مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! يشترط للتكليف بتوحيد ذي الجلال والإكرام -وهو الشرط الرابع- سلامة إحدى حاستي السمع أو البصر، وما تعليل ذلك وما دليله؟ أولاً: تعليله تقدم معنا في الكلام وأشير إليه، أن من فقد سمعه وبصره فهو: بمثابة من فقد عقله، لا طريق لتعليمه لا عن طريق السماع والكلام، ولا عن طريق الإشارة ليرى، فيرتفع عنه التكليف، وما حكمه؟ سيأتينا بعد ذلك ما حكمه في الآخرة إن شاء الله، إنما يرتفع عنهم التكليف والقلم، فهو بمثابة المجنون الذي فقد عقله، وهل لذلك دليل من الأثر؟

نعم، لذلك دليل، ذكره الحافظ الإمام ابن حجر في الإصابة (4/118)، وإنما اقتصرت على كلامه لأنني سأورد الأحاديث الكثيرة في هذه القضية عندما يلي هذه المسألة، ما حكم من لم توجد فيه شروط التكليف في الآخرة، هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ سأورد الأحاديث الكثيرة التي أشار إليها الإمام ابن حجر بكلامه، يقرر فيها هذه القضية.

يقول الإمام ابن حجر : ورد الحديث من عدة طرق في حق الشيخ الهرم، أي: الكبير الذي طعن في السن وفقد عقله ووعيه وأُصيب بالخرس، ومن مات في الفترة فهو في غفلة ولم تبلغه الدعوة، ومن وُلد أكمه أعمى أصم، ومن وُلد مجنوناً أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ، ونحو ذلك، وأن كلاً منهم يدلي بحجة يوم القيامة، فيقول: رب لو عقلت وجاءني رسول لآمنت، هذا سيأتينا مدلول الأحاديث بذلك، والأحاديث في درجة الاستفاضة فوق المشهور ودون المتواتر، وهي مقطوع بصحتها كما سيأتينا، وأورد ما لا يقل عن خمسة أحاديث منها في تقرير هذه القضية، من لم توجد فيه شروط التكليف ما حكمه؟ هل يكلف في الآخرة.

يقول الحافظ ابن حجر : فيقول هؤلاء: لو كان عندنا عقل لأدركنا وآمنا، لو جاءنا رسول لآمنا، يقول: فترفع لهم نار يوم القيامة، ويقول الله لهم: رِدوها -أي: ادخلوها-، فمن دخلها صارت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سُحب إليها ذليلاً داخراً صاغراً، هذا التكليف الذي سيُكلفون به يوم القيامة، ومن لم يدخلها يقول الله له: أنت كذبتني، فكيف لو أرسلت إليك رسلاً لكنت أشد تكذيباً لهم، اذهبوا فادخلوها داخرين.

قال الحافظ ابن حجر : وقد جمعت طرق الأحاديث في ذلك في جزء مفرد، هذا الجزء المفرد لم أقف عليه، وأشار إليه الحافظ كما قلت في الإصابة، وفي فتح الباري كما سيأتينا، يقول: جمع هذه الأحاديث التي تدل على أن من فقد بعض شروط التكليف بالتوحيد يُكلف يوم القيامة، بأن يرفع الله له عنقاً من النار، ثم يقول الله لهم: ردوها -أي: ادخلوها- فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سُحب إليها ذليلاً صاغراً.

هذه الأحاديث تقرر هذا الأمر، الشاهد فيها: من وُلد أكمه أعمى أصم، فلا تكليف عليه، هذه هي شروط التكليف بالتوحيد: العقل، البلوغ، بلوغ الدعوة ووصولها، سلامة إحدى حاستي السمع أو البصر.

مسألة: وهي التي وعدت بالكلام عليها، ما حكم من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد، كما لو مات وهو صغير، كما لو لم تبلغه الدعوة، كما لو كان مجنوناً، كما لو فقد سمعه وبصره، ما حكم هذا عند الله جل وعلا؟

قلنا: ضمن الله ألا يعذبهم، لكن هل يدخلون الجنة، أو يكونون تراباً كالبهائم، أو يُمتحنون ويكلفون؟

حكم من مات من أطفال المسلمين

هذه المسألة -إخوتي الكرام- لها شقان وجانبان، ومن الإنصاف أن نفصل بينهما لئلا نعطي حكم أحد الجانبين للآخر:

الجانب الأول: من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد وهو من أولاد المسلمين، أي: ولد صغير من أولاد المسلمين، مات قبل أن يُكلف بتوحيد رب العالمين، مات قبل بلوغه، فما حكمه؟ هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، أو يُكلف، أو يكون تراباً، ما الحكم فيه؟ أو مات وعمره يوم أو بعد ولادته بساعة، ما صدر منه توحيد، فما حكمه؟

هذه في الحقيقة لأئمتنا فيها قول يختلف عن أهل الشق الثاني، أولاد المشركين يختلفون عن أولاد المسلمين في الحكم، من مات في الكفر يختلف عن أولاد المسلمين في الحكم، من كان بالغاً وهو مجنون أو فقد سمعه وبصره يختلف عن أولاد المسلمين الذين ماتوا وهم صغار في الحكم، فلابد إذاً من تمييز هذه المسألة عن تلك.

إذاً: أولاد المسلمين لم توجد فيهم شروط التكليف بتوحيد رب العالمين، وماتوا قبل بلوغهم، فما حكمهم؟

نُقل عن أهل السنة قولان في هذه المسألة، قول مرجوح مردود، وقول معتمد مقبول:

القول الأول: قال به أربعة من أئمتنا الكرام ومن السلف الصالحين، الحمادان حماد بن زيد بن درهم وحماد بن سلمة بن دينار وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه ، هؤلاء الأربعة من أهل السنة ومن شيوخ أهل السنة، والمعتمد عند أهل السنة خلاف هذا القول، الحمادان وكل منهما إمام ثقة عدل رضا، لكن الفرق بينهما كما قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل كالفرق بين أبويهما في الصرف، هنا دينار وهنا درهم، والدينار يعدل عشرة دراهم، فـحماد بن سلمة بن دينار أعلى من حماد بن زيد بن درهم، كل منهما إمام، لكن الفرق بينهما في الإمامة والضبط، كالفرق بين أبويهما في الصرف، يعني: لو كان هذا ديناراً وهذا درهماً، فالدينار يسوى عشرة دراهم، هذا كلام الإمام أحمد ، وكما قلت كل منهما مخرج له في الصحيح، وهما من شيوخ أهل السنة والجماعة.

والإمام الثالث عبد الله بن المبارك شيخ الإسلام في زمانه، والإمام الرابع إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الذي يقال له: إسحاق بن راهويه ، وغالب ظني أنه مر معنا أن ما يختم بـ(ويه) نضبطه عندنا في العلوم الشرعية، بضم ما قبل الواو وإسكان الواو وفتح ما بعد الواو، بعدها هاء ساكنة: راهُويَه، سيبُويَه، نِسفطُويَه حيُويَه، كل ما يُختم بويه ننصبه ونتصرف فيه، لأن ويه اسم شيطان، كما نُقل هذا عن عمر بن الخطاب وعن إبراهيم النخعي عليهما رحمة الله، فلأجل أن نتحاشى النطق بهذا الاسم القبيح (ويه) نتصرف في الاسم، فنضم ما قبل الواو ونسكن الواو ونفتح ما بعد الواو: راهُويَه، وأما أهل النحو واللغة فيفتحون ما قبل الواو، ويفتحون الواو ويسكنون الياء بعدها هاء ساكنة: راهَوَيه راهُويَه، سيبَوَيه سيبُويَه.

وهذا -إخوتي الكرام- منصوص عليه عند أئمتنا، وكل من يتكلم في العلوم الشرعية لا يجوز أن ينطق الاسم الذي يُختم بويه إلا بالصيغة التي ذكرتها، فحذار أن يعتبر واحد منكم أن هذا من باب اللحن وعدم الوعي، فالضبط عندنا لكل اسم يُختم بويه أن تضم ما قبل الواو وأن تسكن الواو وتفتح ما بعد الواو بعدها هاء ساكنة: راهُويَه سيبُويَه، وإذا غضب علماء النحو فنقول لهم: لكم اصطلاحكم ولنا اصطلاحنا.

ولذلك لو نظرتم في كتب الحديث، وجدتم كل اسم يُختم بويه يطلق بهذا الضبط، في كتب الحديث كالصحيحين وغيرهما، وانظروا تقرير هذا في تدريب الراوي (ص:226)، وانظروه في بُغية الوعاة في طبقات النحاة (1/428) وكلا الكتابين للإمام السيوطي ، وانظروا في تهذيب الأسماء واللغات لشيخ الإسلام الإمام النووي (2/258)، وانظروه في معجم الأدباء لـياقوت الحموي (1/255)، وفي غير ذلك من الكتب.

وإنما ذكرت هذا لأنني غالب ظني عندما ذكرت هذا في بعض الفصول، كأنني رأيت على وجوههم علامة الاستغراب، وفي شفاههم علامة التعجب وابتسامة تعجب، يعني: كيف يكون راهُويه، فأزلت الإشكال، ولذلك خشية أن يستشكل بعضكم، انظروا هذه الكتب، وانظروه في المقاصد الحسنة عند (ويه)، وهو مرتب على حسب الحروف، ويه عند حرف الواو، انظروا إلى اسم (ويه) اسم شيطان يتكلم عليه، وانظروه أيضاً في كشف الخفاء للإمام العجلوني عند اسم (ويه) وأنه اسم شيطان يتكلم عليه، وكيف يضبط العلماء ما يُختم بويه من نحويين وشرعيين، كيف نضبطه في الاصطلاحات الشرعية وفي الاصطلاحات اللغوية.

قول الحمادين وابن المبارك وابن راهويه في أطفال المسلمين

إذاً: هؤلاء الأربعة: الحمادان، وشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك ، وإسحاق بن راهويه الذي هو شيخ الإمام البخاري ، وهو الذي أشار على الإمام البخاري بأن يجرد الحديث الصحيح، فقَبل الإمام البخاري إشارة شيخه فألف هذا الجامع الصحيح المختصر المسند من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم سننه وأيامه، فرحم الله التلميذ وشيخه، وكان البخاري عليه رحمة الله يقول: ما استصغرت نفسي إلا عند شيخي، أي: عند هذا الشيخ المبارك إسحاق بن راهويه، حقيقة إمام علم، ضبطه بهذه الشاكلة كما قلت.

هؤلاء الأربعة يقولون: أولاد المسلمين الذين ماتوا قبل بلوغهم وتكليفهم نتوقف فيهم، فلا ننزلهم جنة ولا ناراً، ولا نتكلم في أمرهم، ونفوض شأنهم إلى ربهم، ما دليلكم؟

قالوا: عندنا دليل صحيح صريح في القضية، فلنعض عليه بالنواجذ، ونحن في سلامة وعافية، الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، ورواه الإمام النسائي وابن ماجة في السنن، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد، ورواه الإمام الآجري في الشريعة، وأبو داود الطيالسي في مسنده، ومن العجيب أن الإمام القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة اقتصر في عزو الحديث على الكتاب الأخير، وهو أبو داود الطيالسي، وإذا كان في صحيح مسلم فحقيقة من الإجحاف أن نعزو الحديث لمسند أبي داود الطيالسي ، ونغض الطرف عن صحيح مسلم ، فهو في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجة ، وفي الكتب الأخرى.

ولفظ الحديث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (دُعي النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي على جنازة صبي من الأنصار)، فقالت أمنا عائشة مبتهجة فرحة، لما حصل لهذا الصبي الذي مات قبل الحنث والبلوغ والتكليف: هنيئاً له عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك الشر ولم يعمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها: (أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم)، فقال الحمادان، وعبد الله بن المبارك شيخ الإسلام، وقرينه الإمام إسحاق بن راهويه عليهم جميعاً رحمة الله: هذا الحديث يدل على التوقف.

فالنبي عليه الصلاة والسلام رد على أمنا عائشة رضي الله عنها الحكم بالجنة على هذا الصبي من أولاد الأنصار، وقال لها: أو غير ذلك؟ فأهل الجنة كتبوا وهم في أصلاب آبائهم، وأهل النار كتبوا وهم في أصلاب آبائهم، كأن هؤلاء الأربعة يقولون: ونحن لا ندري هل هذا من أهل الجنة أو من أهل النار، فلنمسك عن الكلام عنه، ولنقف في هذه المسألة ولا نتكلم في حكمه في الآخرة.

أقوال معتمدة في معنى حديث عائشة في الصبي: (عصفور من عصافير الجنة)

والحديث في الحقيقة لا يدل على هذا، ولا يحتمل هذا بحال من الأحوال، إنما يحتمل الحديث أمرين معتبرين، ولعدم وضوح هذين الأمرين عند بعض أئمتنا قالوا أقوالاً أخرى، قالوا ثلاثة أقوال مردودة كما سيأتينا، والقولان الأولان هما المعتمدان المقبولان في معنى الحديث.

القول الأول: إن نبينا عليه الصلاة والسلام ما أنكر على أمنا عائشة رضي الله عنها حكمها على هذا الصبي بأنه من أهل الجنة، وما قال لها: إن هذا الحكم ليس بصحيح، ويجب عليكِ أن تتوقفي، إنما انصب إنكاره على تسرعها في كلامها، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لها: من أين لكِ هذا؟ وهذا حكم شرعي، ومصدره النبي عليه الصلاة والسلام، وأنا ما أخبرتك بأن أولاد المسلمين في الجنة، فكيف تتكلمين في هذه المسألة عن طريق العقل والرأي؟ ولا يجوز للإنسان أن يتكلم في الأحكام الشرعية عن طريق عقله، هذا في الأحكام الدنيوية فكيف بالأحكام الأخروية في فعل رب البرية؟ ماذا سيفعله مع عباده، وكيف يحاسبهم، وأي دار سيدخلهم؟ إذا لم نسمع هذا ممن لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز أن نتكلم.

فالنبي عليه الصلاة والسلام وقع إنكاره على تسرع أمنا عائشة في حكمها رضي الله عنها، لا في خطئها في الحكم، ما قال لها: أخطأت، إنما قال: أو غير ذلك؟ ولا نعي معنى الحديث للتسرع، وأنتِ ينبغي أن تأخذي الحكم من مصدره، ولا تقولين عن طريق الاجتهاد في هذه الأمور التي هي أحكام شرعية، ويضاف إليها في هذه القضية أنها أمور غيبية، هذا جواب أول.

وجواب ثانٍ معتمد وهو: أننا نجزم بأن أولاد المسلمين في الجنة، وهذا هو المعتمد عند أهل السنة، وهو القول الحق الذي دلت عليه الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة، لكننا مع قولنا بأن أولاد المسلمين في الجنة لا نجزم للمعين بذلك لئلا نتألى على الله، كما أننا نقول: الموحدون في الجنة وما عندنا شك في ذلك، فلو سئلنا عن واحد بعينه هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، ماذا نقول؟ نرجو له الجنة، ولا نجزم بذلك؛ لئلا نتألى على الله.

فإذاً: نحن نحكم حكماً عاماً، أما الفرد المعين فلا نقطع له بذلك، من باب التزام الأدب مع الرب، لئلا نتألى عليه ونحكم بهذا الأمر بين يديه.

إذاً: إما أن الإنكار منصب على التسرع، وإما أن الإنكار منصب على تعيين الجنة لفرد معين، لا على أن أولاد المسلمين في الجنة، فالإنكار ليس على هذه القضية، هم في الجنة لكن لا نجزم للمعين بذلك، لئلا نتألى على ربنا المالك سبحانه وتعالى.

أقوال غير معتمدة في معنى حديث: (عصفور من عصافير الجنة)

هذان الجوابان هما المعتمدان لبيان هذا الحديث وفي تأويله، ولما لم يظهر هذا لبعض أئمتنا قالوا أقوالاً أخرى مردودة، منها:

يقول بعض علمائنا الكرام: صدر هذا من نبينا عليه الصلاة والسلام قبل أن يُعلمه الله بأن أولاد المسلمين في الجنة، ثم أعلمه بأنهم في الجنة، فكأن هذا منسوخ، أي توقف النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر بناء على الأدلة العامة التي نزلت عليه؛ لأن من وحَّد الله في الجنة ومن لم يوحده إذا كان عنده عذر ولم يُكلف، فلا يُعذب، فأمره موكول إلى الله فلا نتكلم في شأنه، ثم أعلمه الله بأن أولاد المسلمين على الخصوص إذا لم توجد فيهم شروط التكليف بالتوحيد فهم في الجنة كرماً من ربنا المجيد.

وهذا لا دليل عليه، والحديث لا يدل على وقف نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة.

الجواب الثاني: أبعد من ذلك بكثير، ذهب إليه الإمام الحليمي وهو شيخ الإمام البيهقي في كتابه المنهاج في شعب الإيمان، وهو في ثلاث مجلدات، وهذا في المجلد الأول صفحة تسع وخمسين ومائة، وهو في هذه المجلدات الثلاثة تكلم على حديث: (الإيمان بُضع وسبعون شعبة) يعني: تكلم على هذه الشعب في هذه المجلدات الثلاثة، وكل مجلد لا يقل عن سبعمائة صفحة، المنهاج في شعب الإيمان، في شرح هذا الحديث فقط.

يقول في الجزء الأول عند هذه القضية وذِكر هذا الحديث، يقول: لعل النبي صلى الله عليه وسلم توقف في هذا الصبي لكونه ولد من منافقين، وإذا كان الأبوان منافقين فصار الولد إذاً ابناً لكافرين، فخرج عن كونه من أولاد المسلمين فليس له حكم أولاد المسلمين، هل هو من أهل الجنة أم لا؟ العلم عند الله، لابد من أن يُمتحن فهل سيطيع أم لا؟ لا يعلم هذا إلا الله، الله أعلم بما كانوا عاملين، ولا يظهر معلوم الله فيهم إلا بعد امتحانهم في عرصات الموقف.

إذاً: هذا يقول: لعله هذا الصبي كان ابناً لأبوين منافقين، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه وفي أمره، وهذا التأويل في الحقيقة غريب بعيد، وإنما التجأ إليه الإمام الحليمي ؛ لأنه رأى أن الحديث يعارض الأدلة الصحيحة الكثيرة في أن أولاد المسلمين في الجنة، فقال: لعله إذاً ولد لمنافقين، ولما لم يهتدِ للجوابين المحكمين المتقدمين قال ما قال، والحديث فيه تصريح بأنه صبي من صبيان الأنصار، وليس هو من أبوين منافقين، فما قاله الإمام الحليمي ما قاله به أحد قبله ولا بعده، فهو قول انفرد به، وهو كما يقال: احتمال من غير أن يقوم دليل على هذا الاستدلال.

جواب الإمام أحمد عن حديث: (عصفور من عصافير الجنة)

القول الثالث: ذهب إليه شيخ أهل السنة الإمام أحمد فقال: هذا الحديث لا يصح، فمع ثبوته لكن فيه خطأ، يعني إسناده صحيح، لكن حصل فيه لبس وفيه وهم وخطأ، فهو حديث مردود لمعارضته ما هو أقوى منه، وهذا الذي يسمى بالشذوذ عندنا، أي: إذا خالف الصحيح ما هو أصح منه فيُحكم عليه بالشذوذ ويطرح مع صحته.

والإمام أحمد يقول هذا، ثم بعد أن قال هذا قال: ومن يشك أن أولاد المسلمين في الجنة؟ يعني هذه القضية مفروغ منها، والحديث يشير إلى الوقف في أولاد المسلمين، وإذا كان كذلك ويعارض ما هو ثابت معلوم من أن أولاد المسلمين في الجنة، فنقول: إنه شاذ لا يصح، فهو إذاً مردود لا يحتج به، ولا يعول عليه.

هذه ثلاثة أجوبة كما قلت، كلها بسبب الغفلة عن الجوابين المعتمدين:

الجواب الأول: الإنكار منصب على التسرع في الحكم لا على الحكم، فالحكم صحيح لكن لا يجوز أن تتسرع، وينبغي أن تأخذ الحكم من مصدره: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] .

والثاني: الإنكار منصب على الجزم بمعين للجنة، فنحن نقول: أولاد المسلمين في الجنة دون أن نجزم بذلك لمعين من أولاد المسلمين، كما نقول: الموحدون في الجنة، ولا نجزم لواحد إلا إذا ورد النص بذلك أنه من أهل الجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، رضوان الله على الصحابة أجمعين.

إذاً: هذا الحديث لا دليل فيه على هذا القول، وبالتالي لا يصح القول بالوقف، إذاً ما المعتمد؟

المعتمد: أن أولاد المسلمين في الجنة.

حكاية الإجماع على أن أولاد المسلمين في الجنة

حكى عدد من أئمتنا الإجماع في هذه المسألة، والصحيح أنه لا إجماع ولا اتفاق مع وجود النزاع من هؤلاء الأئمة الأتقياء العلماء، نعم، القول الحق المعتمد هو القول الثاني.

قال الإمام ابن كثير في تفسيره سورة الإسراء (3/32) عند الآية المتقدمة: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، عندما بحث ما حكم من لم توجد فيهم شروط التكليف بالتوحيد، وقد أسهب في البحث، يقول رحمه الله: أما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء في نجاتهم.

والحقيقة يوجد هناك خلاف، لكن لعله ليس معتبراً، يعني: لا يوجد خلاف معتبر في هذه المسألة.

وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عند هذا الحديث: أجمع كل من يعتد به على أن أولاد المسلمين إذا ماتوا قبل البلوغ في الجنة، ثم قال: وقال بعض من لا يعتد به -والحقيقة العبارة قاسية-، وأربعة من أئمتنا كل واحد يعتد به كما يعتد بالإمام النووي وأقوى، ورحمة الله عليهم جميعاً، ولذلك التعبير عن قول هؤلاء بأنه لا يعتد بالقائلين هذا خطأ.

ولذلك ضرب عنها صفحاً الإمام ابن حجر في فتح الباري، عندما نقل كلام النووي فقال: وقال بعضهم نتوقف فيهم فلا نجزم لهم بجنة ولا نار، هكذا فعل شارح شرح صحيح مسلم عندما نقل كلام النووي ورأى قسوة العبارة، فتصرف فيها، فبدلاً من أن يقول: وقال بعض من لا يعتد به قال: وقال بعضهم، وهذا ينبغي أن نعيه إخوتي الكرام دائماً، قد يرد القول مع جلالة القائل، وليس في ذلك منقصة على القائل، وكل واحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، وإذا أخطأ الإنسان كان ماذا؟

لكن في الحقيقة: من الرزايا والدنايا أن نقول لعلمائنا: لا يعتد بهم، وإذا صدر هذا من إمام أحياناً من باب الغفلة والسهو، فنلتمس له عذراً، ولا نقول له: أنت لا يعتد بك، كيف تقول هذا عن أئمتنا؟! لكن نقول: هذه العبارة خطأ وسهو وقصور في التعبير، وغفر الله للإمام النووي ، والقول بهذا خطأ، فرحمة الله على من قال به، والمعتمد هو القول الحق: وهو أن دخول أولاد المسلمين هو دخول أولي في ذلك اللفظ.

هذه المسألة -إخوتي الكرام- لها شقان وجانبان، ومن الإنصاف أن نفصل بينهما لئلا نعطي حكم أحد الجانبين للآخر:

الجانب الأول: من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد وهو من أولاد المسلمين، أي: ولد صغير من أولاد المسلمين، مات قبل أن يُكلف بتوحيد رب العالمين، مات قبل بلوغه، فما حكمه؟ هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، أو يُكلف، أو يكون تراباً، ما الحكم فيه؟ أو مات وعمره يوم أو بعد ولادته بساعة، ما صدر منه توحيد، فما حكمه؟

هذه في الحقيقة لأئمتنا فيها قول يختلف عن أهل الشق الثاني، أولاد المشركين يختلفون عن أولاد المسلمين في الحكم، من مات في الكفر يختلف عن أولاد المسلمين في الحكم، من كان بالغاً وهو مجنون أو فقد سمعه وبصره يختلف عن أولاد المسلمين الذين ماتوا وهم صغار في الحكم، فلابد إذاً من تمييز هذه المسألة عن تلك.

إذاً: أولاد المسلمين لم توجد فيهم شروط التكليف بتوحيد رب العالمين، وماتوا قبل بلوغهم، فما حكمهم؟

نُقل عن أهل السنة قولان في هذه المسألة، قول مرجوح مردود، وقول معتمد مقبول:

القول الأول: قال به أربعة من أئمتنا الكرام ومن السلف الصالحين، الحمادان حماد بن زيد بن درهم وحماد بن سلمة بن دينار وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه ، هؤلاء الأربعة من أهل السنة ومن شيوخ أهل السنة، والمعتمد عند أهل السنة خلاف هذا القول، الحمادان وكل منهما إمام ثقة عدل رضا، لكن الفرق بينهما كما قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل كالفرق بين أبويهما في الصرف، هنا دينار وهنا درهم، والدينار يعدل عشرة دراهم، فـحماد بن سلمة بن دينار أعلى من حماد بن زيد بن درهم، كل منهما إمام، لكن الفرق بينهما في الإمامة والضبط، كالفرق بين أبويهما في الصرف، يعني: لو كان هذا ديناراً وهذا درهماً، فالدينار يسوى عشرة دراهم، هذا كلام الإمام أحمد ، وكما قلت كل منهما مخرج له في الصحيح، وهما من شيوخ أهل السنة والجماعة.

والإمام الثالث عبد الله بن المبارك شيخ الإسلام في زمانه، والإمام الرابع إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الذي يقال له: إسحاق بن راهويه ، وغالب ظني أنه مر معنا أن ما يختم بـ(ويه) نضبطه عندنا في العلوم الشرعية، بضم ما قبل الواو وإسكان الواو وفتح ما بعد الواو، بعدها هاء ساكنة: راهُويَه، سيبُويَه، نِسفطُويَه حيُويَه، كل ما يُختم بويه ننصبه ونتصرف فيه، لأن ويه اسم شيطان، كما نُقل هذا عن عمر بن الخطاب وعن إبراهيم النخعي عليهما رحمة الله، فلأجل أن نتحاشى النطق بهذا الاسم القبيح (ويه) نتصرف في الاسم، فنضم ما قبل الواو ونسكن الواو ونفتح ما بعد الواو: راهُويَه، وأما أهل النحو واللغة فيفتحون ما قبل الواو، ويفتحون الواو ويسكنون الياء بعدها هاء ساكنة: راهَوَيه راهُويَه، سيبَوَيه سيبُويَه.

وهذا -إخوتي الكرام- منصوص عليه عند أئمتنا، وكل من يتكلم في العلوم الشرعية لا يجوز أن ينطق الاسم الذي يُختم بويه إلا بالصيغة التي ذكرتها، فحذار أن يعتبر واحد منكم أن هذا من باب اللحن وعدم الوعي، فالضبط عندنا لكل اسم يُختم بويه أن تضم ما قبل الواو وأن تسكن الواو وتفتح ما بعد الواو بعدها هاء ساكنة: راهُويَه سيبُويَه، وإذا غضب علماء النحو فنقول لهم: لكم اصطلاحكم ولنا اصطلاحنا.

ولذلك لو نظرتم في كتب الحديث، وجدتم كل اسم يُختم بويه يطلق بهذا الضبط، في كتب الحديث كالصحيحين وغيرهما، وانظروا تقرير هذا في تدريب الراوي (ص:226)، وانظروه في بُغية الوعاة في طبقات النحاة (1/428) وكلا الكتابين للإمام السيوطي ، وانظروا في تهذيب الأسماء واللغات لشيخ الإسلام الإمام النووي (2/258)، وانظروه في معجم الأدباء لـياقوت الحموي (1/255)، وفي غير ذلك من الكتب.

وإنما ذكرت هذا لأنني غالب ظني عندما ذكرت هذا في بعض الفصول، كأنني رأيت على وجوههم علامة الاستغراب، وفي شفاههم علامة التعجب وابتسامة تعجب، يعني: كيف يكون راهُويه، فأزلت الإشكال، ولذلك خشية أن يستشكل بعضكم، انظروا هذه الكتب، وانظروه في المقاصد الحسنة عند (ويه)، وهو مرتب على حسب الحروف، ويه عند حرف الواو، انظروا إلى اسم (ويه) اسم شيطان يتكلم عليه، وانظروه أيضاً في كشف الخفاء للإمام العجلوني عند اسم (ويه) وأنه اسم شيطان يتكلم عليه، وكيف يضبط العلماء ما يُختم بويه من نحويين وشرعيين، كيف نضبطه في الاصطلاحات الشرعية وفي الاصطلاحات اللغوية.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [5] 3762 استماع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [3] 3417 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [2] 3274 استماع
مقدمة في علم التوحيد - تعريف علم التوحيد [2] 3228 استماع
مقدمة في علم التوحيد - موضوع علم التوحيد [2] 3133 استماع
مقدمة في علم التوحيد - منزلة علم التوحيد [2] 3030 استماع
مقدمة في علم التوحيد - ثمرة علم التوحيد [1] 2689 استماع
مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [2] 2684 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [1] 2673 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [4] 2607 استماع