شرح العقيدة التدمرية [22]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل:

وأما الأصل الثاني، وهو التوحيد في العبادات، المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعاً ].

هذا هو الأصل الثاني في تقسيم الدين أو التوحيد، والتوحيد يشمل الدين كله، وينقسم إلى أصلين: الأصل الأول: التوحيد المتعلق بالله عز وجل، أي: الخبر عن الله المتعلق بذاته وأسمائه وصفاته وقواعد ذلك، وقد تكلم فيه المصنف عما يجب لله عز وجل من الكمال في أسمائه وصفاته وأفعاله، وقعد ذلك، ورد على المخالفين، وأجاب على شبههم بشيء من التفصيل، ثم انتقل إلى الأصل الثاني على منهج أهل الحق، أعني: منهج الأنبياء والصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، وهو أنه لا بد من اكتمال الأصلين، فينبني على الأول الأصل الثاني بالضرورة؛ لأنه ما دام أننا قد عرفنا كمال الله عز وجل سبحانه، وما يجب أن نعظمه به من الأسماء والصفات والأفعال، فلا يعني ذلك أننا نقف عند هذا التعظيم، وإنما يلزم منه شيء آخر، وهو المطلوب من العباد، ألا وهو العبادة لله عز وجل، إذ هو الأصل الثاني، فيقال للعباد: قد عرفتكم كمال الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يجب له من الحق، إذاً فالتزموا لازم هذه المعرفة، وهو أن تعبدوا الله وحده، وأنه وحده سبحانه المستحق للعبادة، وهو الذي يجب أن يخضع له العباد قدراً وشرعاً، ولذلك جمع الشيخ هنا في الأصل الثاني القدر والشرع جميعاً، فقال: الأصل الثاني، وهو التوحيد في العبادات. وهذا له مفاهيم كثيرة، فتوحيد العبادة يسمى: توحيد العمل؛ لأنه هو عمل القلوب والجوارح تجاه الرب عز وجل، وما يجب أن يعمله العباد في حق ربهم عز وجل، فهو توحيد عمل، حتى المحبة والرجاء والخوف واليقين والإنابة والإحسان .. وغير ذلك هي أعمال قلوب، فيتوجه بها إلى الله عز وجل وحده، فلذلك يسمى: توحيد العمل، ويسمى: توحيد القصد، ويسمى: توحيد الطلب، ويسمى توحيد الإلهية؛ لأن الناس يتألهون به إلى الله عز وجل، تأله العبادة والطاعة والتسليم والرضا والإذعان والعمل، فسمي هذا التأله عبادة، والتأله: انجذاب الإنسان بقلبه إلى الله عز وجل، وعليه لابد أن يكون على شرع، ومعنى التأله: التعبد، والتعبد أيضاً لا يكون إلا على ما جاء به الرسل، فلذلك سمي توحيد الإلهية.

وسمي توحيد القصد والطلب؛ لأنه مما يقصد به العباد ربهم عز وجل، فتوحيد القصد هو التوجه إلى الله بالقلب والجوارح؛ لأن العباد يقصدون به رضا الله، ويقصدون به ثواب الله، ويقصدون به عبادة الله، قصد القلوب وقصد الجوارح، وكذلك الطلب بمعنى القصد؛ لأن العباد يطلبون به الرضا والتسليم لله، ويطلبون به عبادة الله، ويطلبون به رضا الله، ويطلبون به الجزاء من الله، فهذه كلها معان وأوصاف لشهادة نوع من التوحيد.

مع أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع والجهلة يقولون: إن هذا التقسيم محدث ومبتدع، وهذه كلها ما جاء بها إلا الفلانيون، مما يعيرون به أهل السنة من التغييرات، ويزعمون أن هذا من صنع السلف من عند أنفسهم، بينما هو مقتضى دلالة النصوص، بل هو المقصد من بعثة الرسل، إذ هو تحقيق الألوهية؛ لأن مجرد معرفة الله عز وجل تبقى فطرية، لكن يبقى معرفة ما يجب لله عز وجل من الكمالات على جهة التفصيل، هذا هو الذي جاء به الأنبياء في ذات الله وأسمائه وصفاته، ثم ما يجب لله من الطاعة والامتثال والعبادة، أيضاً ما جاء به الرسل، فهذا كله هو التوحيد، فحينما نصفه بالأوصاف الأخرى، نصفه بأوصاف شرعية هي دلالات قطعية، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وجه الجمع بين الخلق والأمر

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فنقول: إنه لابد من الإيمان بخلق الله وأمره ].

هذه قاعدة عظيمة جداً، وفيها إشارة إلى أن الخلق والأمر يجتمعان، وعلى هذا فقد جمع الشيخ الشرع والقدر في فصل واحد، والقدر له وجهان: من حيث كونه من تقدير الله وخلقه، فهذا مرتبط بالربوبية، ومن حيث التسليم به والرضا، فهذا داخل في التوحيد الإلهي، أي: توحيد العبادات، وأدخله المصنف هنا في توحيد العبادات ليبين ضرورة الارتباط بين القدر والشرع؛ لأن مبنى الشرع على التسليم، والتسليم هو تسليم بقدر الله، ومما قدره الله عز وجل الأمر بشرعه، وإبعاث الرسل، وإنزال الكتب، وهذا قدر كوني تضمن الأمر الشرعي، بل تقسيم ابتلاء العباد إلى خير وشر ابتلاء كما قال عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [الأنبياء:35]، فهذا قدر، ثم تقسيم حال العباد إلى صلاح وفساد، إلى حق وباطل، إلى هدى وضلال، تقدير من الله بقدره، ثم إن الشرع الذي انبنى على ذلك هو الأمر، فتوافق الأمر والقدر، أعني: توافق الشرع والقدر، وكلاهما من أمر الله.

ووجه إدخال القدر هنا هو الذي انبنى عليه الشرع تقديراً، ومن حيث أن كلاهما داخلان في مفهوم الأمر، إذ إن الأمر بمفهومه العام يدخل فيه الأمر القدري والأمر الشرعي، وأيضاً لضرورة ارتباط الشرع بالقدر؛ لأن مبنى العمل بالشرع على التسليم، والتسليم يشمل القدر والشرع في وقت واحد، فمن سلم للقدر ولم يسلم للشرع هلك، ومن سلم للشرع ولم يسلم للقدر هلك، ولذلك غالب أهل الأهواء اختل عندهم أحد المبنيين، فمنهم من سلم للقدر ولم يسلم للشرع التسليم الكامل، ومنهم من سلم للشرع ولم يسلم للقدر، ويمكن أن نجد هذا في تقسيم الفرق الكبرى، فقد كان منها من هو أكثر ضلالة في الشرع، ومنهم: المرجئة والخوارج وكثير من أصحاب الطرق والفرق الصوفية، ومنهم من كان خلله في اعتقاد القدر، ومنهم: القدرية والمعتزلة والجهمية، وقد اجتمع عند الجهمية الأمران؛ لأن الجهمية هي خلاصة مذاهب الفرق في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني، بل وحتى القرن الثالث، فالجهمية بدأت من ناحية فلسفية ثم انتهت إلى فلسفة وسلوك وأعمال، فكان في القرن الثالث أن اجتمع الأمران عند الجهمية، فاختل عندها الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، وبقية الفرق كل واحدة لها نصيب يقل أو يكثر من الخلل بالأصلين جميعاً أو بأحدهما.

مراتب القدر

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون، وقدّر المقادير وكتبها حيث شاء، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] ].

يقرر الشيخ الآن توحيد الربوبية والقدر، ليبين تلازم الأمرين كما سيأتي بعد قليل، وهذا التقرير هو تقرير لجانب الربوبية وجانب القدر المتعلق بالربوبية أيضاً، لأن الآية هنا قد اشتملت على مراتب القدر الأربع.

فقوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)، هذه المرتبة الأولى.

وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) هذه المرتبة الثانية.

والمرتبة الثالثة والرابعة تضمنتها عبارة واحدة، وهي قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، أي: يسير في تقديره، ويسير في خلقه، يسير على الله تقدير المقادير، ويسير على الله خلق المخلوقات، فاجتمعت الرتبتان الأخيرتان من القدر في هذه العبارة.

وعليه فالعلم والكتابة والتقدير والخلق قد اجتمعت في هذه الآية بشكل بين وواضح، وهذا كله تقرير للربوبية، لكن أيضاً له وجه في دخوله في الأصل الثاني: وهو توحيد العبادات؛ ليبين الشيخ مدى وجه التلازم بين الأصلين، وأنه لا فرق هنا، فلا يستطيع هنا أن يقرر توحيد الإلهية دون أن يعتمد على توحيد الربوبية؛ لأن الذي يتأله ويعبد الله عز وجل لابد أن يعرف من يعبد، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة كمال الله عز وجل كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما تقتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ].

هنا الشيخ قرن النوعين من التوحيد، فعندما قرر توحيد الربوبية والقدر، وبين أن الأصل في تقريرها هذه القواعد العظيمة، بين بعد ذلك أن هذا يوجب توحيد الله بالعبادة، ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده؛ لأنه ذكر الأمر قبل ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه ].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فنقول: إنه لابد من الإيمان بخلق الله وأمره ].

هذه قاعدة عظيمة جداً، وفيها إشارة إلى أن الخلق والأمر يجتمعان، وعلى هذا فقد جمع الشيخ الشرع والقدر في فصل واحد، والقدر له وجهان: من حيث كونه من تقدير الله وخلقه، فهذا مرتبط بالربوبية، ومن حيث التسليم به والرضا، فهذا داخل في التوحيد الإلهي، أي: توحيد العبادات، وأدخله المصنف هنا في توحيد العبادات ليبين ضرورة الارتباط بين القدر والشرع؛ لأن مبنى الشرع على التسليم، والتسليم هو تسليم بقدر الله، ومما قدره الله عز وجل الأمر بشرعه، وإبعاث الرسل، وإنزال الكتب، وهذا قدر كوني تضمن الأمر الشرعي، بل تقسيم ابتلاء العباد إلى خير وشر ابتلاء كما قال عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [الأنبياء:35]، فهذا قدر، ثم تقسيم حال العباد إلى صلاح وفساد، إلى حق وباطل، إلى هدى وضلال، تقدير من الله بقدره، ثم إن الشرع الذي انبنى على ذلك هو الأمر، فتوافق الأمر والقدر، أعني: توافق الشرع والقدر، وكلاهما من أمر الله.

ووجه إدخال القدر هنا هو الذي انبنى عليه الشرع تقديراً، ومن حيث أن كلاهما داخلان في مفهوم الأمر، إذ إن الأمر بمفهومه العام يدخل فيه الأمر القدري والأمر الشرعي، وأيضاً لضرورة ارتباط الشرع بالقدر؛ لأن مبنى العمل بالشرع على التسليم، والتسليم يشمل القدر والشرع في وقت واحد، فمن سلم للقدر ولم يسلم للشرع هلك، ومن سلم للشرع ولم يسلم للقدر هلك، ولذلك غالب أهل الأهواء اختل عندهم أحد المبنيين، فمنهم من سلم للقدر ولم يسلم للشرع التسليم الكامل، ومنهم من سلم للشرع ولم يسلم للقدر، ويمكن أن نجد هذا في تقسيم الفرق الكبرى، فقد كان منها من هو أكثر ضلالة في الشرع، ومنهم: المرجئة والخوارج وكثير من أصحاب الطرق والفرق الصوفية، ومنهم من كان خلله في اعتقاد القدر، ومنهم: القدرية والمعتزلة والجهمية، وقد اجتمع عند الجهمية الأمران؛ لأن الجهمية هي خلاصة مذاهب الفرق في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني، بل وحتى القرن الثالث، فالجهمية بدأت من ناحية فلسفية ثم انتهت إلى فلسفة وسلوك وأعمال، فكان في القرن الثالث أن اجتمع الأمران عند الجهمية، فاختل عندها الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، وبقية الفرق كل واحدة لها نصيب يقل أو يكثر من الخلل بالأصلين جميعاً أو بأحدهما.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون، وقدّر المقادير وكتبها حيث شاء، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] ].

يقرر الشيخ الآن توحيد الربوبية والقدر، ليبين تلازم الأمرين كما سيأتي بعد قليل، وهذا التقرير هو تقرير لجانب الربوبية وجانب القدر المتعلق بالربوبية أيضاً، لأن الآية هنا قد اشتملت على مراتب القدر الأربع.

فقوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)، هذه المرتبة الأولى.

وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) هذه المرتبة الثانية.

والمرتبة الثالثة والرابعة تضمنتها عبارة واحدة، وهي قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، أي: يسير في تقديره، ويسير في خلقه، يسير على الله تقدير المقادير، ويسير على الله خلق المخلوقات، فاجتمعت الرتبتان الأخيرتان من القدر في هذه العبارة.

وعليه فالعلم والكتابة والتقدير والخلق قد اجتمعت في هذه الآية بشكل بين وواضح، وهذا كله تقرير للربوبية، لكن أيضاً له وجه في دخوله في الأصل الثاني: وهو توحيد العبادات؛ ليبين الشيخ مدى وجه التلازم بين الأصلين، وأنه لا فرق هنا، فلا يستطيع هنا أن يقرر توحيد الإلهية دون أن يعتمد على توحيد الربوبية؛ لأن الذي يتأله ويعبد الله عز وجل لابد أن يعرف من يعبد، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة كمال الله عز وجل كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما تقتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ].

هنا الشيخ قرن النوعين من التوحيد، فعندما قرر توحيد الربوبية والقدر، وبين أن الأصل في تقريرها هذه القواعد العظيمة، بين بعد ذلك أن هذا يوجب توحيد الله بالعبادة، ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده؛ لأنه ذكر الأمر قبل ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه ].




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة التدمرية [12] 2923 استماع
شرح العقيدة التدمرية [5] 2916 استماع
شرح العقيدة التدمرية [26] 2794 استماع
شرح العقيدة التدمرية [9] 2782 استماع
شرح العقيدة التدمرية [13] 2726 استماع
شرح العقيدة التدمرية [17] 2720 استماع
شرح العقيدة التدمرية [2] 2716 استماع
شرح العقيدة التدمرية [3] 2687 استماع
شرح العقيدة التدمرية [4] 2563 استماع
شرح العقيدة التدمرية [8] 2412 استماع