عبد الله بن سلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

حديثنا سيكون عن عالم رباني وإمام صحابي، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، كان كتابياً ثم أسلم فآتاه الله أجره مرتين، وهو من بني إسرائيل من ولد هارون بن عمران على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد كان رضي الله عنه عالماً بحق، ما كان من بني إسرائيل ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وقد آتاهم الله آياته فانسلخوا منها، فأتبعهم الشيطان فكانوا من الغاوين، من أمثال كعب بن أسد و حيي بن أخطب و بلعام بن باعوراء وغيرهم ممن أكلوا الدنيا بالدين.

وهذا الرجل المؤمن رضي الله عنه صدق الله فصدقه الله. ذلكم هو أبو الحارث عبد الله بن سلام الإسرائيلي الهاروني رضي الله عنه، وهذا الرجل الطيب المبارك بدأت مسيرته مع دين الله في اليوم الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، يقول رضي الله عنه: (كنت أخترف زرعاً لي، فسمعت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدم المدينة، فانجفل إليه الناس - أي: أسرعوا - وكنت فيمن انجفل، قال: فلما وقفت عليه ورأيت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وسمعته يقول: أيها الناس! أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام).

وكان رضي الله عنه ذا فراسة، فقد علم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس بوجه كذاب، وسمع منه كلاماً يقطر عذوبة وحلاوة، لكنه أراد أن يستوثق لأمره، ( فقال له: يا محمد! إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي! ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وهل ينزع الولد لأبيه أو إلى أمه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني بهن جبريل آنفاً، أما أول أشراط الساعة فنار تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى المحشر، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما شبه الولد فإذا سبق ماء الرجل أشبه الولد أباه، وإذا سبق ماء المرأة أشبه الولد أمه، فقال عبد الله بن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي يبهتوني عندك، فأرسل إليهم وسلهم عني، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام لكبار أحبار يهود، ثم سألهم: ما تقولون في ابن سلام ؟ قالوا: هو سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا، قال: فما قولكم لو أسلم؟ قالوا: نعيذه بالله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام فقال: يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال اليهود: هو فاجرنا وابن فاجرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، فقال عبد الله بن سلام : ألم أقل لك يا رسول الله بأنهم قوم بهت! ).

وهذا الرجل المبارك رضي الله عنه نزلت فيه آيات، منها:

قول ربنا جل جلاله: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]، فقد روى عكرمة عن عبد الله بن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سلام رضوان الله عليهم.

وقول الله عز وجل: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43]، قال مجاهد بن جبر رحمه الله: نزلت في عبد الله بن سلام .

وقول الله عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ[الأحقاف:10]، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: نزلت في عبد الله بن سلام .

فهذه آيات ثلاث يثني الله جل جلاله فيها على هذا الحبر البحر، وهذا العالم الرباني رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا الرجل المبارك رأى رؤيا في منامه: ( رأى كأنه في روضة خضراء فسيحة، في وسطها عمود، في أعلاه عروة، فقيل له: ارقه، يعني اصعد على هذا العمود، فقلت: لا أستطيع، فجاء نصيف -أي: خادم- من خلفي فرفع ثيابي ثم رفعني فرقيت حتى نلت تلك العروة، فذكرتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فالعروة الوثقى، وستموت وأنت مستمسك بها )، بشره النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يختم له بخير.

وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون لهذا العالم حقه وشرفه وجهاده، وكان رضي الله عنه ممن شهد فتح بيت المقدس.

يقول يزيد بن عميرة رضي الله عنه: لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة جلست عند رأسه أبكي، فقال لي: ما يبكيك؟ قلت: أبكي للعلم الذي ذهب، فقال لي معاذ : أما إن العلم ما ذهب، فاطلبه عند أربعة: أبي الدرداء و عبد الله بن مسعود و سلمان و عبد الله بن سلام الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه عاشر عشرة في الجنة، فقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، وكانت وفاته رضي الله عنه سنة ثلاث وأربعين.

والدرس الذي نستفيده من قصة ابن سلام أن الإنسان لو طلب الحق واجتهد في دركه؛ فإن الله عز وجل يسدده ويوفقه، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[العنكبوت:69].

فلو قارنا بين عبد الله بن سلام الرجل الذي كان يهودياً فأخذ الله بناصيته إلى الحق، وبين ناس نشأ بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرفون صدقه وأمانته، وصلته وبره، وشرفه ونسبه، ومع ذلك كذبوه وعادوه، فمرة قالوا: ساحر، ومرة قالوا: كاهن، وأخرى قالوا: مجنون، وكانوا في إفك مختلف.

وإذا ذكرنا عبد الله بن سلام وتحريه للحق فلابد أن يذكر معه سلمان ابن الإسلام عليه من الله الرضوان، فهذا الرجل المبارك رحل رحلة طويلة يطلب الحق، يقول رضي الله عنه كما في مسند الإمام أحمد من رواية عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، يقول: (حدثني سلمان وأخذت ذلك من فيه، أي: من فم سلمان إلى أذن ابن عباس ، يقول سلمان : كنت رجلاً مجوسياً يعبد النار، من أصبهان، وكنت أحب ولد أبي إليه، حتى أنه حبسني كما تحبس الجارية، بلغ به حبه إياي أن يحبسني في بيته كما تحبس الجارية، يقول رضي الله عنه: واجتهدت في دين المجوسية، حتى جعلوني قاطن النار لا أدعها تخبو لحظة، يعني: كان يغذي تلك النار بالحطب؛ لئلا تخبو، يقول رضي الله عنه: وكان لأبي ضيعة يختلف إليها في كل يوم يتفقد حالها، فشغل ببناء له يوماً، فقال لي: أي بني! انطلق إلى تلك الضيعة وافعل كذا وكذا، ولا تتأخر، فإنك إن تأخرت شغلتني عن كل عمل لي.

يقول رضي الله عنه: فمررت بقوم من النصارى في كنيسة لهم يصلون، فسمعت أصواتهم، وأعجبتني صلاتهم، فطفقت أنظر إليهم حتى غربت الشمس وما بلغت الضيعة، فأرسل أبي في طلبي، فلما رجعت إليه، قال: أي بني! أين كنت؟ قلت: إني مررت بقوم كان من خبرهم كذا وكذا، وقد أعجبني دينهم، فقال أبي: ويلك، لا يفتنوك، دينك خير من دينهم، قلت: لا والله! بل دينهم خير من ديننا، وكان رضي الله عنه صادقاً، ما أخفى أمره، قال: فوضع أبي رجلي في القيد، قال: فأرسلت إليهم، أي: أرسل سلمان إلى أولئك النصارى من يسألهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فقلت لهم: إن قدم ركب يريدون الشام فأعلموني، يقول: فلما قدم ركب خلعت رجلي من القيد، ولحقت بهم حتى أتيت بلاد الشام -خرج رضي الله عنه مهاجراً من بلاد فارس إلى بلاد الشام يطلب الحق- قال: فكنت عند قسيس لهم، جئته فقلت له: إني أريد أن أكون معك، أخدمك، وأصلي بصلاتك، وأتعلم منك، قال: فافعل، قال: وكان رجل سوء، ممن يأكلون الدنيا بالدين، يأمر الناس بالصدقة فإذا أتوه بها لا يعطي فقيراً، ولا مسكيناً، وإنما يدفنها عنده، حتى ملأ سبع قلال ذهباً وورقاً، قال: فأبغضته بغضاً شديداً.

يقول رضي الله عنه: فلما مات اجتمعوا إليه ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة ولا يعطي منها فقيراً ولا مسكيناً، قالوا: وما علمك بذاك؟ فقلت لهم: إن هذا المال قد جعله في قلال دفنها، وإن شئتم دللتكم على مكانها، قالوا: دلنا عليها، قال: فدللتهم، فلما أدركوا أني صدقتهم صلبوه ثم رجموه، ثم أقاموا رجلاً مكانه، فوالله ما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس خيراً منه، ولا أدأب في ليله ولا نهاره منه، يعني: كان رجلاً عابداً لله في الليل والنهار.

قال: فأحببته حباً عظيماً، حتى إذا نزل به الموت قلت له: أي فلان! إنه قد نزل بك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً على وجه الأرض على مثل ما أنا عليه، فإن الناس قد بدلوا وغيروا، ولكن عليك بفلان في أرض الموصل، في العراق، فخرج سلمان رضي الله عنه -بعدما غيب ذلك القس الصالح- من الشام إلى الموصل يريد الحق، وبقي مع ذلك القس الذي أوصاه به الأول، فلما أدركه الموت، أوصى به إلى رجل في نصيبين، في تركيا، فخرج إليه، حتى إذا أدركه الموت، أوصى به إلى رجل في عمورية، فبقي مع ذلك القس يعبد الله على دين المسيح ابن مريم، فلما أدركه الموت قال له: يا فلان! إلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً على وجه الأرض على مثل ما أنا عليه اليوم، ولكن قد أظل زمان نبي من بني إسماعيل يخرج في أرض العرب، مهاجره إلى أرض سبخة بين حرتين كثيرة النخل، فإن استطعت أن تلحق به فافعل.

يقول سلمان : وكنت قد اكتسبت بقرة وشويهات، فلما قدم نفر من العرب من بني كلب، قلت لهم: أعطيكم بقرتي وشويهاتي على أن تبلغوني أرض العرب، فقالوا: نفعل، فأخذوا البقرة والشويهات، وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى غدروا بي فباعوني عبداً رقيقاً لرجل من اليهود، فبقيت في خدمة ذلك اليهودي. يقول: فقدم ابن عم له فابتاعني منه، وحملني إلى يثرب.

قال: فوالله ما إن رأيتها حتى عرفتها، أي: لما رأى المدينة تذكر كلام ذلك القس الذي قال له: مهاجره إلى أرض سبخة بين حرتين كثيرة النخل.

يقول رضي الله عنه: وبينما أنا أعمل في نخل سيدي اليهودي إذ جاء ابن عم له فقال له: قاتل الله بني قيلة، اجتمعوا في قباء على رجل قدم من مكة يزعم أنه نبي، يقول سلمان رضي الله عنه: فأخذتني العروراء، أي: الرعدة، فقلت له: ماذا تقول؟ قال: فلطمني اليهودي، وقال: ما شأنك؟ أقبل على عملك، قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستوثق.

يقول: فلما أمسيت أخذت شيئاً من تمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه، فقلت له: بلغني أنك رجل صالح، وهذا شيء من تمر قد جمعته صدقة لك ولأصحابك، فكف صلى الله عليه وسلم يده وقال لأصحابه: كلوا -فقلت في نفسي: هذه والله واحدة!- فلما كانت الليلة التي تليها أتيته بتمر فقلت: إنها هدية، فقال: بسم الله، فأكل مع أصحابه -فقلت: وهذه والله ثانية! وبقي له أن يرى خاتم النبوة- يقول: فطفقت أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدركته في جنازة في بقيع الغرقد وهو جالس، فطفقت أدور ففطن صلوات ربي وسلامه عليه أني أريد أن أرى شيئاً، فألقى رداءه، فرأيت خاتم النبوة بين كتفيه، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال صلى الله عليه وسلم: تحول، قال: فتحولت، قال: ما شأنك؟ فقصصت عليه خبري، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي سمع ).

وكانت أول مشاهده رضي الله عنه الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فانظروا إلى عناية الله بعبده، يخرج من أصبهان إلى أرض الشام، ثم إلى الموصل، ثم إلى نصيبين، ثم إلى عمورية، ثم إلى وادي القرى، ثم إلى يثرب، حتى يصير واحداً من خير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يعرف أحواله، وفرح بمولده كان ممن كفر به، حتى نزل قوله تعالى:

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].

حين نقارن بين الحالين؛ نؤمن يقيناً بقول ربنا: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً [الكهف:17].

أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ذو القرنين 2756 استماع
فرعون 2321 استماع
يوسف عليه السلام 2278 استماع
قارون 2031 استماع
زيد بن حارثة 1995 استماع
عيسى بن مريم عليه السلام 1910 استماع
أبو بكر الصديق 1802 استماع
خولة بنت ثعلبة وأم كلثوم بنت عقبة وحفصة بنت عمر وآسيا بنت مزاحم 1711 استماع
أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط 1709 استماع
يونس عليه السلام 1645 استماع