شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [9]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

قال رحمه الله: [ فصل:

وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل، أو من قبيل الباطن الصحيح، وهي منسوبة لأناس من أهل العلم، وربما نسب منها إلى السلف الصالح.

فمن ذلك فواتح السور نحو: (الــم) و (المص) و (حم) ونحوها فسرت بأشياء، منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح، ومنها ما ليس كذلك، فينقلون عن ابن عباس رضي الله عنهما أن (الــم) أن ألف: الله، ولام: جبريل، وميم: محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا إن صح في النقل فمشكل؛ لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقاً، وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظي أو الحالي، كما قال: قلت لها قفي؛ فقالت قاف، وقال: قالوا جميعاً كلهم: بلا فاء، وقال:

ولا أريد الشر إلا أن تاء

والقول في (الــم) ليس هكذا، وأيضاً فلا دليل من خارج يدل عليه، إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله؛ لأنه من المسائل التي تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه، ولما لم يثبت شيء من ذلك دل على أنه من قبيل المتشابهات، فإن ثبت له دليل يدل عليه صير إليه.

وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء، وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية، وهو أقرب من الأول، كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله، وهو أظهر الأقوال، فهي من قبيل المتشابهات، وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها تنبيهاً على مدة هذه الملة، وفي السير ما يدل على هذا المعنى، وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها، وربما لا يوجد مثل هذا لها ألبتة، وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير ].

هذا الفصل الذي أعقبه بالفصل الذي قبله في الضوابط، ذكر أنه قد وقع في القرآن تفاسير مشكلة وبعضها منسوب إلى السلف الصالح، خصوصاً إلى الصحابة والتابعين، وسيأتي إن شاء الله إشارته إلى أهمية تفسير الصحابة والتابعين ومزيته.

ومن خلال كلام الإمام الشاطبي يظهر أنه يرى أن هذه الأحرف ليس لها معنى، يقول: " كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله، وهو أظهر الأقوال" فهو يرى أنها من المتشابهة؛ لأنه قال: (كما نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلمها إلا الله. وهذا أظهر الأقوال) إذاً لها معنى لكن ما يعلمه إلا الله.

نحتاج إذاً أن نحلل هذا الموضوع من أصله، بمعنى: هل يصح إدخال الأحرف المقطعة في المتشابه؟ وبناءً عليه إذا كانت صحت؛ فكلام الشاطبي رحمه الله تعالى في إدخال الأحرف المقطعة في هذا الفصل الذي ذكره صحيح، أما إذا قلنا: إنها ليست من المتشابه فإدخاله لها في هذا المعنى ليس بصحيح بل فيه نظر.

فلو رجعنا إلى ما نسب إلى ابن عباس أنه قال: (الم) ألف: الله، ولام: جبريل، وميم: محمد صلى الله عليه وسلم، ونحاول أن تفهم كلام ابن عباس في هذه الأحرف، هل ابن عباس يريد تفسير معنى، أو يريد إشارة إلى أمر آخر؟ إذا تأملنا تفسيره لهذه الأحرف وتتبعناه سنجد أنه قد قال في هذه الأحرف أكثر من قول، وقد عبر عن هذه الأحرف بغير هذه التعبير، ففي رواية عنه أنه قال: (الــم): أنا الله أعلم.

فهذا الاختلاف الوارد عن ابن عباس ، وكذلك الوارد عن غيره من السلف يدل على أنهم لم يفهموا أن هذه الأحرف لها معنى مستقل، ويدل أيضاً على أنهم فهموا أن هذه أحرف، هذا أغلب تفسير السلف، وإلا فهناك تفسيرات أخرى فيها إشكال، لكن أتكلم عن من ذهب إلى هذا الأسلوب يدل على أنهم لم يروا أن لها معنى، ويدل على أنهم رأوا أنها حروف يتركب منها معاني، الدليل على ذلك أنها يتركب منها معاني أنهم ذهبوا إلى هذا الأسلوب من التفسير، فإذاً إذا قلنا: أنها حروف يتركب منها معاني، نرجع ونسأل سؤالاً: هل الحرف المفرد له معنى في لغة العرب؟ يعني لو سألت عربياً وقلت له: ما معنى قاف؟.. ما معنى سين؟ هل عندهم معنى خاص لهذه الأحرف؟

الجواب: لا؛ إذاً فمذهب العرب أن الحرف المفرد لا معنى له، وإنما يتكون المعنى إذا جمعت هذه الأحرف مع بعضها، فإذا قلنا مثلاً: سين.. لام.. ميم، يتركب منها: سلم، لما أقول: سلم، فهذا له معنى؛ لأنه صار كلمة.

فإذاً الذي يكون له معنى هو الكلمة أو شبه الكلمة، مثل الأحرف: في.. وكذا أحرف الجر وغيرها، التي تسمى بحروف المعاني.

أما الحرف المفرد فليس له معنى، وهذه أحرف مفردة، والدليل على أنها أحرف مفردة طريقة النطق، أنا نقول: (الــم) كما نقول في التعداد: واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة؛ فإذا قلنا بأنها أحرف فيلزم من ذلك أنها خرجت عن أن يكون لها معنى، وإذا خرجت عن أن يكون لها معنى صار كل هذا الفصل الذي ذكره الإمام رحمه الله تعالى ليس موافقاً لهذا التفسير الذي ذهب إليه أئمة السلف.

وليس في القرآن كلمة ليس لها معنى؛ فما دام ما يوجد في القرآن ما ليس له معنى؛ فإذاً هذه الأحرف لا يمكن أن يكون لها معنى ولا يعلم؛ لأن معنى هذا القول أن الله سبحانه وتعالى كلمنا بكلام لا نفهم معناه، يعني: خاطبنا بالألغاز وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا القرآن نزل على لسان العرب، فلا يمكن أن يوجد كلمة في القرآن لا تعرف من جهة لسان العرب إطلاقاً، طبعاً إلا قضية الأسماء، لكن نحن نتكلم عن معاني الكلمات، فكما قلنا مثلاً: السين واللام والميم إذا جمعناها صارت مادة "سلم" ومادة سلم معروفة عندهم ويشتق منها اشتقاقات كثيرة.

فإذاً يفهم من كلامه أن من قال من العلماء: الله أعلم بمراده منها، إن كان يقصد أن لها معنى الله أعلم به فهذا فيه نظر، وقد ناقش هذا بعض علماء الإسلام مثل شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه انتقد هذا القول، وكذلك ابن القيم وغيرهما.

أقوال العلماء في معاني الحروف المقطعة

وإن كان يريد بقوله: (الله أعلم بمراده) ما هو خارج المعنى وهو مغزى هذه الحروف لأنها جاءت هذه الحروف لمغزى قد تكلم عنه العلماء، فبعضهم قال: الحكمة من إنزالها بهذه الطريقة: التنبيه؛ لأن قريشاً غافلون فنزول هذه الأحرف بهذا الأسلوب كأنها تنبيه وشحن لأذهانهم؛ لكي ينتبهوا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني كأن فيها نوعاً من شد الانتباه للنبي صلى الله عليه وسلم.

وآخرون قالوا: إن الحكمة منها هو الإشارة إلى الإعجاز، وهذا الذي عليه قول المحققين من العلماء من السلف والخلف، ومن أئمة اللغة، وهو القول الأقرب إلى الصواب، وهذا له دلائل أن المراد الإشارة إلى الإعجاز، الذي هو التحدي بالقرآن.

وكأن المعنى: إن هذا القرآن مجموع من هذه الأحرف التي تتكلمون بها، الـم.. المــر.. ومع ذلك فإنكم عاجزون عن الإتيان بمثله، وممن ذهب إلى هذا من العلماء الفراء و قطرب ومنهم كذلك: ابن كثير ونقله عن شيخه ابن تيمية وعن شيخه المزي ، وانتصر له صاحب الكشاف، والشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه في التفسير، واستدلوا بأنه يغلب على هذه الأحرف أن يأتي بعدها شأن يتعلق بالقرآن فكأنها إشارة إلى قضية التحدي والإعجاز، وهنا فائدة مهمة وهي: الحديث عن المغزى لا علاقة له بالحديث عن المعنى، فيجب أن نفرق بين المعنى والمغزى.

فإذاً قول بعض العلماء: الله أعلم بمراده منها، إن كان يريد أعلم بمراده من جهة المعزى فهذا محتمل؛ لأنه في أقوال، وإن كان قول المحققين على أنها إشارة للتحدي والإعجاز، وإن كان يريد (الله أعلم بمراده منها) من جهة المعنى فهذا فيه نظر؛ لأنه ليس لها معان ولا يتركب منها معنى؛ لأنها أحرف.

فهذا باختصار هو القول الذي أرى أنه أصوب الأقوال فيما يتعلق بالأحرف المقطعة.

ونقول: إن أغلب تفسير السلف يدخل في باب التمثيل للفظ العام، فهم مثلوا كما يقول الراغب الأصفهاني وقد أشار إلى ذلك، مثلوا بألفاظ أو بمعان شريفة لما يتركب من هذه الأحرف، وليس مرادهم أن ألف بمعنى: الله فقط، وأن لام بمعنى: جبريل فقط وأن ميم بمعنى: محمد فقط، ليس هذا مرادهم؛ لأنه لا ابن عباس رضي الله عنه ولا غيره يستطيع أن يحدد هذا المعنى، إلا بقول عن معصوم، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه تفسير لهذه الأحرف، والصحابة رضي الله عنه لم يستشكلوا هذه الأحرف، والعرب لم يستشكلوا هذه الأحرف ولا تكلموا فيها، ففهموا على أنها أحرف مثل ما يتكلمون بها، فلا يوجد أي إشكال عندهم، إنما وقع الإشكال عند المتأخرين؛ لأنهم لم ينظروا كيف تكلم السلف في هذا، وهل وقع إشكال عند الذين نزل عليهم الخطاب وكانوا حريصين على إيجاد أي مطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ما وجدنا لهم طعناً؛ فدل على أنه لم تكن مشكلة عندهم إطلاقاً، ولا هي داخلة في المتشابه إطلاقاً.

وهنا قضية مهمة وهي أن بعض العلماء رحمهم الله تعالى يستشهدون لتفسير ابن عباس الذي ذكره الإمام الشاطبي وغيره بهذه الأبيات، الذي مثل قوله: قلت لها: قفي؛ قالت: قاف، مرادها بقاف بمعنى: وقفت، بمعنى أنها الآن أخذت من "وقفت" حرف القاف.

الآن لما قال: قلت لها: قفي؛ قالت: قاف، والفرق بين ما ورد في هذا البيت وأمثاله وبين ما ورد عن السلف في تفسير الأحرف المقطعة أن البيت سياقه يدل على المحذوف، أما في الأحرف المقطعة مهما أعملت الذهن فإن التفسير الذي يذكر إذا كان تفسيراً لا يمكن أن يكون له أي دليل، لا كما قال: لفضي ولا حالي، يعني لا من داخل النص ولا من خارج النص، فلا تجد له تفسيراً ولا تجد له دليلاً يدل عليه؛ ولهذا لو أن إنساناً قال: المــر، على طريقة المذكور أن الألف: الله، لام: جبريل، لو قال: ألف: أحمد، وميم: محمد، ولام مثلاً جاء باسم فيه بداية لام فقال: لبيب، ما الفرق بينه وبين الله وجبريل ومحمد؟ ليس هناك أي فرق، الفرق أن هذا قاله ابن عباس وأن هذا قاله غير ابن عباس ، لكن من ناحية الدلالة العلمية أو العقلية من داخل النص أو خارج النص لا يوجد أي دليل، لا على هذا ولا على هذا؛ مما يجعلنا كما قلت سابقاً أن نفهم أن ابن عباس رضي الله عنه لا يعني أن هذا هو معانيها وإنما مراده هذه الأحرف التي يركب منها الكلام، ثم نأتي بعدها إلى قضية المغزى الذي هو الإعجاز.

التفسير العددي

وهنا أيضاً إشارة سريعة إلى ما ذكره عن جماعة من أن المراد بها أعدادها؛ تنبيهاً على مدة هذه الملة.. إلى آخره، هذه التي تسمى حروف أبجد هوز، وتعلمون أن أبجد هوز كل حرف فيها يقابل عدد، ولو استخدمنا الأعداد مع هذه الأحرف المقطعة فإنها تحتاج منا إلى باب في الرياضيات، جمع وطرح وقسمة وضرب.. إلى آخره بحيث يتكون لنا مجموعة من المقادير؛ فتجد أن من أولع بفتنة الأعداد في القرآن قد يستخدم هذه الطريقة طريقة أبجد هوز وقد يستخدم غيرها؛ فتخرج له كثير من الموافقات التي يظن أنها من مقصد الشارع، ولا يلزم أن تكون من مقصده، وهذا كما قال من له عناية بهذا أن هذا الباب الذي هو باب الأعداد في القرآن مزلة أقدام، ولهذا نعلم أنه منذ القدم قد استخدم هذا الأسلوب، الذي هو أسلوب تفسير القرآن بالأعداد، أو ربط القرآن بالأعداد خصوصاً بطريقة أبجد هوز، وإن كان المعاصرون دخلوا بطريقة أخرى غير طريقة أبجد هوز.

فهؤلاء المشكلة فيهم أنهم يقولون: إنه يمكن معرفة بعض الغيبيات من خلال هذه الأحرف المقطعة، ونحن نعلم أن الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأي إنسان ادعى أنه يعلم الغيب من طريق هذه الأحرف فإنه قد قال باطلاً، وإن قال شيئاً من الغيب ووقع فنعلم أنه ممن يؤتى، يعني: مثل الكهان والسحرة، بمعنى أنه يأتيه الشيطان ويلقي عليه شيئاً مما قد يقع مما تعلمون أنه من طريقة ما يأخذه الذين يسترقون السمع، وقد تكون كلمة ثم يضيفون إليها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مائة كذبة، فيقع واحد بالمائة من الحق، والناس ضعف الإيمان فيهم يجعلهم ينظرون إلى واحد بالمائة ويتجاهلون تسعة وتسعين بالمائة مما يقوله مثال هؤلاء.

أحببت أن أنبه إلى أن هذا المبدأ الذي هو محاولة ربط القرآن بالأعداد، واستنطاق هذا الأعداد واستخراج الحكم منها أو دلالة على مغيباته وغيره أنها قديمة جداً، وهذه الرواية التي يشير إليها التي هي مروية عن بعض السلف، مروية من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهي مكذوبة لا يصح الاعتماد عليها في حالة التفرد، وهذه متفردة؛ ولهذا تعتبر من التفاسير المكذوبة الباطلة.

قال رحمه الله: [ فأنت ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم، وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم، ومع إشكالها فقد اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم، بل إلى الاطلاع والكشف على حقائق الأمور، حججاً في دعاو ادعوها على القرآن، وربما نسبوا شيئاً من ذلك إلى علي بن أبي طالب ، وزعموا أنها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة، وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئاً من ذلك، وهو إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة، فما الدليل على أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه، وضرب بعضها ببعض، ونسبتها إلى الطبائع الأربع، وإلى أنها الفاعلة في الوجود، وأنها مجمل كل مفصل، وعنصر كل موجود؟ ويرتبون في ذلك ترتيباً جميعه دعاو محالة على الكشف والاطلاع، ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال، كما أنه لا يعد دليلاً في غيرها، كما سيأتي بحول الله ].

هذه قاعدة أن دعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة بحال، هذا الكلام الذي يذكره الإمام في قضية هذه الأقوال، إذا سبرناها بالمسبار المتقدم، وهي الضوابط التي قال عنها: شروط؛ فإنها تكون مشكلة، لكن بناءً على ما ذكرت نقول: أصلاً هي خارجة عن باب المعاني؛ وننتهي من هذه القضية وما ذكر عن السلف لا يكون مشكلاً.

حصر العلم على طريق علي رضي الله عنه

ذكر قضية أخرى مهم أن ننبه إليها؛ لأنها موجودة عند صنفين من أصناف الأمة، الذي هو ما يرتبط بـعلي بن أبي طالب ، أنهم ربما نسبوا شيئاً من ذلك إلى علي بن أبي طالب ، وزعموا أنها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة.

في كتاب اسمه" فتح المقفل" ذكر في مقدمة كتابه أن كل علم لا يؤخذ من طريق علي بن أبي طالب فإنه علم باطل، وهذا الكلام كلام خطير جداً، وتكلم في رأيه عن أصول فهم القرآن، وذكر هذه القاعدة في بداية كتابه وهي: أن أي علم لا يؤخذ من طريق علي بن أبي طالب فهو علم باطل؛ فإذا كان هذا مبدأ التفكير عنه فقطعاً أن ما بعد ذلك سيكون الفعل هو الباطل.

و علي بن أبي طالب ادعاه صنفان: الرافضة وغلاة الباطنية معهم، والصوفية الذين هم غلاة الصوفيين، وكل هؤلاء يزعمون أن علمهم مأخوذ من طريق علي بن أبي طالب ؛ ولهذا يبنون عليه علماً كثيراً، ويزعمون أنه من طري علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

فأقول: إنه يحسن أن ينتبه إلى أن مثل هذا الكتاب وهو مطبوع أو غيره قد يذكر فيها مثل هذه الأشياء وهي داخلة ضمن الباطن الذي ينهى عنه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى.

البواطن المنقولة في تفسير سهل بن عبد الله

قال رحمه الله: [ فصل:

ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه؛ فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22]، أي: أضداداً، قال: وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء، المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله.

وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد، حتى لو فصل لكان المعنى: فلا تجعلوا لله أنداداً لا صنماً ولا شيطاناً ولا النفس ولا كذا، وهذا مشكل الظاهر جداً، إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد: الأصنام أو غيرها مما كانوا يعبدون، ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أرباباً، ولكن له وجه جار على الصحة، وذلك أنه لم يقل: إن هذا هو تفسير الآية، ولكن أتى بما هو ند في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين.

إحداهما: أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار؛ فيجريه فيما لم تنزل فيه؛ لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه؛ لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته، والنفس الأمارة هذا شأنها؛ لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها، وهذا هو الذي يعني به الند في نده؛ لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه، وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، وهم لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان فما حرموا عليهم حرموه، وما أباحوا لهم حللوهن، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، وهذا شأن المتبع لهوى نفسه.

والثانية: أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام فإن لأهل الإسلام فيها نظراً بالنسبة إليهم، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان: أين تذهب بكم هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]؟ وكان هو يعتبر نفسه بها، وإنما أنزلت في الكفار لقوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ [الأحقاف:20].. الآية، ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص، فإذا كان كذلك؛ صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22]، والله أعلم ].

هاهنا فائدة علمية: نلاحظ الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا الفصل يذكر أمثلة تطبيقية، لو كان رحمه الله تعالى اكتفى بالتنظير الذي سبق ولم يذكر أمثلة لوقع إشكال أحياناً في فهم عبارته، لكن لما مثل رحمه الله تعالى وهذه عادته في كتبه صار يسهل فهم ما أراده من التنظير، ولهذا أنا أدعو كل طالب علم إذا وصل إلى مقام التنظير أن يعنى بالتمثيل، فيمكن أن تذكر القاعدة في سطر وتشرحها، ثم تذكر لها ثلاثة أو أربعة أمثلة فتتضح القاعدة وتنتهي كثير من المشكلات، ولكن إذا ذكرت قواعد مع أهميتها فقد لا يصل علمها إلى السامع، فالمثال مهم، وتنوع المثال أيضاً مهم جداً.

وفي هذا الفصل ذكر بعض ما نقل عن سهل بن عبد الله وكتاب سهل مطبوع طبع قديماً وأيضاً أعيدت طباعته، كان طبع في مطبعة السعادة بالقاهرة، سنة1326هـ، ثم أعيدت طباعته، وهو من تفاسير الصوفية، يعني من التفاسير المتقدمة للمتصوفة؛ لأن سهلاً تقريباً توفي في نهاية المائتين؛ فكتابه هذا يعد من أوائل التفاسير عند المتصوفة.

وهذا الكتاب نقل منه المؤلف مجموعة من الأمثلة وناقشها بناءً على الضابطين اللذين ذكرهما، وأشار هنا إلى ضابط ثالث سنقف عليه بعد قليل.

فذكر قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، معروف أن الخطاب هنا مع كفار قريش، وكفار قريش إنما كانت تجعل الأصنام أنداداً لله؛ ولهذا فسروا الأنداد بالأصنام، والمعنى اللغوي للأنداد كما ذكر أنه الضد، يعني المضاد، المماثل، الشبيه؛ فهذا المعنى إذا أخذناه في سياقه العام فيدخل فيه ما عبد من دون الله، ويشهد له قوله سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، أيضاً هذا يشهد لهذا المعنى؛ فهو الآن أراد أن يصحح ما ذهب إليه سهل ، فإذا أخذنا عبارة سهل ، قال: أي: أضداداً، وهذا التفسير لغوي، ثم قال: "وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء.. " إلى آخر كلامه، فكلام سهل ليس فيه رد لما سبق من التفسير أن المراد بالأنداد: الأصنام، وإنما فيه إضافة، وهذه الإضافة معتبرة وجارية على اللسان العربي ولها شاهد.

والضابط الثالث الذي ذكره هنا قال: إنه لم يقل: إن هذا هو تفسير الآية، بمعنى أنه لو قال: هذا هو تفسير الآية، فيكون خطأ؛ لأنه خالف التفسير الآخر، الذي هو تفسير السلف.

فإذاً الباطن هذا إذا خالف الظاهر فإنه لا يصح، فإذا قصر المعنى عليه مثل ما قال هنا، إنه لو قال: هذا تفسير الآية، فإنه إبطال للظاهر، فهذا الضابط الثالث: أنه لا يقصر المعنى على التفسير الباطن.

قال: (إن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار) والمراد بالاعتبار هنا القياس، أي من باب القياس، قال: (فيجريه في ما لم تنزل فيه؛ لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه)، فلو أخذنا الآن تفسير سهل ، قال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22]: أصناماً، فهو قال: النفس، والأصنام تعبد من دون الله، وكذا النفس تعبد من دون الله. كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]؛ فالجامع بينهما أنه قد يقع عبادتهما من غير الله، فمثل هذا التفسير يقبل.

القضية الثانية التي ذكرها وهي مهمة جداً ويحسن التنبه لها قضية ما ذكر من الآية وإن نزلت في الأصنام؛ فإن لأهل الإسلام فيها نظراً بالنسبة إليهم، فقوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22]، هذه نزلت في سياق الكفار، وقوله: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، هذا يقع من المسلم فقد يقول قائل: إن كلام سهل ليس بصحيح؛ لأن الآية نزلت في سياق الكفار، ومن يتخذ إلهه هواه قد يكون مؤمناً وقد يكون كافراً؛ فليس متمحضاً في أهل الكفر، وبناءً عليه فإن كلام سهل ليس بصحيح، فالمؤلف يقول: لا، بل كلام سهل صحيح، والدليل على ذلك فعل السلف، فإن عندنا آيات تدل على صحة ذلك، مثل ما فعل عمر ، فهناك آيات نزلت في سياق الكفار صريحة جداً ونزلها عمر على واقعه، يعني جعل تطبيقاتها هو نفسه رضي الله عنه، مثل قوله سبحانه وتعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، فقد كان يترك بعض المباح ويقول: أخاف أن أكون ممن أذهب طيباته في حياته الدنيا، وكذلك كان ينهى عن التلذذ بالطيبات ويذكر هذه الآية، قال: وكان هو يعتبر نفسه فيها وإنما أنزل في الكفار؛ لأن الله قال: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ [الأحقاف:20]، يعني الكفر الصريح.

نريد هنا أن نعرف ما هي القاعدة في صحة تنزيل عمر رضي الله عنه الذي بنينا عليه صحة تنزيل سهل بن عبد الله ؛ فنقول: هل يجوز تنزيل كل آية في الكفار على حال المؤمنين؟

الجواب: لا، إذا كنا نقول: من جهة العموم لا يجوز.

يأتي السؤال الثاني: هل وقع من الصحابة أو التابعين تنزيل بعض الآيات التي في الكفار على حال المؤمنين؟

الجواب: وقع، إذاً ما دام وقع فإن ذلك يدل على الجواز، فيجوز أن تنزل بعض الآيات التي في الكفار على أحوال بعض المؤمنين.

نأتي الآن إلى الضابط في صحة تنزيل بعض الآيات التي نزلت على الكفار على حال من أحوال المؤمنين.

فنقول: الضابط أن يصدق المعنى المذكور في حق الكفار على المؤمنين، بطريقة أخرى: إذا كان ليس من خصائص الكفر فإنه يصح تنزيله، والذي يصدق على المؤمنين هذا غالباً يرتبط بأحوال الناس، مثلاً لما تأتي إلى سورة: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، لما قال الله سبحانه وتعالى: كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:17-18]، فهذه الآيات خطاب للكفار.

فالسياق كله في الكفار، لكن لا يعني ذلك أن عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على الطعام مختص بالكفار وأن ذلك من أحوالهم الخاصة، بل قد يقع من بعض المؤمنين، فإذا استدل مستدل بهذه الآيات على هذه الأحوال فيصح ذلك.

فما يأتي شخص ويقول: هذه الآيات في الكفار كيف تنزلها على المؤمنين؟! نقول: لا، هذه الآيات ليست من خصائص الكفار، وإنما الممنوع هو تنزيل الآيات الخاصة بهم فلو نزلناها على المؤمنين كفرناهم وهذا الذي وقع فيه الخوارج، لما قال عنهم عبد الله بن عمر : عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين، يعني: عمدوا إلى آيات خاصة بأهل الكفر ونزلوها على أهل الإيمان فوقع منهم الخلل.

أما تنزيل الأحوال فقد وقع عند أبيه عمر كما هو في هذا المثال، وعند غيره من الصحابة، وكذلك عند التابعين وعند أتباع التابعين، وكذلك عند علماء الأمة بعده، فإذاً يحسن التنبه إلى هذه القضية؛ لأنها مهمة جداً، وهي: أنه لا يصح تنزيل الآيات الخاصة بالكفار إذا كانت في قضايا كفرية محضة، بمعنى: إنه لو قلنا إنها في المؤمن فيساوي كافراً، يعني: خرج من الإيمان، أما إذا كانت تتعلق بالأحوال يعني: أحوال النفس وغيرها فإن هذا يجوز، كما في قوله: كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر:17].

قال رحمه الله: [ فصل:

ومن المنقول عن سهل أيضاً في قوله تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35]؛ قال: لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره، أي: لا تهتم بشيء هو غيري"، قال: "فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه"، قال: "وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظراً إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه فيه؛ إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره، وينصره على عدوه وعليها".

قال: "وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة؛ لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه؛ فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر.. " إلى آخر ما تكلم به.

وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله، وإن كان ذلك منهياً عنه أيضاً، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول، فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره، ولم يرد النهي عن الأكل تصريحاً، فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به.

وأيضاً فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجرداً؛ إذ لا مناسبة فيه تظهر، ولأنه لم يقل به أحد، وإنما النهي عن معنى في القرب، وهو إما التناول والأكل، وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه وذلك مساكنة الهمة فإنه الأصل في تحصيل الأكل، ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي عنه؛ فهذا التفسير له وجه ظاهر، فكأنه يقول: لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله؛ إذ لو انتهى لكان ساكناً لله وحده، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان، وذلك الخلد المدعى؛ أضاف الله إليه لفظ العصيان، ثم تاب عليه إنه هو التواب الرحيم ].

هذا المثال الذي ذكره عن سهل ، كما نلاحظ أن الإمام رحمه الله تعالى اجتهد في تخريج قول سهل بشيء فيه نظر؛ فـسهل رحمه الله تعالى قال: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35]، قال: "لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة.. " فنفى المعنى.

وتفسير السلف والخلف على أنه نهي عن الأكل؛ ولأنه لما وقع الأكل وقعت الإشكالية، أما القرب بالمعاني الأخرى لم يرد، ليس المعنى: وَلا تَقْرَبَا [البقرة:35]: أنه لا يمر من حولها وإنما لا تقربا بالأكل؛ فكلام سهل كما نلاحظ فيه نفي للمعنى الظاهر، وهو المعنى الذي فهمه جمهور السلف والخلف، بل هو الإجماع والذي لا يفهم غيره.

ولو أن سهلاً ما ذكر العبارة الأولى وذكر العبارة الثانية لاحتمل كما احتملت الأولى، لكن لما ذكر الأولى ونفى أن يكون المراد الأكل حقيقة فإنا نقول: إن فهمه هذا ليس بسديد ولا بصواب.

لكن المعنى الآخر الذي أراده هو معنى صحيح من حيث هو؛ لأنه كلام مستقل ما له علاقة بالآية.

يقول: إنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره، يعني كأنه يقول: إن النفس لما مالت إلى هذا، حصل منها الذنب ووقعت في الخطيئة فابتعدت عن الله سبحانه وتعالى.

فهذا المعنى وقع في فعل آدم فالإمام رحمه الله تعالى يريد أن يخرج المسألة على هذا الأسلوب، أن ما حصل من آدم عليه السلام شبيه بما يحصل ممن يكون عنده سكون همته إلى غير الله سبحانه وتعالى، كما سكن آدم إلى هذه الشجرة؛ فوقع منه ما وقع؛ فإذاً هناك جزء من كلام سهل محتمل ومقبول، ولكن الجزء الأول غير مقبول إطلاقاً؛ لأنه نفي للظاهر.

ومن هذا الكلام أيضاً نلاحظ فائدة مهمة، وهي: أننا حينما نأتي إلى ما يسمى بالتفسير الإشاري فيجب أن ينظر إليه بأكثر من نظر، وكله منطلق من المعنى المذكور.

أول نظر: ننظر إليه هل هو معنى صحيح من حيث هو أو هو معنى باطل؟ فإن كان معنى باطلاً فمن بداية الطريق نعلم أنه خطأ؛ لأن القرآن لا يمكن أن يدل على باطل.

النظر الثاني: هذا المعنى إذا كان صحيحاً فهل بينه وبين الآية أي علاقة وارتباط، بأي نوع من أنواع العلاقات، يعني: كان إشارة أو كان تمثيلاً وتشبيهاً.. أياً كان أو لا؟ فإن كان فيه نوع من علاقة وارتباط؛ فهذا هو التفسير الإشاري الصحيح.

فإذا كان الكلام صحيحاً وهو القسم الثاني من النوع الثاني لكن الآية لا تدل عليه بحال، فنقول: إنه كلام حق لكن الآية لا تدل عليه.

فإذاً الإشكال في الرفض وليس في الكلام؛ فصار عندنا ممكن أن نقول: إن التفسير الإشاري على مرتبتين والمرتبة الثانية على نوعين، يمكن نقسمه، إما ثلاثي وإما ثنائي، والثاني أيضاً يقسم إلى ثنائي، يعني يكون كلام باطل والقرآن لا يدل عليه، وهذا يغلب على التفسير الباطني الذي يكون بالرموز، مثل تفسيرات الإسماعيلية وغلاة الصوفية وغلاة الرافضة، فهذا يدخل في هذا الباب، الذي هو النوع الأول؛ لأنه كلام باطل والقرآن لا يمكن أن يحتمله.

النوع الثاني: أن يكون التفسير أو الكلام حقاً؛ فننظر إن كان بينه وبين القرآن نوع من ارتباط ولو كان ضعيفاً فإنا نقول: إن هذا الكلام حق والقرآن دل عليه أو أشار عليه، وهذا هو الغالب على ما يسمى بالتفسير الإشاري، مثل تفسيرات سهل التي ذكرناها وغيرها في كتابه، وكذلك يقع من بعض الوعاظ وأيضاً بعض الفقهاء في الاستنباطات، وكذلك اليوم عندنا بعض التربويين بالذات الذين يحرصون على ربط كثير من القضايا التي يذكرونها بالقرآن، قد يقع منهم أيضاً شيء صحيح في هذا الباب.

النوع الثاني في هذا القسم الذي هو: أن يكون كلاماً صحيحاً، لكن الآية لا تدل عليه، فالكلام من حيث هو صحيح، لكن الآية ما دلت عليه وليس بينهما ارتباط؛ فهذا أيضاً كثير في التفسير الإشاري، ويقع من الوعاظ ومن الصوفية، وكذلك من بعض التربويين، أو من يذهب إلى هدايات الآيات أو من يذهب إلى تدبر القرآن أو يحاول أن يربط أحداث أو واقع أو غيره بالقرآن، فيقع منه أيضاً من هذا الصنف.

قال رحمه الله: [ ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [آل عمران:96].. الآية، قال: "باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم، يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته".

وهذا التفسير يحتاج إلى بيان؛ فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب، ولا يلائمه مساق بحال؛ فكيف هذا؟!

والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن؛ فزال الإشكال إذاً، وبقي النظر في هذه الدعوى، ولا بد إن شاء الله من بيانها ].

وهذا كما نلاحظ أن الإمام رحمه الله تعالى فيما يبدو كان حسن الظن بأهل التصوف، وهذا ظاهر من كتابه هذا وكذلك من كتابه الاعتصام فحسن الظن هذا جعله يعتذر لــسهل ولغير سهل في بعض الأمور، وهذا في الحقيقة مشكل في التقويم، ونحن نعلم أن بعض العلماء رحمهم الله تعالى مهما أوتوا من العقل قد يقع عندهم أحياناً بعض الإشكالات التي تجعلهم لا يصلون إلى الصواب، وإلا في مثل هذه المواطن التي يظهر فيها ظهوراً بيناً خطأ سهل رحمه الله تعالى فما الإشكال في أن يقال: أخطأ سهل وعفا الله عنه؟! وهذا هو الواقع، لكنه رحمه الله تعالى أخذ جانب حسن الظن بهؤلاء فطرده حتى على أقواله.

وهنا يحسن التنبه إلى هذه الإشكالية، وهي إشكالية قديمة، ونحن نعرف ما قيل في ابن عربي بالذات، ومن احتمل قوله وحاول أن يخرجه على معانيه الصحيحة، أو من ذم أقواله، مع أن ظاهر أقواله واضحة أن فيها إشكالات كبيرة جداً جداً، بل بعضها تصل إلى كفريات، مخالفة للقرآن والسنة؛ فنقول: هؤلاء المتصوفة عفا الله عنهم لماذا يذهبون إلى هذا الإلغاز الذي يجعل كلامهم غير محكوم إلا لقوم مخصوصين؟! إن كان مقصدهم حقاً فما الذي يجعلهم يذهبون إلى هذا المذهب؟! إلا أن هناك إشكالاً بالفعل في هذه المذاهب التي يذهبونها؛ فظنه رحمه الله تعالى به كان حسناً؛ ولذا حاول أن يخرج حتى الأقوال التي فيها بعد.

ولننظر فيما ذكره في قوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، هو يقول: باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته، ما العلاقة بين: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ [آل عمران:96] بأي وجه من وجوه العلاقات، هل هناك أي وجه من وجوه العلاقات بين: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [آل عمران:96] وبين هذا الك

وإن كان يريد بقوله: (الله أعلم بمراده) ما هو خارج المعنى وهو مغزى هذه الحروف لأنها جاءت هذه الحروف لمغزى قد تكلم عنه العلماء، فبعضهم قال: الحكمة من إنزالها بهذه الطريقة: التنبيه؛ لأن قريشاً غافلون فنزول هذه الأحرف بهذا الأسلوب كأنها تنبيه وشحن لأذهانهم؛ لكي ينتبهوا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني كأن فيها نوعاً من شد الانتباه للنبي صلى الله عليه وسلم.

وآخرون قالوا: إن الحكمة منها هو الإشارة إلى الإعجاز، وهذا الذي عليه قول المحققين من العلماء من السلف والخلف، ومن أئمة اللغة، وهو القول الأقرب إلى الصواب، وهذا له دلائل أن المراد الإشارة إلى الإعجاز، الذي هو التحدي بالقرآن.

وكأن المعنى: إن هذا القرآن مجموع من هذه الأحرف التي تتكلمون بها، الـم.. المــر.. ومع ذلك فإنكم عاجزون عن الإتيان بمثله، وممن ذهب إلى هذا من العلماء الفراء و قطرب ومنهم كذلك: ابن كثير ونقله عن شيخه ابن تيمية وعن شيخه المزي ، وانتصر له صاحب الكشاف، والشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه في التفسير، واستدلوا بأنه يغلب على هذه الأحرف أن يأتي بعدها شأن يتعلق بالقرآن فكأنها إشارة إلى قضية التحدي والإعجاز، وهنا فائدة مهمة وهي: الحديث عن المغزى لا علاقة له بالحديث عن المعنى، فيجب أن نفرق بين المعنى والمغزى.

فإذاً قول بعض العلماء: الله أعلم بمراده منها، إن كان يريد أعلم بمراده من جهة المعزى فهذا محتمل؛ لأنه في أقوال، وإن كان قول المحققين على أنها إشارة للتحدي والإعجاز، وإن كان يريد (الله أعلم بمراده منها) من جهة المعنى فهذا فيه نظر؛ لأنه ليس لها معان ولا يتركب منها معنى؛ لأنها أحرف.

فهذا باختصار هو القول الذي أرى أنه أصوب الأقوال فيما يتعلق بالأحرف المقطعة.

ونقول: إن أغلب تفسير السلف يدخل في باب التمثيل للفظ العام، فهم مثلوا كما يقول الراغب الأصفهاني وقد أشار إلى ذلك، مثلوا بألفاظ أو بمعان شريفة لما يتركب من هذه الأحرف، وليس مرادهم أن ألف بمعنى: الله فقط، وأن لام بمعنى: جبريل فقط وأن ميم بمعنى: محمد فقط، ليس هذا مرادهم؛ لأنه لا ابن عباس رضي الله عنه ولا غيره يستطيع أن يحدد هذا المعنى، إلا بقول عن معصوم، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه تفسير لهذه الأحرف، والصحابة رضي الله عنه لم يستشكلوا هذه الأحرف، والعرب لم يستشكلوا هذه الأحرف ولا تكلموا فيها، ففهموا على أنها أحرف مثل ما يتكلمون بها، فلا يوجد أي إشكال عندهم، إنما وقع الإشكال عند المتأخرين؛ لأنهم لم ينظروا كيف تكلم السلف في هذا، وهل وقع إشكال عند الذين نزل عليهم الخطاب وكانوا حريصين على إيجاد أي مطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ما وجدنا لهم طعناً؛ فدل على أنه لم تكن مشكلة عندهم إطلاقاً، ولا هي داخلة في المتشابه إطلاقاً.

وهنا قضية مهمة وهي أن بعض العلماء رحمهم الله تعالى يستشهدون لتفسير ابن عباس الذي ذكره الإمام الشاطبي وغيره بهذه الأبيات، الذي مثل قوله: قلت لها: قفي؛ قالت: قاف، مرادها بقاف بمعنى: وقفت، بمعنى أنها الآن أخذت من "وقفت" حرف القاف.

الآن لما قال: قلت لها: قفي؛ قالت: قاف، والفرق بين ما ورد في هذا البيت وأمثاله وبين ما ورد عن السلف في تفسير الأحرف المقطعة أن البيت سياقه يدل على المحذوف، أما في الأحرف المقطعة مهما أعملت الذهن فإن التفسير الذي يذكر إذا كان تفسيراً لا يمكن أن يكون له أي دليل، لا كما قال: لفضي ولا حالي، يعني لا من داخل النص ولا من خارج النص، فلا تجد له تفسيراً ولا تجد له دليلاً يدل عليه؛ ولهذا لو أن إنساناً قال: المــر، على طريقة المذكور أن الألف: الله، لام: جبريل، لو قال: ألف: أحمد، وميم: محمد، ولام مثلاً جاء باسم فيه بداية لام فقال: لبيب، ما الفرق بينه وبين الله وجبريل ومحمد؟ ليس هناك أي فرق، الفرق أن هذا قاله ابن عباس وأن هذا قاله غير ابن عباس ، لكن من ناحية الدلالة العلمية أو العقلية من داخل النص أو خارج النص لا يوجد أي دليل، لا على هذا ولا على هذا؛ مما يجعلنا كما قلت سابقاً أن نفهم أن ابن عباس رضي الله عنه لا يعني أن هذا هو معانيها وإنما مراده هذه الأحرف التي يركب منها الكلام، ثم نأتي بعدها إلى قضية المغزى الذي هو الإعجاز.


استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [7] 4000 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [4] 3341 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [3] 3147 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [12] 2946 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [8] 2912 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [6] 2736 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [11] 2650 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [5] 2172 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [13] 1689 استماع
شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [2] 1668 استماع