الإسلام هو القرآن وحده
مدة
قراءة المادة :
49 دقائق
.
ردٌّ لردٍّ [1]
نحمدك اللهم يا هادي المسترشدين إلى الحق والصواب، ونسألك أن تؤتينا
الحكمة وفصل الخطاب وأن تؤيدنا بروح منك، فإننا لا نعتمد إلا عليك ونصلي
ونسلم على نبيك المبعوث رحمة للعالمين، بكتاب مبين، لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه تنزيل من عليم حكيم (وبعد) :
فقد اطلعت على ما كتبه الأستاذ الفاضل الشيخ طه البشري ردًّا عليَّ فيما
ذهبت إليه، فسررت جدًّا لغيرته، وشكرته على أدبه ونزاهته، ولكن لما كنت
أخالفه في أكثر آرائه اضطررت إلى مناقشته ليظهر لي الحق إن كنت مخطئًا،
راجيًا من أهل الإنصاف والعقل أن يكونوا حكمًا بيننا، والله ولي الهداية، المنقذ
من الغواية.
قال - حفظه الله -: (وأما السنة فلأننا نثبتها بالكتاب نفسه فهي منه تستمد
وعليه تعتمد) ثم استشهد على ذلك بعدة آيات من القرآن الشريف لم تكن لتخفى
علينا من قبل، فلهذا نبدي له رأينا فيها واحدة بعد أخرى:
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) :
(ليس هناك معنى لتبيين الكتاب غير تفصيل مجمله وتفسير مشكله ... ) إلخ، ونقول: لو كان جميع ما ورد في كتب السنة من الأحاديث المعتبرة تبيينًا للقرآن لكان في غاية الإجمال ولَما وصفه الله تعالى بكونه بينًا ومفصلاً في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) ، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (الحج: 16) ، وقوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 3) ، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1) إلى غير ذلك من الآيات.
فكيف وصفه الله تعالى بهذه الأوصاف وهو محتاج إلى كل المجلدات الضخمة (كتب السنة) لتوضحه وتفسره وتفصله؟ وكيف يكون القرآن آية في البلاغة وفيه ما لا يُفهم إلا إذا فسره الرسول بنفسه؟ ألا يستنكف أحدنا أن يكتب للناس كتابًا لا يفهمونه إلا إذا فسره هو لهم؟ ! ! فما لك بالقرآن المبين، نعم، قد أطلق القرآن الكلام في مسائل قليلة لتكون عبارته منطبقة على أحوال جميع البشر في كل زمان ومكان، ولكن هذا شيء والإجمال شيء آخر. ولتوضيح المقام نضرب مثلاً لكلٍّ: فمثال الإجمال قولك: حرم الله الخبائث، وإذا أردت تفصيله تقول: حرم الله الخنزير والخمر والميتة والدم وغيرها.
ومثال الإطلاق أن تقول: جاء محمد، وتقييده يكون بنحو قولك: (جاء محمد راكبًا فرسًا في يوم الجمعة) ، فالمجمل ما دخل تحته جميع أفراد المفصل، والمطلق لا تدخل فيه أفراد المفصل، والمطلق لا تدخل فيه أفراد المقيد ولكنه يتحملها، أي أن الأول كالجراب الحاوي للمفصل والثاني كجراب غير حاوٍ له ولكنه يسعه , فالقرآن ليس فيه مجمل نحتاج إلى تفصيله إلا وفصله بقدر ما تقتضيه حاجة البشر , ولكنه فيه مطلق لم يتقيد ليقيده أولياء الأمر حسب الحال والزمان والمكان , فإن قيل: لِمَ لا نعتبر السنة تقييدًا لمطلقه بالنسبة للعالمين؟ قلت: لأن النبي لا يعلم حالة البشر في جميع الأزمنة والأمكنة , وإن كان الله تعالى أعلمه بها فلِمَ لَمْ يقيد جميع مطلق القرآن بالقرآن كما قيد بعض مطلقه فيه؟ والخلاصة: إن القرآن بيّن ومفصل تفصيلاً يفي بحاجة جميع البشر بدون احتياج إلى شيء سواه , ولذلك لم يصفه الله تعالى بالإجمال في موضع واحد ووصفه بضده في مواضع كثيرة كما بينا ذلك فيما سبق.
إذ لا يمكن أن يكون معنى التبيين المذكور في الآية ما ذكر الأستاذ وإنما معناه الإظهار والتبليغ وعدم كتمان شيء من الكتاب أو إخفائه عن العالمين كما ورد مثل ذلك المعنى في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} (آل عمران: 187) ، وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة: 15) ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) إلى غير ذلك من الآيات، ثم على فرض أن التبيين هنا معناه التفصيل والتفسير للمجمل والمشكل كما يقول، فهل نسمي ما زاد في السنة عن الكتاب مما ليس له أثر فيه تفصيلاً وتفسيرًا أم ماذا؟ وذلك مثل كثير من نواقض الوضوء وقتل المرتد لمجرد الارتداد وتحريم الحرير والذهب وغير ذلك مما لم يشر إليه الكتاب. الآية الثانية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) ؛ أي يُظهر لهم جميع ما أوحاه الله إليه من الدين ويبلغهم إياه مفصلاً وموضحًا بلُغتهم التي يفهمونها وإتيان النبي بهذا القرآن هو كذلك، وليس في الآية ما يدل على أنه يأتي أولاً بالكتاب غير مفهوم ثم يأخذ في تفسيره وشرحه لهم بعبارات أخرى.
وهب أن ما يدعونه صحيح فالآية صريحة في أن هذا التفسير والتفصيل هو لقومه الذين نشأ وبعث فيهم - وهو ما ندعيه - وليست نصًّا في أنه كان عامًّا لجميع البشر كما هو ظاهر. الآية الثالثة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 151) فتعليم الكتاب هو تحفيظه للناس وتفهيمه لمن لم يفهمه منهم، وتدريبهم على التدبر والتفكر فيه والاستفادة منه وتوجيه أنظارهم إلى ما فيه من الآيات والدلائل والعبر والحكم وحثهم على إدراكها وتصورها وغير ذلك مما قد يفوت بعضهم.
وقوله: (والحكمة) عطف تفسير كقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة: 53) ، والمعنى أن القرآن ذو حكمة كما وصفه بقوله: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (يس: 2) ، وعلى تسليم أن العطف هنا للمغايرة فليس المراد بالحكمة الشرائع والعبادات ونحوها وإنما المراد الحكم والمواعظ والآداب والفضائل وأنواع التهذيب والتأديب والتثقيف التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم نحو الأمة العربية حتى أخرجها من ظلمات الهمجية إلى نور العلم والمدنية.
ونحن لا نرفض شيئًا من ذلك بل نقبله على العين والرأس كما قلنا في المقالة السابقة، والذي ندعيه أن القرآن مشتمل على أمهاتها، ولا أظن أن حضرة الأستاذ يخالفنا في ذلك. الآية الربعة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) ونحن لم نعارض في ذلك بل نقول: إن إطاعة الرسول فرض محتم على كل من أمره بشيء، وإنما موضوع البحث هو: هل أوامر الرسول القولية (السنة) خاصة بزمنه أم عامة؟ وبعبارة أخرى هل فرض علينا نحن فرضًا غير ما في كتاب الله تعالى؟ وهل للرسول أن يفرض على من ليس في عصره وبعد تمام القرآن شيئًا زيادة عما فيه؟ أما من كانوا في عصره فله أن يأمرهم بأي شيء يرى فيه مصلحة لهم في دينهم أو دنياهم؛ لأنه رئيسهم وأعظم أولياء أمورهم وأعلمهم بما فيه الفائدة وأرجحهم عقلاً وهو أولى الناس بتطبيق القرآن على حالهم وتقييد مطلقه بما يوافقهم، وطاعتهم له واجبة. ولو وجه إلينا خطابه لوجبت علينا نحن أيضًا ولعلمنا أن الله أمره بذلك، ولكن دعوانا أنه لم يفعل , فهذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها تشبه من وجه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (الحجرات: 2) فلو وجد عليه السلام في زماننا لحق علينا امتثال هذا الأمر. الآية الخامسة: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) فليس في هذه الآية ما يدل على أن الرسول يأمر أو ينهى أو يحل أو يحرم بغير ما في القرآن فمن اتبع القرآن فقد اتبعه في كل ذلك.
ولعل ما سقط من هذه الآية في مقالة الشيخ من الطابع لا منه! الآية السادسة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) : هذه الآية وردت في الفيء ونصها هكذا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) ومعناها: ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عن أخذه منه فانتهوا.
يقولون إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أي سبب النزول، ولكنا نقول: إن الكلام هنا في السياق لا في السبب، ولو لم يعتبر للسياق لوجب على كل مسلم مثلاً أن يكون دائمًا متجهًا نحو الكعبة في أي عمل يعمله لقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: 150) ولكن السياق يدل على أن ذلك في قبلة الصلاة فكيف يعتبر السياق هنا ولا يعتبر هناك؟ ! سلَّمنا أن آية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (الحشر: 7) عامةً في كل شيء وأمر، ولكن هذا لا يفيد مناظرنا الفاضل شيئًا؛ لأننا نقول إن السنة أعطاها الرسول للعرب لا لنا كما سبق، ولو أعطاها لنا لوجب علينا أخذها، وبعبارة أخرى: إن السنة هي خطاب الرسول الخاص والقرآن خطاب الله العام، أما ما أورده بعد ذلك من الآيات فليس فيه شيء جديد ويعرف الجواب عنه مما بيناه هنا.
ثم إني أسأل حضرته سؤالاً وهو: ما الحكمة في جعْل بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر سنة؟ مثلاً إذا كان الله تعالى يريد أن كل من كان عنده من المسلمين عشرون دينارًا من الذهب أو مئتا درهم من الفضة وجب عليه أن يخرج زكاتها ربع عشرها في جميع الأوقات وفي جميع البلدان، فلماذا لم يذكر ذلك تفصيلاً في الكتاب كما ذكر المواريث وغيرها؟ وما حكمة الإجمال في بعض المواضع والتفصيل في الأخرى؟ قال حفظه الله: (إن كل ما يجري على لسان الرسول أو يبدو من عمله إنما هو بالوحي السماوي أو الإلهام الإلهي الصادق) وهذه العبارة على إطلاقها غلط لا نوافقه عليها؛ لأن بعض أعمال الرسول وأقواله كانت باجتهاد منه عليه السلام ولم تكن وحيًا مطلقًا، وقد عوتب في بعضها؛ لأن الله تعالى لم يقره على غير الصواب والكمال وما كنا نظن أن حضرة الأستاذ نسي ذلك أو تناساه مع أن القرآن الشريف شهد به وكذلك الأحاديث الصحيحة المعتبرة عنده؛ فلذا نلفت نظره إلى ما ذكره المفسرون في مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (الأنفال: 67) وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) ، وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1-2) وإلى غير ذلك من الآيات.
حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي بكاءً شديدًا من بعض هذه العتابات.
وقد ورد في الحديث أيضًا أن النبي نهى عن تأبير النخل، ولما علم بضرر ذلك رجع عنه وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) فالعصمة لله ولكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم: 3-5) - فذلك في شأن القرآن خاصة وهو الذي لا يجوز أن يخطئ فيه مطلقًا. ثم قال الأستاذ ما معناه: إن السنة إجمالاً متواترة وإنها مقطوع بها كالكتاب، ونقول إن أفراد السنة لم يتواتر منها شيء إلا ما كان يعد على أصابع اليد.
وإذا لم تكن أفرادها متواترة إلا القليل فلا فائدة في القول بأنها متواترة إجمالاً، بل ولا معنى له ولا يغنينا ذلك من الحق شيئًا.
ولم نسمع أحدًا غيره يقول إنها بالجملة مقطوع بها كالكتاب. وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) هو في شأن القرآن كما يدل عليه ما قبله، ولم تُسَمَّ السنة بالذكر مطلقًا.
وكيف نقول: إن هذه الآية تتناولها مع أن الاعتبار الوجودي يكذبنا لا يؤيدنا.
فإنه مع عناية المسلمين بها قد تطرق إليها جميع أنواع التحريف بالزيادة والنقص والتبديل، ولا يمكننا مهما بحثنا في تاريخ الرواة وغيره أن نجزم بشيء منها إلا ما تواتر وقليل هو؛ لأن الكذاب أو الضعيف أو المطعون فيه بوجه ما قد يروي أحيانًا ما هو حق وصدق فلا نقبله منه فيحصل النقص في السنة! وكذلك الثقة قد يخطئ أو يكون ممن تظاهر بالصلاح والاستقامة حتى غرنا فنأخذ الحديث عنه والرسول بريء منه , فيحصل بسبب ذلك التبديل والزيادة في السنة.
فهي أشبه شيء بكتب أهل الكتاب , وما نشأ ذلك إلا من عدم كتابتها في عهد النبي عليه السلام وعدم حصر الصحابة لها في كتاب وعدم تبليغها للناس بالتواتر وعدم حفظهم لها جيدًا في صدورهم حتى أباحوا نقلها بالمعنى واختلفت الرواية عنهم لفظًا ومعنًى! فلو كانت السنة واجبة في الدين لأُمروا أن يعاملوها معاملة القرآن , حتى نأمن عليها من التبديل والزيادة والنقصان , والذي نراه أن ما أجاب به الأستاذ عن هذه المسائل ليس إلا من قبيل المراوغة في البحث تخلصًا من شدة وقْعها على النفس كما يتضح ذلك لمن طالع ما كتبه وكتبناه من العقلاء المنصفين , وهنا نريد أن نسأل حضرته سؤالاً وهو: لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة أقواله في صحف على حدتها، ولأجل التمييز بينها وبين القرآن يكتب عليها ما يفيد أنها أقوال الرسول ويأمر أصحابه بحفظها وتبليغها للناس بالتواتر كما بلغوا القرآن حتى يصل إلينا كتابان لا نزاع فيهما ولا اختلاف؟ ! وهَبْ أنه مع العناية التامة بتمييزهما عن بعضهما وبلغت بعض عبارات الرسول درجة الإعجاز فدخلت في القرآن أو دخل شئ من القرآن فيها وحفظ الاثنان بدون أن يختلط بهما شيء أجنبي عنهما حتى وصلا إلينا بالتواتر وبدون أن ينقص منهما شيء - ولو أنهما اختلطا ببعضهما شيئًا قليلاً - أليس ذلك أخف ضررًا من ضياع بعض السنة وعدم الجزم بأكثر ما بقي منها مع العلم بأنها شطر الدين الثاني كما يزعمون؟ وبذلك كان المسلمون يستريحون في القرون الأولى من العناء والتعب في لمها وتمحيصها وهم لم يصلوا إلى النتيجة المرغوبة ولن يصلوا، وكانوا يصرفون همتهم هذه إلى شئ آخر. واعلم أن زبدة ما أجاب به الأستاذ عما ذكرناه من الفروق بين الكتاب والسنة بعد طول المناقشة هي قوله: (إن المدار في القطع بالقرآن هو التواتر اللفظي لا غيره مما ذكرت) ونقول: إن القرآن لا شك أنه متواتر لفظًا ومعنًى وكتابةً، وهب أن المدارعلى التواتر اللفظي فقط فأي شئ من السنة وصلنا بمثل ذلك إلا ما شذ وندر؟ وهل يفيدنا ذلك اليسير من السنة المتواترة في شيء من ديننا أو دنيانا؟ ! الكلام هنا لا يشمل التواتر العملي ككيفية الصلاة وعدد ركعاتها؛ لأن الأستاذ ينكر علينا قيمة ما عدا التواتر اللفظي كما يفهم من كلامه.
وإذا سلم قيمة التواتر العملي فالقرآن أيضًا متواتر عملاً في كيفية كتابته، ولذلك حافظ المسلمون على رسم الصحابة له إلى اليوم، وإذا كان ينكر فائدة التواتر العملي، فبِمَ يعرف عدد ركعات الصلاة مثلاً؟ وهل وصله حديث واحد في ذلك متواتر لفظه؟ الحق أقول: لو كانت السنة واجبة وكانت الشطر الثاني للدين لحافظ النبي عليها هو وأصحابه حتى تصل إلينا كما وصل إلينا القرآن بدون نزاع ولا خلاف، وإلا لكان الله تعالى يريد أن يتعبدنا بالظن والظن لا قيمة له عند الله، قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام: 116) ، وما أجمل قوله هنا: {أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ} (الأنعام: 116) فسبحان ربك رب العزة عما يقولون. ولنجمع هنا أعظم الدلائل التي نعتمد عليها في إثبات دعوانا أن السنة كانت خاصة بمن كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: (1) لم تُكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكون أقرب إلى التحريف منها إلى الضبط لو كانت كتبت في عهده. (2) نهى صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء عنه سوى القرآن الشريف ولا يمكن تفسير ذلك تفسيرًا مقنعًا بغير ما ذهبنا إليه. (3) لم تجمعها الصحابة بعد عصره في كتاب لينشر في الآفاق، ولم يحصرها أحد منهم حفظًا في صدورهم، ولو كانت الشطر الثاني للدين لاعتني بها بذلك أو نحوه. (4) لم تنقلها الصحابة إلى الناس بالتواتر اللفظي.
وما تواتر لفظه يكاد يكون لا وجود له وهو غير هام في الدين، وتواتره حصل اتفاقًا لا قصدًا منهم. (5) ما كانوا يجيدون حفظها في صدورهم كحفظ القرآن، ولذلك اختلفت ألفاظ ما تعددت رواته منهم. (6) كان بعضهم ينهى عن التحديث، ولو كانت السنة عامة لجميع البشر لبذلوا الوسع في ضبطها ولتسابقوا في نشرها بين العالمين، ولما وجد بينهم متوانٍ أو متكاسل أو مثبّط لهم. (7) أباحوا للناس أن يرووها عنهم بالمعنى على حسب ما فهموا. (8) لم يتكفل الله تعالى بحفظها فوقع فيها جميع أنواع التحريف، ولا يمكننا القطع بشيء منها مما رواه الآحاد وهو جُلها لمجرد عدم معرفتنا شيئًا يجرح الرواة. (9) يوجد فيها كثير مما لا ينطبق إلا على العرب المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يوافق إلا عاداتهم وأحوالهم كمسألة زكاة الأموال وزكاة الفطر وغير ذلك. (10) يشم من بعض ما وصل إلينا منها رائحة ما ذهبنا إليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: هل يجب الوضوء من القيء: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) . وإن حصل الطعن في سند مثل هذا الحديث فلا يمكن التعليل عن سبب وجوده بين المسلمين مع أنه يخالف روح مذهبهم، وكيف رووه عن واضعه؟ وهل الواضع له كان يقصد أن يقول بمثل رأينا الحالي؟ إذا سلم ذلك دل على أنه لا إجماع بين المسلمين على وجوب الأخذ بالسنة وإن كان الواضع من غير المسلمين فماذا يهمه إذا أخذ المسلمون بالقرآن وحده أو به مع السنة وخصوصًا في مثل هذه المسألة (مسألة نواقض الوضوء) وهل ذلك يشكك المسلمين في دينهم أو يضعفهم مع أنه يعززهم ويقويهم؟ وكيف أخذ بعض الفقهاء بهذا الحديث، وقال: إن الوضوء لا ينتقض بالقيء مستشهدًا به على مذهبه، فالقول بأن هذا الحديث صحيح أو موضوع لا يكفي لشفاء العلة وإرواء الغلة، بل لابد من البحث والتنقيب. فهذه أدلتي أوردتها سردًا بالإيجاز ليتدبرها المتدبرون وليتفكر فيها المتفكرون، وأرجو ممن يرد عليَّ أن يترك المراوغة ويجيبني بما يقنعني ويقنعه، وإلا أضعنا الوقت سدى، ولم نصل إلى هدى. الاستنباط من الكتاب وحده قد أنزل الله تعالى القرآن الشريف بلسان العرب وخاطبهم فيه بما يعرفون وبما يفهمون.
فهو وحي الله إليهم مباشرة وإلى العالمين بواسطتهم.
وجميع ما فيه مفهوم لهم بدون احتياج إلي تفسير مفسر أو تأويل مؤول.
أما الأمم الأخرى التي تأخذ القرآن عن العرب فلابد لهم من معرفة اللغة العربية معرفة تامة وكذا معرفة أحوال العرب وعاداتهم وتاريخهم واصطلاحاتهم حتى يتيسر لهم فهم القرآن على حقيقته.
وهم غير محتاجين لمعرفة شيء آخر من أحاديث أو ناسخ أو منسوخ أو قصص أو غير ذلك مما لم أذكره هنا. وبالاختصار: إن العرب لا تحتاج إلى شيء مطلقًا لفهم القرآن.
وغيرهم لابد له أن يقدر على فهمه.
أعني أن يصير مثل العرب بتعلم ما ذكرت.
ولذا وصفه الله تعالى بكونه لسانًا عربيًّا مبينًا , فلا يرد فيه لفظ لا تعرفه العرب أو اصطلاح لم يعهدوه إلا إذا ذكر ما يفسره، إذا عرفت هذا فاعلم أن اصطلاحات القرآن قسمان: اصطلاحات كانت مستعملة بين العرب قبل نزوله مثل لفظ الحج والإحرام، والبحيرة والسائبة وغيرها , واصطلاحات جديدة لم تكن تعرفها من قبل كلفظ الصلاة والزكاة وغيرهما. أما القسم الأول، فإذا ذكر الله تعالى منه شيئًا فلا يفسره؛ لأنه معروف ولذلك لم يبين القرآن معنى الإحرام مثلاً ولا كيفيته، وإنما ذكر ما يدل على وجوبه. قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (البقرة: 196) فإذا سمع العربي هذا الكلام فهم أن المراد بقوله: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ...
} (البقرة: 196) في هذا المقام النهي عن التحلل قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي يحل فيه ذبحه، وهذا يدلنا على أن الإحرام واجب، ولذلك نهى عن قتل الصيد فيه وشدّد العقوبة على من فعل ذلك وتوعده.
ولو لم يكن واجبًا لما كانت كل هذه العناية به.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) ، وكذلك ذكر تعالى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ورد على أهل الجاهلية فيها فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (المائدة: 103) ولم يبين لنا تعالى معاني هذه الألفاظ اعتمادًا على أن العرب تعرفها , ولا يجوز لنا أن نفسر مثل هذه الألفاظ الاصطلاحية بمعانيها اللغوية، بل يجب فهمها كما كانت تفهمها العرب. وأما القسم الثاني من الاصطلاحات، فإذا ورد في القرآن شيء منه ذكر ما يتبين المراد به، فمثلاً الصلاة وإن كان معناها لغة: الدعاء، إلا أنها في الاصطلاح صورة مخصوصة تستفاد من مجموع آيات القرآن المتعلقة بها ومقارنتها ببعضها مثل قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (النساء: 102) ، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: 29) ، وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج: 26) ، وقوله: {يَاأَيُّهَا ِالَّذِين آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77) ، وقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (الإسراء: 110-111) ، وقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء: 78) ، وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: 114) مع قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (طه: 130) ، فأمثال هذه الآيات يكمل ويفسر بعضها بعضًا، والذي يفهم من مجموعها أن الصلاة المطالبين بها في القرآن هي ما اشتملت على قيام وركوع وسجود ودعاء وتسبيح وتحميد وتكبير وقراءة قرآن، وأما الزكاة وإن كانت في اللغة النمو أو الطهارة فهي في اصطلاح القرآن: ما يعطى من مال الأغنياء للفقراء وغيرهم على سبيل الوجوب، وقد أشار إلى ذلك بقوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُريدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الروم: 38) ، {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم: 39) ، وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) ، وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل: 17-18) . واعلم أنه كما تستفاد العقائد والشرائع والأخلاق من مجموع القرآن فكذلك العبادات لا بد من أخذها من مجموعه لا من بعضه. بقي عليَّ مسألة واحدة مما ذكره الشيخ البشري في هذا الباب وهي قوله ما معناه: إنه قد يرد في الكتاب لفظ مشترك بين معنيين متناقضين ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر إلا بالسنة , وأقول: إنه من المستحيل أن يرد في الكتاب لفظ لا يتعين المراد منه إلا إذا كان معنياه يؤديان إلى الفائدة المطلوبة بعينها كلفظ القروء الذي استشهد به حضرته في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} (البقرة: 228) ، فسواء أريد به الحيض أو الطهر فالنتيجة واحدة , على أنهم قالوا: إن الأصل فيه الانتقال من الطهر إلى الحيض، والترجيح بالسنة لم يؤدِّ إلى النتيجة المرغوبة؛ لأن أبا حنيفة وإن كان أخذ بحديث (طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان) إلا أن غيره لم يبالِ بذلك وأخذ بأدلة أخرى، فقالت الشافعية والمالكية: إن المراد بالقرء الطهر.
وهذا هو الذي اشتكينا ونشتكي منه.
فيا أيها الفاضل المناظر أتدعونا إلى شيء لم يفدكم أنتم المتمسكين به ولا زلتم مختلفين فيه؟! هذا، ولتعلم أن ما قلته في هذا الباب يعد طعنًا منك في بيان القرآن المبين وبلاغته، فلتستغفر الله تعالى منه ولتتب إليه. مراتب السنة الصحيحة أقر الأستاذ في هذا الباب بأن ماعدا المتواتر لا يفيد اليقين.
وأن العمل به عمل بالظن، وقال: إن التكليف باليقين تكليف بما لا يطاق أو موجب للحرج على الأقل وهو مدفوع بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ، ونقول: إن الله تعالى لا يتعبدنا بالظن وإلا لما ذمه في كتابه كثيرًا.
قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام: 116) ، وقال أيضًا: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) والسياق يدل على أن الآية الأولى خصوصًا واردة في الأحكام لا في العقائد. فكيف يذمه الله تعالى ثم يوجب علينا العمل به؟ وقول الشيخ: (إن التكليف باليقين تكليف بما لا يطاق إلخ) غلط؛ لأن التكليف بالقرآن في غاية السهولة وليس فيه من حرج.
اللهم إلا أن يكون مراده التكليف بالعمل بالسنة على وجه اليقين، فيكون كلامًا حجة عليه لا له. وقد أقر أيضًا في هذا الباب بأن أصحاب كتب الحديث إذا اختلج في نفس أحدهم أقل شبهة من أحد رواته نفض يديه منه وانقلب إلى أهله خاويًا من ذاك الحديث وفاضه، وهذا القول يؤيد ما قلناه من أن السنة حصل فيها نقص كل التأييد، فإن الحديث إذا كان يرفض لأقل شبهة في أحد الرواة فلابد أنهم رفضوا أحاديث كثيرة، ولابد أن بعضها كان صحيحًا في الواقع ونفس الأمر؛ إذ الاشتباه في الراوي لا يمنع من ذلك. أما دفاعه عن المجتهدين ومحاولته أن يقول: إنهم جميعًا على الحق وإن اختلفوا فمما لا يقبله العقل، فإن الحق واحد وإذا كان مع أحدهم فلا يمكن أن يكون مع مخالفه، وإذا كان مراده أنهم كلهم مثابون على اجتهادهم فأنا لم أعارض في ذلك، ولم يكن هذا موضوع بحثي في مقالتي السابقة. الإجماع استدل عليه بآية وأخطأ في إيرادها ونصها كما قال المنار: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115) ، وهي كما ترى في غير هذا المقام ولا تناسب ما نحن فيه، وعلى فرض المناسبة نقول: إنه لم يرد في القرآن أن المؤمنين لا يخطئون.
أو أن طريقهم واحد ولا يسيرون في طريق الباطل.
ولو أورد لنا آية بهذا المعنى لكانت حجة لحضرته.
والذي نعلمه أن المؤمنين يجوز عليهم جميعًا الخطأ ويجوز أن يسيروا في طريق الباطل، فمن خالفهم فيه أثابه الله، ومن لم يتبع سبيلهم الحق عذبه الله.
فمعنى الآية هكذا: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} (النساء: 115) ، أي يعصيه ويخالفه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء: 115) ؛ أي: طريقهم الحق عذبه الله بما ذكر، وإذا سار المؤمنون في طريق الباطل فلا يسمى هذا طريقهم؛ لأنه أمر عارض يخالف طبيعتهم.
ولا يزال طريق الحق يسمى طريقهم؛ لأنه هو الذي يحنون إليه بمقتضى فطرتهم ويتطلبونه إذا ضلوا.
وهم لم يحيدوا عنه إلا خطأ أو جهلاً، ورجوعهم إليه سهل إذا أرشدوا. هذا وإني قد تركت بعض مسائل لم أبدِ ملاحظتي عليها في مقالة الأستاذ الأولى خوفًا من التطويل والسآمة؛ ولأن البحث فيها لا يؤدي إلى نتيجة هامة في الموضوع ولا يغير جوهر الكلام. مبحث الصلاة نبدأ الكلام في هذا البحث بذكر بعض مسائل يحتاج إليها القارئ كل الاحتياج ليفهم حقيقة ما نرمي إليه فنقول: (1) إن عدد ركعات الصلاة كما وصلنا متواتر عملاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. (2) لو سلمنا أن أصحاب الرسول عليه السلام كانت تعتقد أن الفرض منها ما هو معروف لما ضرنا ذلك شيئًا؛ لأننا نقول: لعل ذلك كان لأن النبي جمعهم على هذه الأعداد المخصوصة وحتمها رغبة منه في كمال النظام وتمام الاتحاد ورفع أي اختلاف بينهم إذ كانوا حديثي العهد بالوفاق والوئام! وليس من خَلَف بعدهم مضطرًا لالتزام ما أمروا هم بالتزامه! فليس حديث ذي اليدين ولا حديث عائشة اللذان أوردهما الأستاذ بمفيدين لنا في هذا البحث شيئًا، على أنهما ليسا بمتواترين ونحن وإن احتججنا بمثلهما على غيرنا لقبوله ذلك لا نقبل الاحتجاج بهما على أنفسنا؛ لأنهما لا يفيدان إلا الظن كما تقدم. ثم إن الأستاذ لم يجبنا عن السبب في صلاة النبي ركعتين ركعتين مدة إقامته بمكة وجزء من إقامته بالمدينة أي أكثر من نصف زمن الدعوة وأراد التخلص من ذلك بمناقشتنا في بعض ألفاظ حديث عائشة وهو لم يرو كما نقله، ففي البخاري أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (الصلاة أول ما فرضت ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) ، هذا الحديث أقرب إلى رأينا في عدم تسمية صلاة السفر قصرًا منه إلى رأيهم وأظهر منه حديث عمر - رضي الله عنه - حيث قال: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم) ، ولذلك اضطر كثير من المفسرين إلى تأويلهما والأستاذ يظن أننا أول من أنكر تسمية صلاة السفر قصرًا وتغاضى عن أقوال الصحابة أنفسهم. (3) لم يرد حديث واحد متواتر لفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا نحن فيه بهذه الأعداد المخصوصة , أما حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهو ليس متواترًا وليس صحيحًا في أمر الركعات.
وهب أنه يشمل ذلك فهو خاص بمن في عصر النبي بدليل قوله: (كما رأيتموني) . عجبًا منك - أيها الأستاذ البشري - كيف تحتج عليَّ بهذا الحديث وهو غير صريح في المسألة.
ولا تحتج به على أبي حنيفة الذي نقلت قوله ويظهر أنك أقررته في أنه يكفي قراءة أي آية من القرآن في الصلاة ولو كانت غير الفاتحة، مع أن النبي وأصحابه أجمعوا على المحافظة على قراءة الفاتحة في كل ركعة وتواتر عنهم ذلك ولم ينقل عن النبي عليه السلام أنه تركها مرة واحدة في أول الدعوة أو في آخرها في سفر أو حضر، فهل المصلي بدون الفاتحة يكون عندك مصليًا كما صلى النبي ولا يكون كذلك من صلى ركعتين بدل الأربع؟ ولماذا ترى أننا خالفنا طريق المؤمنين، ولا ترى أن أبا حنيفة فعل ذلك أيضًا؟ ! وما السبب في ذهابه هذا المذهب؟ أليس ذلك لأنه يرى أن التواتر العملي وحده لا يكفي إذا لم يصحب بأمر لفظي يفهم منه وجوب الشيء من عدمه ويكون غير قابل للتأويل ولا الطعن فيه. (4) لو كان وصلنا أصل الأمر بركعات الصلاة متواترًا لفظه فلربما كنا نجد أنه يدل على أنه خاص بمن في عصر النبي عليه السلام، أو أنه على الأقل لا يدل على العموم. والإجماع على فهم مخصوص غير حجة علينا، فكم من أشياء فهمناها على غير ما فهمها الصحابة والتابعون.
انظر مثلاً إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88) ، فلو سألت عنه جميع الصحابة والتابعين لقالوا لك هذا يحصل يوم القيامة.
مع أن كثيرًا من علمائنا الآن صاروا يقولون إنه حاصل في الدنيا.
ولو قال واحد في الزمان الأول: إن النبي أخبر الصحابة بدوران الأرض، لاتفقوا جميعًا على إنكار ذلك وتكذيبه.
ولو كانوا رووا القرآن بالمعنى لرووا هذه الآية على حسب فهمهم.
ولو لم يصلنا أصل النص لما علمنا أنه يحتمل ما قاله ذلك المخالف للإجماع. (5) غير المتواتر يفيد الظن ولا يفيد اليقين كما أقر بذلك الأستاذ البشري فيما سبق، والله لا يتعبدنا بالظن فلو كان الله يريد منا المحافظة على هذه الأعداد المخصوصة لوصل إلينا أصل الأمر بالتواتر، وحيث إنه ما وصلنا دل ذلك على أن الله لا يريد منا إلا المحافظة على ما في كتابه صريحًا أو ما استفيد منه؛ لأن المتواتر غيره قليل وليس في مسائل هامة في الدين كحديث: (أُنزل القرآن على سبعة أحرف) فإنه متواتر في رأي الأكثرين. إذا علمت كل هذه المسائل فاسمع ملخص البرهان: الأمر بركعات الصلاة إما أن يكون تحريريًّا أو قوليًّا، هو ليس بتحريري، ولم يصلنا أمر قولي متواتر بذلك إذ لم يصل إلينا أمر مقطوع به مطلقًا من الطريق الأول أو الطريق الثاني، فإن قيل: إن التواتر العملي دال عليه وعلى ما هو مفروض قلت: يحتمل أننا إذا نظرنا في أمر الرسول الأصلي وجدناه إما خاصًّا بمن في عصره أو أنه على الأقل لا يدل على أنه عام لجميع الناس في جميع الأزمنة والأمكنة، وإذًا فليس عندنا دليل قطعي على وجوب هذه الأعداد.
والله لا يتعبدنا بالظن كما قلنا مرارًا فلو كان يريد منا المحافظة على هذه الأعداد المخصوصة لوصل إلينا أصل الأمر بالتواتر حتى لا يبقى عندنا أدنى ريب وحيث إن هذا الأمر لم يصل إلينا بالتواتر دل ذلك على أن الله لا يريد منا المحافظة على هذه الأعداد والاستماتة عليها وهو المطلوب. ولنعد الآن إلى إتمام البحث في هذه المسألة فنقول: نازعنا الأستاذ الفاضل فيما استنتجناه من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (النساء: 101، 102) إلى آخر الآية.
فاعلم أن الخطاب بالجمع في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (النساء: 101) إلخ - لا يستلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أو من يقوم مقامه داخل فيه إذ كثيرًا ما ورد الخطاب بالجمع ولم يرد به إلا الأكثرين كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) فالخطاب هنا وإن كان لجماعة المؤمنين إلا أنه لا يشمل الزوجين ولا الحكمين إلا إذا حاولنا التأويل، وهَبْ أن الخطاب يشمل كل فرد فنفي الجُناح لا يستلزم أن القصر واجب على كل فرد في كل صلاة، إذا علمت ذلك تبين لك أن صلاة النبي ركعتين عند الخوف في السفر وهو إمام إن قلنا عنها لم تكن قصرًا لما خالفنا مضمون قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا} (النساء: 101) حتى يتم علينا إلزام حضرة الأستاذ المناظر. أما قوله إن القيد: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) لا مفهوم له وأنه لبيان الواقع - فمما لا نوافقه عليه؛ لأن الأصل عدم ذلك ومتى أمكن حمل الكلام على وجه يجعل لكل قيد مفهومًا وجب المصير إليه، أما إذا لم يكن ذلك لدليل قام عندنا اضطررنا إلى القول به , وهنا لا دليل يمنعنا من القول بأن هذا القيد معتبر في هذه الآية وأحاديث الآحاد التي تنافي ذلك هي معارضة بمثلها كقول عائشة وقول عمر اللذين ذكرناهما فيما سبق فإنهما يدلان على أن صلاة السفر ليست قصرًا، فكان القصر هو في صلاة الخوف فقط، وعلى ذلك فإقرارنا بأن القيد في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} (النساء: 102) إلخ، لا مفهوم له لا يستلزم أن نقول بذلك في كل قيد نراه، والخطاب هنا وإن كان للنبي إلا أنه قد جرت عادة القرآن في كثير من المواقع أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ويريده هو وأمته كقول المثل: (إياك أعني واسمعي يا جارة) ولو قلنا: إن كل خطاب للنبي هو خاص به لأخرجنا الأمة من جزء عظيم من تكاليف القرآن كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) ، وقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) ، وقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (الإسراء: 78) ، وقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء: 110) ، الآية، وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} (طه: 132) إلى غير ذلك من الآيات، ولهذا قال علماء الأصول إن كل خطاب للنبي هو أيضًا خطاب لأمته إلا إذا دل دليل على التخصيص، ومما يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: {ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} (الطلاق: 1) ؛ لذلك نقول: إن القيد: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} (النساء: 102) لا مفهوم له؛ لأن الدلائل قامت على ذلك بخلاف القيد: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) ، فإنه معتبر مفهومه لعدم الدلائل القاطعة، ولو كان الحكم في هذه المسألة بحسب اختيار الإنسان وإرادته لحصل التلاعب في فهم أوامر الدين. أما استشهاده بآية: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ} (النساء: 23) فلا حق له فيه؛ لأن هذه الآية ليست مما يتعين أن يكون القيد فيها لا مفهوم له، بل قال بعض الصحابة وغيرهم بعكس ذلك، قال علي - كرم الله وجهه -: (الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر، ثم فارق الأم بعد الدخول فإنه يجوز له أن يتزوج الربيبة) ، وكذلك قال داود من الفقهاء. وصفوة الكلام في هذا الموضوع أن كل قيد ورد في القرآن يجب أن نعتبر مفهومه إلا إذا منع ذلك مانع قوي كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النور: 33) وكل خطاب للنبي خطاب لأمته إلا إذا قام دليل على التخصيص وكل قيد لم يعتبر مفهومه لعلة فلابد أن يكون هنا من فائدة أخرى لوروده في الكلام، وبذلك ننزه كتاب الله تعالى عن اللغو والعبث والإبهام وعدم البيان. أما دعواه أن صلاة الخوف لم يقل أحد بأنها ركعة واحدة فيكفينا في الرد عليه أن نحيله إلى تفسير مثل تفسير فخر الدين الرازي وهناك يجد أن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهدًا وغيرهم قالوا إنها ركعة واحدة فقط كما قلنا وهو المتبادر من قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} (النساء: 102) أي أول سجود؛ لأنه لم يذكر غيره وبه تنتهي الركعة الأولى.
ثم تأتي طائفة أخرى لم تصلِّ فتصلي الركعة الثانية خلف الإمام.
وتكون كل طائفة صلت ركعة واحدة فقط. قال الأستاذ المناظر أني استدللت على أن ما بعد الركعتين في الثلاثية والرباعية زيادة عن القدر الواجب بعدم الجهر في القراءة به وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة وبنى على ذلك ما بنى ولكن عبارتي لم تكن كذلك ونصها هكذا: (كان عليه السلام لا يجهر بالقراءة في الركعتين الأخيرتين وإن جهر في الأوليين ولا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئًا من القرآن، أفلا يدل ذلك على أن منزلتيهما أقل من الركعتين الأوليين؟ !) وشتان ما بين هذا المعنى وذاك.
ثم إنه لم يُجب بشيء عن السبب في عدم الجهر وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة مع فعل أحد هذين الأمرين أو فعلهما معًا في الركعتين الأوليين كما جرت به عادة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا شأن حضرته في أكثر رده علينا فإنه يترك الإجابة عن السؤال نفسه ويشغلنا بغيرها. انتقد علينا تسمية صلاة السفر (اكتفاءً بالواجب) ونرى أن انتقاده هذا له حق فيه إذا أثبت لنا أن النبي كان يلازم في غضون أسفاره النوافل وعندئذ يمكننا أن نستبدل هذه التسمية بغيرها كقولنا (تقليلاً للنوافل) ولما كانت ركعات الصبح والمغرب قليلة بالنسبة لغيرها كان يصليها عليه السلام في السفر كما اعتاد في الحضر بدون تقليل منها. هذا ولم يبق بعد ذلك في مقال الأستاذ شيء يحفل به، وفيما ذكرناه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وفقنا الله لما يحبه ويرضاه وألهمنا الفهم لكتابه المجيد، إنه ملهم الأنام هادي العبيد، رب العرش الفعال لما يريد. تذييل نلفت نظر القارئ إلى المسائل التالية، فإن فيها زبدة هذه المقالة والمحور الذي تدور عليه: (المسألة الأولى) الفروق بين القرآن والسنة القولية هي: (1) القرآن هو قول الله، والسنة هي قول الرسول. (2) القرآن معجز والسنة غير معجزة. (3) القرآن متواتر كل جزء منه، والسنة ليست كذلك. (4) القرآن أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته في زمنه ولذلك نسميه (التعاليم التحريرية أو الكتاب) والسنة نهى عن كتابتها ونسميها (التعاليم اللفظية) . (5) القرآن خطاب الله العام، والسنة خطاب الرسول الخاص. (المسألة الثانية) التواتر العملي لا يدل على الوجوب ما لم يكن مصحوبًا بدليل قولي قاطع، ولذلك قال أبو حنيفة: إن قراءة الفاتحة غير واجبة في الصلاة مع أن ذلك متواتر عملاً عن النبي عليه السلام. (المسألة الثالثة) القرآن بيّنٌ للعرب لا يحتاج لتبيينه إلى كلام آخر؛ لأنه في منتهى البلاغة ولا يكون ذلك إلا إذا كان إيضاحه فوق إيضاح كل كلام سواه، فلا معنى عندنا للقول بأن الرسول مبين له بسنته القولية. (المسألة الرابعة) الإيضاح العملي أبلغ من الإيضاح القولي مهما كانت درجته، فالقرآن وإن كان لا يمكن إيضاحه بقول أوضح منه إلا أنه يمكن توضيحه بالعمل، فإن العمل أبلغ من كل قول، وهذا الأمر يدركه من درس بعض العلوم التي تحتاج إلى العلم والعمل كالطب مثلاً، ويدخل تحت ذلك تصوير الإفرنج للمعاني بصور وأشكال يضعونها في كتبهم لتعين القارئ على الفهم. (المسألة الخامسة) لا ننكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مبين للقرآن بعمله، ولا ننكر أن قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} (النحل: 44) قد يشمل هذا التبيين العملي أيضًا، والذي أنكرناه هو التبيين القولي فقط لما أوضحناه آنفًا، فلا يمكن أن يكون هو المراد بهذه الآية. (المسألة السادسة) التبيين العملي عندنا قاصر على إيضاح ما في الكتاب وتصويره بالفعل، ولا يشمل ذلك الأعمال التي تزيد عن معنى ما في الكتاب، فكل عمل مبين لما في الكتاب يكون واجبًا إذا دل الكتاب على وجوبه، والذي لم يدل الكتاب على وجوبه أو لم يذكره يكون غير واجب علينا. وبعبارة أخرى: (الواجب على البشر لا يخرج عما في كتاب الله تعالى) . (المسألة السابعة) جُل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد عن أ