خطب ومحاضرات
مقدمة في علم التوحيد - موضوع علم التوحيد [2]
الحلقة مفرغة
التمييز بين السمعيات والعقليات
ولذلك قال البدوي الساذج: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج -نجوم مشتبكة- وأرض ذات فجاج -أنهار وعيون تجري- وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟ بلى!
مسألة وجود الله عقلية، ولا نقول عقلية بحتة، يعني: السمع قال: إن الله غير موجود، بل ورد فيها السمع، لكن هي عقلية يدركها العقل، وورد بها الوحي.
أأنت خلقت نفسك؟ لا، خلقك أبوك؟ لا، خلقتك أمك؟ لا، الجيران والأطباء؟ لا، من خلقك؟ تقول: هكذا فلتة كما سيأتينا من كلام الفلتانين المهووسين، يقول: ما خلقنا خالق.
لو قيل: هذا البناء ما بناه بانٍ، فهل تصدق؟ يقول: أنت مجنون، بناء بلا بان، سماء وأرض بلا خالق؟ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي: بقوة وإحكام وإتقان، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:47-48].
لا بد للخلق من خالق، هذه مسألة عقلية، لكن كون الله جل وعلا له كرسي وسع السموات والأرض سمعية فقط، كون الله له عرش استوى عليه سمعية، كون الله جل وعلا ينصب ميزاناً يوم القيامة يزن به أعمال العباد سمعية، ووجود الحوض ونهر الكوثر في الجنة سمعية، أخذ الصحف بيمين أو بشمال سمعية.
هذه سمعيات مغيبات يتوقف الإيمان بها على السمع لا على العقل، لو لم يرد بها السمع لما أمكننا أن نقول هناك حوض وهناك ميزان، لو لم يرد السمع بوجود الملائكة هل نستطيع أن نقول يوجد ملائكة؟ لا، فهذا عالم غيبي، لا طريق للإيمان به إلا السمع الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، عن طريق نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
إذاً: الموضوع الثالث من موضوعات علم التوحيد يبحث في السمعيات، فإن قيل: من أي حيثية ومن أي اعتبار؟ فالجواب: من حيث اعتقادها، يعني السمعي تعتقد به.
الإقرار والإمرار في السمعيات
أولهما: إقرار.
وثانيهما: إمرار.
السمعي لا تدخله تحت دائرة العقل، وإياك أن تبحث في كنهه وحقيقته؛ لأنه مغيب عنك، وأنت لا تدرك إلا ما هو موجود أو ما له نظير في الوجود، وأما ما ليس بموجود وما لم تدرك له نظيراً في الوجود فلا تستطيع أن تتخيله.
فمثلاً: الملائكة نؤمن بهم على حسب ما ورد دون زيادة ونقصان، صفات الله سمعيات، كون الله له عينان سبحانه وتعالى، كون الله يتكلم، كون الله يغضب، كون الله يرضى، كون الله ينزل، كون الله يأتي: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة:210] كون الله يجيء: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، كيف نؤمن بهذه الصفات؟
نقول: إقرار وإمرار، ولا تبحث أكثر من ذلك.
وما معنى إقرار؟
الجواب: أن نقر بها؛ لأنها سمعية وردت عن خير البرية عليه الصلاة والسلام، إما في أحاديثه وإما في الآيات القرآنية، سمعي وارد عن الله بواسطة رسول الله عليه الصلاة والسلام كيف تنكره وتجحده وترده؟ فالسمعي نقر به؛ لأن عدم الإقرار إنكار.
والثاني: إمرار، ما معنى إمرار؟
لا نبحث في كيفيته، ولا في كنهه، ولا في حقيقته، ولا نتصوره، ولا نتوهمه، نقول: نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
أخبرنا الله أنه يوجد ميزان، لا داعي أن نأتي لنشتط كما فعل بعض المعتزلة اللئام، قالوا: الميزان يحتاجه البقال الذي يزن الطماطم والخيار والكوسة والبصل، ليعلم هل الوزنة معتدلة أم لا، أما من لا تخفي عليه خافية فلماذا يزن؟ هل هو لا يعلم أنت شقي أو سعيد؟! ولا يعلم الصالحات من الطالحات؟! فعلام الوزن؟!
نقول لهم: وعلام الفلسفة منكم؟ يعني أأنتم أعلم أم الله، عندما يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، هذا قاله رب العالمين، وعندما يقول: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، وعندما يقول: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6]، وأنتم تتفلسفون، هل المقصود من الميزان فقط إظهار الوزنة أنها معتدلة؟
هذا أحد مقاصد الميزان، ولكن هناك مقاصد كثيرة أخرى بعد ذلك، منها إظهار عدل الرحمن على أتم وجه، تعليم الله لعباده كيف يتعاملون، فإذا كان هو الحي القيوم يعاملهم بالميزان ليُعلمهم هل ربحوا أو خسروا على حسب الميزان العادل، فمن باب الأولى ينبغي نحن أن نستعمل الميزان، كما قال الله جل وعلا: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7]، فالله هو الذي يفعل هذا ليقطع أعذار العباد، ليكون هذا الميزان علامة لسعادة السعيد وشقاوة الشقي، كما سيأتينا حكم كثيرة عند بحث السمعيات التي هي أحد أركان علم التوحيد، وهي أحد موضوعاته الثلاثة، فهذه السمعيات من حيث اعتقادها.
والسمعيات هي: ما يتوقف الإيمان به على ورود السمع، ولا يوجد دليل في العقل يثبت أو ينفي، فالعقل لا يثبت ولا ينفى.
إذا كان العقل يحترم نفسه وليس عنده دليل على الإثبات ولا على النفي، وورد السمع بشيء، فيجب على العقل أن يقول: آمنا وصدقنا.
ليس عندك دليل على الإثبات ولا على النفي، وقال لك الحكيم الخبير: عندي ميزان، تقول: آمنت يا ذا الجلال والإكرام.
ولذلك من جملة فوائد إخبار الله بالمغيبات: ليظهر من يؤمن بالغيب ممن يعترض على الرب، هل آمنا بالميزان؟ آمنا وحصلنا فضيلة الإيمان بالغيب، ولا إيمان أفضل من إيمان بغيب، ولذلك قال الله في مقدمة كتابه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3]، ميزان آمنا به، ملائكة آمنا به، صراط آمنا بذلك، حوض آمنا بذلك، إذاً حصلنا أجراً عظيماً من وراء الإيمان بالمغيبات.
الإيمان بحياة البرزخ وعدم مقارنتها بحياة الدنيا
عذاب القبر ونعيمه سمعي قطعاً وجزماً، القبر في حالة واحدة يكون روضة من رياض الجنة ويتسع مد البصر، وحفرة من حفر النار ويُضيق على المقبور فيه حتى تختلف أضلاعه، فمن قال: كيف هذا؟ نقول: يا عبد الله! هذا ورد به السمع عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق، ولا يجوز أن تفهم ما في دار البرزخ على حسب أحكام دار الدنيا.
فالدور ثلاثة كل دار لها حكم: البرزخ دار، وقبلها الدنيا دار، وبعد البرزخ دار، وهي الآخرة جنة أو نار، دار الدنيا لها أحكام على الظاهر لا على الباطن، أحكام الدنيا على الجسد لا على الروح، أنا عندما أخرج روحك أضرب رقبتك، فهل ضربت الروح أو البدن؟ البدن، الأحكام عندنا تتعلق بالظاهر في الحياة الدنيا، فهي موازين حسية ظاهرة، أما في البرزخ على العكس تماماً، الأحكام تتعلق بالروح، والبدن يشعر بذلك تبعاً، كما أنك في هذه الدار الدنيا الذي يعذب وينعم بدنك وروحك تتلذذ أو تتألم.
أما الآخرة فهي أكمل الدور، العذاب والنعيم على البدن والروح، أي على كل منهما أصالة دون تبعية أحد منهما للآخر، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].
إذاً: لا يجوز أن نفهم ما يجري في دار على حسب موازين دار أخرى، لأن تلك دار لها موازين للروح، وموازين الروح غير موازين الجسد، الروح تدخل في البدن وتخرج دون أن يراها أحد، والواحد يكون معنا في الحجرة يقولون: مات، تقول: ما معنى مات؟ قالوا: خرجت روحه، من أين خرجت؟ الأبواب مغلقة والنوافذ مغلقة محكمة، يقول: هذه روح ليست كالبدن، تخرج دون أن يوجد منفذ في الجدار، إذاً: هو يقول: لها حكم ليس كحكم البدن.
الغرابة إذا قلت: خرج المقيد في هذه الحجرة والأبواب والنوافذ مغلقة، يقال: هذا جني، كيف خرج؟ حقيقة لا يمكن إلا بحيلة، فلعله فُتح له الباب وخرج، لأنه لا يمكن أن يخرج بدون فتحة؛ لأن الأحكام على الظاهر، أما الروح فأحكام مغيب وموازين خاصة، فلا تفهم ما يجرى في البرزخ على حسب حال الدنيا، كل واحد له ميزان، نحن في الأحكام الظاهرة عندنا موازين مختلفة في الظاهر، وكل شيء له ميزان، الذهب له ميزان يقسم الجرام إلى مائة جزء، ثم يقول لك: غرام وعشرة سنتي، يعني: عُشر الغرام.
إذاً ميزان دقيق، ميزان الذهب على الكهرباء رأيتموه؟ وعندنا ميزان البصل، لو أردنا أن نتعامل بالذهب بميزان البصل فهل يصلح؟ لا، لفسدت الحياة، صاحب الذهب لا يأتي عليه المساء إلا وقد أغلق دكانه.
إذاً: هذا ميزان وهذا ميزان، هذا حسي وهذا حسي، ولا يجوز أن نزن البصل بالذهب، لأنه سيفسد الحياة، وأن تزن ما يجرى في الدنيا على ميزان البرزخ لا يصلح، تزن ما يجرى في البرزخ على موازين الدنيا لا يصلح، كل دار لها اعتبار، فزنها بميزانها.
مثال تقريبي لما يتعلق بالسمعيات التي يجب الإيمان بها
لا شك، ولئن كان غيبياً ويتعلق بأحوال البرزخ له ما يقربه إلى العقول في هذه الحياة، ولا يوجد غيبي إلا وجعل الله له صورة تقريبية في هذه الحياة من باب تقريبه للأذهان.
ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في كتاب الزهد للإمام البيهقي قال: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء، يعني فاكهة فاكهة، رمان رمان، عنب عنب، تين تين، لكن ليست المانجو في الجنة كالمانجو في الدنيا، هناك الراكب المجد يسير سبعين سنة في ظل شجرة طوى لا يقطعها، والثمرة الواحدة تكفي أهل الدنيا، وليست حالها كحال أهل الدنيا، إن أكلتها لا تخرج إلى حمام ويخرج منك فضلات، عرق أطيب من المسك، وجشاء كجشاء المسك، رائحة مسك من فمك وعرق، البطن يضمر فتأكل مرة أخرى، فإذا انتفخ وشبعت فبدلاً من أن تخرج من مكان الأذى يخرج من الجبهة مسك ومن الفم مسك.
إذاً: هذه فاكهة تختلف عن هذه الفاكهة، لكن وافقتها في الاسم، يعني كأن الله يقول: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، هذه فيها هذه الفاكهة، يعني الفاكهة ليست بصلاً، وليست ثوماً، لكن كما أنكم تتفكهون بالفاكهة في هذه الحياة، هناك فاكهة تتفكهون بها تختلف عنها، هما سواء في الاسم، وتختلف عنها في اللون والحجم والطعم وفي النتيجة، هذا المغيب الذي هو في عالم البرزخ له ما يقربه إلى أذهاننا في واقعنا.
أنت عندما تنام -أخي الكريم- ويكون في حجرتك أحد مستيقظ، أنت على فراشك تشعر أنك دخلت الجنة، والتقيت بالملائكة، ونظرت إلى نور وجه الله الكريم، وتضحك أحياناً وينظر إليك وأنت تضحك، وأحياناً تشعر أنك تزوجت، وأحياناً تشعر أنك ذهبت إلى والدك، وأحياناً تشعر أنك صرت أميراً وعندك جنود بدأت تأمر وتنهى لتحكم بشريعة الله وتطبق أحكام الله، أنت ترى هذا وغيرك يرى أنه ذُهب به إلى النار، أو أنه يشرب الخمر، أو أنه يُضرب ويعاقب، أو أنه في سجن، يرى أحياناً وهو يصيح ويتأوه ويبكي.
هو بجوارنا، وعلى الفراش بجنبنا، ونضع يدنا عليه فلا نعلم ما يرى، نقول: هذا من عالم المثال؛ لأن عالم الرؤى يتعلق بالأرواح فلا تدركه حواسنا، يضحك لكن لا نعلم لم يضحك، وقد ينام اثنان على فراش واحد زوج وزوجة، فهو يضحك وهي تبكى، هو يرى أنه دخل الجنة وهي ترى أنها دخلت النار، وهذا يقع بكثرة، اثنان لا أحد منهما يشعر بحال صاحبه، وهو في حق هذا نعيم وفي حق الثاني جحيم.
يقبر اثنان في قبر واحد: موحد ونصراني، القبر في لحظة واحدة يتوسع كمد البصر وهو روضة من رياض الجنة، ويضيق حتى تختلف أضلاع النصراني فيلتهب عليه حفرة من نار، إن قال: كيف؟
قلت: أجيبك بعد أن تجيبني؟ كيف يرى الزوجان على فراش واحد رؤية تسر ورؤية تضر؟ أخبرني عن هذا لأخبرك عن حقيقة ما يجرى في البرزخ.
فإذا قال: أنا عاجز عن تفسير ذلك؛ لأن ذاك من عالم المثال والرؤى، فقل: أنا أعجز عن تفسير ذلك؛ لأن ذلك من عالم البرزخ، لكن هذا سمعي ورد به نص يجب الإيمان به، وهل ورد بمستحيل؟ لا، فنحن نرى له أمثلة وشواهد كل ليلة عندما ننام ونرى الأحلام، ولا يشعر أحد بما رأينا، وإن كان بدنه ملاصقاً لبدننا.
إذاً: هذه صورة تقريبية لما يجرى في البرزخ الذي هو أول مرحلة من مراحل الحياة الأخروية، وما أتى شرعنا بما تعارضه عقولنا:
لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم
الأمر الثالث من موضوعات علم التوحيد: السمعيات من حيث اعتقادها، يعني: ما يُتوقف الإيمان به على مزيد السمع فقط، وليس عند العقل دليل على إثباته ولا على نفيه، فهذا يقال له سمعي، وهناك سمعي وعقلي -كما قلت- يجتمع الأمران، وجود الله سمعي أو عقلي؟ عقلي، ورد السمع أو لم يرد؟ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم:10]، لا بد للموجود من موجد، ولا بد للخلق من خالق، ولا بد للأثر من مؤثر، إذا كان الكرسي لا بد له من نجار، فهذا الكون لا بد له من عزيز قهار.
ولذلك قال البدوي الساذج: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج -نجوم مشتبكة- وأرض ذات فجاج -أنهار وعيون تجري- وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟ بلى!
مسألة وجود الله عقلية، ولا نقول عقلية بحتة، يعني: السمع قال: إن الله غير موجود، بل ورد فيها السمع، لكن هي عقلية يدركها العقل، وورد بها الوحي.
أأنت خلقت نفسك؟ لا، خلقك أبوك؟ لا، خلقتك أمك؟ لا، الجيران والأطباء؟ لا، من خلقك؟ تقول: هكذا فلتة كما سيأتينا من كلام الفلتانين المهووسين، يقول: ما خلقنا خالق.
لو قيل: هذا البناء ما بناه بانٍ، فهل تصدق؟ يقول: أنت مجنون، بناء بلا بان، سماء وأرض بلا خالق؟ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي: بقوة وإحكام وإتقان، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:47-48].
لا بد للخلق من خالق، هذه مسألة عقلية، لكن كون الله جل وعلا له كرسي وسع السموات والأرض سمعية فقط، كون الله له عرش استوى عليه سمعية، كون الله جل وعلا ينصب ميزاناً يوم القيامة يزن به أعمال العباد سمعية، ووجود الحوض ونهر الكوثر في الجنة سمعية، أخذ الصحف بيمين أو بشمال سمعية.
هذه سمعيات مغيبات يتوقف الإيمان بها على السمع لا على العقل، لو لم يرد بها السمع لما أمكننا أن نقول هناك حوض وهناك ميزان، لو لم يرد السمع بوجود الملائكة هل نستطيع أن نقول يوجد ملائكة؟ لا، فهذا عالم غيبي، لا طريق للإيمان به إلا السمع الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، عن طريق نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
إذاً: الموضوع الثالث من موضوعات علم التوحيد يبحث في السمعيات، فإن قيل: من أي حيثية ومن أي اعتبار؟ فالجواب: من حيث اعتقادها، يعني السمعي تعتقد به.
واعتقادنا بالسمعيات يقوم على أمرين اثنين لا ثالث لهما:
أولهما: إقرار.
وثانيهما: إمرار.
السمعي لا تدخله تحت دائرة العقل، وإياك أن تبحث في كنهه وحقيقته؛ لأنه مغيب عنك، وأنت لا تدرك إلا ما هو موجود أو ما له نظير في الوجود، وأما ما ليس بموجود وما لم تدرك له نظيراً في الوجود فلا تستطيع أن تتخيله.
فمثلاً: الملائكة نؤمن بهم على حسب ما ورد دون زيادة ونقصان، صفات الله سمعيات، كون الله له عينان سبحانه وتعالى، كون الله يتكلم، كون الله يغضب، كون الله يرضى، كون الله ينزل، كون الله يأتي: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة:210] كون الله يجيء: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، كيف نؤمن بهذه الصفات؟
نقول: إقرار وإمرار، ولا تبحث أكثر من ذلك.
وما معنى إقرار؟
الجواب: أن نقر بها؛ لأنها سمعية وردت عن خير البرية عليه الصلاة والسلام، إما في أحاديثه وإما في الآيات القرآنية، سمعي وارد عن الله بواسطة رسول الله عليه الصلاة والسلام كيف تنكره وتجحده وترده؟ فالسمعي نقر به؛ لأن عدم الإقرار إنكار.
والثاني: إمرار، ما معنى إمرار؟
لا نبحث في كيفيته، ولا في كنهه، ولا في حقيقته، ولا نتصوره، ولا نتوهمه، نقول: نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
أخبرنا الله أنه يوجد ميزان، لا داعي أن نأتي لنشتط كما فعل بعض المعتزلة اللئام، قالوا: الميزان يحتاجه البقال الذي يزن الطماطم والخيار والكوسة والبصل، ليعلم هل الوزنة معتدلة أم لا، أما من لا تخفي عليه خافية فلماذا يزن؟ هل هو لا يعلم أنت شقي أو سعيد؟! ولا يعلم الصالحات من الطالحات؟! فعلام الوزن؟!
نقول لهم: وعلام الفلسفة منكم؟ يعني أأنتم أعلم أم الله، عندما يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، هذا قاله رب العالمين، وعندما يقول: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، وعندما يقول: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6]، وأنتم تتفلسفون، هل المقصود من الميزان فقط إظهار الوزنة أنها معتدلة؟
هذا أحد مقاصد الميزان، ولكن هناك مقاصد كثيرة أخرى بعد ذلك، منها إظهار عدل الرحمن على أتم وجه، تعليم الله لعباده كيف يتعاملون، فإذا كان هو الحي القيوم يعاملهم بالميزان ليُعلمهم هل ربحوا أو خسروا على حسب الميزان العادل، فمن باب الأولى ينبغي نحن أن نستعمل الميزان، كما قال الله جل وعلا: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7]، فالله هو الذي يفعل هذا ليقطع أعذار العباد، ليكون هذا الميزان علامة لسعادة السعيد وشقاوة الشقي، كما سيأتينا حكم كثيرة عند بحث السمعيات التي هي أحد أركان علم التوحيد، وهي أحد موضوعاته الثلاثة، فهذه السمعيات من حيث اعتقادها.
والسمعيات هي: ما يتوقف الإيمان به على ورود السمع، ولا يوجد دليل في العقل يثبت أو ينفي، فالعقل لا يثبت ولا ينفى.
إذا كان العقل يحترم نفسه وليس عنده دليل على الإثبات ولا على النفي، وورد السمع بشيء، فيجب على العقل أن يقول: آمنا وصدقنا.
ليس عندك دليل على الإثبات ولا على النفي، وقال لك الحكيم الخبير: عندي ميزان، تقول: آمنت يا ذا الجلال والإكرام.
ولذلك من جملة فوائد إخبار الله بالمغيبات: ليظهر من يؤمن بالغيب ممن يعترض على الرب، هل آمنا بالميزان؟ آمنا وحصلنا فضيلة الإيمان بالغيب، ولا إيمان أفضل من إيمان بغيب، ولذلك قال الله في مقدمة كتابه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3]، ميزان آمنا به، ملائكة آمنا به، صراط آمنا بذلك، حوض آمنا بذلك، إذاً حصلنا أجراً عظيماً من وراء الإيمان بالمغيبات.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [5] | 3761 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [1] | 3463 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [3] | 3416 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [2] | 3274 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - تعريف علم التوحيد [2] | 3228 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - منزلة علم التوحيد [2] | 3029 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - ثمرة علم التوحيد [1] | 2688 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [2] | 2683 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [1] | 2672 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [4] | 2607 استماع |