شرح العقيدة التدمرية [5]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة.

قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهاً أو تجسيماً، لأنا لا نجد في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم، قيل لك: ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فانف الأسماء؛ بل وكل شيء؛ لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم، فكل ما يحتج به من نفى الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات ].

المعتزلي يقول: إن الله حي، ثم يقول: بلا حياة -تعالى الله- عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، فالشيخ رحمه الله ضبط عليهم هذا الكلام، وقال: أنتم قلتم: بأنه حي عليم قدير، فلماذا نفيتم الحياة والعلم والقدرة؟ قالوا: لأن الحياة والعلم والقدرة من حيث هي صفات لا توجد إلا فيما هو أجسام، فرد عليهم الشيخ: فكذلك تسمية الله بالحي والعليم والقدير لا تعرف عندنا بما نعرفه قبل أن يأتينا الخبر أو مجملات المعقولات إلا ما هو من أوساط الأجسام بالنسبة لمداركنا، فإذا كنا نعرف أن المخلوق حي عليم قدير، وتعترفون بذلك، وتقولون أيضاً: إن الخالق حي عليم قدير، فالتشابه موجود، ونحن نقول: إن التشابه لفظي، بينما هم يقولون: التشابه إذا وقع فإنه يكون حقيقياً، وعلى ذلك فإنهم قالوا: بأنه حي بلا حياة، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، فأثبتوا: الحي العليم القدير، ونفوا: الحياة والعلم والقدرة، ولم يفرقوا بينهما، فالشيخ -كما ذكرنا- ضبط عليهم هذه المسألة فقال: لا فرق بين أن تسموه أو تصفوه، فكما أنكم لا تعرفون الأوصاف إلا في المخلوقات، فكذلك يقال لكم: لا تعرفون المسميات إلا في المخلوقات بالنسبة لمدارككم أنتم، فلا فرق بين القاعدتين.

لكن ينبغي أن تفهم قاعدة في عموم ما سيرد من الكلام على الفرق، بل قاعدة في كل الكلام على الفرق، وهي مسألة مهمة ترجع إلى أصل -يجهله كثير من المعاصرين- من الأصول التي يتعامل بها السلف مع المخالفين وأهل الأهواء، وهي أنهم يحكمون على العموم، وإن وجد من لا يقول بهذه الأقوال من أهل الأهواء، أعني: أن السلف إذا قالوا: قالت الجهمية، فإنهم يعنون أحد أمرين: إما أن يكون قولاً مشهوراً عندهم، وإن اختلفت عليه في التفصيلات، أو يكون قولاً للأغلبية من الجهمية، وقد يرد احتمال ثالث وهو: أن يكون هذا القول لرءوس وكبار الجهمية، وكذلك المعتزلة، فكثيراً ما ينسب إليهم السلف أقوالاً، ثم يأتي بعض الجهلة ويقول: وجدت عند الجاحظ أو القاضي عبد الجبار أنهم لا يقولون بما يقول عنهم السلف، فنقول: هذا ناتج عن استقراء ناقص عندك، وناتج عن جهلك بقاعدة السلف، فالسلف ينظرون إلى العموم، فإذا نسبوا إلى المعتزلة قولاً فإنهم قد تثبتوا منه وخاصة الأقوال الشهيرة، لكن يكون إما قول أغلبهم أو قول رءوسهم، أو يكون قولاً التزموه في العموم، وإن اختلفوا في تفصيلاته، مثل: الأصول الخمسة التي لا يقول بها كل المعتزلة، بل وضعها لهم أحدهم، لكن في الجملة هي منهجهم، وكثير منهم قد يخالف بعض هذه الأصول، وعلى هذا فإن ما يثيره بعض المفتونين من دعوى أن السلف يفترون على خصومهم، وأنهم يتقولون عليهم، هذا ناتج عن جهل هؤلاء المفتونين، فالسلف حينما ينسبون قولاً إلى فرقة معينة، وخاصة الأقوال المشهورة، إنما ذلك بعد التثبت والاستقراء، وإلا فقد يزل الواحد من علماء السلف وقد يخطئ، لكن الكلام على ما اشتهر عند السلف من حكمهم على أهل الأهواء في مجملات الأمور، وكله راجع إلى هذه القواعد، من أنهم يرون أن المقولة إذا اشتهرت فإنها تنسب إلى العموم وإن خالفها بعضهم، وكذلك إذا قال بها الرءوس فإنها تنسب إلى العموم وإن خالف بعضهم، وأيضاً إذا قال بها الأغلب، فإنها تنسب إلى العموم وإن خالف بعضهم، وهذه قاعدة في كل ما يتعلق بنسبة الآراء إلى الناس، بل نجد ما حكاه الله عز وجل عن كثير من الأمور من المشركين والمنافقين واليهود والنصارى هو قول الغالبية أحياناً، أو قول مشهور لهم، ولو لم يكن قول الغالبية، وتأملوا ما وصف الله به كفريات اليهود والنصارى، مع أنها أقوال لبعضهم، وليست لكلهم، لكن لأنها معتمدة وهي المشهورة، أو قال بها شيوخهم أو رءوسهم، أو كانت قول الأغلب، فإنه يقال بها، لأننا لو استثنينا في كل شيء لفسدت المعاني، وعليه فكلما ننسب قولاً إلى المعتزلة ونستثني فسد المعنى، مع أن من المعتزلة من لا يلتزم نفي الصفات دائماً، بل منهم عدد كبير، وإن لم يكن أكثرهم يثبتون بعض الصفات أو يثبتون الصفات، فليس العبرة بمن خرج أو شذ، وإنما العبرة في الأصول والمناهج العامة، وأقول هذا لأنه تثار قضية الآن وهي: أن السلف قالوا عن المعتزلة ما لم يقولوا به، ودعوى أثيرت: أن من المعتزلة من يثبت الصفة، نعم من المعتزلة من يثبت الصفة، لكن ليست العبرة بهذا، وإنما العبرة بالعموم، فتجد الآن كبار العقلانيين وعلى رأسهم حزب التحرير معتزلة، بل إنهم أشد حماساً للاعتزال من المعتزلة أنفسهم، وقد ذكرت في أحد كتبي ما يدل على ذلك بالوثائق والنصوص، فمعتزلة العصر أشد اعتزالاً من الأوائل، وأثبت من خلال واقع تراجم الرجال أن المعتزلة الأوائل أكثر ورعاً وتعظيماً لله عز وجل وللدين، وللرسالة والسنة من المعتزلة الجدد، فهم معتزلة أكثر من المعتزلة؛ لأن أصولهم تقوم على ذلك، مع استثناء أشخاص لاشك، لكن هناك أشخاص يخرجون من القاعدة، لكن العبرة في التوجه، فالتوجه العقلاني المشهور الآن في العالم الإسلامي توجه اعتزالي بلا شك ولا ريب، وليس الأمر تقولاً عليهم؛ لأنهم كلهم -إلا النادر والنادر لا حكم له- يتباكون على المعتزلة، ويؤصلون قواعدهم ويمجدونهم، ويتفقون على أنه لا يمكن أن تنهض الأمة الإسلامية من جديد إلا أن تحيي تراث المعتزلة وتعمل به، وهذا شعارهم اليوم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال لا أقول: هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير; بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز؛ لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم.

قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.

فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات.

قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل.

فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما.

قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم؛ فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر.

وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية ].

سمي الفلاسفة المشاءون بذلك لأنهم غالباً من الناس الذين يسرحون في الخيال، إلى حد أنهم من مبالغتهم في التمادي في الأوهام والخيالات يمشي أحدهم فيسجل خواطره أو يمليها على من حوله، وهذا من علامات إفلاسهم في العلم، فيمشي ويفكر أحدهم مجرد تفكيرات خيالية، ويهذي، فيبدأ تلاميذه يكتبون، وقد وجدنا صورة تاريخية عجيبة تدل على مدى ضياع هؤلاء، هذه الصورة للإمام الرازي قبل توبته ورجعته إلى منهج الحق، فقد كان مرة يمشي ومعه تلاميذه يعدون بالعشرات، فيمشي ويهذي من هذا الهذيان والطلاب يسجلون، ويعيشون حالة من الزهو والغرور، حتى يظنون أنهم على شيء، فمروا بامرأة عجوز جالسة في الشمس، فتعجبت من هذه الأبهة وهذا الحشد مع هذا الرجل، فقالت لأحد الماشين مع الرازي : من هذا؟ فأنكر عليها وقال: كيف لا تعرفين هذا؟ قالت: أهو السلطان؟ قال: لا، قالت: أهو فلان، وذكرت الوجهاء الذين تعرف، فنفى أن يكون منهم، فأراد أن يعرفها بشيخه، قال: هذا شيخنا فلان الذي يعرف على وجود الله ألف دليل، فقالت: تعساً له وتباً، إن كان كذلك فوالله إن في نفسه ألف شك، أفي الله شك؟!

فهؤلاء المشاءون يمشي ويهذي، ولو كان يتكلم بعلوم حسية لقلنا: هذا نافع ومفيد، ولو كان يتكلم بتقرير الشرع والدين لقلنا: هذا نافع ومفيد، لكن يتكلم في هذه الخيالات، في امتناع الوجود وامتناع العدم والسلبيات والأمور التي هي من طبيعة المتكلمين والفلاسفة، فهذا -نسأل الله العافية- من علامة الإفلاس، فالمشاءون هم الذين يسلكون هذه الطريقة، وكان على هذا طائفة من الفلاسفة قبل الإسلام، فقد كانت طوائف منهم يستعملون هذا الأسلوب، فيمشي ويفكر، والآخرون يكتبون ما يقول، ويناقشون ويتجادلون على هذا النحو.

قال رحمه الله: [ وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20-21]، فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم.

وقيل لك، ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر، أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجامدات التي لا تقبل ذلك.

وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد.

وهؤلاء الباطنية منهم من يصرِّح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما، ومنهم يقول: لا أثبت واحداً منهما، فامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت الذي لا يعبر عن الحقائق، وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يقدَّر قبوله لهما -مع نفيهما عنه- فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم: أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يقدر قابلاً لهما مع نفيهما عنه، وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلاً وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود القبول وجب.

وقد بسط هذا في موضع آخر، وبُيِّن وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.

وقيل له أيضاً: اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات: ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.

وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس، ليكذِّب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل.

وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة.

وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع.

قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معان متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً ].

هذا الرد على طائفتين، والشيخ رحمه الله قد خلط بين طائفتين:

الطائفة الأولى: المعتزلة الخلَّص الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، ويقولون: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الموصوف، وأن ذلك تركيب ممتنع.

والطائفة الثانية: فلاسفة ومتكلمة الصوفية الذين زعموا أنهم يتورعون عن وصف الله عز وجل بما وصف به نفسه من الصفات، خاصة الفعلية والذاتية أيضاً، في حين أنهم لا يتورعون عن وصف الله بأوصاف أحدثوها من عند أنفسهم، وهذا أيضاً يوجد -كما قلت- عند الصوفية وعند الباطنية، مثل: وصف الله بأنه: عقل، وعاقل، ومعقول، وعاشق، ومعشوق، ولذيذ، وملتذ، ولذة، فهذه لا تليق بالله عز وجل، فإن ما سمى الله به نفسه وما وصف به نفسه يُغني عن مثل هذه الألفاظ المحتملة للمعاني، فهم حينما تورعوا بزعمهم، وحين ترددوا في إثبات ما أثبته الله لنفسه لم يتورعوا عن إطلاق هذه الألفاظ التي هي أقرب إلى التشبيه، فإنه لا يليق أن نصف ما يجب لله عز وجل من المحبة أنه عشق، فالعشق له معنى عاطفي، وله معنى أيضاً مفهوم عند البشر يخرج عن حد الاعتدال، ولا يليق أن تسمى العبادة لله عز وجل، وما يشعر به المسلم من السعادة وقرة العين بأنها لذة وملتذ، وكذلك ما يصف به فلاسفتهم من وصف الله بأنه عاقل، فإن هذا ليس من أوصاف الكمال، فالعقل هبة من الله عز وجل للخلق، والله متصف بالحكمة وهي أعظم من مجرد وصف العقل وهكذا، فالذين يقولون مثل هذه الأوصاف هم فلاسفة الصوفية ومتصوفة الفلاسفة، الذين تورعوا بزعمهم عن إثبات ما أثبته الله لنفسه، ثم خاضوا في أوصاف الله وأسمائه بما لم يرد به الشرع، بل ينافي أيضاً صفات الكمال حتى عند البشر.

قال رحمه الله: [ فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً.

قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس هو تركيباً ممتنعاً.

وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالماً قادراً، فمن جوّز أن تكون هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوّز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع.

وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق -يُعدم بعدم وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي الذي لا يقبل العدم.

وإذا قدر هذا كان الوجود الواجب موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يُصرِّح بذلك أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير ].

هذا الكلام التالي هو عبارة عن قاعدة ذهبية، هذه القاعدة تعتمد على نصوص الشرع وعلى العقل السليم، وهي التي ينبني عليها الحوار مع هؤلاء، سواء فيما سبق أو فيما يأتي، وهي قاعدة عظيمة ينبغي التنبه لها.

قال رحمه الله: [ وهذا باب مطّرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً -فراراً مما هو محذور- إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه، فلا بد في آخر الأمر من أن يُثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه، فيُقال له: هكذا القول في جمع الصفات وكل ما تثبته من الأسماء والصفات: فلا بد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال ].

بهذا ندرك مدى جهل وخطأ وفرية الذين يتهمون السلف بالتشبيه، وهذه القاعدة هي عند السلف، فإنهم حينما يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء من الأسماء أو الصفات أو الأفعال، فإنهم إنما يثبتون ذلك على ما يليق بجلال الله، وعلى الحقيقة التي وصف الله بها نفسه كما يليق بجلاله، دون أن نتوهم الكيفيات، وأن الاشتراك اللفظي بين أسماء الله عز وجل وبين مسميات الخلق إنما هو تواطؤ في المسميات، ومن أجل خطاب البشر؛ لأنه لا يمكن أن يفهم البشر معاني أسماء الله عز وجل وصفاته وعظمتها وكمالها إلا بلسان عربي مبين، ولولا أن الله وصف نفسه باللسان الذي نعرفه -مع أننا ندرك أن الكيفية ليست من مداركنا- لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم مع إيماننا بحقيقة ما ورد من أسماء الله وصفاته وأفعاله أن ذلك أعظم مما يخطر على البال؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء.

حقيقة أسماء الله عز وجل وصفاته ليست هي الصور التي في الأذهان

ومن هنا أنبه إلى ما ذكرته أكثر من مرة، وهو أن المسلم عندما يسمع خطاب الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، لا بد أن يتوهم في ذهنه صوراً تقريبية تقرب الحقيقة له، ولكن هذه أمثال تُضرب، فحقيقة أسماء الله وصفاته أعظم وأجل من أن تكون هي التي في الأذهان، فمثلاً: يسمع المسلم قوله عز وجل: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3-4]، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] لابد أن يكون في ذهن السامع صورة تخطر لهذه المعاني، وهذه الصورة ليست هي حقيقة وصف الله عز وجل قطعاً، ولذلك الجهمية والمعتزلة أخطئوا حينما اعتقدوا ما توهموه، أو ظنوا أنهم لا بد أن يعتقدوا ما توهموه، بينما نحن نقول غير ذلك؛ لأن ما يفهمه المخاطب إنما هو مجرد أوهام وأمثال في ذهنه تقرب إلى الحقائق العامة لا الحقائق المقيدة، الحقائق المطلقة في الأذهان وليست في الأعيان والواقع، وحينما نحول هذه المعاني إلى الواقع فإنها فيما يختص بالله عز وجل أعظم من أن نتخيله أو نتصوره أو يخطر بالبال، فإن الله له الكمال المطلق وليس كمثله شيء، لكن ومع ذلك وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وأما إطلاقها على المسميات المعلومة فبحسب حالها، فالمخلوق ناقص وقاصر وفانٍ، ولا شك أن وجود هذه المسميات في المخلوقات على الوجه الذي يليق بالمخلوقات من النقص، وإطلاقها على الله عز وجل على الوجه الذي يليق بالله سبحانه من الكمال الذي لا يمكن أن يخطر على بال، فإذا كان هناك من مخلوقات الله فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلله المثل الأعلى، فصفاته وأسمائه من باب أولى ألا تخطر على قلب بشر، وهذه عقيدة السلف، ومن هنا ندرك جناية وخطأ الذين يتّهمون السلف بالتشبيه.

ومن هنا أنبه إلى ما ذكرته أكثر من مرة، وهو أن المسلم عندما يسمع خطاب الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، لا بد أن يتوهم في ذهنه صوراً تقريبية تقرب الحقيقة له، ولكن هذه أمثال تُضرب، فحقيقة أسماء الله وصفاته أعظم وأجل من أن تكون هي التي في الأذهان، فمثلاً: يسمع المسلم قوله عز وجل: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3-4]، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] لابد أن يكون في ذهن السامع صورة تخطر لهذه المعاني، وهذه الصورة ليست هي حقيقة وصف الله عز وجل قطعاً، ولذلك الجهمية والمعتزلة أخطئوا حينما اعتقدوا ما توهموه، أو ظنوا أنهم لا بد أن يعتقدوا ما توهموه، بينما نحن نقول غير ذلك؛ لأن ما يفهمه المخاطب إنما هو مجرد أوهام وأمثال في ذهنه تقرب إلى الحقائق العامة لا الحقائق المقيدة، الحقائق المطلقة في الأذهان وليست في الأعيان والواقع، وحينما نحول هذه المعاني إلى الواقع فإنها فيما يختص بالله عز وجل أعظم من أن نتخيله أو نتصوره أو يخطر بالبال، فإن الله له الكمال المطلق وليس كمثله شيء، لكن ومع ذلك وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وأما إطلاقها على المسميات المعلومة فبحسب حالها، فالمخلوق ناقص وقاصر وفانٍ، ولا شك أن وجود هذه المسميات في المخلوقات على الوجه الذي يليق بالمخلوقات من النقص، وإطلاقها على الله عز وجل على الوجه الذي يليق بالله سبحانه من الكمال الذي لا يمكن أن يخطر على بال، فإذا كان هناك من مخلوقات الله فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلله المثل الأعلى، فصفاته وأسمائه من باب أولى ألا تخطر على قلب بشر، وهذه عقيدة السلف، ومن هنا ندرك جناية وخطأ الذين يتّهمون السلف بالتشبيه.