مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا في مدارسة مقدمة في توحيد ذي الجلال والإكرام، وهذه المقدمة ستدور على عدة أمور تدارسنا أربعة منها، وكنا نتدارس في الموعظة الماضية الأمر الخامس، الذي سنتدارس بقيته في هذه الليلة المباركة إن شاء الله.

الأمر الأول من الأمور الخمسة التي تقدم الكلام عليها: تعريف علم التوحيد.

والثاني: موضوع علم التوحيد.

والثالث: ثمرة علم التوحيد.

والرابع: فضل علم التوحيد ومنزلته.

والخامس وهو الذي كنا نتدارسه في الموعظة الماضية: شروط التكليف بالتوحيد.

وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن شروط التكليف بالتوحيد أربعة:

أولها: العقل.

وثانيها: البلوغ.

وثالثها: بلوغ الدعوة ووصولها إلى المكلفين.

ورابعها: سلامة إحدى حاستي السمع والبصر في المكلفين.

وقد تقدم الكلام على الشرط الأول منها وهو العقل، وتدارسنا -إخوتي الكرام- عند هذا الشرط أقسام العقل، وبينت أنه ينقسم إلى قسمين: إلى عقل غريزي مطبوع، وإلى عقل مكتسب مسموع، وقلت: يشترط لتكليف الإنسان بتوحيد ربنا الرحمن العقل بالوصف الثاني لا بالوصف الأول، وقررت هذا بالأدلة والبراهين، وختمت الكلام على الشرط الأول بأمر ينبغي أن يعيه كل إنسان، وهو أن العقل الذي هو أعظم منحة ومنة من الله على عباده، لا يؤدي ثمرته، ولا تحصل منه غايته، إلا إذا لم يُحجب بحاجب حسي أو معنوي، فإذا حُجب بحاجب حسي من مسكرات أو مخدرات، أو حاجز معنوي من اتباع الهوى أو التقليد الأعمى، فالعقل محجوب في هذه الحالة ولا يمكن أن يؤدي وظيفته.

ولذلك إذا أصيب الإنسان بالشبهات أو بالشهوات، وهكذا إذا وقع في الخرافات والأوهام، من شهوات حسية وشبه معنوية، إذا وقع في شيء من ذلك، فعقله محجوب عن التفكير السديد، وإذا قُدر أنه عنده ذكاء وألمعية في الأمور الدنيوية، فهذا لا ينفعه في الآخرة، وسعيه في هذه الحياة وبال عليه.

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده

وإن ذكاء العقل وألمعيته كقوة الجسم وصحته، فكما أن قوة الجسم إذا لم يُستعن بها على طاعة الله لا فائدة منها، فهكذا قوة العقل إذا لم يستعن بهذه القوة على معرفة شرع الله المطهر وتزكية العقل بنور الله وهداه، فلا فائدة من هذا العقل، ولذلك كان أئمتنا إذا ذكروا ابن سينا الذي كان ذكياً ولم يكن زكياً، يقرءون قول الله جل وعلا في سورة غافر: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر:21]، كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غافر:21] هذا شامل لقوة العقل ولقوة البدن، وكل منهما لا خير فيه إذا لم يستعمل في طاعة الله جل وعلا، وفيما خُلقا من أجله.

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده

فكثير من الناس ذكاؤهم مشهود في الماضي وفي الحاضر، لكنهم في دركة القرود، فماذا ينفع الذكاء إذا لم يصحبه زكاء.

ننتقل الآن إلى مدارسة الشرط الثاني للتكليف بتوحيد الله جل وعلا وهو:

البلوغ: أي أن يصبح الإنسان بالغاً، أي أن ينتقل من مرحلة الصغر إلى مرحلة الأشد، والكمال، والوعي، والكِبَر، فإذا بلغ الإنسان جرى عليه القلم، وصار مكلفاً بتوحيد ربنا الأكرم سبحانه وتعالى، البلوغ والعقل هما شرطان لتكليف الإنسان بتوحيد ذي الجلال والإكرام.

فبالبلوغ يكتمل العقل الغريزي عند الإنسان، لأنه يوجد العقل عند الإنسان عند كونه جنيناً في بطن أمه، ثم ينمو معه ويكبر هذا العقل الغريزي، فيكون بعد الولادة كما أخبر الله عنه: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] ، يكون في مرحلة لعلها تصل إلى أربع سنوات، يقال: هو دون سن التمييز، أي: لا يميز بين ما ينفع وبين ما يضر، ولا يميز بين المخلوقات، فلا يفرق بين الحمار والبقرة دون سن التمييز، ولا يفرق بين الصرصور والعقرب دون سن التمييز، ثم ينتقل إلى سن التمييز ولا زال القلم مرفوعاً؛ لأن العقل لم يكتمل.

من السن الرابعة في الغالب إلى ما قبيل المراهقة -سن العاشرة- هذا كله مرحلة التمييز، ثم يدخل في مرحلة المراهقة التي هي التهيؤ لكمال العقل ونضجه وتمامه، فيبقى في مرحلة المراهقة سنتين أو ثلاثاً، ثم بعد ذلك يبلغ، وسيأتينا علامات البلوغ في الإنسان، فإذا بلغ دل هذا على اكتمال العقل عنده، فببلوغ الإنسان تكتمل قواه التفسيرية، ويعرف قضاياه المصيرية.

إخوتي الكرام! والإنسان يمر في حياته بأربع مراحل رئيسة بارزة:

أولها: مرحلة الصغر، وهي ما دون البلوغ، بمراحلها التي تقدمت: قبل التمييز وعند التمييز والمراهقة، هذه كلها سن الصغر، ما قبل التكليف الإنسان فيها صبي لا يجري عليه القلم، هذه مرحلة من مراحل الإنسان، ثم بعد ذلك إذا بلغ يدخل في سن الشباب مباشرة، أي يرتفع من سن الصبى والصغر إلى سن الشباب والكبر، فيدخل في مرحلة الشباب منذ بلوغه إلى ثلاثين سنة عند جمهور العلماء، ومد الإمام ابن القيم عليه رحمة الله فترة الشباب إلى سن الأربعين، وعلى القولين فقد جاوزتُ مرحلة الشباب ونسأل الله حسن الخاتمة.

وأنا أقول: لا تنافي بين القولين، فالإنسان من سن البلوغ إلى سن الثلاثين هذا في عنفوان قوته واكتمال أشده وصحته، ثم يمر عليه عشر سنوات يحافظ على توازنه -من ثلاثين إلى أربعين- فلا يقوى ولا يضعُف في هذه المرحلة، هذه المرحلة كما يقال فاصل وتوازن بين سن الشباب والكهولة، متى ما طعن في الأربعين دخل في حد الكهولة، فيبدأ الشيب يشتعل في رأسه وفي لحيته وجسمه، ويضعف رويداً رويداً.

يبقى في سن الكهولة من أربعين إلى ستين، فإذا دخل في الستين دخل في سن الشيخوخة، وأعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك.

ثبت الحديث بذلك بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)، أي: يجاوزه ويقطعه.

إذاً هذه أربع مراحل يمر الإنسان فيها: ما قبل التكليف سن الصغر، عند البلوغ إلى الثلاثين وتمد إلى الأربعين سن الشباب، من الأربعين إلى الستين سن الكهولة، من الستين فما فوقها سن الشيخوخة، كما قال الله جل وعلا مشيراً إلى هذه المراحل في كتابه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]، سبحانه وتعالى.

ومن اللطائف: أن بعض الشباب رأي شيخاً قد احدودب ظهره، وبدأ يتوكأ على عصا، ويسيل لعابه من فمه، فقال له -كأنه يريد أن يداعبه- ومن العيب أن يداعب الصغير الكبير، فقال له: يا أبتي! بكم اشتريت هذه الحَدْبة؟ أي: هذا التقوس الذي في ظهرك؟

فقال: يا بني! إذا كبرت ستناله بلا ثمن!

أي: انتظر وعما قريب سيحصل لك كما حصل لي، فلا داعي للتندر بي، ونسأل الله حسن الخاتمة!

إذاً: إخوتي الكرام! هذه هي المراحل التي يمر بها الإنسان، إذا بلغ الإنسان اكتمل عقله، واكتملت عنده قواه التفسيرية، وبدأ يدرك قضاياه المصيرية، وما سيئول إليه فعله، وما سيترتب على كسبه وسعيه من جزاء في العاجل والآجل، إن الإنسان إذا بلغ يدعوه بلوغه عند اكتمال عقله للبحث، والتفكير، والوقوف عند حقيقة الأمر، من خلقني؟ لم خلقت؟ إلى أي شيء سأصير؟ ما صلتي بهذا الكون؟ ماذا كان قبله؟ إلى أي شيء سينتهي؟ كل هذه يبحث فيها الإنسان عند بلوغه.

وكما تقدم معنا عند فضل علم التوحيد: أن توحيد ذي الجلال والإكرام أعطى أجوبة حاسمة مقنعة موافقة لفطرة وعقل الإنسان عن هذه الأسئلة، التي ترد على ذهنه عندما يبلغ، فيكون على بينة من أمره ويطمئن قلبه، لكنه عند البلوغ لابد من أن يتساءل وأن يعرف: من خلقه؟ ولم خُلق؟ وما وظيفته وغايته في هذه الحياة؟ لأن هذا العقل وعى واكتمل، فلابد من أن يبحث وأن يتفكر.

فعند بلوغ الإنسان اكتمل عقله، سيبحث كما تقدم معنا في هذه الأسئلة التي سميتها فيما مضى بالعقدة الكبرى، وهي أعظم مشكلة يقابلها الإنسان في حياته، ولابد من حلها على حسب ما يُقنع العقل ويريح الفطرة، وقد حُلت على حسب ما يريح العقل ويقنع الفطرة في شريعة الله المطهرة.

إذاً: إذا بلغ الإنسان لابد من أن يتساءل، فإذاً بما أن عقله وعى ونضج، في هذه الحالة يسري عليه القلم، ويُكلف إذا كان عاقلاً بالغاً، وهذان الشرطان هما ركنان للتكليف بالتوحيد وغيره في شريعة الرحمن.

وقد دل عليهما حديث نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة والحاكم في المستدرك، والحديث رواه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، ورواه البيهقي في السنن، وابن الجارود في المنتقى، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، عن أمنا عائشة رضي الله عنها، وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام الطيبين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم).

هؤلاء الثلاثة يرفع عنهم القلم حتى يعود إليهم مناط التكليف، فالنائم عقله في غيبوبة، والقلم مرفوع عنه حتى يستيقظ، فمن قُدر أنه جرى منه في نومه شيء من المعصية بالكلام وهو نائم، فالقلم مرفوع عنه، ولا يحاسب على هذا، لو قُدر أنه هذى في نومه وقذف، أو جرى منه قول قبيح، لا يحاسب عليه، وهكذا المجنون لا حساب عليه، وهكذا الصبي لا تكليف عليه ولا حساب عليه.

إخوتي الكرام! قد يقول قائل: متى يحصل البلوغ؟

إن البلوغ يحصل بأمارات إذا وجد واحد منها في الإنسان فهو بالغ، وهذه الأمارات والعلامات والدلالات ثلاثة منها يشترك فيها الذكور والإناث، وعلامتان خاصتان بالنساء، وعليه تكون علامات البلوغ في النساء خمس، وعلامات البلوغ في الذكور ثلاث، فلنذكر الثلاث المشتركة بين الذكور والإناث، ثم ننتقل بعد ذلك إلى العلامتين الخاصتين ببلوغ النساء.

العلامة الأولى للبلوغ خروج المني

العلامة الأولى التي بها يبلغ الإنسان ويجرى عليه القلم ويصير مكلفاً بتوحيد ربنا جل وعلا: خروج المني منه.

والمني: هو الماء الدافق الذي يخرج من قُبل الإنسان ذكراً أو أنثى، ومني الرجل أبيض كدر ثخين، يخرج على وجه الدّفق والتقطع ويصاحبه شهوة، إذا خرج هذا الماء من الذكر بأي حالة من الحالات، في حالة اليقظة، أو النوم، عن طريق الحلال أو الحرام، فهو مكلف؛ لأن هذا الماء لا ينعقد فيه ولا يخرج بهذه الصفات إلا إذا بلغ واكتمل العقل عنده، لا يمكن أن يخرج منه المني إلا إذا اكتمل العقل، وإخراج هذا الماء عن طريق الحرام كما لو عبث الإنسان بنفسه، ولعب بعضوه، وهو المعروف بالاستمناء، الذي فشا بين الشباب الهابط في هذه الأيام، والاستمناء حرام حرام.

وكنت قررت هذا -إخوتي الكرام- في بعض المحاضرات، فلو سمعتم شريط تلك المحاضرة لأغنيتموني عن إعادة ما ذكرته فيها في هذا الوقت، وتلك المحاضرة عن معاملة الإنسان لنفسه، كيف يتعامل الإنسان مع نفسه؟ بينت فيها أدلة تحريم الاستمناء وأنه كبيرة ومتعاطيه فاسق، فإذا أخرج ذلك الماء باختياره، أو خرج منه في حال نومه، أو خرج منه عن طريق الاتصال بزوجه إذا تزوج وهو صغير، بمجرد ما يتأتى منه المباشرة وإخراج الماء يقال: أنت قد بلغت، وعقلك اكتمل، وأنت مكلف، والقلم يجري عليك، وتحاسب على جميع ما يصدر منك في هذه الحالة.

وماء المرأة: أصفر رقيق، يخرج أيضاً على وجه اللذة، إذا خرج منها بأي طريق كان، كما لو خرج عن طريق الاحتلام، وهي تحتلم كما يحتلم الرجل، أو عن طريق العبث بنفسها، إذا خرج هذا الماء عن أي طريق كان فصاحبه بالغ، من الذكور ومن الإناث.

وهذا المني: هو الذي يُخلق منه بنو آدم، كما قال الله جل وعلا في سورة الإنسان: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:1-2]، من هذه النطفة ومن هذا الماء الذي هو مني، ويخرج بالصفات المتقدمة في الذكور والإناث.

إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان:2]، أمشاج: أخلاط، وهذه النطفة هي مزيج من نطفة الرجل ونطفة المرأة.

تفسير خلق الإنسان من بين الصلب والترائب

خُلق من ماء مهين، فصار بشراً في أحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين سبحانه وتعالى، وقال ربنا جل وعلا في سورة الطارق: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:5-8]. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ [الطارق:7] هذا الماء الدافق من بين الصلب، أي: صلب الرجل، والترائب: جمع تريبة، وهي عظام الصدر.

والمقصود بصاحب الترائب هنا الرجل، أي: صلب الرجل وترائبه، وهذا أحد قولين للمفسرين، وإليه ذهب الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في إعلام الموقعين، ورجحه من ثلاثة أوجه (1/145):

أولها: يقول: هذه النطفة وهذا الماء يخرج من مكان من موصوف واحد، من ذات واحدة، لكن من صلبه وترائبه، وهذا كقول الله جل وعلا في اللبن الذي يخرج من الأنعام: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66]، فاللبن يخرج من بينهما من ذات واحدة، وهنا هذا الماء يخرج من بين ترائب الإنسان وصلبه، وهذا كله يعود إلى الذكر.

والأمر الثاني يقول: الآية فيها قرينة على ترجيح هذا المعنى، وهي قول الله: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] ، وصفة الدفق تكون في ماء الرجل لا في ماء المرأة، فهو الذي يخرج عن محله ويتقطع، ويذهب إلى قعر الرحم بعد ذلك ليستقر فيه، ويحصل تكوين الجنين بإذن رب العالمين.

والأمر الثالث يقول: ورد في القرآن في آيات كثيرة أن الله خلق بني آدم من نطفة: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل:4]، والنطفة يقول: اسم للماء القليل من ماء الرجل.

والقول الثاني: يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهذا القول الذي أعرض عنه الإمام ابن القيم عليه رحمة الله منقول عن سلفنا، وهو مقبول، ولا أرى معارضة بينه وبين القول الأول، لا مانع أن نقول أيضاً: يخرج من بين ترائب المرأة وعظام صدرها؛ لأن تكوين الجنين يتم بواسطة ماءين، ماء الرجل وماء المرأة كما قال الله: أَمْشَاجٍ [الإنسان:2]، نعم الأصل في التكوين هو ماء الرجل؛ لكن ذلك كما يقال: عامل مساعد من أجل تكوين الجنين في الرحم بإذن رب العالمين، والذكورة والأنوثة تتبع الحيوانات المنوية في ماء الرجل لا البويضة الموجودة في ماء المرأة، لكن حصل إذاً اجتماع الماءين، فإذا قلنا من ترائب المرأة أيضاً يخرج هذا المني فلا حرج.

وما قاله الإمام ابن القيم عليه رحمة الله لأن ماء الرجل دافق، فهذا الوصف فيه ولا يكون في ماء المرأة، أقول: دفق كل شيء بحسبه، فدفق الرجل أقوى، ودفق المرأة يسح هذا الماء، ويخرج منها من بين عظام صدرها إلى قعر رحمها، فحصل الدفق لكن ليس بالقوة التي في ماء الرجل، وإذا كان ماء الرجل يقال له مني وهو نطفة، فماء المرأة كذلك، وهو نطفة ومني وماء قليل، لكن الصفات تختلف كما قلنا من بياض إلى صفرة، ومن ثخونة إلى رقة، لكن هذا مني وهذا مني، وهذا ماء وهذا ماء.

الشاهد إخوتي الكرام: هذا الماء الذي يُكون منه الإنسان، إذا خرج من بني آدم ذكوراً أو إناثاً بالصفات المتقدمة، بأية حالة خرج هذا الماء، فهذه علامة وأمارة على بلوغ من خرج منه ذلك الماء، فهو مكلف والقلم سيجري عليه، هذا الأمر الأول، وهذا ما أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم: (عن الصبي حتى يحتلم)، وخص الاحتلام من بين سائر العلامات والأمارات؛ لأنه أبرز علامة يحصل بها بلوغ الإنسان، وهي الغالب أسبق العلامات وأقوى العلامات، فإذا حصلت في الإنسان فهو بالغ بالإجماع، ولا خلاف فيها مهما كان عمره، ولو دون الخامسة عشرة، يعني: لو احتلم وهو في سن اثنتي عشرة سنة فهو بالغ بلا خلاف بين أئمتنا، وهذه أبرز العلامات.

العلامة الثانية للبلوغ نمو شعر العانة

العلامة الثانية: خروج العانة حول قبل الذكر والأنثى:

والعانة: هي الشعر الذي يخرج حول عضو الذكر والأنثى، والمراد الشعر الغليظ الكثير، ولا اعتبار -كما قال أئمتنا- للزغب، وهو شعر ناعم يكون في أول خروجه وطلوعه، ولا للاخضرار الذي يكون في الجلد عند بداية خروج ذلك الشعر، بل لابد من شعر غليظ ثخين يشبه شعر الرأس وشعر اللحية، ليكون دليلاً على حصول البلوغ في الإنسان، أما لو كان في بداية خروجه شعر ناعم كما يخرج أحياناً خط رفيع في أول عمر الإنسان عند بداية اللحية شعر ناعم، هذا ليس بلحية، واللحية بعد ذلك تكتمل ويخرج فيها هذا الشعر الذي يميزها عن ذلك الشعر الناعم الرقيق، وهكذا شعر العانة شعر غليظ يخرج حول القبل، إذا خرج ذلك الشعر في ذلك المكان، ولم يوجد في صاحبه احتلام، فهذا أيضاً علامة على بلوغه.

وهذا الشعر الذي يخرج حول القبل -إخوتي الكرام- ينبغي على الإنسان أن يستأصله وأن يأخذه كلما طال، ويرخص له أن يتركه إلى أربعين يوماً، وإذا قُدر أنه تركه أكثر من ذلك فهو آثم عاص، مخالف للفطرة الإنسانية، وللشريعة الإسلامية، وهذا كما قلت الحد الأقصى، وإلا فالواجب على الإنسان أن يتعهد نفسه، وأن يقص هذا الشعر كلما طال، وفي ذلك المكان عفونات وأوساخ، جعلها الله تتحول إلى شعر بإذنه، وذلك الشعر يُستأصل لإزالة الأذى ولإزالة الجراثيم، ولحصول الصحة عند الإنسان.

ولذلك من ترك ذلك الشعر تضرر وأصيب بالتهابات، وقد يصاب في نهاية الأمر بعقم ولا يأتي منه نسل، إذاً: هذا الشعر ينبغي أن يُستأصل كلما خرج، ويرخص للإنسان كما قلت إلى فترة أربعين يوماً بحد أقصى.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربع -والحديث إذا كان في صحيح مسلم كما تقدم معنا فلا حاجة إلى التنصيص على صحته- عن أنس رضي الله عنه قال: (وُقِّت لنا) مبني للمجهول، وفي رواية: (وَقَّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعلى صيغة المبني للمجهول لا إشكال، فالموقت هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن التحليل والتحريم يُتلقى من مشكاة النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه؛ (وقِّت لنا في تقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، ألا نترك ذلك أكثر من أربعين ليلة)، هذا الذي وقته لنا نبينا صلى الله عليه وسلم.

تقليم الأظفار: لا ينبغي أن يهمل الإنسان أظفاره أكثر من أربعين يوماً، وكذلك قص الشارب، نتف الإبط، حلق العانة.

وقد فشا -إخوتي الكرام- في الناس في هذه الأيام -لا سيما في هذه البلاد- تطويل الأظافر، وأرى بعض الناس أحياناً يطولون أظافرهم العشرة، وبعضهم يطول بعض أظفاره، لا سيما ظفر الخنصر، ويطول طولاً منكراً فاحشاً، وهذا حرام، مخالف لشريعة الإسلام، الأظافر ينبغي أن تُقلم وأن تُستأصل كلما طالت، ولو قُدر أن الإنسان تركها، فلا يجوز أن تزيد فترة الترك عن أربعين يوماً، وهكذا قص الشارب، وهكذا نتف الإبط، وحلق العانة.

كيفية إزالة شعر العانة

والسنة في الإبط النتف، وهذا أبعد لخروج الشعر مرة أخرى، ولو استأصله عن طريق الحلق بالموس فلا حرج أيضاً، والسنة في العانة الاستحداد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إزالة ذلك الشعر بالحديدة، وهي الموس والشفرة، وهذا يكون للرجال والنساء.

وقال أئمتنا كما نص على ذلك شيخ الإسلام النووي وابن حجر وغيرهما عليهم جميعاً رحمة الله: يجزئ النتف، لو نتف هذا فلا حرج، ويجزئ النورة، فلو وضع النورة على ذلك المكان ليسقط الشعر، ولو وضع أيضاً بعض المواد التي تسقط الشعر دون أن يستأصله بالحلق، فلا حرج، لكن النتف يؤذي عضو الإنسان.

ولذلك اعتبر الإمام ابن العربي في أحكام القرآن، وفي عارضة الأحوذي: نتف شعر العانة من النمص، وهذا من باب القياس وإلحاق نتف شعر ذلك المكان بنتف شعر الحاجب، وفي الحقيقة هذا قياس مع الفارق، لأن فيه إلحاق نتف شعر العانة الذي أمرنا بإزالته، بحكم نتف شعر الحاجب الذي نُهينا عن الأخذ منه، ولو قال: إن نتف شعر العانة يؤذي الإنسان، فلا حرج في ذلك، أما أن يقول: هذا من النمص، والنامص والنامصة ملعونان فلا!

وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما، من رواية ابن مسعود رضي الله عنه، عندما كان يقول: (لعن الله النامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله)، فقالت له امرأة في ذلك، يعني: كيف تلعن النامصة والمتنمصة والواشرة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟

قال: مالي لا ألعن من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو في كتاب الله، فقالت: قد قرأت القرآن كله فما وجدت ذلك فيه، فقال: لو قرأته لوجدت ذلك فيه، قال الله جل وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ، وقد لعن نبينا صلى الله عليه وسلم النامصة، والنامصة: هي التي ترقق الحواجب وتنتفها، والمتنمصة: من تطلب أن يُفعل بها ذلك، والمتفلجات: وهي التي تبرد أسنانها ترققها وتباعد ما بينها من أجل الجمال والزينة.

وهكذا الواشمة والمستوشمة، والمتفلجة هي الواشرة، والواشمة: هي التي تغرز الجلد بإبرة ليخرج الدم، ثم بعد ذلك تحشو ذلك الجلد بحبر أو نيلة أو زرقة أو صفرة لترسم شيئاً معيناً، من ساعة أو غيرها على جلدها، من باب الزينة أيضاً وتغيير خلق الله.

إذاً: هذا هو النمص، وهو محرم وكبيرة، فإلحاق نتف شعر العانة به قياس مع الفارق، فلو قال: إن هذا يؤذي فلا حرج، لذلك قال: إن النساء في عهده ينتفن شعر العانة، يقول من أجل أن يربو وينتفخ ذلك المكان، ليكون فيه العشرة الزوجية أحسن.

يقول الإمام ابن العربي : لكنه مع الكبر يسترخي ويسترسل، فيُعاف ويسترذل، وإن النتف يرخيه ويؤذيه ويبطل كثيراً من المنفعة فيه، فلذلك يُسن للإنسان في شعر العانة أن يحلقه عن طريق استئصاله بالحديدة، وهذا أحسن الأمور، ويستوي في ذلك النساء والذكور.

وذهب الإمام ابن حجر إلى التفرقة بين الذكور والإناث، ولا دليل على التفرقة أيضاً، فقال: لو أن المرأة أزالت شعر العانة بالنورة؛ ليكون أنعم لبشرتها، وأحفظ لأنوثتها، والرجل يزيل شعر العانة بالحديدة والشفرة، فهذا الذي يتناسب مع خشونته وجَلَده إذا كان أقوى وأولى، ولا دليل على التفرقة، نعم، يجوز إزالة شعر العانة بالنورة، والنتف يؤذيه، والسنة إزالة شعر العانة بالحديدة، ولذلك ورد في بعض الروايات: (عشر من الفطرة، ومنها: الاستحداد)، وهو إزالة شعر العانة بالحديدة، أي: بالشفرة والموس.

الدليل على أن نبات شعر العانة أمارة على البلوغ

إذاً: هذا الشعر إذا نبت في ذلك المكان فهو دليل على بلوغ الإنسان، وهذا الأمر دل عليه حديث نبينا صلى الله عليه وسلم الذي وقع في عصره، وفي زمنه، وبإقراره، وتوجيهه، وفعله عليه صلوات الله وسلامه، ونص الحديث كما في المسند والسنن الأربع وصحيح ابن خزيمة وسنن الدارمي وسنن البيهقي ، وإسناد الحديث صحيح، عن كعب القرظي رضي الله عنه، قال: (كنت في سبي بني قريظة، فكانوا -أي: الصحابة بأمر النبي عليه الصلاة والسلام وتوجيهه وإرشاده- فكانوا فيمن شكوا فيه هل هو بالغ أم لا؟ يكشفون عن مئزره، فإذا أنبت جعلوه مع الرجال وحكمه القتل، وإذا لم يُنبت جعلوه في السبيكعب القرظي هو من يهود بني قريظة، يقول: فشكوا في هل أنا بالغ أم لا؟ كشفوا عن مئزري ونظروا إلى عورتي، أي: إلى العانة هل أنبت أم لا، فكنت لم أنبت، وهذا من لطف الله به، فتركوه وجعلوه في السبي والغنائم.

بنو قريظة لعل أمرهم لا يخفي عليكم إخوتي الكرام، وهم الذين نقضوا العهد مع النبي عليه الصلاة والسلام وغدروا به في أحرج المواقف وأصعبها، في موقعة الخندق، عند مجيء الأحزاب من مكة، وكانوا يزيدون على عشرة آلاف، وتمت المراسلة بين الأحزاب وبين يهود بني قريظة، على أن ينقضوا العهد، وعلى أن يمكنوا للأحزاب من جهتهم، وعلى أن ينقض اليهود من داخل المدينة على المسلمين، والأحزاب من خارج المدينة على المسلمين، ويُباغت المسلمون من كل جهة، من الداخل ومن الخارج، ثم بعد ذلك كفى الله المؤمنين القتال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25].

فكان لابد من تصفية الحساب مع بني قريظة، فبعد أن حُوصروا طلبوا أن يُحكَّم فيهم واحد من الصحابة، ورضوا بتحكيم سعد بن معاذ الذي كان حليفاً لهم في الجاهلية، وهو سيد الأوس رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي اهتز له عرش الرحمن عندما مات، والحديث ثابت في الصحيح.

فـسعد بن معاذ رضي الله عنه حكم بأن يُقتل الرجال وكانوا سبعمائة، وأن يسبى الذرية من نساء وأولاد، فلتنفيذ الحكم كان يُؤتى ببني قريظة، فمن كان رجلاً قُتل، ومن كان من الذرية من النساء والأولاد استُرق وكان في السبي، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـسعد : (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات، أو من فوق سبع أرقعة)، أي: سموات متتابعة.

فكانوا إذا شكوا في بعض الصبيان هل هو بالغ أم لا يكشفون عن مئزره وينظرون إلى عورته، فشكوا في كعب القرظي فلما نظروا إلى عورته وجدوه لم ينبت، فجعلوه في السبي، فآمن بعد ذلك وصار من الصحابة الأبرار الأطهار رضي الله عنهم أجمعين.

مذاهب العلماء في اعتبار نبات العانة في البلوغ

إذاً: الإنبات علامة على البلوغ، هذا الإنبات الذي هو علامة على البلوغ اعتمده الأئمة الثلاثة، الحنابلة، والمالكية، وأحد القولين للشافعية في أولاد المسلمين، وأما في أولاد الكفار فليس لهم إلا قول واحد، وهو اعتبار الإنبات علامة على البلوغ.

فالإمام الشافعي يقول: الإنبات يعتبر علامة على البلوغ في أولاد الكفار؛ لأنه يصعب الوقوف على بلوغهم وعلى عمرهم وسن ولادتهم، فنعتبر الإنبات علامة على البلوغ كما اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام في بني قريظة، ولا نعتبر الإنبات دليلاً على البلوغ في أولاد المسلمين؛ لأنه بإمكاننا أن نعرف مواليدهم، ثم نحكم على بلوغهم بالعمر لا بالإنبات، وهناك قول للإمام الشافعي يعتبر الإنبات علامة على البلوغ في أولاد المسلمين.

أما الإمام أحمد والإمام مالك فيريان الإنبات علامة على البلوغ مطلقاً، في أولاد المسلمين وفي غيرهم، وما خالف في هذا إلا أبو حنيفة رحمه الله ورضي عنه فقال: لا يعتبر الإنبات علامة على البلوغ لا في أولاد الكفار ولا في أولاد المؤمنين الأخيار، ولعل هذه السنة الثابتة الصحيحة لم تبلغه، والحجة في النصوص، وقد قال الأئمة: إذا صح الحديث فهو مذهبنا، والحديث كما قلت لكم صحيح ثابت، فهذا الخلاف إذاً يُترك ولا يعول عليه، ونعتبر الإنبات علامة على البلوغ في أولاد المسلمين وفي أولاد الكفار.

ولذلك إذا عمل الصبي جناية، نكشف عن مئزره، فإذا كان قد أنبت يعاقب وتسري عليه الأحكام، وإلا فلا يعاقب ولا يحاسب على هذه الجناية، فلو قُدر أن صغيراً شرب الخمر، فهل يقام عليه حد الخمر؟ وما نعلم بلوغه، لابد من التحقق من أمره، فإذا لم نعلم سنه ولا احتلامه، ما بقي إلا الأمارة الثالثة وهي: النظر إلى ما تحت المئزر، فإذا أنبت فهذه علامة على البلوغ، وإلا فلا.

وهذا منقول عن نافع رضي الله عنه كان يقول: إذا جنى الصبي جناية، وشككتم في أمره، فانظروا إلى ما تحت مئزره، هل أنبت أم لا؟ فإن كان أنبت فهو بالغ مكلف يحاسب، وإلا فلا.

هذه الأمارة الثانية على البلوغ، وهي الإنبات، والمراد من الإنبات شعر العانة كما تقدم معنا.

العلامة الثالثة للبلوغ بلوغ سن الخامسة عشرة

والأمارة الثالثة: العمر، وهو بلوغ الإنسان خمس عشرة سنة، إذا بلغ الإنسان هذا المقدار من عمره فهو بالغ مكلف يسري عليه القلم، ويُكلف بتوحيد ربنا الأكرم سبحانه وتعالى، وهذا الأمر الثالث دل عليه فعل نبينا عليه الصلاة والسلام وهديه.

ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مع الصبيان)، عُرضوا لأجل أن يشاركوا في هذه الموقعة، فمن كان بالغاً شارك، ومن كان صبياً مُنع، يقول: (وكنت في ذلك الوقت ابن أربع عشرة سنة، فما أجازني النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: وعُرضت عليه يوم الخندق ) وكانت بعد موقعة أحد بسنة، موقعة أحد في العام الثالث وموقعة الخندق في العام الرابع للهجرة على المعتمد، يقول: (فأجازني النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: فأجازه عندما بلغ خمس عشرة سنة، ورده عندما كان عمره أربع عشرة سنة، وهذا دليل على أن هذا السن إذا وصله الإنسان وهو خمس عشرة سنة دليل على بلوغه وعلى تكليفه.

قال نافع: فأخبرت عمر بن عبد العزيز بهذا عن ابن عمر فقال: إن هذا لحد فاصل بين الكبير والصغير، ثم كتب إلى عماله وأمرائه أن يعتبروا هذا العمر أمارة على تكليف الإنسان، فمن بلغه يفرض له في بيت المال عطاء، ومن لم يبلغ هذا العمر يُحسب في الذرية، فليس له نفقة الكبير.

قال الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/220): الغالب على بني آدم إذا بلغوا خمس عشرة سنة أن يحتلموا، وقل أن يصبح عمر إنسان خمس عشرة سنة من ذكر أو أنثى ولا يحتلم، ولا يخرج منه الماء، الغالب عليهم إذا وصلوا هذا العمر أن يحتلموا، والعبرة للغالب لا للخاص، لو قُدر أن واحداً من مليون وصل إلى خمس عشرة سنة وما احتلم، نقول: هذا نادر، والنادر لا حكم له، الأصل أنه سيحتلم، وأظهر علامات البلوغ كما تقدم معنا الاحتلام، فهذا العمر من وصله من بني الإنسان سيحتلم قطعاً وجزماً، ولذلك جُعل أمارة وعلامة ودليلاً على بلوغ الإنسان.

هذه العلامات الثلاث مشتركة بين الذكور والإناث: خروج المني بأي طريقة خرج، نبات شعر العانة، بلوغ المكلف ذكراً أو أنثى خمس عشرة سنة، هذا الأمر الثالث هو المعتمد عند الأئمة الثلاثة، أبي حنيفة والشافعي وأحمد، خالف فيه الإمام مالك ، كما خالف في الأمارة الثانية والعلامة الثانية الإمام أبو حنيفة عليهم جميعاً رحمة الله.

فالإمام مالك له روايتان في بلوغ الإنسان بالعمر إذا لم يبلغ بالاحتلام أو بنبات الشعر، الرواية الأولى: ثماني عشرة سنة، والرواية الثانية وهي المرجحة في المذهب: سبع عشرة سنة، فلا يعتبر سن خمس عشرة سنة علامة على البلوغ، إنما يعتبر الإمام مالك السن الذي يُعتبر به الإنسان بالغاً إذا لم يخرج منه المني ولم ينبت شعر العانة، يعتبر بالغاً إذا بلغ سبع عشرة سنة، وهذا الذي قاله الإمام مالك نقول فيه ما قلناه في قول أبي حنيفة عليهم جميعاً رحمة الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد ثبت الحديث كما تقدم معنا في الصحيحين وغيرهما، فهو في الكتب الستة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ابن عمر عندما بلغ خمس عشرة سنة، ورده عندما كان عمره أربع عشرة سنة، وهذا هو الحد الفاصل بين الصغير والكبير.

ولذلك قال أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (2/320): والسن الذي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم وهي خمس عشرة سنة، أولى من سن لم يعتبرها، يعني: السن سبع عشرة سنة ما اعتبرها ولا قام دليل عليها، وكذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الإنبات علامة على البلوغ، ثم عقَّب على هذا في كلام لو لم يقل في حق أئمتنا لكان أولى، قال فمن عذيري؟ أي: من يعذرني ويلتمس لي عذراً، إذا شنعت وأغلظت القول على من خالف في ذلك، فمن عذيري ممن يترك أمرين ورد بهما أثر عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم يقول بما لم يرد في الأثر ولا دل عليه دليل معتبر، يعني: من يلتمس لي العذر إلى الآن، أردت أن أُغلظ الكلام على أبي حنيفة وعلى الإمام مالك !

في الحقيقة لا نعذرك ولا نعذر أحداً أن يتكلم على أئمتنا، وهذا الذي قالوه على حسب ما بلغهم، وكل واحد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وما استنبطوا هذه الأحكام إلا من أدلة شرعية، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر، ورحمة الله واسعة وهو الغفور الرحيم، نعم نقول: المعتمد هذه العلامات الثلاث كل واحدة منها علامة على البلوغ كما ورد بذلك الحديث، فلا عبرة بخلاف أبي حنيفة في عدم اعتبار الإنبات علامة على البلوغ، ولا عبرة بخلاف الإمام مالك في عدم اعتبار خمسة عشرة سنة علامة على البلوغ، والاعتبار كما قرر جمهورنا حسبما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

أما فتح باب التشنيع على الأئمة فهذا لا يجوز وهو حرام، وأئمتنا نتقرب بحبهم إلى ربنا جل وعلا، وكل واحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، وإذا أخطأ إمام كان ماذا؟ ولا شيء، وخطؤهم بجانب صوابهم كقطرة في بحر لجي، فلا داعي للتشنيع، إنما يستحقون منا كل شكر وثناء وتقدير، فقوله: فمن يعذرني، نقول: لا نعذرك، ولا نسمح لك ولا لغيرك، وإذا تطاولت نقف لك مخاصمين ونرد عليك، أما هذا القول فيطرح، ولا حجة إلا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

وكما قال الإمام الشافعي : أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان، لكن شتان -كما قلنا- بين الأخذ بالسنة والتشنيع على الأئمة، فلا تلازم بينهما، نأخذ بما ثبت ونلتمس عذراً لأئمتنا، ونقول: لعل الحديث لم يبلغه، وانتهى الأمر.

رحمة الله على محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة ، وهو التلميذ الثاني له بعد أبي يوسف ، عندما حج محمد بن الحسن والتقى بالإمام مالك ، وعند الحنفية ما أخرجت الأرض فيه العشر إذا كان يسقى بماء السماء قل أو أكثر، سواء كان مما يقتات ويدخر أو لا، حتى البقدونس -لا أعلم ماذا يسمى هنا- يعني حتى الخيار والطماطم، هذه كلها عند الحنفية يُخرج منها العشر إذا كانت تُسقى بماء السماء مباشرة، حكمها كحكم الزروع والثمار، وإذا كانت تسقى عن طريق الآلة وبجهد الإنسان ففيها نصف العشر.

فالإمام مالك لما حج محمد بن الحسن والتقى به، قال له: هؤلاء أهل مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد قُبض الرسول فيهم، وهم أعلم الناس بأمور الزكاة، ما كانوا يخرجون زكاة عن الخضروات، يعني: إذا قطع البصل الأخضر، وقيل يخرج عشره قل أو كثر، فهذا فيه مشقة على العباد، وهكذا البقدونس، وهكذا الجرجير، وهكذا الخس، أي شيء أنبتته الأرض عند أبي حنيفة وسُقي بماء السماء فيه العشر قل أو كثر، قال له: ما كان أهل مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وليس بيننا وبين الصحابة إلا هذا الجيل، يعني: هؤلاء تابعون أدركناهم وهم أخذوا هذا عن الصحابة، لا يوجد الآن سلسلة طويلة، الإمام مالك من أتباع التابعين، يعني: أدرك التابعين الذين رأوا الصحابة، يقول: هؤلاء هم أولاد الصحابة، ما كانوا يخرجون زكاة هذه الخضروات، إنما يخرجون زكاة الزروع والثمار حين يقتات ويدخر من الحبوب، من الحنطة، والشعير، والذرة وغير ذلك، أما الخضروات ففي ذلك مشقة على العباد.

فعندما أقام له البينة، وهذا هو عمل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، قال محمد بن الحسن : رجعت عن قولي، ولو كان أبو حنيفة حياً لرجع عن قوله كما رجعت عن قولي، لكن هو أخذ بإطلاق قول الله جل وعلا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] ، ويقول: كل ما تخرجه الأرض، ويستحصد منها، ويقطف، ينبغي أن نخرج حقه يوم حصاده، سواء كان يقتات ويدخر أو لا، من الحبوب والثمار أو لا.

إذاً: بنى هذا على دليل شرعي، لكن هناك شيء استُثني ما وقف عليه، غاية ما نقول: معذور ومأجور، لكن هل نسمح لأحد أن يقول: من يعذرني بالتسفيه والتشنيع على أبي حنيفة ؟ نقول: قف عند حدك، لا أحد يعذرك ولا يسمح لك، وشتان بين أن تقول هذا القول خطأ مرجوح والصواب كذا، وبين أن تشنع على قائله، وما أخذ حكم من قبل أئمتنا إلا من أدلة شرعية، لكن -كما قلت- قد يكون هناك حكم خاص ما وقفوا عليه، فيُلتمس لهم العذر ويؤخذ بما ثبت، ونستغفر بعد ذلك للقائل وندعو له، ونتقرب إلى الله بحب أئمتنا، بل هذا أعظم ما ندخره عند ربنا بعد الإيمان به، حب أولياء الله، وإذا لم يكن أئمة الإسلام من أولياء الله فليس لله ولي، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

فإذاً: هذه الأمور الثلاثة علامات على البلوغ على حسب الدليل المعتمد:

أولها: خروج المني، وقلنا: هذا محل إجماع لا خلاف فيه، إذا خرج المني في أي مرحلة من عمر الإنسان وهو ابن عشر سنين فهو بالغ.

والعلامة الثانية: خروج شعر العانة حول قبل الذكر والأنثى، وخالف في هذا أبو حنيفة كما تقدم معنا، ويُلتمس له العذر، ويُطرح القول.

والدليل والأمارة الثالثة لبلوغ الإنسان: بلوغ الإنسان خمس عشرة سنة، وخالف في هذا الإمام مالك ، يُترضى عنه ويُترك قوله ويؤخذ بما ثبت.

العلامة الرابعة للبلوغ الحيض عند النساء

وهناك علامتان خاصتان بالنساء مع العلامات الثلاث، ويصبح مجموع العلامات في النساء خمس:

أولها: الحيض، فالحيض في المرأة يعدل البلوغ، أي: خروج المني فيها وفي الذكر، يعني: إذا خرج المني منها أو خرج المني من الذكر فهو علامة على البلوغ، لكن الرجل لا يحيض، إنما المرأة هي التي تحيض.

وقد يحيض الرجل من باب عقوبة الله له، وقد حصل هذا لبعض الناس كما نقل هذا الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر: أن بعض الناس كان يجامع زوجه في الحيض، فابتلاه الله بالحيض، فعلق معلق الكتاب ومحققه، قال: هذا يُستبعد، وعجب لـابن الجوزي كيف يورد هذا، أنا أعجب من هذا التعليق البارد، ما هو المستبعد، وأي عجب في ذلك؟! يعني: إذا سال الدم من قُبل الإنسان الذي هو يشبه حيض المرأة من باب الداء الذي فيه عقوبة له هذا يمكن أم لا يمكن؟ لمَ العجب؟ عقوبة من الله لهذا الفاعل، ليرتدع هو وأمثاله، أما أن يقال هذا غريب، فنعم، هذا غريب، وهذا خرق للعادة، من باب إهانته ومن باب ردعه وزجره.

أخبرني مرة بعض الشيوخ الصالحين ولا زال على قيد الحياة، وهو في أبها، أن بعض طلبة العلم في الرياض وكان معه، خطر بباله أنه يريد أن يعارض كلام ربه، قال: يقولون هذا القرآن لا يمكن الإتيان بمثل سورة من مثله، أنا سأجمع قرآنا وأؤلف قرآناً بمثل كامل هذا القرآن، لا بمثل سورة منه، فجلس في حجرته، وهو في الأصل من طلبة العلم زين له الشيطان هذا، وأغلق عليه الباب وعكف على الكتب ليختار عبارات معسولة، وليصيغها بعد ذلك بألفاظ جزلة فخمة.

في خلوته وعكوفه في حجرته ضخم الله لسانه، فملأ غار فمه، فما عاد يستطيع أن يتكلم ولا يأكل ولا يشرب، وهذا على قيد الحياة، اللسان ملأ غار الفم، فعرف مباشرة أن هذا لإلحاده وكفره وضلاله وشططه، فخر ساجداً لربه، وقال: أسألك ألا تفضحني بين الناس، فعاد لسانه إليه كما كان.

لكن نقول: عجيب كيف وقع هذا! أي عجب في ذلك، والله على كل شيء قدير، يعني: الذي جعل اللسان يتحرك وجعل له هذا الغار وهذه الفتحة، بإمكانه أن يضخمه بحيث لا يتحرك، ويملأ غار فمك فلا تستطيع أن تتكلم ولا أن تأكل ولا تشرب، والله على كل شيء قدير، عقوبة عاجلة لهذا.

فالإمام ابن الجوزي يورد هذا في عقوبة بعض المستخفين بالشرع المطهر، فبعد أن أورد عقوبات كثيرة، التي يهمنا منها حيض الرجال، الأصل ألا يحيض الرجل، لكن ما المانع أن يجرى الله ذكره وعضوه بخروج الدم منه فترة في كل شهر، كما يجرى من زوجته عقوبة له، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، لا مانع على الإطلاق.

التقى مرة بي بعض الناس يعرض مشكلته عليَّ، يقول لي: يا شيخ! تزوجت، وصار لزوجتي أكثر من سنة معي وما استطعت أن أتصل بها، وعضوي كالخرقة البالية، ما عندي أي حركة، وأنا بت أحتقر نفسي، وأمقت نفسي، يعني: رجولتي كيف ضاعت، قلت له: هل فيك ضعف في بدنك؟ يقول: عرضت هذا على الأطباء، فقالوا: ما فيك آفة، الأصل أنت من أقوى الرجال.

قلت له: يا أخي الكريم! الله يحب الستر، ولا أريد أن أبحث عن حقيقة الأمر، لعلك في حياتك تدنست بالزنا أو باللواط، فقال: يا شيخ! فعلت هذا سنين، كنت أسافر إلى بلدة كذا وكذا، قلت: لا أريد أن تذكر لي، أنا أقول: لعل، وأنت أفهم مني، ثم افعل بما أنصحك به بعد ذلك، لعلك فعلت فعاقبك الله، لما أردت أن تدخل هذه الشهوة عن طريق الحرام منعك الله إياها عن طريق الحلال، عقوبة لك، ومن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وقد لا تعجل العقوبة، وإذا عُجلت فهذا خير للإنسان من أن تدخر له يوم القيامة، لعله عُجلت لك العقوبة والله أراد بك خيراً، ليكون بداية توبة لك ورجوع إلى الله.

قال: جرى، لكن ماذا أعمل؟ قلت: جرى ما جرى لا تذكر لي ولا لغيري، لا نريد أن يكون حالنا كحال البابوات، الذين يغفرون الخطيئات بعد الاعتراف، ثم عندما تعترف المرأة بخطيئتها ليطهرها يُكمل عليها بخطيئة أخرى!

لا نريد هذا، قلت: يا عبد الله! دعك فيما بينك وبين ربك، لا تُدخل أحداً بينك وبين الله، لا تذكر حالك لأحد من خلقه، لكن أنا أقول: مالك إلا أن تلجأ إلى الله عند السحر، تقول: رب أخطأت، وأنت أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وفعلاً الرجل بدأ يلجأ إلى الله، والذي يظهر بصدق وانكسار حقيقي، بعد فترة فرَّج الله عنه واتصل بزوجته، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين! هذا يمكن أن يقع عقوبة عاجلة له، لأجل أن يعتبر هو ويعتبر غيره، وقد يؤخر الله العقوبة ليوم تشخص فيه الأبصار.

الشاهد: الحيض من خواص النساء، ولا يحيض الرجل إلا من باب عقوبة الله له في هذه الحياة، وإذا عاقبه فلا داعي أن نقول: هذا لا يمكن أن يقع، وكيف يحيض الرجل؟ الذي جعل المرأة تحيض يجعل الرجل يحيض، على خلاف السنة الموجودة بين البشر، والسنة التي وضعها الله يغيرها وهو على كل شيء قدير، وإذا كان الله جل وعلا بإمكانه واستطاعته أن يقول للنار: كوني برداً وسلاماً، بإمكانه أن يقول لهذا الإنسان: حِض، ويسيل الدم إليه وهو على كل شيء قدير، من الذي يمنعه سبحانه وتعالى؟! نعم، هذا خرق لسنته في تقدير الله ومشيئته، عقوبة له وزجراً له ولغيره.

فالحيض: وهو الدم الذي يخرج من قُبل المرأة لا عن داء، أي: لا بسبب جرح، وهو الذي يسمى بدم الاستحاضة، إنما يخرج بسبب بلوغها وكمالها وصحتها، أما لو قُدر أنها جُرحت، وعرقٌ انفلت، وخرج منها الدم، وقال الأطباء: هذا دم استحاضة، فهذا لا يعتبر دم حيض ولا بلوغ، فدم يخرجه رحم المرأة في حال صحتها عند بلوغها ونضجها، ويمكن أن تحيض المرأة في سن تسع، ونادراً ما تحيض قبل ذلك، لكن هذا نادر، وغالب حيضها في سنة اثنتي عشرة، هذا الغالب، وقد تحيض في سنة تسع، وقبل التسع نادر جداً.

فإذا خرج هذا الدم الذي يخرجه الرحم، عن صحة لا عن داء، ولا عن صغر، وهو دم الحيض، يميل إلى السواد، وله رائحة كريهة، وإذا خرج يؤذي