شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [15]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب استخدام الحائض.

أخبرنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال: يا عائشة ! ناوليني الثوب، فقالت: إني لا أصلي، قال: إنه ليس في يدك فناولته).

أخبرنا قتيبة بن سعيد عن عبيدة عن الأعمش ح وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الخمرة من المسجد، قالت: إني حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليست حيضتك في يدك).

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد مثله. ].

هذا فيه دليل على طهارة الجنب والحائض، وأن عَرَقَ الجنب والحائض وبدنهما طاهر، وأن النجاسة في الدم فقط، ولهذا لما قال النبي لـعائشة : (ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض، قال: ليست حيضتك في يدك)؛ إنما النجاسة نجاسة الدم، والخمرة: قطعة حصير يصلى عليها تكون على قدر المصلي أو على قدر يديه، وسميت خمرة لأنها تستر الأرض، فإذا كان صغيراً في المصلى بقدر الوجه واليدين سمي خمرةً، وإذا كان أكبر من ذلك يسمى مصلىًّ.

قال: ناوليني الخمرة في المسجد قالت: إني حائض، وهو يدل على أنه لا بأس في مرور الحائض والجنب في المسجد وإنما النهي عن المكث، ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43] يمر مروراً فقط، أما المكث في المسجد فلا يمكث الجنب ولا الحائض، ولهذا قال: ناوليني الخمرة، فدلَّ على المرور (ناوليني الخمرة من المسجد، قالت: إني حائض، قال: ليست حيضتك في يدك) لكن المكث ممنوع منه الجنب والحائض.

قال السندي رحمه الله: قوله: (الخمرة) بضم خاء معجمة وسكون ميم، ما يصلى عليه الرجل من حصير ونحوه، (من المسجد) متعلق بقال، أي: قال وهو في المسجد: ناوليني الخمرة، لأن المناولة كانت من الحجرة كما سبق، كذا يفهم من تقرير القاضي عياض وهذا مبني على اتحاد القضية، وإلا ظهر تعددها، وتعلق من بناوليني، ولما كانت المناولة من المسجد أشد من مناولة من في المسجد من الخارج اعتذرت بالحيض فيها، كما اعتذرت به في المناولة من الخارج فليتأمل.

فالصواب: الكلام الأخير النهي من المكث، لا كما قال القاضي عياض من تقريره وهذا واضح.

فإذا قال قائل: المؤذن يجوز له أن يؤذن وهو جنب ثم يخرج من المسجد؟

فالجواب: هذا قد يقال: إنه مثل المرور، وقد يقال: إنه مكث، لأنه يؤذن خمسة عشر جملة، وقد يقال: إنه يحتاج إلى هذا، وعلى كل حال فالأولى له أن يغتسل، وينبغي له أن لا يتساهل في هذا، وقد يقال: إن الوقت قصير، وهذا يدعو إلى التساهل والتهاون، فقد يتأخر في الاغتسال فتفوته الصلاة!

فإن قيل: هل يجوز للجنب أن يمكث في المسجد؟

فالجواب: هذا ممنوع لا يجوز، فلا بد أن يخرج من المسجد فوراً، قال الله تعالى: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ فالجنب لا يجوز له إلا المرور فقط، كذلك لا يجوز للحائض المكث في المسجد، تمكث في السيارة إذا كانت تسمع ذكراً أو محاضرةً أو تجلس في مكان خلف المسجد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب بسط الحائض الخمرة في المسجد.

أخبرنا محمد بن منصور عن سفيان عن منبوذ عن أمه أن ميمونة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر إحدانا، فيتلو القرآن وهي حائض، وتقوم إحدانا بالخمرة إلى المسجد فتبسطها وهي حائض).

الحديث في سنده منبوذ وأمه، منبوذ قال الحافظ في التقريب: مقبول، وأم منبوذ مقبولة أيضاً، والمقبول إنما يشتد به إذا توبع، والحديث له شاهد عند البخاري مختصر وإلا فالحديث فيه راويان مقبولان إن لم يكن له شاهد، فيكون حسناً لغيره، وتسمية منبوذ جائز، لكن غيره أحسن منه، وفيه أنه لا بأس بوضع الرجل رأسه في حجر امرأته يتلو القرآن وهي حائض.

كذلك وضع الخمرة في المسجد ليس مكثاً، وعندما تأخذها من المسجد أو تبسطها في المسجد وهي خارجة في الحال، فهذا يعتبر مروراً وليس مكثاً، أما المكث فممنوع، لا تمكث الحائض ولا الجنب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب في الذي يقرأ القرآن ورأسه في حجر امرأته وهي حائض:

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر -واللفظ له- أخبرنا سفيان عن منصور عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر إحدانا وهي حائض وهو يتلو القرآن) ].

وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام وحسن معاشرته وملاطفته لأهله عليه السلام، كونه يضع رأسه في حجرها أو يستند إليها، هذا من باب الإيناس وحسن الخلق، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب غسل الحائض رأس زوجها.

أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا سفيان قال: حدثني منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلي رأسه وهو معتكف فأغسله وأنا حائض) .

أخبرنا محمد بن سلمة قال: حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث وذكر آخر عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلي رأسه من المسجد وهو مجاور، فأغسله وأنا حائض) ].

قولها: (مجاور) يعني: معتكف يعني: يذكر رجلاً آخر اسمه عمرو بن الحارث كلاهما عن أبي الأسود .

وفيه دليل على أنه لا بأس بإخراج المعتكف رأسه من المسجد، وأنه لا يعتبر خروجاً من المسجد، ولو حلف أو نذر داخل المسجد ثم أخرج رأسه لا يعتبر خروجاً، لا يخرج حتى يخرج قدمه من المسجد، لكن إذا كانت قدماه داخل المسجد ويخرج رأسه فهذا لا يعتبر خروجاً، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه وهو في المسجد لـعائشة وهي في حجرتها في بيته فتغسله وترجله وتسرح شعره وهي حائض، وهذا يدل على طهارة بدن الحائض ويدها، حيث كان يخرج رأسه من المسجد إلى الحجرة فتغسله وهو في المسجد وهي في الحجرة.

فإن قيل: إذا كانت دورات المياه خارج المسجد هل يبطل الاعتكاف؟

فالجواب: لا، إذا احتاج لقضاء الحاجة يخرج لقضاء الحاجة، فالمعتكف لا بد أن يخرج للوضوء وللغائط وإذا لم يكن له أحد يأتيه بالطعام يخرج، وإن كان أحد يأتيه بالطعام فلا يخرج.

قال: [ أخبرنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض) .

أخبرنا قتيبة بن سعيد عن مالك (ح) وأنبأنا علي بن شعيب قال: حدثنا معنٌ حدثنا مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مثل ذلك ].

ترجيل الرأس: تسريحه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها.

أخبرنا قتيبة حدثنا يزيد - وهو ابن المقدام بن شريح بن هانئ - عن أبيه عن شريح عن عائشة رضي الله عنها: (سألتُها: هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامِثٌ؟ قالت: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني فآكل معه وأنا عارك، وكان يأخذ العرق فيقسم علي فيه فأعترق منه، ثم أضعه فيأخذه فيعترق منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من العرق، ويدعو بالشراب فيقسم عليَّ فيه قبل أن يشرب منه، فآخذه فأشرب منه، ثم أضعُهُ فيأخذه فيشرب منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح) .

هذا الحديث فيه جواز مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها، يعني: بقية الطعام وبقية الماء، وأن الحائض بدنها طاهر وعرقها طاهر.

وقوله: وهي طامث يعني: حائض. والسند لا بأس به على شرط مسلم ، والحديث أخرجه النسائي في الكبرى وابن ماجة وأبو داود ، وفيه: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وإيناسه لأهله. قالت عائشة : (يدعوني فآكل معه وأنا عارك) يعني: حائض. (وكان يأخذ العرق فيقسم عليَّ فيه فأعترق منه) يعني: تنهش وتأكل منه. (ثم أضعه فيأخذه فيعترق منه ويضع فمه حيث وضعت فمي) أي: إذا أكلت اللحم ثم وضعته أخذه ووضع فمه مكان فمها، (ويدعو بالشراب فيقسم عليَّ فيه قبل أن يشرب منه فآخذه فأشرب منه ثم أضعه فيأخذه فيشرب منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح). هذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام وإيناسه لأهله، وفيه دليل على جواز مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها وبقية طعامها وشرابها، وأنها طاهر بدنها وثوبها وعرقها وجسمها.

قال: [ أخبرنا أيوب بن محمد الوزان حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا عبيد الله بن عمرو عن الأعمش عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع فاه على الموضع الذي أشرب منه، فيشرب من فضل سؤري وأنا حائض) ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الانتفاع بفضل الحائض.

أخبرنا محمد بن منصور حدثنا سفيان عن مسعر عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني الإناء فأشرب منه وأنا حائض، ثم أعطيه فيتحرى موضع فمي فيضعه على فيه) .

أخبرنا محمود بن غيلان حدثنا وكيع حدثنا مسعر وسفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كنت أشرب وأنا حائض وأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في فيشرب، وأتعرق العرق وأنا حائض وأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في) .

وهذا دليل على أن جسم الحائض طاهر وبدنها وعرقها والانتفاع بسؤرها وفضلها كل هذا لا بأس به.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب مضاجعة الحائض.

أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد حدثنا هشام (ح) وأخبرنا عبيد الله بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم قالا: حدثنا معاذ بن هشام واللفظ له قال: حدثني أبي عن يحيى حدثنا أبو سلمة أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم سلمة حدثتها قالت: (بينما أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنفستِ؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة).

هذا الحديث فيه بيان جواز مضاجعة الحائض والنوم معها في الثوب الواحد والشعار الواحد، وأن الزوج له أن يراجع امرأته ولو كانت حائضاً، ولو تنام معه في ثوب واحد في الشعار الواحد، والشعار: هو الذي يلي الجسد، وأن يمس جسده جسدها، ولا حرج في جواز مس بشرته بشرة زوجته الحائض وصدره صدرها، وذلك أن بدن الحائض وعرقها ولعابها طاهر، والنجاسة إنما هي نجاسة الدم، وإذا أصاب الزوج شيئاً من الدم فإنه يغسله.

وروي: حِيضتي وحَيْضتي. قال بعضهم: حَيْضَة بالفتح أفصح، والخميلة: القطيفة، وهو ما يلتحف به الإنسان، يشبه البطانية.

قال: [ أخبرنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن جابر بن صبح قال: سمعت خلاساً يحدث عن عائشة قالت: (كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد وأنا طامث أو حائض، فإن أصابه مِنِّي شيء غسل مكانه ولم يعده وصلى فيه، ثم يعود فإن أصابه مِنِّي شيء فعل مثل ذلك ولم يعده وصلى فيه) .

وهذا كما سبق فيه جواز نوم الزوج مع زوجته الحائض والبيتوتة، وأنها تبيت معه في شعار واحد، والشعار: هو الثوب الذي يلي الجسد، وأنه لا يجعل بينه وبينها حائل، ولهذا قالت عائشة: (كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد وأنا طامث أو حائض - والطامث هي الحائض - فإن أصابه مني شيء - يعني شيئاً من الدم - غسل مكانه ولم يعده) يعني: لا يزيد على المكان الذي أصابه الدم.

قالت: (ثم يعود فإن أصابه شيء فعل مثل ذلك ولم يعده وصلى فيه) وهذا فيه تيسيره عليه الصلاة والسلام، وعدم التشديد في الأمر، فالمرأة الحائض طاهر بدنها وعرقها ولعابها، ولها أن تتولى جميع الأعمال تأكل وتشرب وتطبخ وتعجن وتخبز، وتعمل جميع الأعمال، كما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعرق العرق وتتعرق عائشة منه فيضع فمه مكان فمها، وإذا شربت كذلك شرب من الموضع الذي شربت فيه، وهذا فيه حسن خلقه عليه الصلاة والسلام وإيناسه لأهله.

وفيه دليل على التيسير في الأمر، وكان اليهود يشددون في الأمر، فكان اليهود إذا حاضت المرأة سجنوها ولم يجامعوها في البيوت، يجعلونها في غرفة مستقلة ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يضاجعوها، وهذا تشديد، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب مباشرة الحائض.

أخبرنا قتيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن عائشة قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر إحدانا إذا كانت حائضاً أن تشد إزارها ثم يباشرها) .

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أنبانا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : (كانت إحدانا إذا حاضت أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزر ثم يباشرها) .

أخبرنا الحارث بن مسكين قراءةً عليه وأنا أسمع عن ابن وهب عن يونس والليث عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة عن بدية -وكان الليث يقول: ندبة - مولاة ميمونة عن ميمونة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين والركبتين - في حديث الليث - محتجزةً به) ].

هذه الأحاديث فيها جواز مباشرة الزوج لزوجته الحائض، وأنه يأمرها أن تضع إزاراً فيما بين السرة والركبة، وهذا هو الأفضل ليكون ذلك أحوط وأبعد عن الخطر، ولكن لو باشرها بدون إزار فلا حرج بشرط أن يجتنب الجماع، ولهذا في حديث ميمونة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين والركبتين) ففيه أنها تتزر أحياناً، ويكون الإزار إلى أنصاف الفخذين، وأحياناً يكون إلى الركبتين، فالإزار أحياناً يبلغ أنصاف الفخذين وأحياناً يبلغ الركبتين، ولو باشرها بدون إزار فلا حرج لحديث أنس الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) يعني: إلا الجماع ، لكن الأفضل أن يأمرها أن تتزر كما في الحديث، تضع إزاراً بين السرة والركبة، ويباشرها من وراء الإزار، هذا أحوط حتى لا يؤدي به ذلك إلى الجماع، ولو باشرها مع الحذر من الجماع فلا حرج لحديث أنس : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح).

وفيه دليل على جواز مباشرة الحائض ولو بدون إزارٍ جمعاً بين الحديثين، لكن الأحوط والأفضل أن يباشرها وهي متزرة، هذا هو الأفضل، ويكون الإزار فيما بين السرة والركبة، فيكون أمره صلى الله عليه وسلم أن تتزر هذا من باب الأفضل والأحوط، وقوله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فيه الدلالة على الجواز.

وفيه أن الإزار قد يكون أحياناً إلى نصف الفخذين لكن الأفضل أن يكون إلى الركبتين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب تأويل قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] .

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: (كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يشاربوهن ولم يجامعوهن في البيوت، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] الآية. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويجامعوهن في البيوت، وأن يصنعوا بهن كل شيء ما خلا الجماع).

وهذا يؤيد حديث أنس : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح), والمحيض مصدر منه بمعنى الحيض.

وهذا الحديث سنده صحيح وهو على شرط مسلم ، ورواه مسلم في صحيحه بمعناه: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، وهو دليل على أن الحائض تؤاكل ويشرب معها، ويجلس معها، وتخبز وتعجن وتخدم، ويباشرها زوجها وينام معها في الفراش وفي لحاف واحد ويصنع كل شيء إلا الجماع، فإنه ممنوع.

وفيه دليل على تشديد اليهود؛ فإن اليهود يشددون، فكان الواحد منهم إذا حاضت المرأة اعتزلوها وجعلوها في غرفة مستقلة، ولا يأكلون معها، ولا يجلسون معها، ولا يمسون الشيء الذي تمسه.

ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود يشددون. جاء في صحيح مسلم زيادة: أن أسيد بن حضير وأحد الصحابة قالا: (يا رسول الله! أفلا نجامعهن؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظنوا أنه غضب عليهما فلما ذهب جاءه لبن فدعاهما فسقاهما) فعلموا أنه لم يغضب عليهما.

والمقصود: أن المرأة الحائض يجوز لزوجها أن يضاجعها ويباشرها، ولها أن تخدم زوجها، ولها أن تطبخ وتؤاكل وتشارب وتجالس ويراجعها زوجها، لأن بدنها ولعابها وثيابها كلها طاهرة ما عدا ما أصابه الدم. فإنه نجس، فإذا أصابه شيء من الدم غسله، ولا يؤثر ويصلي في الثوب الذي أصابه.

ولكن الحمد لله الآن الحفائظ موجودة ومتيسرة، في الأول ما كان هناك حفائظ، أما الآن فهناك أسباب تجعل المرأة نظيفة، فتحفظ بالحفائظ المعروفة ولا يخرج شيء من الدم.

وقال ابن سعد في يونس بن يزيد : كان حلو الحديث كثيرة وليس بحجة، وربما جاء بالشيء المنكر. وقال ابن حجر في التقريب: ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً وفي غير الزهري خطأ.

لكنه مقرون مع الليث فيزول المحذور والوهن، والنسائي رحمه الله له العناية بالرجال، والغالب أن مشايخ الزهري ومشايخ النسائي ثقات، وأقلهم أنه يكون صدوقاً؛ ولذلك بعضهم قدم النسائي وجعله بعد الصحيحين بسبب عنايته بالأسانيد، وقد جمع بين طريقة البخاري وطريقة مسلم رحمهما الله، ففي التبويب على طريقة البخاري، وفي سياق الأسانيد على طريقة مسلم ،جمع بين الطريقتين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضتها بعد علمه بنهي الله عز وجل عن وطئها.

أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في الرجل يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار).

وهذا الحديث أخرجه الخمسة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد ، وهو من أحاديث البلوغ، وصححه الحاكم وابن القطان كما قال الحافظ ، ورجح غيرهما وقفه، لكن من وصل ورفع مقدم على من قطع ووقف، لأن معه زيادة علم خفيت على غيره.

وهذا الحديث اختلف العلماء في صحته، والصواب: أنه صحيح، وهو ظاهر ترجمة النسائي رحمه الله؛ لأنه احتج به وترجم بهذه الترجمة، باب: ما يجب على من أتى حليلته يعني: زوجته. في حال حيضتها بعد علمه بنهي الله عز وجل عن وطئها، والحديث يدل على أنه يجب عليه أن يتصدق بدينار أو بنصف دينار، وبعضهم قال: التخيير بالدينار ونصف الدينار له نظائر كالتخيير في كفارة اليمين، فكفارة اليمين يخير بين العتق والإطعام والكسوة ، وكذلك التخيير فيمن حلق رأسه وهو محرم، يخير بين الصيام والصدقة والنسك، قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] .

وذكر ابن القيم رحمه الله هذا الحديث في إعلام الموقعين وأطال الكلام عليه وقال: إنه موافق لما استقر في الشريعة بأن من فعل محرماً مؤقتاً فعليه الكفارة، فمن جامع في نهار رمضان أو فعل محظوراً من محظورات الإحرام فعليه كفارة، بخلاف من فعل محرماً مؤبداً كالزنا فليس عليه كفارة بل عليه التوبة وإقامة الحد.

وعلى هذا فيكون الحديث دليلاً على أن من جامع زوجته في حال الإحرام بعد العلم كما قيد النسائي فإن عليه الكفارة مع التوبة، والكفارة يخير فيها بين الدينار ونصف الدينار، كما في هذا الحديث قال: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار), والدينار: مثقال من الذهب, وهو أربعة أسهم من سبعة من الجنيه السعودي، ونصف الدينار سهمان من سبعة أسهم من الجنيه السعودي، فإذا كان الجنيه السعودي سبعين ريالاً فالدينار أربعون ريالاً، ونصف الدينار عشرون، وإذا كان الجنية مثلاً: سبعمائة نقول: عليه أربعمائة، يتصدق بأربعمائة أو بمائتين، والجنيه السعودي ديناران إلا ربع دينار، والدينار مثقال، والجنيه مثقالان إلا ربع مثقال.

فالمقصود أنها أربعة أسهم من سبعة أسهم من قيمة الجنيه السعودي، هذا الدينار، ونصف الدينار سهمان, تقسم الجنيه على سبعة، ويكون الدينار أربعة أسهم، ونصف الدينار سهمان.

والصواب: أن الحديث ثابت ولا بأس بسنده، وابن القيم رحمه الله أطال الكلام على الحديث وبين أنه موافق لما استقر في الشريعة.

وبعض العلماء طعن فيه ولم يصححه، وقال: إنه وقفه بعض العلماء ولم يصله، وبعضهم وقفه ولم يرفعه، كذلك أيضاً طعن في التخيير بين الدينار ونصف الدينار ولكن هذا لا أصل له، والصواب: أنه لا بأس بسنده، وأن على من جامع الكفارة مع التوبة، يكفر بدينار أو نصف دينار، بأربعة أسهم من قيمة الجنية أو بسهمين، يخير، وبعض العلماء فرق وقال: إذا كانت في فور حيضتها دينار، وإذا كانت في آخر الدم نصف دينار لكن لا وجه له، فالصواب: أن الحكم واحد.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [20] 2943 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [4] 2577 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [18] 2409 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [22] 2214 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [9] 2204 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [11] 1930 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [10] 1929 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [21] 1909 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [7] 1838 استماع
شرح سنن النسائي كتاب الطهارة [2] 1795 استماع