شرح العقيدة التدمرية [23]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده.

فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمر ثانياً باستقبال الكعبة، كان كل من الفعلين حين أمر به داخلاً في دين الإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجهة المصلِّي، فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك، فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدِّين واحداً، كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد ].

قال رحمه الله تعالى: [ والله تعالى جعل من دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه).

وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] ].

قال رحمه الله تعالى: [ وجعل الإيمان بهم متلازماً، وكفَّر من قال: إنه آمن ببعض وكفر ببعض، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151]، وقال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]، وقد قال لنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:136-137]، فأمرنا أن نقول: آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، بل يكون كافراً، وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن ].

هذه القاعدة قاعدة في كل أصول الدين وثوابته وقطعياته، فهي قاعدة في أركان الإيمان وأركان الإسلام، وفي أصول الغيبيات الأخرى، وفي الأحكام القطعية، أعني: أن قاعدة التسليم لابد أن تكون مطردة، وأن من اختل تسليمه في مسألة من المسائل التي تطرد في قاعدة واحدة فقد هدم دينه، فمثلاً: أول أركان الإيمان: الإيمان بالله عز وجل، فمن أنكر اسماً من أسماء الله، أو صفة من صفاته لا على سبيل التأويل، فإنه بذلك يكون قد وقع في الكفر، وهكذا فيما يتعلق بالإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل.

وكما قرر الشيخ أن من أنكر رسالة رسول أو نبوة نبي واحد فقد كفر كفراً مطلقاً مخرجاً من الملة، وكأنه كفر بالجميع، لأن تكذيب واحد منهم يعتبر تكذيباً للكل، ثم كذلك بقية أركان الإيمان بالرسل، أو الإيمان باليوم الآخر، فمن أنكر شيئاً من ثوابت اليوم الآخر، حتى وإن كان جزئياً، فكأنه ما آمن باليوم الآخر، بل انتقض إيمانه بالدين كله، وكذلك الثوابت العملية الأخرى، فلو أن أحداً ادعى أنه يسعه أن ينكر ركناً من أركان الإسلام أو يؤوله، وهذه فتنة موجودة، ولا تظنونها مجرد افتراضات، فهي فتنة موجودة عند غلاة الفرق إلى يومنا هذا، فتجد من يدعي أن أركان الإسلام مجرد أمور قلبية، فالصلاة صلة الإنسان بربه، والزكاة أن يكون الإنسان عنده أخلاق عالية، والصيام الكف عن الآثام والأخلاق الرذيلة، وأعرف من المذاهب الحديثة في هذا العدد الكبير، وهي قائمة الآن على فئام من الناس ممن ينتسبون إلى الإسلام، فينكرون قواطع الدين من أركان الإسلام فضلاً عن أركان الإيمان؛ لأن عندهم شكوكاً أيضاً في أركان الإيمان، وعلى سبيل المثال: توجد طائفة خرجت قبل أكثر من عشرين سنة تزعمها رجل يقال له: محمود طه ، وهو سوداني الأصل، فقد أول أركان الإسلام، وادعى أن الإسلام إسلامان: إسلام جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إسلام البادية والأرياف، وهذا قد انتهى، وإسلام جديد، وهو إسلامه الذي يدعيه، فقد ألغى أركان الإسلام، وألغى اعتبارها وأولها بهذه التأويلات، وقد أقيمت عليه الحجة واستتيب ولم يتب، فقتل نسأل الله العافية، وأمثال هذا كثير من الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وليس هذا خاصاً بالأنبياء، بل كل ثوابت الدين، كإنكار الشفاعة، وإنكار الرؤية، وإنكار أشراط الساعة، بل أحياناً قد يقع اللبس عند بعض الذين ينتسبون للعلم، فمثلاً: ممن فتن بمثل هذه الفتنة، وممن ينتسبون للعلم، أن رجلاً أنكر أن يكون هناك شيء اسمه المهدي ، بدعوى أن المهدي أصبح خرافة، وأصبح كل من عنده غلو أو عنده نوع من الانحراف والبدعة تعلق بمهدي ما، فهذا أنكر قطعيات الدين، وإنكاره يعود إلى إنكار الرسالة؛ لأنه من الذي أخبر بالأخبار الصحاح عن وجود المهدي؟ أليس النبي عليه الصلاة والسلام؟ بلى، بصرف النظر عن خرافات الرافضة والفرق، فنحن لا نعني بـالمهدي الخرافة التي يعتقد بها الخرافيون، وإنما نعني بـالمهدي الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصفات الصحيحة الثابتة، فمن أنكره فقد أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وهذا أيضاً يعود على إنكار النبوة.

وأعود فأقول: إنني كنت ممن عاصر فتنة محمود طه ، فقد زرت السودان في ذاك الوقت، فوجدت أن أغلب الذين اغتروا به من المثقفين من طلاب الجامعات، والعامة كان عندهم نفور من ذلك، ومع ذلك حصل إحصاء -لا أدري مدى حقيقته- لأتباعه، فقد وصلوا إلى أكثر من مليون، فكانت في الحقيقة فتنة، وأنا قد وجدت نماذج من أتباعه ممن فتن به، فوجدت نماذج من أتباعه يوزعون الكتب، والعجب أن هؤلاء مثقفون، ولذا فإن الخطر على المثقفين أكثر من الخطر على العامة، وأكثر من يجازف في الدين الآن، أو يستجيب للدعوات الضالة هم من المثقفين أكثر من العوام، والعامة على الفطرة يتبعون علماءهم، والمثقف إذا ما عصمه الله بعقيدة سليمة وتوفيق منه فإنه ينحرف بسبب غروره، والغرور مهلكة، فإذا كان الغرور يهلك بعض طلاب العلم الذين يقرءون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن دونهم؟!

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، قالت اليهود والنصارى: فنحن مسلمون، فأنزل الله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] فقالوا: لا نحج، فقال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ].

من أهم الفوارق بين أركان الإيمان وأركان الإسلام الأربعة الأخيرة: أن أركان الإيمان لا يعذر بها أحد، إذ ليست داخلة في الاستطاعة من حيث إجمالياتها، أما من حيث تفاصيلها فنعم، فهي أمر قلبي لا يعذر به عاقل، لكن يبقى مدى اليقين بها، فهذه أمور تتفاوت بين إنسان وآخر.

أما أركان الإسلام فهي بحسب الاستطاعة، حتى الشهادتين قد يكون الإنسان لا ينطق بالشهادتين، فهو مسلم بالحال، أيضاً قد لا يستطيع أن يصلي، فيجب عليه أن يصلي إلى أدنى حد يومئ به، أو قد لا يكون عنده مال يزكي، فلا شيء عليه، وإنما المقصود إقراره بهذا الركن، إذ إنه لو تمكن لفعل، وكذلك الصيام، والحج، ولذلك الذين يكفرون بترك الحج مطلقاً يخطئون، حتى الذي يستطيع الحج وهو يسوف، وهو بنية أن يحج، ولم ينكر ركن الحج، فمن الصعب أن نقول: إنه ارتد عن الإسلام، فهو إنسان قد توافرت عنده الوسيلة والاستطاعة، لكنه ما حج تساهلاً أو تسويفاً، ففي هذا العام لم يستطع أن يحج، أو لم يرغب في الحج، ثم حج في العام القادم، فالراجح والذي تقتضيه النصوص الكثيرة أنه لا يقال بكفره ما دام مقراً بالحج بقلبه، وناوياً أن يحج وإن سوف.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبياً؛ فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ].

هذا التفصيل مهم جداً؛ لأنه الآن قد بدأت تظهر فتنة ظهرت قديماً على ألسنة غلاة المتصوفة وغلاة المتكلمين، وبعض المتحذلقين ورءوس بعض المعتزلة والجهمية، وبعض العباد الجهلة الذين بذروا بذور التصوف، وهي دعوى: أن الإسلام هو اتباع أي نبي، بل قالوا: أي شرع مستقيم أو قويم، حتى إن بعضهم لا يربطه بالأنبياء، فيرى أن المجوس جملة المسلمين، مع أنهم لا ينتسبون إلى نبي، وكذلك الصابئة، وإن كانوا يدعون أنهم ينتسبون إلى يحيى بن زكريا ، وقد يستدلون بمثل النصوص العامة في الإسلام العام، وهذا خطأ، بل هو ضلال مبين، فالإسلام كما ذكر الشيخ إن قصد به الإشارة إلى دين الأنبياء فهو ما جاءوا به كلهم، وخاصة ما يتعلق بالعقائد، وفي عهد كل نبي الإسلام هو دينه الذي جاء به شريعة وعقيدة، حتى وإن وجد في وقت واحد أكثر من نبي، فكل منهم جاء بالإسلام في محيط ما بعث به وشرع له، ثم بعد ذلك بعدما ختمت النبوات والشرائع بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن ينصرف الإسلام لأول وهلة إلى هذا الدين جملة وتفصيلاً، هذا الدين بأصوله وفروعه، ولا يجوز التمويه أو استعمال هذا المصطلح على غير سياق بين، لكن مع ذلك إذا أردنا أن نخصص معنى الإسلام بالعقيدة فإنا نقول: كل الأنبياء جاءوا بالإسلام، فهم لا يختلفون في العقيدة، ولا في الثوابت العامة للدين، حتى قطعيات النصوص وقطعيات الأحكام يتفق فيها الأنبياء، وعلى هذا إذا جاء السياق في بيان ما بعث به عموم الأنبياء فنقول: بعثوا بالإسلام، وخاصة جانب الاعتقاد، لكن هذا لا يأتي إلا لمناسبة، ولا يعبر به التعبير المطلق عن الإسلام، ومتى ما جاءت كلمة (الإسلام) فإنه لابد أن يقصد بها لأول وهلة هذا الدين، أما إذا جاءت في السياق تدل على أن المقصود ما جاء به الأنبياء فهي بحسب السياق.

إذاً: الأنبياء اتفقوا في أصول الاعتقاد وأصول الدين وقطعياته إلى قيام الساعة، واختلفت شرائعهم، وكل شريعة في وقتها إسلام، ثم ختمت هذه الشرائع بهذه الشريعة، فصار الإسلام على هذا المعنى هو هذا الدين، والشرائع الأخرى حرفت وبدلت ونسخت، فلم تعد تدخل في مسمى الإسلام.

بيان معنى (الزيادة) في مجازاة المؤمنين ومجازاة المنافقين

السؤال: قلت في كلامك: إن الله عز وجل يجازي عباده الصالحين بالخير وزيادة، ويجازي المنافقين بما يستحقون وزيادة، فماذا تقصد بذلك؟

الجواب: هذه العبارة قد لا تكون دقيقة، لكن الزيادة هنا هي بالمعنى المعهود، أقصد أن الله عز وجل يجازيهم على أعمالهم، وأعمالهم متعددة وليست قاصرة على مجرد الذنب؛ لأنهم خادعوا الله وخادعوا المؤمنين، وخدعوا أنفسهم، وكلمة (زيادة) ينبغي أن يفصل فيها أو أن تحذف.

حكم التمسح بأحجار الكعبة والحجر الأسود

السؤال: رجل رأى آخر بجوار الكعبة المشرفة ويتمسح بالحجر، فأراد أن ينكر عليه، فقال: هذا الحجر لا يضر ولا ينفع، فقام يضرب الحجر بيده عدة مرات عديدة، فهل فعله صحيح؟

الجواب: مسألة مسح جدران الكعبة على سبيل التعبد لا تجوز إطلاقاً، إلا مس الحجر أو الركن اليماني، وكذلك على سبيل التبرك فلا شك أنه لا أصل له، لكن ليست كمسح غيرها من الأحجار، لاسيما إذا كان المسح على سبيل الالتزام، والمهم أنه منكر، لكن ليس كمنكرات الأحجار الأخرى.

وأما ضربه للحجر يريد بذلك إقناع الآخر، فالذي يظهر أن هذا غير مناسب؛ لأن الذي تمسح بالحجر من باب التبرك ما قصد به ما يقصد عند الأصنام والأوثان التي يزعم أصحابها هذه المزاعم الكبرى، وإنما يقصد البركة المتعدية، وهذا المثال غير مناسب، وأظن أنه لا يليق بهذا المقام، بل ينبغي إقناعه بأن هذا لا أصل له، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بدعة، وضرب الحجر قد يلتبس الأمر على ذلك الشخص، لأنه قال: إنه لا يزعم أو يدعي أنه يتكلم أو ينطق أو يصيح حتى تبرهن له أن الحجر لا يتكلم، وإنما هو يزعم أن هناك بركة متعدية، فأحسن شيء أن يقال له: إن هذا لا أصل له، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجب.

الفرق بين الدعاء للنفس والدعاء للغير وحقيقة الاستثناء بالمشيئة والدعاء للمريض

السؤال: من الدعاء أن يقال للمريض: لا بأس طهور إن شاء الله، لكن من السنة إذا دعا أحدنا فليعزم المسألة، فكيف ذلك؟

الجواب: الدعاء للغير ليس كالدعاء للنفس، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن هذا قصد به التفاؤل ولم يقصد به ربط أو استثناء بالمشيئة، فهو ذكر (إن شاء الله) على سبيل التفاؤل، ولا حرج فيه.

خطأ من يزعم أن كل العلم منبثق من الكتاب والسنة كالفيزياء والكيمياء وغيرهما

السؤال: هل كل العلم منبثق من الكتاب والسنة حتى العلوم الفيزيائية والكيميائية .. وغيرها من العلوم الطبيعية؟

الجواب: لا يوجد أحد قال بهذا، لكن توجد للعلوم أصول أو إشارات في القرآن الكريم، أما أن ينبثق العلم التجريبي من القرآن فبالضرورة لا، والمقصود بالعلم: العلم الشرعي، العلم الذي يتعلق بالأوامر والنواهي الشرعية، سواء في الاعتقاد أو في القول أو في العمل أو في الأحكام، وهذا هو العلم المستمد من الكتاب والسنة.

والعلوم الطبيعية التجريبية تستمد من مصادرها، ولتعلمها ضوابط موجودة في القرآن والسنة، منها: أن يقصد بها المرء المصلحة لا الفساد، وأن يحتسب بها خدمة الدين، وأن ينوي بها وجه الله عز وجل.

إذاً: هذه العلوم لابد أن تكون مشروطة بجلب المصالح ودرء المفاسد، وهذه تترك للتقعيد، ولذلك الكتاب والسنة يدخلان في تأصيل كل علم من حيث الأصول العقدية والأخلاقية، وأصول المصالح والمفاسد، لا من حيث كونه كله علماً مادياً له مصادره، وهذا مما ينادي به كثير من طلاب العلم اليوم، وهو أنه كما أننا نقول: إن العلوم الأخرى، سواء إنسانية أو تجريبية .. أو غيرها لها مصادرها، ولا مشاحة فيها في الاصطلاحات، إلا أنهم ينادون بأن تضبط بالضوابط الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة، من حيث أهدافها وغاياتها وأخلاقياتها.

دحض شبهة من يقول: ليس من العدل مجازاة الخلق على ما قدره الله لهم من عمل السيئات

السؤال: لا شك أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله، خيرها وشرها، ولكن لقائل أن يقول: كيف يستقيم هذا على القول: بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم، وهو خالقها فيهم! فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله؟!

الجواب: هذا نوع من الوسواس على مستوى عال عند كثير من الفلاسفة والأذكياء والمفكرين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يذعنوا لله عز وجل، مع أنه قد يخطر هذا الخاطر حتى على عامة الناس، لكن يبقى ضرباً من الوسواس، وسأتكلم بعد نهاية السؤال عن القواعد في هذا.

قال: فإن كان الجواب: بأن الله علم ما الخلق عاملون، وقدر ذلك عليهم، كان السؤال: من الذي جعلهم يختارون ذلك فعلمه الله، وإن كان الجواب: بأن الله جل وعلا هو الذي جعلهم يختارون ذلك عاد السؤال الأول، وعند ذلك كيف يستقيم؟

هذه هي الوسوسة لاسيما وظهور الدور فيها -الأوهام فيها دور-، أما أصل القضية فليس فيها دور، فهي واضحة؛ لأنها مبنية على أهمية تركيب قواعد التسليم لله عز وجل، وقواعد القدر.

وهذا النوع من الخواطر يأتي على ضربين:

الضرب الأول: نوع عارض، وذلك كالذي يجده كثير من الصالحين، بل كثير من الناس، بل ربما كل المسلمين، لكنه يزول أمام قوة التسليم والثوابت التي في القلب، فالمسلم أصلاً قد بنى دينه على ثوابت، هذه الثوابت إذا استقرت في القلب وأذعن لها العقل واستجابت لها العواطف والأحاسيس، فإنها لا يضرها الشيء العارض، فتصطدم هذه الوساوس العارضة بهذه الثوابت فتزول بإذن الله.

الضرب الثاني: التشكيك الذي ينبني على شبهات ناتجة عن عوامل كثيرة، منها: التفريط في تحصيل العلم الشرعي، والغرور، والجهل، وضعف الإيمان، والأهواء التي تستحكم على المرء، والمذاهب والاتجاهات، والجهل بالعقيدة السليمة، أعني: عقيدة السلف .. إلى آخر ذلك من العوامل التي قد تجتمع عند كثير من أصحاب الأفكار الضالة، من القدرية ومن سلك سبيلهم، إذ إن القدرية ليست محصورة بفرقة معينة، بل هي نزعة الاعتراض، وأهمها هذا الاعتراض الذي هو مرض وسوس به القدرية الأولى والقدرية الثانية، وجميع من تكلموا في هذا، من جماعات أو أفراد، سواء قدرية فرقة أو النزعة القدرية عند الأفراد؛ ولذا فأقول: إن هذا الأمر يمكن الجواب عليه باختصار على النحو التالي:

أولاً: أننا نعلم أن الله عز وجل قدر الخير والشر ابتلاء وفتنة للعباد، فالله عز وجل يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، والابتلاء له غاية كبرى وحكمة عظيمة.

ثانياً: لا بد أن نعود إلى ركن الإيمان، وهو أن تؤمن بالقدر، والقدر هو تقدير الله مشيئة وفعلاً، إرادة وخلقاً، فالله خالق كل شيء، وهو قدر كل شيء، فإذا كان الأمر كذلك فمعنى الإيمان بالقدر أن تؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه من الله عز وجل جاء على جهة الحكمة، ثم إن الله عز وجل بنى أصول القدر على المراتب الأربع:

العلم بأن الله عالم بكل شيء، علم ما كان، وما سيكون، وما هو كائن، وكيف يكون، وعلى أي وجه يكون.

ثم الكتابة، أي: أن الله كتب مقادير كل شيء، الخير والشر، بما فيها مقادير العباد وأفعال العباد الإرادية واللاإرادية.

ثم المشيئة، ومعناها: أن الله شاء كل المقادير بمشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون إلا ما يشاؤه الله من الخير والشر بما فيه أفعال العباد، وبما فيه أفعال الشرك والظلم، وكل الأفعال التي تصدر عن المكلفين، فهي بمشيئة الله.

ثم إن الله خالق كل شيء، قدر الشر على العباد وابتلاهم به.

وهذه مسألة لها باب آخر، وهي تنبني على الثقة بالله عز وجل، والثقة بعلمه وحكمته وعدله، وبأن الله بكل شيء عليم، وأنه عز وجل فعال لما يريد، وأنه حكيم فيما قدر وفعل، وأنه سبحانه العليم الخبير، وأنه لا يفعل شيئاً إلا لحكمة وبكمال عدله، فإذا رسخت هذه المعاني في القلب اصطدمت بها الشكوك فلم تؤثر فيها.

ثم يبقى الجانب الثالث أضيق، وهو مسألة تقدير الخير والشر والابتلاء به، وكيف أن الله عز وجل قدر الشر وخلقه وابتلى به ثم يعاقب عليه؟

قال عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، فالله عز وجل قد ميز لهذا الإنسان بين الهدى والضلال، وبين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وبين الخير والشر من جميع الجوانب، ثم لما ميز بين هذا وذاك، ابتلى به على نحو إذا تصوره المسلم لم يعد عنده أي إشكال في كمال عدل الله، وذلك أن الله عز وجل قدر الخير وشرعه، أي: أن الشرائع قد تضمنت الأمر بفعله، وأنزل الكتب، وبعث الأنبياء يبينون طريق الخير للناس، ثم إنه أمرهم به وأقدرهم عليه، بل وسهله لهم، ووعدهم عليه بالوعد الحسن في الدنيا والآخرة.

كما أنه قدر الشر وحذر منه على ألسنة الرسل وفي الشرائع، ونفر منه العقول السليمة والفطر المستقيمة التي لم تنطمس بعد، فهو سبحانه قدر الشر، لكنه بعث المرسلين وشرع الشرائع في التحذير منه، وبيان طريقه والتحذير من سلوكه والوعيد عليه، وأقدر العباد عليه، قال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وقال: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، فحينما ينظر الإنسان إلى أفعاله وأفعال غيره من المكلفين، فيجد أنه حين يفعل الخير، أو يفعل غيره الخير، يجد أن الله عز وجل قد هيأه له وأقدره عليه، وحين يفعل الشر، أو يفعل غيره الشر، يجد أنه قد أقدم عليه باختياره، وأنه قد أقدم على ما حذره الله منه.

ونقول: إن الله قدر الشر، ثم حينما قدره على العباد وأقدرهم عليه يعذبهم به، وهذا مبني على علم الله السابق بما سيفعلونه، وليس مبنياً على التحكم؛ لأن الله عز وجل قدر في سابق علمه أن هذا العاصي سيعمل المعصية، فكان التقدير على سابق علم الله عز وجل أن هذا المشرك سيشرك بعد التحذير من شركه، وقدر الله عليه ذلك لسابق علمه أنه سيفعل.

إذاً: الإنسان مجبور ومخير، والتخيير لا يخرج عن إرادة الله، وكون الله عز وجل قدر الشر وابتلى به لسابق علمه سبحانه أن الأشرار سيفعلون الشر، فكان تقديره على سابق علمه بماذا سيفعلون، ومع ذلك فالأمر كله لله من قبل ومن بعد، فهو يفعل في خلقه ما يشاء، ومن يتصرف في ملكه لا يجوز لأحد أن يعترض عليه، وأفعال الله عز وجل في ملكه هي أفعال في منتهى الحكمة والعدل، وغاية من الرحمة؛ لأن رحمة الله سبقت عذابه، وعلى هذا أقول: إن المسلم إذا امتلأ قلبه بالتسليم والإذعان، والإيمان بأن الله عز وجل كامل في ذاته وأسمائه وأفعاله، وأنه لا يتطرق إليه النقص بحال، وأنه سبحانه له العدل الكامل، وأنه لا يظلم، وأنه أقام الحجة على العباد، واستقر القلب على هذا النوع من التسليم، لم يعد للشبهة فيه أثر.

وأما الشبهة العارضة فهذه من باب الوساوس التي لا تستقر إذا سلم الإنسان من أن تكون له اعتقاداً، وأقول: الشبهة العارضة قد لا يسلم منها أحد، لكن المشكلة إذا استقرت في القلب.

نعود أيضاً مرة أخرى فنقول: الأمر كله لله، ويستحيل أن يكون ذلك ظلماً من الله؛ لأنه قد بين للعباد، وأقام عليهم الحجة، وأقدرهم على الأفعال، وأعطاهم الاختيار والتمييز، وأعطاهم العقول، ومع العقول بين لهم الشرائع، وبين لهم طريق الخير وأمرهم به، وطريق الشر ونهاهم عنه، ووعد على ذاك وتوعد على هذا، فصار الأمر بيناً لا لبس فيه، ومن لم تبلغه الرسالة فإنه يمتحن يوم القيامة، ومن فقد عقله فإن الله لا يكلفه، ومن فقد الاستطاعة فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهذا دليل على كمال العدل سبحانه، والله أعلم.