محبة الصحابة رضي الله عنهم للرسول عليه الصلاة والسلام -1 - فهد بن عبد العزيز الشويرخ
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أمَّا بعدُ:
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلٌ عظيمٌ من أصول الإيمان ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» [متفق عليه] .
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي هذا الحديث دليلٌ على وجوب محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبته على محبة كلِّ أحدٍ، حتى على الوالد والولد والنفس؛ لأن النفس تدخل تحت قوله: ((والناس أجمعين))؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "لأنت أحَبُّ إليَّ مِن كل شيءٍ إلَّا من نفسي"، فقال: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك))، فقال: "فإنه الآن واللهِ، لأنتَ أَحَبُّ إليَّ مِن نفسي"، قال: ((الآنَ يا عُمَرُ))، فالواجب أن نُقدِّمَ محبةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة كلِّ أحدٍ؛ على محبة الولد، والوالد، والأهل، والمال، والنفس أيضًا.
لقد أحبَّ الصحابة ُ رضي الله عنهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم محبةً عظيمةً، وقد ذُكِر في كتب السُّنة والسيرة أشياءُ كثيرةٌ؛ منها:
عن أبي بكر رضي الله عنه قال: "والذي نفسي بيده، لقَرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحَبُّ إليَّ أن أَصِلَ من قرابتي"؛ أخرجه البخاري .
وعن أبي شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلًا، فجعل ابنُه يقول: يا أبتاه، أمَا بشَّركَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فقال: "لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بُغْضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه، فلو متُّ على تلك الحال لكنتُ من أهل النار ، فلما جعل الله الإسلامَ في قلبي، ما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أَجَلَّ في عيني منه، وما كنتُ أُطيقُ أن أَملأَ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئِلتُ أن أَصِفَه ما أَطقتُ؛ لأني لم أكن أملأُ عيني منه، ولو متُّ على تلك الحال، لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة "؛ أخرجه مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه، مِن توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلاله.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أخبر عمرو رضي الله عنه أنه مرَّ بأطباق ثلاث: الطبق الأول: الجاهلية والكفر ....
الطبق الثاني: لَمَّا منَّ الله عليه بالإسلام بعد ذلك، وأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الإسلام يهدِم ما كان قبله، والهجرة تهدِم ما كان قبلها، والحج يهدِم ما كان قبله، فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحبَّ إليه مِن كلِّ شيء، حتى كان لا يُطيق أن يَملأَ عينه منه إجلالًا له وتعظيمًا له، ولو مات على هذا الطبق، يقول: لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن ثُمامة بن أُثال دخل المسجد، فقال: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبْغَضُ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُكَ أحَبَّ الوجوه كلِّها إليَّ، والله ما كان مِن دينٍ أبْغَضَ إليَّ من دينك، فأصبَح دينُك أحَبَّ الدين إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبْغَضَ إليَّ من بلدك، فأصبَح بلدُكَ أحَبَّ البلاد إليَّ"؛ متفق عليه.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث فوائدُ؛ منها: صراحة ثُمامة رضي الله عنه وتحدُّثه بنعمة الله عز وجل، أما الصراحة فلأنه صرَّح بأنه ما كان على وجه الأرض وجْهٌ أبْغَض إليه من وجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما التحدُّث بنِعْمة الله عز وجل، فهو أن الله نقَلَه من هذه الحال إلى عكسها وضدِّها، وأنه أصبح لا يوجد على وجه الأرض أحَبُّ إليه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال: يا رسول الله، والله إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وإنَّك لأحبُّ إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليّ مِن ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرُك فما أصبرُ حتى آتيك فأنظُر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك، عرَفت أنك إذا دخلتَ الجنة رُفِعتَ مع النبيين، وإنِّي إذا دخلتُ الجنة خشيتُ ألا أراك، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ﴾ [ النساء : 69]؛ أخرجه الطبراني في الأوسط.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن صفوان بن أمية قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبْغَضُ الناس إليَّ، فما برح يُعطِيني حتى إنه لأحَبُّ الناس إليَّ؛ أخرجه مسلم.
من مظاهر محبة الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم:
محبتهم لما يُحبُّ:
محبة أبي هريرة للحسن بن علي رضي الله عنهما
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «((أين لُكَعُ؟ ثلاثًا ادعُ الحسن بن علي))، فقام الحسن فالتَزمهُ النبي، وقال: ((اللهم إنِّي أُحِبُّه، فأَحِبَّه، وأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه))» ؛ [متفق عليه] .
قال أبو هريرة رضي الله عنه: فما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من الحسن بن علي، بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال؛ أخرجه البخاري.
محبة أنس بن مالك رضي الله عنه للقرع:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " «رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبُه القرعُ، فلم يزَل القرعُ يُعجِبُني منذُ رأيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُعجِبُه» "؛ [متفق عليه] .
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: لكن هل أنس رضي الله عنه فعل ذلك على سبيل الأُسْوة الشرعية، أو لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يُحبُّه، فرأى أن فيه خيرًا؟ الظاهر الثاني.
محبة جابر بن عبدالله رضي الله عنه للخلِّ:
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فِلَقًا مِن خُبْزٍ، فقال: (ما مِن أُدْمٍ؟) فقالوا لا,إلا شيء مِن خَلٍّ قال: (فإن الخَلَّ نِعْمَ الأُدْمُ)، قال جابر:فما زِلْتُ أُحِبُّ الخَلَّ منذ سمِعْتُها من نبي الله صلى الله عليه وسلم » [أخرجه مسلم]
قال الإمام النووي رحمه الله: وفي الحديث فضيلة الخَلِّ، وأنه يُسمَّى أُدْمًا، وأنه أُدْمٌ فاضلٌ جيد.
محبة عمرو بن العاص رضي الله عنه لما يحبُّه الرسول عليه الصلاة والسلام من الناس:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: « يا رسول الله، مَنْ أحَبُّ الناس إليك؟ قال: ((لِمَ؟))، قال: لأُحِبَّ مَنْ تُحِبُّ قال: ((عائشة))، قال: من الرجال؟ قال: ((أبو بكر))» ؛ أخرجه ابن حبان.
إن من علامات الحب الصادق أن يُحِبَّ الحبيبُ ما يُحِبُّ محبوبُه؛ ولذا فإن على المؤمن أن يُحِبَّ ما يُحِبُّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الناس والطعام، ففي ذلك خيرٌ.
قتلُهم مَن آذاه عليه الصلاة والسلام أو سبَّه:
قتل الأعمى لأمِّ ولده؛ لأنها كانت تشتمُ الرسول عليه الصلاة والسلام:
عن ابن عباس رضي الله عنه أن أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له أُمُّ ولدٍ، فلما كان ذات ليلة ذكرتِ النبي صلى الله عليه وسلم فوقعتْ فيه، قال: فلم أصبرْ أن قمتُ إلى المِغْوَلِ، فوضعتُه في بطنها، فاتَّكأتُ عليه فقتلتُها، فأصبحتْ قتيلًا، فذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس وقال: (أَنْشُدُ الله رجلًا لي عليه حقٌّ فعَل ما فعَل، إلا قامَ)، فأقبَل الأعمى، فقال: يا رسول الله، أنا صاحبُها، كانت أمَّ ولدي، وكانت بي لطيفة رفيقة، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، ولكنها كثيرةُ الوقيعة فيك، وتَشتمك، فأنهاها فلا تنتهي، وأَزجُرُها فلا تَنزجر، فلما كانت البارحة ذكَرتْك فوقعتْ فيك، فقمتُ إلى المِغْوَلِ فوضعتُه في بطنها، فاتَّكأتُ عليها حتى قتلتُها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا اشْهَدوا أن دمَها هَدَرٌ)؛ أخرجه أبو داود.
قتَل رضي الله عنه أمَّ ولده مع أنها كانت به لطيفة رفيقة، وكان له منها ولدان؛ لأنها سبَّتْ ووقعتْ في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قتلُ غلامين من الأنصار أبا جهل لسبِّه الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينا أنا واقفٌ يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، فغمَزني أحدهما، فقال: يا عمُّ، هل تعرف أبا جهل؟ قلتُ: نعم، ما حاجتك إليه ابن أخي؟ فقال: أُخبرتُ أنه يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيتُه لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجلُ منَّا، فتعجبتُ لذلك، فغمَزني الآخر، فقال لي: مثلها، فلم أَنشَبْ أن نظرتُ إلى أبي جهل يجول بين الناس، فقلتُ: ألا إن هذا صاحبكم الذي سألتُماني، فابتداره بسيفهما فضرباه حتى قتلاه؛ متفق عليه.
قتلُ محمد بن سلمة ورفاقِه كعبَ بن الأشرف؛ لأنه آذى الرسول عليه الصلاة والسلام:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله))، قال محمد بن سلمة: يا رسول الله، أتُحبُّ أن أقتلَه؟ قال: ((نعم))، فأتاه فقال: يا كعب، قد أردتُ أن تُسلفني سلفًا، قال كعب: فما تَرْهَنُني؟ قال محمد بن سلمة رضي الله عنه: نَرْهَنُك اللأْمَةَ، يعني: السلاح، قال: نعم، وواعَده أن يأتيَه بالحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر، فجاؤوا إليه فدَعوه ليلًا فنزَل إليهم، فلما نزَل قتَلوه؛ متفق عليه.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي هذا الحديث من الفوائد أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا تأخذهم في الله لومةُ لائمٍ ولا يهمهم أحدٌ إن كعبًا كان قريبًا لمحمد بن سلمة ومع ذلك عزَم على قتلِه بل كان أول مَن انتدب له رضي الله تعالى عنهم، ووفَّقنا للسَّير على طريقتهم، شجاعة وإقدام وتقديم لمحبة الرسول على محبة أي أحدٍ كان من الأهل والأقارب، فمحمد بن سلمة رضي الله عنه ابن أخت كعب بن الأشرف، فيكون كعب خاله، ومع هذا قتَله لأنه سبَّ الرسول علية الصلاة والسلام، وورد في بعض الروايات أن محمد بن سلمة كان معه أبو نائلة رضي الله عنهما، وأبو نائلة أخو كعب مِن الرضاعة، ومع ذلك قتله؛ لأنه آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي للمسلمين أن يدافعوا عن رسولهم إذا شُتِمَ أو سُبَّ، وقد ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه المفيد النافع "الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم"، وأفتى بوجوب قتلِ مَن سبَّ الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد اختصر كتابه البعلي الحنبلي، رحم الله الجميع.
حفظُهم لِسرِّه عليه الصلاة والسلام:
حَفِظ أبو بكر الصديق زواجَه علية الصلاة والسلام من حفصة رضي الله عنهما:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تأيَّمتْ حفصة فلقيتُ أبا بكر رضي الله عنه، فقلت له: إن شئتَ أنكحتُك حفصة، فلم يرجع إليَّ شيئًا، فلبثتُ ليلي، فخطَبها إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتُها إياه، فلقِيَني أبو بكر، فقال: لعلَّك وجدتَ عليَّ، حين عرضتَ عليَّ حفصة، فلم أرجِعْ إليك شيئًا، قلتُ: نعم، قال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها، ولم أكُن لأُفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخرجه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه فضل كتمان السرِّ، ويحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر ذلك أنه خَشِيَ أن يبدوَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتزوَّجَها، فيقع في قلب عمر انكسارٌ.
حفظ أنس بن مالك لسره صلى الله عليه وسلم حتى عن أمه رضي الله عنهما:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أسرَّ إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرًّا، فما أخبرتُ به أحدًا بعده، ولقد سألتني عنه أُمُّ سليم (أمه)، فما أخبرتُها به؛ متفق عليه.
قال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أم سليم رضي الله عنها هي أُمُّه، ومع هذا أبى أن يُخبرها، حفظًا للسرِّ، وعلى هذا فنحن لا ندري عنه أيضًا، وحفظُ السرِّ واجب, فيجب على الإنسان إذا أسرَّ إليه أحدٌ حديثًا أن يحفظَه, وألا يُفشيَه
حفظ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لسره علية الصلاة والسلام في الفتن :
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: والله إني لأعلمُ الناس بكلِّ فتنةٍ هي كائنةٌ فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إليِّ في ذلك شيئًا؛ أخرجه مسلم.
حفظ عبدالله بن جعفر رضي الله عنه لسره عليه الصلاة والسلام:
عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردَفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرَّ لي حديثًا لا أُحدِّث به أحدًا من الناس؛ أخرجه مسلم.