فرعون


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

الحديث عن شخصية ذكرت في هذه السورة المباركة، سورة الأعراف في آيات طويلة، وقد ذكرت سابقاً في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، وتذكر في القرآن مراراً، ذكرت أربعاً وسبعين مرة.

هذه الشخصية هي شخصية ألأم إنسان على وجه الأرض، وقع في شرك التعطيل، حيث أنكر وجود رب العالمين جل جلاله، وطرح ذلك السؤال الأبله حين قال لنبي الله موسى : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، هذه الشخصية هي شخصية فرعون الذي بلغ به عرام الكفر أن يقو لقومه: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، ويقول لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي[القصص:38]، ويقول لهم: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، وقد أثبت القرآن أنه كاذب في المقولتين معاً.

أما قوله: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى[غافر:29]، فهو كاذب؛ لأنه كان يعلم يقيناً أن موسى عليه السلام نبي مرسل، وأن هذه الآيات التي جرت على يديه لا يستطيعها بشر؛ ولذلك قال له موسى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102]، وقد أراه تسع آيات بينات:

الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وأخذ بالسنين، ونقص من الثمرات، وفي كل مرة كان الخبيث يقول لموسى: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ[الزخرف:49]، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]، وفي كل مرة كان موسى عليه السلام يدعو الله عز وجل فيزيل البلاء فيرجع فرعون إلى الكفر والجحود والعصيان.

وأما قوله لقومه: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فالقرآن الكريم كذبه في هذه أيضاً، قال ربنا جل جلاله: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود:97]، فهو أبعد الناس عن الرشاد.

أيها الإخوة الكرام! لو تأملنا هذه الشخصية الطاغية نجد جملة من الصفات يشترك فيها الطغاة جميعاً، أول هذه الصفات:

الصفة الأولى: الذهول والنسيان

الذهول والنسيان، فإن الطاغية فرعون ومن كان مثله يدعي أموراً ويزعم مزاعم، ثم بعد ذلك ينسى ما ادعاه، فقد قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي[القصص:38]، ثم بعد ذلك ينسى هذه الدعوى حين رأى آيتين من الآيات، حين أخرج موسى عليه السلام يده فإذا هي بيضاء للناظرين، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، قال فرعون: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الأعراف:109-110]، ومتى كان الإله يطلب الأمر من عابديه ومن رعيته؟! وفي مرة أخرى يقول لقومه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، ومتى كان الإله يخاف؟! فتجد هؤلاء الطغاة دائماً يغلب عليهم الذهول والنسيان؛ لأنهم كاذبون وحبل الكذب قصير.

الصفة الثانية: إطلاق التهم وترويج الأباطيل

ثانياً: من أساليبهم: إطلاق التهم وترويج الأباطيل؛ ولذلك قال فرعون لموسى: إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، وقال: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف:109]، وقال: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً [الإسراء:101]، فهو مرة ساحر ومرة مسحور.

وبعد أن آمن السحرة برب موسى وهارون اتهمهم فرعون بأنهم ماكرون، متآمرون، إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123].

الصفة الثالثة: التهديد باستعمال القوة والبطش

ثالثاً: التهديد باستعمال القوة والبطش، فقد قال للسحرة: لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:124]، لكن السحرة رضي الله عنهم كانت بشاشة الإيمان قد خالطت قلوبهم؛ ولذلك لم يعبئوا بهذا التهديد ولم يلتفتوا لهذا الوعيد، ورأوا فرعون بقوته وجبروته حشرة لا تساوي شيئاً؛ ولذلك قالوا له: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا[طه:72]، (والذي فطرنا) فيها وجهان: إما أن تكون الواو واو القسم فيكون المعنى: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ[طه:72]، والله! الذي فطرنا، فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ[طه:72]، أو أن تكون الواو عاطفة فيكون المعنى: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ[طه:72]، ولا على الذي فطرنا، فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ))[طه: 72]، وكذلك كان يتهدد موسى عليه السلام، ويقول له: لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، وكان موسى عليه السلام يعلم يقيناً أنه لن يستطيع سجنه، ولن يقدر على قتله ولن يصل إليه بسوء؛ لأن الله عز وجل قال له ولهارون: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وقال له: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص:35]، والله لا يخلف الميعاد سبحانه وتعالى.

الصفة الرابعة: الحجر على الفكر وتقييد حريات الناس في اختيار ما يناسبهم

رابعاً: الحجر على الفكر، وتقييد حريات الناس في اختيار ما يناسبهم؛ ولذلك هؤلاء السحرة لما آمنوا، لم يجد فرعون ما يعترض به سوى أن يقول: آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ[الأعراف:123]، فهو لا يريد لأحد أن يؤمن إلا بعد أن يستأذن، ولم يستأذنوا وقد رأوا آيات الله عز وجل وأنت مصروف عنها؛ لأنك متكبر، والله عز وجل يقول: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً[الأعراف:146]، وهكذا كان فرعون؛ ولذلك صرف عن الإيمان والعياذ بالله!

الصفة الخامسة: متابعة رعيتهم الأوغاد لهم في الحق والباطل

خامساً: أن رعيتهم سفلة أوغاد، يتابعونهم في الحق والباطل، في الهدى والضلال، في الخطأ والصواب، لا يصوبونهم، ولا ينصحونهم، بينما رعية أبي بكر رضي الله عنه كانوا يناصحونه؛ لأنه قال لهم: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، وعمر رضي الله عنه يقول لرعيته: ماذا لو رأيتم في اعوجاجاً؟ فيقوم أحد الصحابة ويقول له: لقومناك بسيوفنا، فيحمد عمر رضي الله عنه ربه، أن جعل في الأمة من يقيمه على الطريقة المستقيمة لو حصل منه انحراف أو اعوجاج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منها ).

أما رعية فرعون فقد كانوا كالببغاوات يرددون ما يقول، ففي سورة الشعراء قال فرعون: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء:34]، وفي سورة الأعراف: قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف:109]، فهم يرددون ما يقوله فرعون دون تبصر، وفي النهاية عمت البلية الجميع، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8]، فكلهم أخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.

الصفة السادسة: أن عاقبتهم أليمة ونهايتهم وخيمة

سادساً: العاقبة أليمة، والنهاية وخيمة، يقول الله عز وجل: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً [نوح:25]، ويقول الله عز وجل عن فرعون وقومه: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[هود:97-98]، مثل ما كان في الدنيا أمامهم، كذلك يوم القيامة سيكون قدامهم، يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98].

ويقول الله عز وجل عن الطغاة عموماً: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.