يونس عليه السلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

وحديثنا سيكون عن شخصية قرآنية عرفت الله عز وجل في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، والعسر واليسر، وكانت من خير عباد الله عز وجل في تحقيق العبودية لله تعالى، ما أخلت بالعهد والميثاق طرفة عين، ذلكم هو نبي الله يونس بن متى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد سمى الله عز وجل سورة كاملة في القرآن باسمه، وذكر خبره في أربعة مواضع:

في سورة يونس، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة الصافات، وفي سورة القلم.

أما في سورة يونس فيقول الله عز وجل: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، وهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أرسله الله إلى أهل نينوى بالموصل في العراق، فدعاهم إلى الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، ومكث فيهم ما شاء الله له أن يمكث، لكنهم عاندوه وكفروا به، وتمردوا على دعوته وأبوا أن ينقادوا إلى أمر الله، فخرج منهم مغاضباً بعد أن وعدهم بأن ينزل الله بهم العذاب بعد ثلاث.

فلما خرج عنهم ندموا على ما كان منهم، وقد أيقنوا بأن العذاب نازل لا محالة، حينها ألقى الله في قلوبهم التوبة والإنابة، فلبسوا المسوح، وخرجوا إلى الصعدات، ومعهم دوابهم وبهائمهم ونساؤهم وصغارهم، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، وجأروا إلى الله عز وجل بالتوبة والبكاء، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وفصلانها، وكلهم ضجوا إلى الله عز وجل فتاب الله عليهم، وكشف عنهم العذاب.

يقول سبحانه: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا[يونس:98]، أي: لم تكن هناك قرية كفرت برسولها ثم لما عاينت العذاب آمنت فنفعها إيمانها، كما قال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ[يونس:98]، هذا هو الاستثناء الوحيد، لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[يونس:98]، وعذاب الخزي يتنوع، كما قال ربنا: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

قال تعالى: كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، وقد اختلف المفسرون، هل كشف الله عنهم عذاب الآخرة أيضاً، أم أن النجاة من عذاب الدنيا فقط؟

يقول ابن كثير رحمه الله: والأول أظهر، أي: أن الله عز وجل كشف عنهم عذاب الدنيا والآخرة؛ بدليل قوله سبحانه: إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فلا ينافي تمتيعهم إلى حين أن الله عز وجل كشف عنهم عذاب الآخرة بسبب إيمانهم.

وفي سورة الأنبياء يقول الله عز وجل: وَذَا النُّونِ[الأنبياء:87]، والنون هو الحوت، وَذَا النُّونِ[الأنبياء:87]، أي: يونس عليه السلام، إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً[الأنبياء:87]، أي: مغاضباً لقومه وكارهاً للبقاء بينهم، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ[الأنبياء:87]، أي: لن نضيق عليه، فـيونس لا يمكن أن يظن بأن الله عز وجل ليس له قدرة على إيقاع الضر به، معاذ الله! فكل مؤمن فضلاً عن الأنبياء ذوي المقامات الرفيعة يوقن أن الله على كل شيء قدير، وأنه يقول للشيء: كن، فيكون! وهذه الآية كقوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ[الطلاق:7]، أي: ضيق عليه رزقه، فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ[الطلاق:7]، فالقدر بمعنى التضييق، ومنه سميت ليلة القدر، قالوا: لأن الملائكة تتنزل، وتملأ فجاج الأرض حتى تضيق بهم السكك؛ ولذلك سميت ليلة القدر، أي: ليلة التضييق في الأرض.

فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ[الأنبياء:87-88]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعوة ذي النون: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، لا يدعو بها مسلم في أمر قط إلا استجاب الله له )؛ لأن الله قال: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ[الأنبياء:88]؛ ولذلك إذا أصابك كرب، أو أحاط بك هم، أو نزلت بك قارعة، فاجأر إلى الله عز وجل بهذا الدعاء: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فما أسرع الفرج بإذن الله.

يقول الله عز وجل في سورة الصافات: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الصافات:139-140]، (أبق) أي: هرب، خرج من بين قومه وذهب عليه الصلاة والسلام وركب سفينة من السفن، فثقلت حمولتها حتى عاينوا الهلاك، فقالوا: لابد أن نقترع فيما بيننا من أجل أن نخفف هذه الحمولة، فاقترعوا فخرج سهم يونس عليه السلام بأنه لابد أن يلقى في البحر، فقالوا: عبد صالح، لا نفعل به ذلك، فأعادوا القرعة فخرج سهمه عليه السلام، فقالوا: عبد صالح لا نفعل به ذلك، فلما أعادوها ثالثة علم عليه السلام أن أمراً قدره الله لابد أن يكون، فشمر ثيابه وألقى بنفسه في البحر.

تسبيح يونس عليه السلام لربه جل وعلا

يقول الله عز وجل: فَسَاهَمَ[الصافات:141]، أي: اقترع، فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:141-144].

وللمفسرين في هذه الآية وجهان: قال بعضهم: فلولا أنه كان من المسبحين في بطن الحوت، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.

وقال بعضهم: فلولا أنه كان من المسبحين، أي: الذاكرين المصلين قبل نزول هذه المصيبة، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، ويؤيد هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ).

فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ[الأنبياء:87]، أي: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت.

وقال بعض المفسرين: ذلك الحوت الذي التقم يونس عليه السلام التقمه حوت أكبر منه، فصار في ظلمة بطن حوتين، مع ظلمة الليل وظلمة البحر، فأوحى الله عز وجل إلى ذلك الحوت أن لا تكسر له عظماً، ولا تنهش له لحماً فما هو لك برزق.

يقولون: ظن عليه السلام أنه قد مات، فحرك جوارحه في بطن الحوت فتحركت، فخر لله ساجداً وقال: يا رب! عبدتك في موضع ما عبدك فيه أحد، فذلك المكان ما سجد فيه لله أحد، فسجد يونس عليه الصلاة والسلام لربه جل جلاله في بطن الحوت، ثم سمع أصواتاً، فقال: يا رب! ما هذا؟ فأوحى الله إليه بأن هذا تسبيح الدواب والحصى في قاع البحر، فلهج عليه السلام بهذا الذكر: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

خروج يونس عليه السلام من بطن الحوت ورعاية الله له

كم مكث في بطن الحوت؟ قال بعضهم: التقمه الحوت ضحىً ولفظه عشية، وقيل: بل مكث في بطنه ثلاثاً، وقيل: بل سبعاً، وقيل: أربعين، والله أعلم أي ذلك كان!

يقول سبحانه: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصافات:145]، لما أكثر من هذه الكلمة: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، قالت الملائكة، كما روى ذلك ابن جرير رحمه الله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قالت الملائكة: يا ربنا! صوت معروف من عبد معروف لا ندري أين هو؟ قال الله عز وجل: ذاك عبدي يونس وهو بأرض غريبة، فقالت الملائكة: يا ربنا! عبدك يونس الذي كان يصعد إليك منه عمل صالح في كل يوم، قال الله عز وجل: نعم، قالت الملائكة: اللهم شفعنا فيه! ).

ويشهد لهذا قول ربنا جل جلاله: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ[الشورى:5]، لما كان يونس عليه السلام عبداً صالحاً عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، وعرفته الملائكة، أما إنسان والعياذ بالله! لا يسجد لله قط، ولا يعرف لله حقاً، وما رفع يديه إلى الله يوماً من الأيام، فتنزل به شدة، أو يحيط به كرب، فيقول: يا رب! يا رب! تقول الملائكة: يا ربنا! صوت منكر من عبد منكر، ما سمعناه قبل ذلك يقول: يا رب!

ويونس عليه السلام استجاب الله دعاءه، قال سبحانه: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصافات:145]، قال ابن عباس : نبذ بالعراء كالفرخ لا ريش له، يعني: مثل ما يخرج الفرخ من البيضة، منزوياً لا ريش له، ضعيفاً، شخيتاً، هكذا خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت.

يقول سبحانه: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:146]، وهي شجرة القرع.

قالوا: من خصائصها: أن ورقها كثير ظليل، في غاية النعومة، لا يقع عليه ذباب، ثم إن ثمرها وهو القرع، يؤكل من أول طلوعه إلى آخره، نيئاً ومطبوخاً ببزره، يؤكل كما هو، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:146]، وهذا من رحمة الله عز وجل بهذا النبي الكريم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى )، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم العبد الصالح، ( لما أوى إلى بستان عتبة بن ربيعة ، في طريق عودته من الطائف، وقد أدموا عقبيه، وبلغ منه الجهد كل مبلغ، فعطفت عتبة بن ربيعة الرحم على النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أخوه شيبة ، فأرسلا غلامهما عداساً بقطف من عنب، وقالا له: اذهب بهذا العنب إلى ذاك الرجل، فمد النبي عليه الصلاة والسلام يده إلى الطعام وقال: بسم الله، فقال عداس : ما سمعت أحداً من أهل هذه البلاد يقول هذا الكلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أنت؟ قال: من نينوى، قال عليه الصلاة والسلام: قرية العبد الصالح يونس بن متى ، قال عداس : وما أدراك ما يونس بن متى ؟ قال: ذاك أخي نبي وأنا نبي، فأكب عداس يقبل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه، فقال شيبة لأخيه: أما محمد فقد أفسد عليك غلامك ).

أقول: الدرس العظيم الذي نستفيده من قصة يونس عليه السلام: أن المؤمن يعبد الله في الشدة والرخاء، والعسر واليسر، في السراء والضراء، في الصحة والسقم، في الغنى والفقر، على كل الأحوال حاله لا تتغير.

أسأل الله أن يجعلنا من خير عباده الذاكرين الشاكرين.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ذو القرنين 2755 استماع
فرعون 2320 استماع
يوسف عليه السلام 2277 استماع
قارون 2029 استماع
زيد بن حارثة 1994 استماع
عيسى بن مريم عليه السلام 1909 استماع
أبو بكر الصديق 1801 استماع
خولة بنت ثعلبة وأم كلثوم بنت عقبة وحفصة بنت عمر وآسيا بنت مزاحم 1710 استماع
أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط 1703 استماع
عبد الله بن سلام 1510 استماع