مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

الكلام الذي سأتكلم به في هذه الليلة المباركة يتعلق بالأولاد، قد قلنا: إنهم يشفعون لأبويهم، ويكونون سبباً في إدخال أبويهم الجنة، وهذا يدعونا إلى اتخاذ وسيلة ننجب بسببها الأولاد، لعله يُقبض واحد من أولادنا قبل الحنث فننال هذه الكرامة، والأولاد حقيقة كانوا أمنية لسلفنا في العصر الأول، وصاروا شؤماً عند الناس في هذا الزمن المتأخر، يعني: أشنع خبر عند الناس في هذه الأيام أن يقال له: زوجتك ولدت، يقول: ليتها لم تلد، ما أريدها أن تلد لي الأولاد! يعني: أما كفى أنني تزوجت فأقوم بمؤنة الزوجة، ثم لو قيل له: ولدت ولداً، يقول هذه تنجب أولاداً لابد أن نتخذ لها طريقة.

والإجراءات التي تُتخذ في هذه الأيام لمنع الإنجاب تكفي نفقة الأولاد الأحياء ومن يُقضى عليهم، وتقليل النسل -وبالعبارة الخبيثة التي يسمونها تحديد النسل- هذا كأنه وجِّه إلى المسلمين فقط، بل ما وُجه إلا إليهم من قبل النصارى، وهم يفرخون ويتناسلون، من أجل أن يستولوا -على تعبيرهم- على العالم، ونحن بعد ذلك لينقرض عددنا، وليحصل بعد ذلك عند أخذ هذه الوسائل التي تمنع الحمل ضرر على أبداننا.

إخوتي الكرام! إذا كان كذلك فلابد أن نبحث في فضائل الولد، وما ينتج عن الولد من خيرات ومحاسن، لنبتهج ونفرح بالولد إذا جاءنا، ويكفى أن الله سماه هبة ونعمة: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، يعني: لو واحد طرق عليك الباب وأعطاك تنكة عسل تفرح، ولو أعطاك أيضاً شاة مذبوحة لئلا تتعنى وتتعب في ذبحها، فهذه هبة، وكذلك لو أعطاك مليون روبية، وهنا كذلك هذا أعظم بكثير: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49].

ولذلك عندما يمتن الله على عباده بالأولاد يستعمل لفظ الهبة: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء:72]، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74]، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] ، هذه هبة، وهي من الهبات العظيمة، والنعم الجسيمة من الله على عباده.

وقال أئمتنا عليهم رحمة الله: مقاصد النكاح والغاية التي نحصلها من الزواج خمس:

أولها وأعظمها: الولد، وقد كان كثير من سلفنا يقولون: والله ما ننكح إلا من أجل الولد، أي: ما نتزوج إلا لأجل ولد يعبد الله الصمد، ولولا الولد لما تزوجنا، ونحن الآن صار الولد شؤماً عند الناس في هذه الأيام عندما ساء ظنهم بربهم، الولد هذا أعظم مقاصد النكاح كما سأبين.

إذاً: إنجاب الذرية التي تعبد رب البرية مقصد أول.

المقصد الثاني من مقاصد النكاح: تحصين النفس البشرية من الآفات الردية حسية أو معنوية، ولا أريد الشرح لهذه المقاصد إنما أريد أن أتكلم على المقصد الأول الذي هو إنجاب الذرية، لكن بالنكاح يحصن الإنسان نفسه حساً ومعنى، فبالمعنى يسلم دينك، ولا يتلاعب الشيطان بك، وحساً تنفي عن نفسك الأمراض؛ لأن الماء إذا احتقن آذى صاحبه عندما يحتقن فيه ويسبب له الوسوسة والهلوسة في نهاية الأمر، وضرره على البدن أعظم من ضرر حبس البول في مثانة الإنسان.

إذاً: أنت عندما تتزوج تحصن النفس من الآفات الردية حسية أو معنوية، وتحصل الأجر الكبير بواسطة الزواج عن طريق النفقة على الزوجة وحسن عشرتها.

الفائدة الرابعة: ترتفق بها وترتفق بك ويأنس كل واحد بصاحبه.

والفائدة الخامسة: تتذكر اللذة التي وُعدت بها في الآخرة عندما رغبنا الله بالحور الحسان، لا ندرك اللذة فيهن إلا إذا جُعل لها صورة مصغرة في هذه الحياة، عن طريق النساء اللاتي أحل الله الاتصال بهن، لكن هؤلاء مخلوقات من طين، وتلك حور عين، فهنا اللذة تقرب لك اللذة العظيمة التي ستحصلها يوم الدين.

هذه مقاصد النكاح، إنجاب الذرية التي تعبد رب البرية، تحصن النفس البشرية من الآفات الردية، تحصل أجراً كبيراً فخير الناس خيرهم لأهله، يرتبط كل من الزوجين بصاحبه ويستأنس به، يتذكر كل منهما لذة الآخرة التي هذه صورة مصغرة عنها.

الفائدة الأولى هذه التي سأتكلم عليها: إنجاب الذرية التي تعبد رب البرية، وكنت أفردت الكلام عليها في محاضرة طويلة، إذا بلغكم شريطها فاسمعوه وعُوه وانتفعوا به إن شاء الله: (فضل رب البرية في إنجاب الذرية)، محاضرة كاملة حول هذا سأختصرها فيما بقي من الوقت إن شاء الله.

إخوتي الكرام! كنت قدمت لتلك المحاضرة أن الناس يتأففون من الأولاد ويكرهونهم في هذا الحين لأمرين:

الأول: لكثرة مؤنتهم، والثاني: لصعوبة خدمتهم ورعايتهم.

الأول يقول: يحتاجون إلى النفقة ونحن في فقر، كيف سننفق عليهم؟ وعلى تعبير بعض الناس في الإذاعات من أين سنطعمهم؟

وأنا أعجب لهؤلاء الحمقى الذين تركوا عقولهم عندما انحرفوا عن شرع ربهم، المولود عندما يولد له فم يأكل به، وله رجلان يمشي عليهما، وله يدان يعمل بهما، وإنتاج كل واحد على وجه الأرض أكثر من استهلاكه، ولذلك الخيرات في ازدياد شاء الناس أم أبوا؛ لأن ما ينتجه الإنسان أكثر مما يستهلكه، فإذا كان كذلك فلماذا نهتم للرزق، حتى الطفل بعد أن يستغني عن الحليب هل نأتي ونصب الطعام في فمه!! أبداً، هذا بمجرد ما يكبر أحياناً لسن السابعة يزاول العمل مع والده، ويقوم بخدمة أكثر من استهلاكه بكثير.

إذاً: كل مولود يعمل، علامَ نتصور الجيل أنه عاطل يأكل ولا يعمل؟ يعني: له فم لكن له يدان، فإذاً هذا يزاول الأعمال ويأتي بعد ذلك خيرات ورزق حلال، إذاً: هذه الشبه كلها باطلة، تتصادم مع العقل الصريح بعد عدم اعتبارها في شرع الله الصحيح.

وأما الأمر الثاني ما يتعلل به بعض الناس، يقول: أنا أُشغل بهم، ويحتاجون إلى خدمة، وطالب علم، إذا تزوجت كيف سأقرأ؟ وكيف سأكتب؟ وكيف سأحفظ؟ وهذا فيه مشغلة، وهذا يلهيني عن عبادة الله، لا أريد أن أتزوج ولا أريد أن أنجب الذرية، لو تزوجت يكفيني أنني اتخلص من عناء الشهوة بواسطة الزوجة، أما أولاد فلا أتكلم في رزقهم، الله يرزقهم ويرزقني؛ لكن في موضوع التعب نحوهم، ما عندي وقت، وسأُشغل أيضاً فيهم عن أمور مهمة!

وأنا أقول لهذا الصنف الأحمق الذي يلتحق بالصنف الأول: أنت ستعبد الله كما تريد أو كما يريد هو، كيف ستعبد ربك؟

الزهد تعريفه عند أئمتنا: ترك ما يضر في الآخرة، والعبادة تعريفها: فعل ما ينفع في الآخرة، فهل إنجاب الذرية يضر في الآخرة؟ وسيأتينا منافع الذرية، إذاً: الزهد في الذرية حماقة وليس زهداً شرعياً، وهل ترك الذرية عبادة؟ لا، لأنها كما قلنا منفعة، العبادة أن تفعل ما يقربك عند ربك، والزهد أن تترك ما يضرك عند ربك، فهل ترك الذرية ينفع عند الله؟ لا، إنجاب الذرية ينفع؟ نعم، هذه عبادة، هل ترك الذرية مضرة عند الله لنزهد فيه؟ لا، إذا كان كذلك فرب جماع خير من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها كما قال الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر وفي تلبيس إبليس!

ووالله إن والد الإمام أحمد حصل باتصاله بأم الإمام أحمد من الأجر ما لا يحصله لو عبد الله ألف ألف سنة، عندما جاءه هذا الولد المبارك الذي يُكتب للوالد أجره؛ لأن هذا الولد من سعيه، وكم كان ينال والد الإمام أحمد من أجر في حياة الإمام أحمد بدعائه المبارك، ثم لا زال الأجر يصل لهذا الوالد بسبب أخذنا العلم من هذا الولد، فيُكتب للولد أجر وللوالد إلى يوم القيامة، مضى أكثر من ألف سنة على موت الإمام أحمد ، ولوالد الإمام أحمد أجر متصل وسيبقى إلى يوم القيامة.

والأيام والليالي حوامل ولا يعلم غير الله ما تلد

يعني: قد يقول إنسان: من أين لي بولد كالإمام أحمد؟ قل:

عليك بذر الحب لا قطف الجنى والله للساعين خير ضمين

أنت بذرت وبعد ذلك تحقيق المأمول على الله عز وجل، لكن هل والد صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله كان يتوقع باتصاله بأم صلاح الدين أنه سيأتي هذا الولد الذي يقضي على الفرنج؟ حقيقة ما كان هذا يخطر بباله، إذاً: عبادة الله كما يريد الله، لا كما تريد أنت، فالزهد في الأولاد هذا زهد هندوكي ليس بزهد شرعي، وترك الأولاد من أجل التفرغ للعبادة عبادة نفسية لا عبادة شرعية، فإن كنت تريد عبادة الله كما شرع فافعل ما أمرك الله، ثم بعد ذلك يبارك الله لك في وقتك لتحصل العلم النافع، ولتدعو إلى الله على بصيرة.

إخوتي الكرام! لابد من وعي، وانظروا لتعريف الزهد والعبادة كما ذكرت في مجموع الفتاوى (14/458)؛ الزهد: ترك ما يضر في الآخرة، والعبادة: فعل ما ينفع في الآخرة، فمن ترك ما ينفعه في الآخرة أو زهد فيما لا يضره في الآخرة، فليس بزاهد ولا عابد، لنحقق الآن أن الولد ينفع ولا يضر في الآخرة، لنبين أن فعله عبادة، وأن تركه ليس بزهد شرعي، إنما هو زهد هندوكي غوي.

الولد هو مقصد من مقاصد النكاح الخمسة، وفي الولد خمس فوائد، كل واحدة منها تدعوك لإنجابه إذا كان عندك عقل، وتحرص على نفسك في الدنيا والآخرة، كل واحدة من هذه الأمور الخمسة، فكيف إذا اجتمعت، والله إذا اجتمعت لا يتأخر الإنسان عن طلب الولد إلا إذا ما قدَّر هذه النعمة حق قدرها.

الفائدة الأولى: إبقاء جنس الإنسان لعبادة الرحمن

الفائدة الأولى: الذي يتزوج وينجب الولد يسعى لإبقاء جنس الإنسان لعبادة الرحمن، وبالتالي هو يسعى في بقاء الحكمة التي من أجلها شاء الله خلق عباده ليعبدوه فترة من الزمن وحده لا شريك له، ولو ترك الناس النكاح وإنجاب الأولاد، فإن الحياة ستنقرض بعد مائة سنة على أكبر تقدير، ولا يبقى من يعبد الله الجليل.

إذاً: أنت عندما تتزوج وتنجب ذرية لتعبد رب البرية تسعى في إبقاء حكمة الله التي شاءها الله جل وعلا وأرادها من خلق عباده لعبادته وحده لا شريك له، والله جل وعلا أشار إلى هذا المعنى في كثير من الآيات، يقول الله جل وعلا في سورة البقرة، في آية ثلاث وعشرين ومائتين: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:222-223].

النساء حرث، والحرث: هي الأرض التي تُحرث ويزرع فيها، آلة الزرع والازدراع عندك، وتلك أرض لأجل أن يوضع فيها البَذْر، حالك في هذا الأمر كحال إنسان جاء وأعطاك أرضاً طيبة خصبة، وقال: هذا بذر نقي، وهذه آلة الحرث، احرث الأرض وضع هذا البذر فيها لينتج محصول تنتفع به وأنتفع أنا وتنتفع به المخلوقات، أنت قلت: ما لي ولأوامر هذا السيد المالك! وعطلت الأرض حتى امتلأت بالأشواك والأعشاب والبلاء، وتركت البذر حتى سوَّس وفسد، وتركت الآلة حتى أكلها الصدأ وتعطلت أو خربت، ماذا سيكون موقف من أعطاك هذه الأمور منك؟ العقوبة، وهنا قال الله: هذه حرث لكم، وأنت عندك آلة الحرث، وجعل الله فيك بذراً، فاحرث هذه الأرض وضع فيها البذر لينبت فيها شيء قدرته بإذني ومشيئتي.

فأنت إذا عطلت الحرث تستحق العقوبة من الله لأنك لم تنفذ ما أراده، حقيقة تستحق العقوبة، ومن رغب عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام فليس منه.

ثم هذا الحرث إذا لم يحرثه أولاد الحلال فسيحرثه أولاد الحرام، هذه المرأة إذا لم تُقرن بصالح ستقرن بخبيث شئت أم أبيت، ومن رجاحة عقل بعض النساء الشاميات في بعض مدن الشام، أنها قالت لزوجها عندما خُطبت بنت عمه لبعض الناس: أما تستحي؟ قال: من أي شيء؟ قالت: ابنة عمك يخطبها شخص نحن نعرفه لا يصلي ولا يصوم ولا يعبد الحي القيوم، وأنت موجود، قال: ماذا أعمل؟ قالت: تزوجها، قال: أويرضيكِ ذلك؟ قالت: وكيف لا يرضيني، بدلاً من أن تكون هذه المؤمنة عند فاسق تكون عند تقي، وفعلاً ذهب إلى عمه، وقال: أحسن من هذا الفاسق، مؤمنة أنا أريدها وأنا أولى بها، قال: إن كان لك رغبة فالآن لا تخرج إلا بها، فأخذها وأحضرها إلى زوجته الأولى وهما أختان متحابتان في الرحمن.

هذا الحرث كيف تتركه لغيرك؟ إذا ما حرثه الأبرار سيحرثه الفجار، ولذلك لابد من وعي هذه القضية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223]، ثم قال: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] عندما تحرث الولد لا يكون همك قضاء الشهوة فقط، فتنزه عن هذا، مع أن هذا لك فيه مندوحة؛ لكن لا يكون هذا هو المقصد الأصلي من الاتصال بالزوجة، وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ أي: في طلب الولد من ذلك الاتصال، فأنت قصدت طلب الولد.

ولا ينافي هذا ما نُقل عن السلف: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] أي: التسمية، لأن هذا من التقديم أيضاً.

وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] أي: العمل الصالح، أي سمِّ عندما تتصل بأهلك، واعمل صالحاً، ولا يكون قصدك فقط الاتصال بالزوجة، بل اجمع عملاً صالحاً، لكن أنا أقول: التسمية من أجل ألا يكون للشيطان سبيل على الولد، والعمل الصالح رأسه إنجاب الذرية التي تعبد رب البرية.

وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] أي: بطلب الولد الصالح تقدم صالحاً بين يديك عند ربك عندما تتصل بزوجتك بهذه النية، والآيات في ذلك كثيرة تقرر هذا، ولا أريد أن أذكرها كلها.

وكذلك يروي أبو نعيم في الحلية (5/89) في ترجمة أبي الأعلى التيمي ، في أخبار أهل الكتاب، وهذا مما يُرخص في نقله وحكايته، أن نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، عندما التقى بأخيه بعد الغيبة الطويلة وقد تزوج أخوه ووُلد له، فقال: أما شغلك حزنك عليّ عن الزواج؟

يعني: أنا أخوك وفُقدت وأُلقيت في البئر، وبعد ذلك شُردت وبقيت مُغيَّباً عنك سنين طويلة، أما شغلك حزنك عليّ عن الزواج؟ قال هذا الأخ لنبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: إن والدي -يعني: نبي الله يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- قال لي: يا ولدي تزوج، لعل الله يخرج من صلبك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح، أي: تزوج لعله يخرج من صلبك ذرية تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هذا عماد الأرض، ولا تثبت الأرض إلا بهذا، ولا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول الله الله، وإذا لم يوجد في الأرض من يسبح الله ويذكره قامت الساعة.

ولذلك كان سلفنا يحرصون على هذا الأمر، بل يقرر فقهاء الحنفية ونِعم ما قرروا، يقولون: إنجاب الذرية أجره أعظم من أجر الجهاد!

وقد أرسل إلي مرة بعض السفهاء رسالة، وهو موجه تربية إسلامية في بعض البلاد، ويقول لي ضمن رسالة طويلة ملأها بالسب والشتم، يقول: قضيتَ حياتك في قراءة الكتب الصفراء، ثم تصدرتَ بعد ذلك للدعوة! والله ما تصدرتُ، إنما الأمر كما قال أئمتنا إذا لم يوجد من يسد الثغرة إلا هذا العبد الضعيف فماذا أعمل؟ وإلا فلا يحق لمثلي أن يتكلم، لكن عندما وُجدنا في هذا الزمن وصار يتكلم مَن نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم بفضله ورحمته.

يقول بعد ذلك: بدأتَ تتزوج، وأين أنت من الجهاد؟ ثم يقول بعبارة سافلة بذيئة: ولعلك تتعلل بأنك تجاهد على فراشك، والقيامة هي الموعد!

وأنا أقول لهذا الصعلوك وغيره الذين يزعمون أنهم يجاهدون في هذا الحين: ما حصلنا من جهادكم إلا فُرقة بين المسلمين وتشويهاً لدين رب العالمين، يقول علماء الحنفية ونِعم ما قالوا: إن أجر إنجاب الأولاد أعظم من أجر الجهاد، كيف هذا؟ انظر لهذا التعليل الشرعي، الذي يُبنى على دليل قوي، لا دخل للعقل البشري فيه على الإطلاق، يقول: أنت بإنجاب الذرية تحافظ على الصفة والموصوف، وأما بالجهاد تحافظ على الصفة لا على الموصوف، كيف هذا؟

إخوتي الكرام! عندما ننجب ذرية نحافظ على الإسلام وعلى المسلمين؛ لأن ذرية المسلم مسلمة، إذاً: جاءنا موصوف مسلم وفيه صفة الإسلام، حافظنا على الصفة والموصوف، وأما في الجهاد فنحن فقط نحافظ على الصفة لا على الموصوف، عندما نقاتل نحافظ على الصفة، أي على الإسلام، لا على الموصوف؛ لأننا نقاتل الكفار من أجل ألا يزال الإسلام، لكن هل يلزم من قتالنا للكفار أن يسلموا؟ لا يلزم، قد يكونون أهل ذمة فيدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون ويدخلون في العهد، فيبقون على كفرهم، فما حصل إذاً هناك موصوف مسلم، وقد لا يدخلون فيُقتلون فما حصل مسلم، إنما حفظنا دين الله من الضياع، لئلا يزيل الكفار الإسلام، فنحن بالجهاد حافظنا على الإسلام لا على أناس أدخلناهم في الإسلام، لأنهم قد يسلمون وقد لا يسلمون، وأما في إنجاب الذرية فتحافظ على ذرية مسلمة، وهذا أمر مضمون.

يعني الأمة الإسلامية التي تزيد الآن على ألف مليون لو قدرنا أن هذه كلها ستنجب ذرية وفيهم صلاح واستقامة، ولو قدرنا أن الذين ينجبون بنسبة الربع فقط، والربع يصبح مائتين وخمسين مليوناً، أوليس كذلك؟ يعني في كل سنة سيُولد مائتان وخمسون مليوناً من أولاد المسلمين، فهذه أعداد عظيمة عظيمة، كلهم يوحدون الله، والله يحب منا أن نوحده، وأن نعبده، وأن نثقل الأرض بتسبيحه وحمده وذكره، هذا مقصود.

ولك أن تقول: لِمَ كثرة النسل؟ خلقنا الله لعبادته، نحن خُلقنا لنعمر هذا الكون بلا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، الله شاء هذا وأحبه ورضيه وأمرنا به، فأنت تتفلسف بعد ذلك على هذه الحكمة بتفلسفات شيطانية، وتذكر أن الجهاد أنزل أجراً من إنجاب الأولاد، ففي الأولاد تحافظ على الصفة والموصوف، وبالجهاد تحافظ على الصفة لا على الموصوف، ولا يشترط في الجهاد أن يؤمن الكفار، وأما في إنجاب الذرية فإيمانهم مضمون، والإسلام حافظ لهم قطعاً وجزماً، فنحن عندما ننجب ولداً مسلماً، حافظنا على الإسلام وعلى المسلمين، أي: كثَّرنا عددهم، وهذا يقرره الكمال بن الهمام في فتح القدير (3/184).

ولذلك يقول الإمام أحمد عليه رحمة الله: لو لم يكن نكاح وإنجاب للأولاد لما كان حج ولا صلاة ولا جهاد ولا صيام ولا صدقة، يعني: تعطلت شرائع الإسلام!

إذاً: هذه الحكمة الأولى تسعى في إبقاء حكمة الله من هذا الجيل، ليعبد الله الجليل فترة شاءها سبحانه وتعالى، والذي يسعى في هذا يسعى فيما يحبه الله، وله أجر كبير عند الله.

الفائدة الثانية: إقرار عين النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة النسل

الفائدة الثانية من النسل: أنت تقر عين النبي عليه الصلاة والسلام عندما تتزوج وتنجب ذرية، وإذا أمكنك أن تتزوج اثنتين فلا تتزوج واحدة، وإذا أمكنك أن تتزوج ثلاثاً فلا تتزوج اثنتين، وإذا أمكنك أن تتزوج أربعاً فمن المنقصة أن تتزوج ثلاثاً؛ لأنه إذا كثر النسل كثر ما يحبه النبي عليه الصلاة والسلام، ألا تريد أن يحصل محبوب حبيبك عليه الصلاة والسلام لتنال أجراً كبيراً؟!

ثبت في المسند وصحيح ابن حبان ومعجم الطبراني ، والحديث صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة -يعني بالنكاح والتوسع فيه- وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)، أنا سأفاخر الأمم والأنبياء وأن أمتي أكثر الأمم، وقد حقق الله أمنية النبي عليه الصلاة والسلام، فأمته أكثر أهل الجنة يوم القيامة.

وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون صفاً منهم من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، يعني: ثلثا أهل الجنة، ونحن نطمع أن نكون أكثر من الثلثين، فنحن ثمانون صفاً في عدد الصفوف، لكن أفراد كل صف أكثر من أفراد الصفوف الأخرى في كل صف من صفوفنا ملايين، وأما تلك فصفوف متعددة لكن لا يبلغ عددها كعدد صفوفنا، والحديث بذلك صحيح، رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن بريدة ، ورواه الإمام أحمد والطبراني في معاجمه الثلاثة وأبو يعلى والبزار عن ابن مسعود ، ورُوي من رواية ابن عباس وأبي موسى الأشعري ومعاوية بن حيدة ، والحديث صحيح، (أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون صفاً منهم من هذه الأمة)، فأقر عين النبي عليه الصلاة والسلام بكثرة نسل أمته وكثرة المسلمين.

الفائدة الثالثة: الانتفاع بالولد

الأمر الثالث من فوائد إنجاب الولد: الانتفاع بالولد عن طريقين اثنين، هذا إن عاش الولد وامتدت حياته، تنتفع به وبدعائه، سواء كنت حياً أو ميتاً، فالله أمر الولد أن يدعو لوالديه باستمرار: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، ولا يتحقق الشكر منك نحو أبويك حتى تدعو لهما وتستغفر لهما عقب كل صلاة مفروضة؛ لأن الله قرن حقهما بحقه، فإذا صليت لله شكرته، وإذا دعوت لهما عقب كل صلاة شكرت والديك، كيف ستحصل هذه النعمة لو لم يولد لك ولد؟

وقد ثبت في المسند وكتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، والحديث في صحيح مسلم ، ورواه أبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يتنفع به، أو ولد صالح يدعو له)، إذاً: تنتفع بهذا الولد عن طريق دعائه حياً أو ميتاً، أي: إذا كنت حياً وإذا كنت ميتاً، تنتفع بدعائه إذا عاش.

وقد ثبت في المسند وسنن ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل لترفع درجته بعد موته -هو ميت يخبره الله بأن درجته رُفعت، يُعذب يُرفع العذاب عنه- فيقول: رب أنى لي هذا؟ فيقول الله له: باستغفار ولدك من بعدك).

إذاً: هذا الانتفاع تحصله بالولد، والله لو بذلت جميع ما تملك من أجل إنجاب ولد لكان قليلاً؛ لأن الفوائد من الولد أعظم من هذا المال الذي تتصدق به، وهذا المال الذي تدخره ويرثه من يرثه، هذا أمر عظيم، مُتَّ تُعذب فيرفع عنك العذاب بدعاء الولد، لك درجة في الجنة نازلة فترفع بدعاء الولد، تقول: من أين لي هذا؟ باستغفار ولدك من بعدك.

وأما في هذه الحياة فترتفق به، ويساعدك، وقد امتن الله علينا في سورة النعم وهي سورة النحل فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، حفدة: حفد يحفد حفداً وحفداناً، إذا خدم على وجه السرعة.

احتفد: إذا خف في العمل عن طريق الخدمة، أي: خدم بسرعة لا بكسل وفتور، من خدم بسرعة فهو حافد.

من هم الحفدة؟ انتبه لكلام أئمتنا والآية تشمل كل ما قيل من أقوال ستة في ذلك:

قيل: هم أولاد الأولاد، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72] ، يعني: أولاداً من صلبك وأولاد الأولاد، إذاً يمتن علينا بأنه خرج لنا أولاداً وأولاد الأولاد يحفدوننا، أي: يخدموننا، وإذا كان ولد الولد يخدمك فالولد تحصل منه الخدمة من باب أولى.

المعنى الثاني والصنف الثاني الذي يدخل في الحفدة، قيل: الحفدة خصوص البنات، كما أن البنين خصوص الأولاد الذكور: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72] ، يعني: بنين وبنات، بدل أن يقول (وبنات) قال (وحفدة)؛ لأن الحفد والخدمة في النساء أمكن وأمتن وأقوى وأحسن، ولا خير في بيت ليس فيه امرأة، وأقصد لا خير على وجه التمام والكمال، فتراه لا ترتيب فيه، ولا أنس فيه، ولا بهجة فيه، بيت ليس فيه امرأة مظلم، أما إذا كان عندك امرأة فيكون منوراً، من ناحية الترتيب، من ناحية تجهيز الطعام، من ناحية غسل الملابس، لأنهن يحفدن ويسارعن في الخدمة، وأنت جرِّب إذا كنت صاحب أسرة على الطعام إذا احتجت إلى كوز من الماء وطلبته، من الذي يسارع إليه الابن أو البنت؟ البنت.

والمعنى الثالث: قيل الحفدة هم البنون أيضاً، كيف إذاً عطفهم على البنين؟ قال: لتنزل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات، والمعنى: جعل لكم من أزواجكم بنين هم حفدة، يعني: هم بنون وهم خدم لكم، هذه نعمة ترتفقون بها في هذه الحياة.

وقيل: إن البنين يراد بهم خصوص الأولاد الكبار، على هذا القول الثالث، والحفدة الأولاد الصغار لأنهم يخفون في الخدمة ويسرعون.

وقيل عكس هذا: البنون الأولاد الصغار، والحفدة الأولاد الكبار؛ لأن الخدمة فيهم أتم ويستطيع ما لا يستطيعه الولد الصغير، لكن على جميع الأقوال البنون هم الحفدة.

والقول الرابع: الحفدة هم أولاد المرأة من زوج آخر، إذا تزوجت امرأة وعندها أولاد يحفدونك، أي: يخدمون، وهم يعتبرون ربائب لك في بيتك، تربيهم فيخدمونك وترتفق بهم.

وقيل: الحفدة هم الأختان، والخَتَن يطلق على القريب من جهة الزوجة، والد الزوجة وأخوها يقال له ختن، سمي ختناً لأن صلتك به عن طريق التقاء الخِتانين، فلما حصل الاتصال بهذه المرأة عن طريق ما أحل الله انتشرت هذه الصلة إلى أقاربها من أخيها وأبيها: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54] .

ويطلق الختن في استعمال الناس على الأصهار، أي: على زوج البنات، وهذا لا يستعمل في اللغة وإن كان الاشتقاق اللغوي يصححه؛ لأنه بقيت أيضاً صلة في هؤلاء عن طريق التقاء الختانين.

والحفدة على المعنى السادس: الخدم من غير صلة، بأن يكونوا من زوجة أقاربها أو من أولادها، جعل لكم من أزواجكم بنين وجعل لكم أيضاً نعمة أخرى ومنة أخرى من غير الأزواج، خدماً يخدمونكم في هذه الحياة.

وعلى كل حال كيفما تقلب أمر الخدم فلا يمكن إلا أن يكونوا عن طريق الزوجات، لابد من امرأة ولدتهم، سواء كانوا أولاداً لك أو خدماً من غير أولادك ومن غير صلبك وزوجتك.

إذاً: هؤلاء الخدم يخرجون عن طريق الزوجة، وهذا الولد يخدمك وأنت تنتفع وترتفق به في هذه الحياة، إذا كان كذلك فهذه نعمة، ولذلك مال الولد مالك، وما ذكر الله بيت الولد عندما ذكر البيوت التي يرخص من الأكل فيها، يقول الله جل وعلا في سورة النور: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النور:61]، ما قال فيها: أو بيوت أبنائكم؛ لأن بيت الابن بيتك، لا داعي أن يُنص عليه؛ لأنه هو هبة لك، فالولد وما يملك ملك لك وهبة لك، ولو قال: أو بيوت أبنائكم، لتنغصت نفوس الآباء وتكدرت، وقال: يعني بيت ابني لا يحتاج أن يُذكر ومتى صار بيت الولد خارجاً عن بيتنا؟!

ولذلك ثبت في المسند والسنن وصحيح ابن حبان من رواية عدة من الصحابة الكرام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، فكلوا من كسب أولادكم)، هذا من كسبك لا داعي أن يقال: أو من بيوت أبنائكم، وكما قلنا هو: هبة للأب، فالوالد يتصرف فيه كما يريد.

إذاً: هذه نعمة ثالثة تنتفع بالولد بدعائه وبمساعدته، وكم من أب انتفع بولده ما لم ينتفعه الولد بوالده، فذاك رباه فترة لعلها عشر سنين ثم استغنى عنه، ثم جاء الولد ليربي والده مدة ثلاثين سنة، وليرفع الأذى بيديه وكأنه يُمسك المسك والطيب، مكافأة للوالد على ما قام به نحو الولد، لو لم يكن عندك ولد كيف سيكون حالك؟!

ولذلك الإنسان إذا كبر من الذي يساعده في كِبره؟ أولاده الحفدة، ولا سيما إذا كان عنده أيضاً بنت تخدمه، وولد يجلب له الرزق ويكفيه المؤنة، وهو في البيت مستريح، وأنا أعرف كثيراً من الآباء عندما كبروا، منعهم أولادهم من أن يزاولوا بأيديهم حركة أو عملاً، لا من باب الحَجْر عليهم، إنما من باب إكرامهم، يقولون: أنتم تعبتم في تربيتنا فلنتعب الآن ولنرد إليكم بعض حقوقكم علينا، تجلسون أنتم أمراء في هذا البيت، ويُقدم لكم ما تحتاجون، إذا لم يكن عندك هذا الولد، إما ستُلقى على مزبلة أو في مستشفى، بعد ذلك يتصدق عليك فلان وفلان، فهذا الولد نعمة عظيمة، وصار يعتبره الناس -كما قلت- شؤماً ومنقصة.

الفائدة الرابعة: تطلب الأجر الكبير بهذا الولد إذا مات، سواء مات وهو صغير أو مات وهو كبير، فإن مات وهو صغير فهنيئاً لك: واحد أو اثنان أو ثلاثة، ستحتظر بحِظار شديد من النار وستدخل الجنة مع الأبرار، كما تقدم معنا، وإذا مات الولد وهو كبير لو قدرنا أنه بلغ وكبر ومات، ليس له الأجر الذي تقدم، الآن هو مكلف وأنت مكلف، لكن هذه مصيبة طرأت عليك، وانظر للأجر الذي تحصله عندما يموت الولد وهو بالغ مكلف.

ثبت في سنن الترمذي بسند حسن، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى إذا مات ولد العبد للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول الله: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول الله: فماذا قال؟ فيقولون: ربنا حمدك واسترجع -الحمد لله، لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، إنا لله وإنا إليه راجعون-، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه: بيت الحمد)، هذا أجر عظيم، عندما يموت لك هذا الولد وتحتسبه عند الله، سواء كان صغيراً أو كبيراً.

ولذلك ثبت في المسند، ومستدرك الحاكم ، وصحيح ابن حبان بسند صحيح، عن أبي سُلمى رضي الله عنه، أن النبي قال: (بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان يوم القيامة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد يُتوفى للرجل المسلم فيحتسبه).

ما أثقل أجره في الميزان عند الله يوم القيامة! يتعجب النبي عليه الصلاة والسلام من عظيم الأجر الذي يعطيه الله لمن يقول هذه الأمور، أو لمن يتصف بها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وصبر على فقدان الولد عندما يموت، واحتسابه عند الحي الذي لا يموت، إذاً هذه فائدة عظيمة.

الفائدة الخامسة: حصول الأجر على تربية الولد

وآخر الفوائد وهي خامس الفوائد: تحصل أجراً في تربية الولد عندما تنفق عليه، في طعامه وشرابه، وتربيته التربية الشرعية السوية.

ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها، أنها (دخلت عليها امرأة ومعها ابنتان، فأعطتها أمنا عائشة تمرة صدقة، فأخذت التمرة وشقتها إلى قسمين، وأعطت كل بنت منهما قسماً منها، فعجبت أمنا عائشة لحنو هذه الأم وشفقتها على ابنتيها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: من ابتُلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سِتراً من النار).

أي: عندك بنت أحسنت إليها بشيء -نكرة في سياق نفي- يعني بنتاً واحدة، أحسنت إليها وربيتها تربية شرعية، كانت لك ستراً من النار، ماتت قبل حياتك أو لم تمت.

وثبت في سنن أبي داود ، ومستدرك الحاكم من رواية ابن عباس رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من وُلدت له أنثى فلم يئدها، ولم يهنها -يئدها يدفنها وهي حية: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8]- ولم يفضل ولده الذكر عليها، دخل الجنة)، والحديث صححه الحاكم ، وأقره الذهبي ، لكن الذهبي ذكر بعد ذلك في الميزان أن ابن حُدير -وهو في إسناد المستدرك- لا يُعرف، وهو في إسناد أبي داود ، ويقول المنذري في الترغيب والترهيب: إنه غير مشهور، وغالب ظني فيما أستحضر أن الذهبي تناقض، فقال في الكاشف في من له رواية في الكتب الستة زياد بن حدير ثقة مشهور، فراجعوا ما يتعلق بترجمة ابن حدير الذي هو في إسناد أبي داود ومستدرك الحاكم .

والحديث على كل حال: لو قُدر أن ابن حدير مستور ولم يعلم حاله، على يشهد له ما تقدم من حديث الصحيحين: (من ابتُلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)، والأحاديث في ذلك كثيرة.

وقد رُوي في معجم الطبراني الأوسط والصغير بسند ضعيف، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ربى صغيراً حتى يقول لا إله إلا الله؛ لم يحاسبه الله)، والحديث ضعيف، لكن أقول: فضل الله عظيم عظيم، من ربى صغيره حتى يقول: لا إله إلا الله، فنطق بتوحيد الله، وحصلت منه الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ، فمن تسبب في إيجاد هذه الكلمة لم يحاسبه الله، يعني: حالك كما لو هديت نصرانياً أو يهودياً للإسلام، فلك أجر عظيم عند الرحمن، وهنا أنت الذي تسببت في نطق ولدك لا إله إلا الله.

هذه المغانم، وهذه الأجور، وهذه الخيرات، وهذه البركات، هل يزهد فيها عاقل؟! حقيقة لا يزهد فيها إلا جاهل.

فوائد خمس من اتخاذ الولد، ولا داعي أن تقول: ولد واحد يكفيني، بل كلما كثر الأولاد كثرت الخيرات وتعددت، فالولد فيه بركة، والولدان البركة فيهما أعظم، والثلاثة أعظم وأعظم، وكان سلفنا يعتبرون الولد من أعظم نعم الله عليهم:

ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر

وإذا كثر أولادك يقوى ظهرك في الحياة، ويعظم أجرك عند الله بعد الممات، وإذا لم يكن لك أولاد فحقيقة في هذه الحياة كل صعلوك يعتدي عليك، لا يوجد من يدفع العدوان عنك، أنت ضعيف مستضعف، ثم بعد ذلك يوم القيامة تأتي وليس لك من يشفع لك، لا من ربيته وحصلت أجراً عظيماً بسببه، فضيعت على نفسك مغانم كثيرة عندما عطلت ما أودعه الله فيك من أمور فيها قابلية لإخراج جيل مبرور.

إخوتي الكرام! لذلك ينبغي أن نحرص على هذا، وقد لا يتيسر للإنسان الزواج في مرحلة من المراحل، ويقول: إذا تزوجت قد أنقطع عن طلب العلم، وهذه مرحلة سنة سنتين ثلاثاً ثم بعد ذلك يتزوج وينجب الذرية، أما أن يتعلل بأنه سيعرض عن هذا ويصرف عنه لئلا يُشغل عن طلب العلم، نقول له: اعبد ربك كما يريد الله لا كما تريد أنت، ولذلك لابد من عبادة الله كما شرع: إياك أريد بما تريد. هذه هي فوائد إنجاب الولد الخمس.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.