أرشيف المقالات

تلخيص منهج الدعوة في سورة الأنفال

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
تلخيص منهج الدعوة في سورة الأنفال


يمكن إجمال منهج الدعوة الإسلامية - في السلم والحرب - في السورة الكريمة كما يلي:
أولًا: في الباب الأول أوضحتُ أن القتال الذي وقع بين المسلمين ومشركي مكة، لم يكن يقصده المسلمون، وإنما قصده وسعى إليه كفَّار مكة، وأصروا على ذلك، خصوصًا بعد نجاة عِير أبي سفيان، وكانت إرادة الله تعالى إحقاق الحق وإبطال الباطل، وأن تكون ذاتُ الشوكة للمسلمين، وفي ذلك إعزاز للمسلمين وإذلال للكافرين المعتدين المتغطرسين، وقد ثبت وتأكَّد ما يلي:
1- أن الخروج في بادئ الأمر لم يكن للقتال، وإنما تحتَّم وفُرض على المسلمين وكان عليهم أن يواجهوا الأمر، ولا يصلح التراجع بأي حال من الأحوال.
 
2- أن الخروج قد حدث مع كراهة البعض للقتال، وهذه طبيعة بشرية وقد أقرَّها الإسلام، ولكنهم لم يدخلوا في القتال إلا بعد قَبول الأمر واجتماع الكلمة، وذلك بعرض الأمر على المهاجرين والأنصار، الكارهين والمتحمسين فيهم.
 
3- أهمية التزام المؤمنين بصفات أهل النصر والتمكين؛ لأن الله تعالى لا يؤيد ولا ينصر إلا المؤمنين حقًّا، ومِن أهم هذه الصفات: إصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم؛ كي ينال المؤمنون الدرجات العلا والرزق الكريم؛ وذلك بالذكر الدائم لله عز وجل كي يتحقق وَجَل القلوب وزيادة الإيمان بتلاوة كلام الله عز وجل وسماعه، والتوكل على الله تعالى، وإقام الصلاة، والإنفاق من رزق الله، وهذه من أهم عوامل استجلاب النصر والمعية والتأييد من الله عز وجل.
 
4- أهمية الدعاء والاستغاثة بالله عند الشدائد، خصوصًا قبل لقاء الأعداء وفي ساحة القتال، وذلك يكون مع الثبات والصبر أمام الأعداء، وأن يطمئن المؤمن تمامًا للنتائج، فهي إما النصر، وإما جنة عرضها السماوات والأرض.
 
5- أهمية الألفة بين المؤمنين، فهي الدرع الواقي والسد المنيع الذي تتحطم عليه آمال المشركين في اختراق صفوف المؤمنين، وتتحقق الألفة بإصلاح ذات البَيْن والاجتماع على العقيدة وهي الأساس والمبدأ والمصير المشترك.
 
ثانيًا: وفي الباب الثاني أوضحتُ من خلال عناصر التربية الإيمانية أهميةَ الجانب العملي والممارسة الفعلية في التربية الإيمانية، وتأكد ما يلي:
1- أهمية الاستجابة القوية والفورية لنداء الحياة ولدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالإسلام حياةٌ، والإيمان حياة، والجهاد حياة، والقرآن حياة.
 
2- أهمية اتِّقاء الفتنة باجتناب أسبابها، وأهم أسبابها ترك الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك الجهاد وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ففي ذلك تمكين لقُوى الشر ودعاة الضلال والتحلُّل.
 
3- الحذر من الخَوَنة والخيانة، ومن دواعيها، وأهمها التعلق بالدنيا والحرص على المال والولد.
4- أن الفرقان من ثمرات التقوى، وهو رؤية الحق حقًّا والباطل باطلًا، والتمييز بين الخير والشر، والهداية إلى الأصوب والأصلح.
5- أن الله تعالى كما يُربِّي عباده بالفضائل والنِّعم والخيرات، يربيهم أيضًا بالشدائد والامتحانات، وأشدها الابتلاء بفرض القتال.
 
6- أن أفعال المشركين القبيحة - ومنها فتنة الناس عن الدين والصد عن سبيل الله، والإنفاق لتحقيق هذا الهدف - هو سبب هزيمة هؤلاء المشركين، كما أنه سببٌ ومبرر لقتالهم لوقف هذه الأفعال ومنعها.
 
7- ربط الإيمان بالأحكام، فإن من شروط الإيمان تطبيقَ الشريعة الإسلامية، وتنفيذ أحكام الإسلام؛ كتخميس الأنفال، والاستجابة لأمر الدفاع عن الدعوة والدولة.
 
8- الوقوف على سنن الاجتماع، وهي سنن لا تتغير ولا تتحول، وهي أيضًا سنن لا تجامل، بل تعمل في حزم وصرامة؛ ومنها سنن الإهلاك وهي تصيب المُنكِرين للألوهية، وسنن الأخذ، وهي تصيب الجاحدين لفضائل الربوبية، ثم سُنة الرقي، وأن المحرك لهذه السُّنة هو الأخلاق الفاضلة والقِيم العالية، وأن التغيير يبدأُ من داخل النفس؛ فالتحوُّل إلى الرقي يبدأ بالإصلاح الداخلي والتخلي عن الفساد وسيئ الأفعال وأهمها الظلم، وأخص أنواعه الظلم الاجتماعي؛ أي ظلم العباد لبعضهم.
9- عدم التشبُّه بالكفار شر الدواب، سواء كانوا هم المشركين عبدة الأصنام، أو كانوا اليهود.
 
10- التنبيه على سوء عاقبة كفران النعم وجحود فضائل الله عز وجل فإن ذلك إيذان بسلبها وضياعها والحرمان منها، وأن نعم الله تعالى تواجه بالشكر.
 
ثالثًا: وفي الباب الثالث، وقد اتَّسم بالخطاب المباشر بالوصايا والأحكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه تشريع للأمَّة، وقد اشتمل على عدة أحكام، وكلها تهدف في حقيقتها إلى إقرار السلم؛ وكانت هذه الأحكام كما يلي:
1- إقرار العهود والعقود واحترامها تحقيقًا للسلم وتجنبًا للقتال.
2- قتال ناقضي العهود، والنبذ لمَن خِيف نقضهم (بأَمَارات).
3- أخذ الحذر والحيطة الدائمة.
4- وجوب إعداد المستطاع مِن القوة، تحقيقًا للسلم المسلَّح، فإن مِن شأن إعداد القوة ترهيب أعداء الدين والدولة من الاعتداء على المسلمين، ومن شأنه كذلك إجبار العدو على طلب السلم.
 
5- أن القوة التي يجب إعدادها، لا بد وأن تتناسب مع متطلبات العصر وثورة الاتصالات والمعلومات، وما يسمى بالأسلحة الذكية، وأن تتناسب أيضًا مع قوة العدو، لتحقيق قوَّة الردع الإسلامية، للتلويحِ بها واستعمالها عند الضرورة، وحسب الظروف وميزان القوى وقياس المصالح العامة.
 
6- ومن أهم أنواع القوةِ القوةُ الإيمانية وإعداد الأمة إعدادًا إيمانيًّا؛ وذلك بالتربية النظرية والعملية، كذلك القوة العلمية، وأهمية تحقيق التفوُّق العلمي، وفقه الدين والدنيا، وفقه الواقع (معرفة فقه الأولويات، وهو باختيار الأنسب والأفضل في المرحلة الواحدة، أو ما يسمى بواجب الوقت، ومعرفة فقه التدرُّج؛ أي مرحلية العمل وتوصيف المرحلة، ومتى وكيف يتم الانتقال من مرحلة دعوية إلى مرحلة أخرى).
 
7- الدعوة إلى الجنوح إلى السلم حال طلب العدو وجنوحه - حتى وإن كان مخادعًا - مع أخذ الحذر والحيطة والحفاظ على مستوى قوة الردع اللازمة.
8- أن السلم - أي السلام - هو الهدف الأساس الذي يسعى الإسلام لتحقيقه؛ لأن في ذلك فوائد كثيرة؛ منها:
أ.
أن مناخ السلم هو المناخ الصحي لانتشار الدعوة.
ب.
إعطاء الفرصة للاختيار الحر وتحقيق مبدأ (لا إكراه في الدين).
ت.
عدم تعريض أي إنسان للفتنة أو الأذى بسبب دينه أو عقيدته.
ث.
إتاحة المجال لتقوية أفراد الأمة والارتقاء بها إيمانيًّا وعلميًّا.
 
9- حسن معاملة الأسرى والحفاظ على حياتهم؛ فقد يكونون مُغيَّبين لا يعلمون شيئًا عن الإسلام وتعاليمه السمحة.
 
10- أن الموالاة - أي النصرة - من أهم التزامات العقيدة؛ فالمؤمنون أولياء لبعضهم، وعليهم نصرة بعضهم، وإنقاذ المستضعفين، ورفع الظلم عن المظلومين، وإصلاح ذات بَيْنهم، وهو أول ما استهلَّت به السورة وختمت وكان حسن الختام.
 
رابعًا: الأساليب:
1- أسلوب الحكمة: وقد تجلى في عدة أمور منها:
أ‌.
تأخير إجابة السؤال عن الأنفال والبَدْء بما هو أهم، وما مِن شأنه الحفاظ على النصر ومنع الخلاف، وهو تقوى الله وإصلاح ذات البَيْن.
ب‌.
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وعرض الأمر عليهم لتجديد البيعة على القتال من ناحية، ومن ناحية أخرى الاستعانة بأصحاب النفوس المتحمسة لتقوية أصحاب النفوس المترددة في أمر القتال.
 
2- أسلوب الترغيب والترهيب، وقد تجلى في عدة أمور؛ منها:
أ‌.
ترغيب الكفار في الانتهاء عن الكفر والعدوان، بمغفرة الذنوب الماضية، والترهيب من الإصرار على الشرك والعداوة للدعوة وأهلها.
ب‌.
ترغيب الأسرى بحسن الجزاء وحسن معاملتهم.
ت‌.
ترغيب المسلمين في الجهاد في سبيل الله بالاستجابة لِما فيه حياة العزة والكرامة في الدنيا، والحياة الطيبة في جنة الخلود والنعيم المقيم، والترهيب من الفتنة باتِّقاء أسبابها من ترك الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
 
3- أسلوب الجدال: فقد جادل بعض المسلمين - في أول الأمر - في أمر القتال خوفًا من عواقبه بسبب عدم الاستعداد.
 
خامسًا: الوسائل: تعدَّدت الوسائل في السورة الكريمة وتنوَّعتْ؛ ومنها:
وسيلة القول والسؤال، وتقوى الله عز وجل، وإصلاح ذات البَيْن، والاستغاثة بالله، والتوكل عليه؛ أما وسيلة القتال، فلا بد من مواجهة الأمر وقَبوله؛ دفاعًا عن الدين والدعوة والدولة، وقد ثبت أن للقتال مبرراتِه وأهدافَه، وأنه ضرورةٌ واستثناء، وأن الأصل هو تجنُّب القتال ما أمكن، بما سبق بيانه من وسائل أخرى؛ كالمعاهدات، والصلح، وغير ذلك.
 
سادسًا: الخصائص، ومن أهمها:
1- الفطرية: إن الناس صنفانِ، طالب للحق مسالمِ، ورافض له معانِد؛ فالأول يُدعَى بالحجة والدليل، وعرض الآيات والبراهين، وجداله بالتي هي أحسن حتى يجد ضالَّته، أما الثاني، فإِنْ رَفَض الجدال وأصرَّ على العناد، فقد اضطرَّنا هو إلى الجلاد، كذلك فإن الخلاف بين البشر واختلاف المصالح والأهواء من شأنه أن يوقع الصِّراعَ، وقد يؤدي إلى الاقتتال، وقد وضع الإسلام آدابًا وضوابط وأحكامًا لتحقيق العدل والنفع والرحمة بين البشر.
كذلك فإن الفطرة تتجلَّى من نبع هذا المنهج الصافي، وهو القرآن الكريم - كتاب الفطرة - وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة.
 
2- التنوع: ويتَّضح ذلك من تعدُّد مراحل الدعوة؛ فهناك مرحلةُ التبليغ ومرحلة التكوين، ثم مراحل المواجهة، سواء في حال الاستضعاف أو التمكين، ولكل مرحلة خصائصها وما يناسبها من أساليب ووسائل.
 
ففي مكة كان الصبر والتحمُّل، مع استمرار الدعوة والتبليغ، وفي المدينة كانت مرحلة تكوين الدولة والتمكين للمسلمين وإمكان الدفاع ورد العدوان.
 
سابعًا: الآيات الكونية والإنسانية، فقد جاء ذكر المطر والنعاس، وما لهما من دور وأثر في تحقيق النصر، وتأييد المؤمنين، بشرط تحقق الإيمان الكامل، وهما - أي المطر والنعاس - وغير ذلك من آيات (كالريح)، وهي من جنود الله المسخرة لنصرة المؤمنين إلى قيام الساعة، لكنَّ استدعاءها يكون بالإيمان الحق.
 
ثامنًا: الدَّاعي عليه أن يتحلَّى بصفات المؤمنين، وأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون قدوة للناس بسلوكه الكريم وأفعاله الطيِّبة لا بمجرد الخطب والدروس.
والله الموفِّق والهادي سبل الرشاد.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣