شرح العقيدة التدمرية [9]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقبل أن نشرع في الدرس أحب أن أستعرض بإيجاز المعاني والأصول التي قد درسناها، وذلك من أجل أن يرتبط في الذهن الدرس الحاضر بالدروس الماضية، فأولاً: أشار الشيخ في المقدمات الأولى قبل هذا الفصل إلى قواعد مهمة أجملها وبدأ يفصل فيها الآن، وهي أن الأصل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه قاعدة لا تتخلف، وهي مقتضى قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

ثم أشار إلى مقدمة للرد على أهل الأهواء الذين أولوا الصفات أو عطلوها، هذه المقدمة قد لخصها الشيخ في أمور عدة:

منها: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، أي: إذا أثبتنا بعض الصفات فيلزمنا إثبات الجميع، والذين أولوا بعض الصفات رد عليهم الشيخ قائلاً: لماذا فرقتم بين الصفات عند تأويل بعضها؟ والصفات كلها غيب، وكلها كمال لله عز وجل، وكلها على حقائقها، وكلها جاءت في الكتاب والسنة، فإذا أولتم بعضها فلماذا لم تأولوا البعض الآخر؟ والتفريد لا مبرر له.

ومنها: القول في الصفات كالقول في الذات.

ثم ضرب مثالين عظيمين في أن أسماء الله عز وجل وصفاته لا يجوز الكلام فيها بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وأنها أمور غيبية لا يمكن فيها قياس المخلوق على الخالق، أو قياس الخالق على المخلوق، وأن من قاس الخالق على المخلوق وقع في التأويل والتعطيل وفيما نهى الله عنه، ووقع في الإلحاد في أسماء الله وصفاته، أي: الإلحاد الجزئي والكلي، وقد ضرب لهذا مثلاً في الخلق -ولله المثل الأعلى- فقال: هناك من المخلوقات ما لم تحيطوا به علماً، وهي مخلوقات لها أوصاف وأسماء وأحوال، وضرب لذلك مثلاً بالروح، فقال: أنتم الآن تتكلمون في الله عز وجل بغير ما ورد في الكتاب والسنة، وتتعرضون لأسماء الله وصفاته بعقولكم وأرواحكم بدعوى القياس، مع أن فيكم جميعاً مخلوقاً لم تصلوا فيه إلى نتيجة، وهذا المخلوق له صفات وأحوال وسمات، ومع ذلك لا تحكموا فيه برأي ولا بعقولكم، وهذا المخلوق هو الروح، فكل إنسان معه روح، وهذه الروح تقعد وتنزل، ولها صفات وأحوال، وموصوفة بحقائق، ومع ذلك لا أحد يدري ما الروح؟ مع أنها مخلوق من مخلوقات الله.

إذاً: فلماذا تتحكمون بأسماء الله وصفاته بعقولكم؟ ثم ضرب مثلاً آخر أيضاً بنعيم الجنة فقال: الجنة فيها نعيم، لكن ليس كنعيم الدنيا، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي مخلوقة وموصوفة لنا، ومع ذلك فنعيمها من حيث الألفاظ تشبه ألفاظ نعيم الدنيا، ففيها عنب وخمر ولبن وماء وأشياء كثيرة مما يوجد في الدنيا، ومع ذلك فليس هذا كذاك.

ثم ذكر القواعد التفصيلية وخاتمة ستأتي، وهذه القواعد التفصيلية مهمة في الحقيقة، وينبني عليها تصور ما سنقرؤه الآن، وما سنقرؤه مستقبلاً، وما قرأناه في الماضي، والشيخ قد أشار إلى سبع قواعد ذهبية عظيمة جداً استنبطها من النصوص، وستجدون أن لكل قاعدة أدلة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.

القاعدة الأولى: أنه يجب وصف الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثبات والنفي.

القاعدة الثانية: ما جاء في كتاب الله، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجب قبوله والإيمان به بدون مناقشة.

القاعدة الثالثة: التفصيل في ظواهر النصوص، هل هي مرادة أو غير مرادة؟ لابد من التفصيل، فإن قصد بالظاهر: أنها حقائق فحق، وإن قصد بالظاهر: تشبيه الله بالمشاهدات فلا؛ لأن الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

فيقول: لا تلبسوا على الناس بمثل هذه الأمور، فتقول: إذا كان ظاهرها مراداً فمعناه أننا قد وقعنا في التشبيه، إذاً لابد أن نؤول، فأقول: لا، فإن ظاهرها مراد، لكن ليس ظاهرها ما تتوهمونه، وإنما ظاهرها الحقائق، فالله عز وجل موصوف بالحقائق على ما يليق بجلاله.

القاعدة الرابعة: نفي ما يتوهم من مماثلة المخلوقين.

القاعدة الخامسة: أن نعلم أن ما أخبر الله به معلوم من وجه، وغير معلوم من وجه آخر، معلوم من حيث أنه حقيقة، وغير معلوم من حيث الكيفية.

القاعدة السادسة: أنه لابد من ضابط للنفي والإثبات في أسماء الله وصفاته.

القاعدة السابعة: أن كثيراً مما جاء به الشرع يدل عليه العقل دلالة إجمالية، لكن العقل لا يستطيع أن يعرف التفاصيل، بل لم يعرف تفاصيل نفسه، ولذا فالتفاصيل يعفى منها العقل، والله عز وجل ما كلفه بذلك، لكن من حيث الإجمال فنعم؛ لأنه ما من عقل سليم إلا ويدرك الكمال لله عز وجل، كما يدرك على جهة الإجمال أن الشرع جاء بمصالح العباد، ويدرك ضرورة البعث، وضرورة النبوات، إلى آخر ذلك على جهة الإجمال، وأما التفصيل فلا، وهذا ما سيفصله الشيخ في القواعد العامة.

وأخيراً: أشير إلى مسألة مهمة نحتاج إلى التذكير بها ما بين وقت وآخر، وهو أنه عندما ندرس العقيدة عموماً، أو عندما ندرس ما يتعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته فإنا لا ندرس لمجرد المعلومة -فهذه مسألة خطيرة ومهمة جداً يجب التنبيه عليها وخاصة طلاب العلم المبتدئين- بل ندرس ذلك لنعظم الله عز وجل في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وجميع أحوالنا، وأن تقع معانيها في قلوبنا على الوجه الذي يتقوى به إيماننا، وتزداد به أعمالنا، وأن نتقي الله في ذلك، وليس مجرد أن يكون عندنا حشد من المعلومات، حشد لمعرفة ألفاظ وأسماء الله وصفاته وأفعاله، حشد من المخالفين، فليس هذا هو المطلوب، إنما هذا ثمرة للمطلوب، لكن المطلوب أن نعظم الله سبحانه، وأن يقع ذلك في قلوبنا، فتمتلئ قلوبنا بمحبة الله وخشيته ورجائه، وأن يثمر ذلك أعمالاً في سلوكنا وتعاملاتنا، فنتقي الله في أنفسنا وديننا وأمتنا، فهذا هو الغرض من دراسة أسماء الله وصفاته، ودراسة العقيدة، والمسلم أو وطالب العلم إذا لم يجد في نفسه أثر العقيدة فليعد النظر في منهجه؛ لأنه لا يدرس العقيدة من أجل أن يستعرض عضلاته ضد المخالفين، فهذا غرض آخر ثانوي، وإنما الغرض من ذلك: أن يقوى الإيمان، وأن يغرس المسلم في نفسه أصول الاعتقاد، وأن يظهر أثر ذلك في عبادته لله عز وجل، وعلاقته مع ربه والخلق، وأن يكون قدوة للناس من خلال العقيدة السليمة، فيغرس الثوابت في نفسه وفي نفوس الآخرين.

القاعدة الأولى: أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل

وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة:

القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم ].

قوله: (أن الله سبحانه موصوف بالإثبات) أي: إثبات الذات والأسماء والصفات لله عز وجل، بمعنى: أنه لا يكون الإيمان بالله مجرد إيمان ذهني كما يقول الفلاسفة وغلاة الجهمية وغيرهم، بل الأمر أعظم من ذلك، فلابد للإيمان بالله من أن تعرف أن الله موصوف بالأسماء والصفات والأفعال، وأنه لابد أن ننفي عنه جميع النقائص، وكل ما يضاد الكمال فهو منفي عنه عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [ فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255].

صفات النفي تتضمن إثبات الكمال والمدح لله عز وجل

وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال; لأن النفي المحض عدم محض ].

يعني: أن النفي الخالص عدم خالص، مثل وصف المتكلمين والفلاسفة ومن أعجب بطريقتهم ومنهجهم -ليس فقط في الدين، بل في الدنيا أيضاً، وهذا ثابت عنهم، ولا نقول ذلك لمجرد ظن أو توهم-: بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا يوصف، وغير قابل للوصف! إذاً: هذا معدوم وخيال في أذهانهم، بل ولا حتى خيال، فالخيال ممكن أن يتوهم له صفات، ولذلك لا نستغرب هذا من الفلاسفة؛ لأنهم ملاحدة، وأعداء الأنبياء، لكن الغريب ممن ينتسبون للإسلام من المتكلمين الذين أعجبوا بطرائق الفلاسفة، حيث أتونا بهذه البدع، بدع النفي لأسماء الله وصفاته أو بعضها تحت دعوى أن النفي يقتضي تنزيه الله عن التشبيه، والشيخ رحمه الله أراد هنا أن يوقظ فيهم الفطرة إن كان عندهم عقول، فيقول: يا قوم! النفي المحض يدل على العدم المحض، والنفي الخالص يدل على العدمية الخالصة، وهذه أمور تعرف بالبداهة، فإذا كان كل شيء ما عندك له إلا النفي فمعناه أن هذا عدم.

أمثلة على النفي المتضمن إثبات الكمال في حق الله تعالى

قال رحمه الله: [ والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.

فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح، كقوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] إلى قوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255].

فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم.

وكذلك قوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.

وكذلك قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.

وكذلك قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.

وكذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية; لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح; إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية ].

لذلك جاءت الآية في منتهى البلاغة، ولا شك أنه لم ينف الرؤية فقال: لا تراه الأبصار، بل قال: لا تُدْرِكُهُ [الأنعام:103]، وهذا اللفظ يتضمن ضرورة أن هناك من الأبصار من ستراه، وهي أبصار المؤمنين في الجنة يوم القيامة، فالله عز وجل ينعم عليهم بأن يمكنهم من التنعم برؤيته، لكن لا يحيطون به سبحانه.

ولذلك لما تكلم بعض المعتزلة الذين عندهم فقه للغة في هذه الآية حاروا وما استطاعوا أن يتخلصوا من دلالتها، مثل: الزمخشري رحمه الله تعالى، فقد أتى بالآيات التي تثبت الرؤية، ومنها قوله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فأخذ يلف ويدور بطريقة عجيبة؛ لأنه لم يستطع أن يتخلص من فقهه للغة؛ لأنه يعلم أن معنى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] أي: أنه لا يمكن نفي الإدراك إلا بعد ثبوت الرؤية، وإلا فلماذا ينفي الإدراك، والإدراك هو الإحاطة؟ والله عز وجل أعظم من أن تحيط به الأبصار، بمعنى: تدركه، لكنها تراه، وهذا التضمن ضروري في معنى اللغة ومقتضى العقل السليم والفطرة.

لا يصف الله نفسه بنفي لا يستلزم ثبوت كمال ضده

قال رحمه الله تعالى: [ فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً.

وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش ].

من أنكر رؤية الله عز وجل يوم القيامة فالأصل فيه أنه يكفر، لكن يجب التنبه إلى أنه ليس كل من اعتقد كفراً أو عمل كفراً أو قال كفراً أن يكفر بعينه؛ لأنه قد يكون جاهلاً، وأنا أضرب لكم مثالاً على ذلك: فلو أن واحداً منكم الآن خرج إلى الخارج فقابل مجموعة من العوام السذج الذين لا يفهمون شيئاً، وقال لهم: هل تؤمنون برؤية الله؟ فيمكن أن بعضهم ينكر؛ لأنه يظن أن هذا عظيم وشنيع في الدين، فهو لم يسمع بشيء اسمه: رؤية الله عز وجل، لكن هل أنكرها عالماً بمعناها وبأصلها، وعالماً بقدرها في الدين، وعالماً بنصوصها؟ لا، بالرغم أن الرؤية من المتواتر في الدين -رؤية المؤمنين لربهم في الجنة- وأصل من أصول الدين، ثبتت بنصوص قطعية من الكتاب، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، كما أجمع عليها أهل الحق، إذاً إنكار المعلوم من الدين بالضرورة كفر، لكن ليس كل معين يكفر.

وصف المتكلمين لله تعالى بالنفي وما فيه من التشبيه بالمعدوم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايد له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت.

ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم.

وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد والناقص ].

هذا تقرير حقيقة بدهية سهلة بينة، وقد ساقها الشيخ بسياق يناسب ألفاظ المتكلمين لإقناعهم؛ لأنه الآن يعالج مرضاً، والكلام هذا لا يصح للأصحاء، ولذلك أنا لا أنصح طلاب العلم أمثالكم الذين سلمت -بحمد الله- عقائدهم وأفكارهم من هذه المعضلات الكلامية والمحارات الخوض فيها، فلذلك سنقتصد فيها، نقرأ قليلاً ثم نتجاوزها بعد قليل إلى القاعدة الثانية.

لكن قبل أن نخرج من هذه القاعدة أحب أن أنبه إلى أن الشيخ يقول: إن هؤلاء الفلاسفة وأهل الكلام ومن قلدهم من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية لما أحرجوا بنصوص الصفات وقال لهم السلف: هذه نصوص صريحة صحيحة جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أخذوا يتحايلون في نفي الصفات بأوهام عقلية، من أجل أن يردوا بها الصفات ويتأولونها، فكان منهم من يرد، ومنهم من يتأول هذه الأوهام العقلية على أنها من مقتضى تعظيم الله وتقديسه، ومن مقتضى نفي التشبيه عن الله عز وجل، فقالوا: لا يجوز أن نتصور أن الله داخل العالم، أي: داخل المخلوقات، فنقول: نعم، فلا يليق أن يكون الله داخل مخلوقاته، بل ولم يقل بهذا من يحترم نفسه من عقلاء الناس، وأما أصحاب الهذيان والموسوسين من الفلاسفة فلا اعتبار لهم، لكن لم يقل أحد من عقلاء الناس: إن الله داخل العالم؛ لأنه مقرر في العقول السليمة والفطر المستقيمة وفي الشرع أن الله عز وجل فوق السموات، فوق عرشه لا داخل المخلوقات.

ما وقع فيه من وصف الله بأنه لا داخل العالم ولا خارجه

وأما قولهم: ولا خارج العالم، فإنهم إنما قالوا ذلك خوفاً من إثبات الفوقية والاستواء، وإثبات الذات لله عز وجل، لأنهم إذا أقروا بأنه ليس داخل العالم فقد يكون خارج العالم، يعني: خارج المخلوقات، وهذا كلام في الحقيقة لا يليق أن نقوله في الله؛ لأن الله يجب أن نصفه بما وصف به نفسه لا نقول: خارج ولا داخل أصلاً، لكن ابتلينا بهؤلاء فنضطر من أجل أن نبسط هذه الأمور أن نتكلم بلغتهم على سبيل نفي الباطل.

قولهم: لا خارج العالم، يقصدون به نفي الاستواء والفوقية والعلو، وأن يكون لله وجود حقيقي بذاته، فلذلك قالوا: ولا خارج العالم.

ونحن نقول: ماذا تقصدون بقولكم: (ولا خارج العالم)؟ إن قصدتم بنفي الخارج أن يكون الله عز وجل ليس بمستو على عرشه، وليس بعلي، فهذا خلاف النصوص وخلاف مقتضى العقول، وكذبتم، وإن قصدتم أننا لا نتصور له وجوداً كوجود العالم خارج العالم فنعم، ليس له وجود كوجود العالم، خارج العالم له وجود يليق بجلاله كما يليق بعظمته سبحانه.

إذاً: فهم من أجل أن يفروا من إثبات الصفات قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا لا يعقل أصلاً، بل ولا يقول به عاقل يحترم نفسه، كذلك: لا مباين ولا محايد ... إلى آخره، ولذلك قال أحد العقلاء لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تعتقده وبين المعدوم؛ لأنه الذي لا داخل ولا خارج ولا.. ولا.. هذا هو الذي لا وجود له.

كما أن الله عز وجل مستو على عرشه فوق السموات، كما أخبر عن نفسه وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وله وجود حقيقي يليق بجلاله، ولابد من هذه الحقيقة، وإلا فإن من تصور غير ذلك فلابد أن يبقى قلبه خاوياً لم يمتلئ بالإيمان الحقيقي، ولذلك كل أهل الكلام الذين تأملوا في حالهم بعد كبر السن أو بعد مدة طويلة وجدوا أنفسهم لا يعتقدون شيئاً، بل وصرحوا بذلك؛ لأنه إذا كنت تعتقد أن رباً ليس داخل العالم ولا خارج العالم، إذاً فأين يكون؟! لا وجود له، وكل الباطل يدور على هذه الفلسفة، لكن لا مانع أن نقرأ مقطعاً يكون فيه مثال وتوضيح، ثم نترك الباقي من الوساوس والأوهام؛ لأن عافية الله أوسع لنا.

القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه هو بمنزلة القول بأن الله لا قديم ولا محدث

قال رحمه الله تعالى: [ فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له.

ومن قال: إنه ليس بحي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم؛ لزمه أن يكون ميتاً أصم أعمى أبكم.

فإن قال: العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، ومن لم يقبل البصر كالحائط لا يقال: له أعمى ولا بصير.

قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة.

وأيضاً فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي.

وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس ].

نكتفي بهذا، ولا مانع من أن أقول وأؤكد مرة أخرى: لماذا نترك بقية هذا الكلام؟ لأني أشعر أنه يوقعنا في سوء الأدب مع الله عز وجل، ويوقعنا في قسوة القلوب، ويوقعنا في حرج نحن في عافية منه، ثم لماذا نناقش أناساً لا عقول لهم؟ يعني: أناساً يقولون في الرب عز وجل هذا القول، فيكفينا أن نرد عليهم بإجمال، ونحمد الله على العافية.

ولذلك فإن كثيراً من هذه المقاطع التي تشبه هذا المقطع في التدمرية وفي غيرها نتجاوزها، وإذا كان في المنهج الذي كنا عليه في الدروس السابقة إذا بدأ الكلام في محارات، ورد على الرد، وقيل وقالوا، فإنما قصد به شيخ الإسلام أولئك القوم المرضى الموسوسين نسأل الله العافية، أما الأصحاء فلا ينبغي أن يوقعوا أنفسهم في هذه الشبهات.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل

وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة:

القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم ].

قوله: (أن الله سبحانه موصوف بالإثبات) أي: إثبات الذات والأسماء والصفات لله عز وجل، بمعنى: أنه لا يكون الإيمان بالله مجرد إيمان ذهني كما يقول الفلاسفة وغلاة الجهمية وغيرهم، بل الأمر أعظم من ذلك، فلابد للإيمان بالله من أن تعرف أن الله موصوف بالأسماء والصفات والأفعال، وأنه لابد أن ننفي عنه جميع النقائص، وكل ما يضاد الكمال فهو منفي عنه عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [ فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255].

وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال; لأن النفي المحض عدم محض ].

يعني: أن النفي الخالص عدم خالص، مثل وصف المتكلمين والفلاسفة ومن أعجب بطريقتهم ومنهجهم -ليس فقط في الدين، بل في الدنيا أيضاً، وهذا ثابت عنهم، ولا نقول ذلك لمجرد ظن أو توهم-: بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا يوصف، وغير قابل للوصف! إذاً: هذا معدوم وخيال في أذهانهم، بل ولا حتى خيال، فالخيال ممكن أن يتوهم له صفات، ولذلك لا نستغرب هذا من الفلاسفة؛ لأنهم ملاحدة، وأعداء الأنبياء، لكن الغريب ممن ينتسبون للإسلام من المتكلمين الذين أعجبوا بطرائق الفلاسفة، حيث أتونا بهذه البدع، بدع النفي لأسماء الله وصفاته أو بعضها تحت دعوى أن النفي يقتضي تنزيه الله عن التشبيه، والشيخ رحمه الله أراد هنا أن يوقظ فيهم الفطرة إن كان عندهم عقول، فيقول: يا قوم! النفي المحض يدل على العدم المحض، والنفي الخالص يدل على العدمية الخالصة، وهذه أمور تعرف بالبداهة، فإذا كان كل شيء ما عندك له إلا النفي فمعناه أن هذا عدم.

قال رحمه الله: [ والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.

فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح، كقوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] إلى قوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255].

فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم.

وكذلك قوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.

وكذلك قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.

وكذلك قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.

وكذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية; لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح; إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية ].

لذلك جاءت الآية في منتهى البلاغة، ولا شك أنه لم ينف الرؤية فقال: لا تراه الأبصار، بل قال: لا تُدْرِكُهُ [الأنعام:103]، وهذا اللفظ يتضمن ضرورة أن هناك من الأبصار من ستراه، وهي أبصار المؤمنين في الجنة يوم القيامة، فالله عز وجل ينعم عليهم بأن يمكنهم من التنعم برؤيته، لكن لا يحيطون به سبحانه.

ولذلك لما تكلم بعض المعتزلة الذين عندهم فقه للغة في هذه الآية حاروا وما استطاعوا أن يتخلصوا من دلالتها، مثل: الزمخشري رحمه الله تعالى، فقد أتى بالآيات التي تثبت الرؤية، ومنها قوله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فأخذ يلف ويدور بطريقة عجيبة؛ لأنه لم يستطع أن يتخلص من فقهه للغة؛ لأنه يعلم أن معنى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] أي: أنه لا يمكن نفي الإدراك إلا بعد ثبوت الرؤية، وإلا فلماذا ينفي الإدراك، والإدراك هو الإحاطة؟ والله عز وجل أعظم من أن تحيط به الأبصار، بمعنى: تدركه، لكنها تراه، وهذا التضمن ضروري في معنى اللغة ومقتضى العقل السليم والفطرة.


استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة التدمرية [22] 3157 استماع
شرح العقيدة التدمرية [12] 2924 استماع
شرح العقيدة التدمرية [5] 2917 استماع
شرح العقيدة التدمرية [26] 2796 استماع
شرح العقيدة التدمرية [13] 2730 استماع
شرح العقيدة التدمرية [2] 2723 استماع
شرح العقيدة التدمرية [17] 2723 استماع
شرح العقيدة التدمرية [3] 2687 استماع
شرح العقيدة التدمرية [4] 2564 استماع
شرح العقيدة التدمرية [8] 2414 استماع