن قتيبة : أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟! أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله؟ وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل: موسى كليم الله، وعيسى روح الله؟ ويشهد له الحديث: ( لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله )، وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعاً للرأي، وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت، وإنما أكثرت من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية، والمعنى على ما علمت؛ لتكون تنبيهاً على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها ].

هذا التفسير الذي ذكره كله منقول عن ابن قتيبة ، من قوله: "منهم من فسر الكرسي بالعلم".

طبعاً لما نرجع إلى كتب التفسير نجد أنه قد نسب تفسير الكرسي بالعلم لـابن عباس ولكن الرواية عنه فيها ضعف، والرواية الصحيحة هي ما رواه سعيد بن جبير عنه أن الكرسي موضع القدم فهو مخلوق، وليس الكرسي بمعنى العلم.

فاستشهدوا ببيت وهو:

... ولا يكرسئ علم الله مخلوق

وواضح جداً الفرق بين الكرسي غير مهموز ويكرسئ المهموز، فلو كان من هذا لما كان بهذه الصيغة؛ إذاً الاشتقاق يختلف.

وفسر هؤلاء الكرسي بالعلم؛ لأنهم ينكرون الغيبيات، وهم قوم من المعتزلة الأوائل، وبعض المعتزلة الأوائل قد يكون عند بعضهم شيء من الإلحاد، فقد يكون دخل في الاعتزال وعنده شيء من الألحاد، ويكون بينهم مناظرات كما ذكر ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وذكر طرفاً أيضاً من احتجاجاتهم أو من ذكر أخبارهم في كتابه أيضاً: تأويل مشكل القرآن.

الآية الأخرى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، حيث جعلوه بمعنى تخم من أكل الشجرة، لو كان من هذا المعنى لأخذ من "غوي" لكن هذه من "غوى" فإذاً اختلف الاشتقاق أيضاً.

والذي جعلهم يذهبون إلى هذا المعنى هو تنزيه الأنبياء، يعني تنزيه النبي عن أن يكون وقع في مثل هذا الخطأ، وهذا لا شك أنه مخالف لنص الله سبحانه وتعالى؛ فالعالم بهم وهو الله سبحانه وتعالى قد نسب إليهم مثل هذه الأمور، فلا يصح إطلاقاً أن يعترض عليها، ولا أن ترد، ولا أن تؤول، ولكن الملاحظ هنا أنه قلب قراءة اللفظ لأجل أن تتناسق عنده القاعدة في قضية عصمة الأنبياء.

كذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179]، فهذا مشكل على مذهب المعتزلة؛ لأنهم يرون أن هذا من القبيح، وأن الله سبحانه وتعالى لا يفعل القبيح؛ ولهذا يفسرون أي فعل من هذه الأفعال مثل الإضلال وغيرها، المنسوبة إلى الله سبحانه وتعالى، في مثل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28]، أو مثل: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ [الجاثية:23]؛ فإنهم يجعلونها بمعنى: وجده ضالاً، وليس بمعنى: جعله ضالاً، وكله هروب من مشكلة عقدية عندهم، ثم حملوا ألفاظ القرآن على هذه القضية؛ فإذا ما تناسبت أول النصوص كما هو ملاحظ، وليتهم وقعوا في التأويل فقط، بل غيروا الاشتقاق؛ ولذلك فـ(ذرأنا) جعلوها: من ذرأ.. يذري، وليست من "ذرأ" التي بمعنى: أنشأ وأوجد وخلق.

وكذلك قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]، أيضاً هي نفس الإشكالية في قضية الصفات؛ فحين يقال: إنه خليل الله، بمعنى أنه قد بلغ من المحبة مبلغاً عظيماً، بحيث أنه لا يدانيه أحد في هذه المحبة، فهم أيضاً أولوا هذا المعنى وجعلوه من الخلة بمعنى: الفقر.

فإذاً نلاحظ أن هؤلاء عندهم أصول أثرت عليهم في تحريف مثل هذه الآيات، وكما قال ابن قتيبة وهو من باب الاستدلال العقلي: إذا كان إبراهيم فقيراً إلى الله فأي مزية لإبراهيم؟! كل الناس فقراء إلى الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فأي مزية لإبراهيم عليه السلام في قضية الفقر التي يدعونها؟!.

وكما قال: إن هذا كله بسبب اتباع الرأي، فالرأي المذموم أدى بهم إلى مثل هذا التحريف.

قال رحمه الله: [ ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى في القرآن كـبيان بن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138].. الآية، وهو من الترهات بمكان مكين، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد، ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم، وكنه كشف عوار نفسه من كل وجه، عافانا الله وحفظ علينا العقل والدين بمنه.

وإذا كان بيان في الآية علماً له، فأي معنى لقوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، كما يقال: هذا زيد للناس، ومثله في الفحش من تسمى بالكسف، ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ سَاقِطاً [الطور:44].. الآية، فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد؟ كما تقول: وإن يروا رجلاً من السماء ساقطاً يقولوا: سحاب مركوم، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

و بيان بن سمعان هذا هو الذي تنسبه إليه البيانية من الفرق، وهو فيما زعم ابن قتيبة أول من قال بخلق القرآن، والكسف هو أبو منصور الذي تنسب إليه المنصورية].

نلاحظ هذه الأمثلة التي ذكرها في قوله سبحانه وتعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ سَاقِطاً [الطور:44]، طبعاً هذا كما قال: من الترهات، لكنه في مثل هذا المجال يحسن؛ لكي يتبين به ما ذكره الإمام من أنه غير جار على اللسان العربي.

وهناك مسألة أيضاً أخرى أريد أن أنبه لها، وقد استخدمها الإمام هنا وهي قضية السياق، نلاحظ الآن لما نقول: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، على أن المراد به كما يزعم هو نفسه بيان بن سمعان ، كيف يكون المعنى؟ كما نقول: هذا زيد للناس! إذاً اختل النظم.

أو لما يأتي الآخر ويقول: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ [الطور:44]، على أنه هو اسمه الكسف؛ فكأنه يقول: وإن يروا رجلاً من السماء ساقطاً؛ ولا معنى لهذا الكلام، وهذا يدلك على أمر مهم، وهو أن التفسير مرتبط بالسياق، وهذه قاعدة.

ونحن نقول: التفسير مرتبط بالسياق؛ بحيث إنه إذا جاء مفسر وفسر كلمة ليست محتملة، مثلاً كون اسم "بيان" ورد في قوله: هَذَا بَيَانٌ [آل عمران:138]، ففيه ولو شبهة احتمال، ولو ضعيفة جداً جداً، لكنا لما نجعلها في سياق الآية يقع خلل في نظم الآية؛ فهذا يدلنا على أن هذا التفسير ليس بصحيح.

على سبيل المثال لكي نتبين قضية السياق، في قوله سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، فقوله: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، معروف أنها كانت عقيدة عند الكفار بأن المحرم إذا أحرم وأرد أن يرجع إلى بيته لا يدخل بيته إلا أن يتسلق ويفتح له فتحة ويدخل منها! فهذه العقيدة التي كانت عندهم، وبعض المتأخرين زعم أن قوله سبحانه وتعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، يعني: إيتوا النساء من المكان الذي أمركم الله به، بناءً على قوله سبحانه وتعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، فحين نركب هذا المعنى في السياق نجد أنه يحدث خلل لا يتناسق إطلاقاً مع السياق، فليس هناك أي مناسبة بين قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى [البقرة:189]، وبين قوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، بل الخلل واضح.

المقصد من هذا أن ينتبه إلى هذه القاعدة المهمة، وهي أن السياق محكم في فهم المعنى.

أما إذا كنا في باب الاستنباط فقد نخرج أحياناً عن السياق؛ لأن باب الاستنباط ليس من التفسير. فهذا قد يحصل، وهذا واقع، لكن لا أريد أن نستطرد فيه؛ لأن هذا ليس مقامه، لكن أعجبني طريقة الإمام رحمه الله تعالى في بيان خطأ مثل هذه الأقوال، وأنك لو وضعت القول في مكان التفسير فكان اللفظ مفسراً فإنه يتبين لك الخلل فيه، لكن نلاحظ مثلاً لما نأتي إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51]، فمن فسرها بالرامي فإن السياق يحتملها كأنهم حمر مستنفرة فرت من الرامي، أو من الصائد وهو قول آخر: كأنهم حمر مستنفرة فرت من الأسد، فتجد فيه تناسقاً وانضباطاً في المعنى، وليس هناك أي إشكال.

قال رحمه الله: [ وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها؛ كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى بـنصر الله ، والآخر بـالفتح ؛ فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى؛ فبدل قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] بقوله: كتامة خير أمة أخرجت للناس، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا؛ لأن المتسميين بـنصر الله و الفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيصير المعنى: إذا مت يا محمد ثم خلق هذان، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ [النصر:2-3].. الآية؛ فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله.

ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر مستدلا على ذلك بقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع.

ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالاً؛ لأن الله قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]؛ فلم يحرم شيئاً غير لحمه، ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس ].

كما نلاحظ كلها أمثلة في نفس المعنى، وأيضاً يوردها في السياق؛ ليتبين خلل هذه الأقوال، وأنها خارجة عن اللسان العربي.

قال: [ ومنهم من فسر الكرسي في قوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] بالعلم، مستدلين ببيت لا يعرف، وهو:

... ولا يكرسئ علم الله مخلوق

كأنه عندهم: ولا يعلم علمه، ويكرسئ مهموز، والكرسي غير مهموز.

ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] أنه تخم من أكل الشجرة، من قول العرب: غوي الفصيل.. يغوي.. غوىً إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد؛ لأن غوي الفصيل (فَعِل) والذي في القرآن على وزن (فَعَل).

ومنهم من قال في قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179]؛ أي: ألقينا فيها، كأنه عندهم من قول الناس: "ذرته الريح"، وذرأ مهموز، وذرا غير مهموز.

وفي قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]؛ أي: فقيراً إلى رحمته، من الخلة بفتح الخاء، محتجين على ذلك بقول زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسألة ...

قال ابن قتيبة : أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟! أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله؟ وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل: موسى كليم الله، وعيسى روح الله؟ ويشهد له الحديث: ( لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله )، وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعاً للرأي، وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت، وإنما أكثرت من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية، والمعنى على ما علمت؛ لتكون تنبيهاً على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها ].

هذا التفسير الذي ذكره كله منقول عن ابن قتيبة ، من قوله: "منهم من فسر الكرسي بالعلم".

طبعاً لما نرجع إلى كتب التفسير نجد أنه قد نسب تفسير الكرسي بالعلم لـابن عباس ولكن الرواية عنه فيها ضعف، والرواية الصحيحة هي ما رواه سعيد بن جبير عنه أن الكرسي موضع القدم فهو مخلوق، وليس الكرسي بمعنى العلم.

فاستشهدوا ببيت وهو:

... ولا يكرسئ علم الله مخلوق

وواضح جداً الفرق بين الكرسي غير مهموز ويكرسئ المهموز، فلو كان من هذا لما كان بهذه الصيغة؛ إذاً الاشتقاق يختلف.

وفسر هؤلاء الكرسي بالعلم؛ لأنهم ينكرون الغيبيات، وهم قوم من المعتزلة الأوائل، وبعض المعتزلة الأوائل قد يكون عند بعضهم شيء من الإلحاد، فقد يكون دخل في الاعتزال وعنده شيء من الألحاد، ويكون بينهم مناظرات كما ذكر ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وذكر طرفاً أيضاً من احتجاجاتهم أو من ذكر أخبارهم في كتابه أيضاً: تأويل مشكل القرآن.

الآية الأخرى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، حيث جعلوه بمعنى تخم من أكل الشجرة، لو كان من هذا المعنى لأخذ من "غوي" لكن هذه من "غوى" فإذاً اختلف الاشتقاق أيضاً.

والذي جعلهم يذهبون إلى هذا المعنى هو تنزيه الأنبياء، يعني تنزيه النبي عن أن يكون وقع في مثل هذا الخطأ، وهذا لا شك أنه مخالف لنص الله سبحانه وتعالى؛ فالعالم بهم وهو الله سبحانه وتعالى قد نسب إليهم مثل هذه الأمور، فلا يصح إطلاقاً أن يعترض عليها، ولا أن ترد، ولا أن تؤول، ولكن الملاحظ هنا أنه قلب قراءة اللفظ لأجل أن تتناسق عنده القاعدة في قضية عصمة الأنبياء.

كذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179]، فهذا مشكل على مذهب المعتزلة؛ لأنهم يرون أن هذا من القبيح، وأن الله سبحانه وتعالى لا يفعل القبيح؛ ولهذا يفسرون أي فعل من هذه الأفعال مثل الإضلال وغيرها، المنسوبة إلى الله سبحانه وتعالى، في مثل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28]، أو مثل: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ [الجاثية:23]؛ فإنهم يجعلونها بمعنى: وجده ضالاً، وليس بمعنى: جعله ضالاً، وكله هروب من مشكلة عقدية عندهم، ثم حملوا ألفاظ القرآن على هذه القضية؛ فإذا ما تناسبت أول النصوص كما هو ملاحظ، وليتهم وقعوا في التأويل فقط، بل غيروا الاشتقاق؛ ولذلك فـ(ذرأنا) جعلوها: من ذرأ.. يذري، وليست من "ذرأ" التي بمعنى: أنشأ وأوجد وخلق.

وكذلك قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]، أيضاً هي نفس الإشكالية في قضية الصفات؛ فحين يقال: إنه خليل الله، بمعنى أنه قد بلغ من المحبة مبلغاً عظيماً، بحيث أنه لا يدانيه أحد في هذه المحبة، فهم أيضاً أولوا هذا المعنى وجعلوه من الخلة بمعنى: الفقر.

فإذاً نلاحظ أن هؤلاء عندهم أصول أثرت عليهم في تحريف مثل هذه الآيات، وكما قال ابن قتيبة وهو من باب الاستدلال العقلي: إذا كان إبراهيم فقيراً إلى الله فأي مزية لإبراهيم؟! كل الناس فقراء إلى الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فأي مزية لإبراهيم عليه السلام في قضية الفقر التي يدعونها؟!.

وكما قال: إن هذا كله بسبب اتباع الرأي، فالرأي المذموم أدى بهم إلى مثل هذا التحريف.