بدون زعل
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
بدون زعلمِن معاني "زعل" في اللغة العربية: تضوَّرَ وتلوَّى[1]، وكذلك الغَيْظُ والسخط[2]، ذكرت هذا حتى لا يظن أحدٌ أنَّا نتحدث بغير العربية، ولندخل في موضوعنا بلا زعل:
عام 1884م وفي مدينة بوسطن الأمريكية، خرج رجلٌ وزوجته من محطة القطار بملابس متواضعة متوجِّهينِ إلى مكتب مدير جامعة هارفارد، ولم يكونا قد حصلا على موعد مسبق.
قالت مديرة مكتب رئيس الجامعة للزوجينِ القرويين: "الرئيس مشغول جدًّا، ولن يستطيع مقابلتكما قريبًا"...
ولكن سرعان ما جاءها ردُّ السيدة الريفية حيث قالت بثقة: "سوف ننتظره"، وظل الزوجانِ ينتظران لساعات طويلة أهملتهما خلالها السكرتيرة تمامًا، ولكن مع انقضاء الوقت، وإصرار الزوجين، بدأ غضبُ السكرتيرة يتصاعد، فقررت مقاطعةَ رئيسها، ورَجَتْه أن يقابلهما لبضع دقائق؛ لعلهما يرحلان.
عندما دخل الزوجانِ مكتب الرئيس، قالت له السيدة: إنه كان لهما ولد درس في "هارفارد" لمدة عام لكنه توفِّي في حادث، وبما أنه كان سعيدًا خلال الفترة التي قضاها في هذه الجامعة، فقد قرَّرا تقديم تبرع للجامعة لتخليد اسم ابنهما.
المدير - بخشونة -: "سيدتي، لا يمكننا أن نقيمَ مبنًى ونخلِّد ذكرى كلِّ مَن درس في "هارفارد" ثم توفِّي، وإلا تحولت الجامعةُ إلى غابة من المباني والنُّصُب التذكارية".
السيدة: نحن لا نرغبُ في وضع تمثال، بل نريد أن نهب مبنًى يحمل اسمه لجامعة "هارفارد".
المدير - بسخرية -: "هل لديكما فكرة كم يكلِّف بناء مثل هذا المبنى؟! لقد كلفتنا مباني الجامعة ما يربو على سبعة ونصف مليون دولار!".
وهنا استدارت السيدة وقالت لزوجها: "سيد ستانفورد، ما دامت هذه هي تكلفة إنشاء جامعة كاملة، فلماذا لا ننشئ جامعة جديدة تحمل اسم ابننا؟" فهز الزوج رأسه موافقًا.
غادر الزوجان "ليلند ستانفورد وجين ستانفورد" وسط ذهول وخيبة الرئيس، وسافرا إلى كاليفورنيا؛ حيث أسسا جامعة ستانفورد العريقة، والتي ما زالت تحمل اسم عائلتهما، وتخلِّد ذكرى ابنهما[3].
وهذا الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان[4]، اشتهى أن يرى كُثَيِّر عزَّة[5]، ذلك الشاعر الكبير والمشهور في عصره، وكان عبدالملك بن مروان يسمع عن كُثَيِّر وشِعره الذي تسير بهِ الرُّكبان من موطن لموطن في محبوبته عزَّة، فأمر عبدالملك بن مروان أن يبحثوا عن كُثَيِّر ويأتوا بهِ ولو من باطن الأرض! وبينما كان عبدالملك بن مروان جالسًا في ديوان قصره العظيم، إذ دخل عليه آذنه يستأذنه في دخول كُثَيِّر عزَّة عليه، ودخل كُثَيِّر عزَّة على الخليفة عبدالملك بن مروان وندمائه، وحين دخل أخَذ الخليفة يُحدق بدهشة في كُثَيِّر وهو مبهوت، وجلساؤه كذلك اعتلتهم الدهشة؛ لقد وقف أمامهم رجلٌ تزدريه العين، حقير المنظر، صغير البِنية، قصير القامة، دميم الوجه، ذو ملابس رثَّة، فقال عبدالملك: تسمع بالمُعيديِّ خيرٌ من أن تراه!! فذهبت مَثلاً عند العرب، فقال كُثَيِّر عزَّة: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنما الرجلُ بأصغَريه، قلبِهِ ولسانِهِ، فإن نطَق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول - فكان مما قال -:
ترى الرجلَ النحيفَ فتَزْدَريه
وفي أثوابه أسَدٌ هَصور
بُغاثُ الطَّير أطولُها جسومًا
ولم تَطُلِ البُزَاة ولا الصقور
بُغاث الطيرِ أكثرُها فراخًا
وأمُّ الصقر مقلاتٌ نَزُور
لقد عظُم البعيرُ بغير لبٍّ
فلم يستغنِ بالعَظْم البعيرُ
فأحس عبدالملك بن مروان بتسرُّعه في مقولتهِ تلك، فاعتذر من كُثَيِّر عزَّة، ورفع مجلسه وقرَّبه إليه[6].
فإلى كل العاملين، وإلى كل المسؤولين، وإلى كل الناشطين، وإلى أهل الخير خاصة، وأصحاب المؤسسات الخيرية والدعوية أخص الأخص، وإنما خصصتهم بالذِّكر لما يُعلم من رغبتهم في الخير، والسعي في تبليغ الدِّين ونصرته بكل ما يستطيعون - نحسبهم ولا نزكي على الله أحدًا - أقول للجميع ولهم خاصة: افتحوا الأبوابَ، واستمعوا للآراء، ولا يكن ميزانكم شكل الرجل - أو المرأة - ولا جنسه ولا لونه، بل ولا حتى تصنيفه الدعوي وفكره الذي يتبناه، لقد خسرنا الكثيرَ من الأفكار والآراء بسبب رفض الأشخاص لعدم موافقتهم انتماءنا وآراءنا، وأخطر منه كم خسِرنا من أشخاص وقدرات ومواهبَ للسبب نفسه، والأخطر أن بعضهم انقلب على الدعوة، وأصبح من المعادين، والسبب الرئيس هو عدم قدرتنا على استيعاب آرائهم وأطروحاتهم[7].
وحتى داخل صفِّنا الدعوي هناك من التحزبات والصراعات ما الله به عليم، وكأن الدعوة "كيكة" لا تكفي الجميع؛ فالكل يريد أن يأكل منها النصيب الأكبر، وأعجب من هذا وذاك حين نُؤصل لتلك التصرفات شرعًا، ونُلبس آراءنا ومواقفنا اللباس الشرعي الذي لا يقبل النقدَ، ولا يستمع للرأي الآخر، ونعتبر مَن لم يَقبَل منا ضدنا، آسف، أقصد ضد الدعوة ومسيرتها المباركة "هكذا نقول"!
دعونا نراجع، ألم يقل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((كم من أشعثَ أغبر ذي طِمرين[8] لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك))[9]، فهو أغبر وذو طمرين لا يؤبه له، هذا في ميزان الخلق لا يُسمع له ولا يُنظر إليه، لكنه مسدَّد موفَّق مؤيَّد من الخالق، حتى إنه وصل إلى درجة قلَّ مَن يصل إليها، وكأن الحديث يقول: استمعوا لمن ظاهره عليه غبار - وسخ - ومظهره غير لائق، فربما كان الذهب تحت الغبار، وربما كان ألماس تحت الثياب الخلقة، فهل عُدم أمثال هؤلاء؟ وهل نسمع ونصغي لأمثال هذا؟ فقد يكون توفيقنا - بعد الله - بدعوة صادقة منه أو العكس.
وثمة موقف آخر، ففي صلح الحديبة وبعد توقيع الصلح، يقول رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه: ((قوموا فانحَرُوا ثم احْلِقُوا))، قال: فواللهِ، ما قام منهم رجلٌ حتى قال ذلك ثلاث مراتٍ، فلما لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخل على أمِّ سلمة، فذكر لها ما لقِي مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلمة: يا نبيَّ اللهِ، أتحُبُّ ذلك، اخرُجْ لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً، حتى تنْحَر بُدْنك، وتدْعُو حالقك فيحْلِقك، فخرج فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأَوا ذلك، قاموا فنحَرُوا، وجعل بعضُهم يحْلِقُ بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل غمًّا[10].
لقد كان الصحابةُ الرجالُ كثيرًا، بل وأصحاب الرأي والعقول الذكية وأصحاب التقوى، لكن أم سلمة المرأة - رضي الله عنها - قدمت حلاًّ لم يقدِّمه أحد، مع أن القضية متعلقة بالرجال بالدرجة الأولى؛ إنها المنحة الربانية.
والدرس الآخر هو جو الحرية والتعبير الذي منحه الرسولُ الكريم - صلى الله عليه وسلم - للجميع، والذي شجَّع أم سلمة - رضي الله عنه - أن تقدم الحل الناجح.
وأغربُ مِن كل ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد قال: وكَّلني رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بحفظِ زكاةِ رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعامِ، فأخذْتُه وقلتُ: واللهِ لأرفعنَّك إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: إني مُحتاجٌ وعليَّ عِيالٌ، ولي حاجةٌ شديدةٌ، قال: فخلَّيتُ عنه، فأصبحْتُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا هُريرة، ما فعل أسيرُك البارِحة؟))، قال: قلتُ: يا رسول اللهِ، شكا حاجةً شديدةً وعِيالاً فرحِمْتُه فخلَّيْتُ سبيله، قال: ((أما إنه قد كذَبك، وسيعودُ))، فعرفْتُ أنه سيعودُ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه سيعودُ))، فرصدْتُه، فجاء يحثو من الطعامِ، فأخذْتُه، فقلتُ: لأرفعنَّك إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: دعني؛ فإني مُحتاجٌ وعليَّ عِيالٌ، لا أعودُ، فرحِمْتُه فخلَّيْتُ سبيله، فأصبحْتُ فقال لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا هُريرة، ما فعل أسيرُك؟))، قلتُ: يا رسول اللهِ، شكا حاجةً شديدةً وعِيالاً، فرحِمْتُه فخلَّيْتُ سبيله، قال: ((أما إنه كذَبك، وسيعودُ))، فرصدْتُه الثالثة، فجاء يحثو من الطعامِ، فأخذْتُه فقلتُ: لأرفعنَّك إلى رسولِ اللهِ، وهذا آخِرُ ثلاثِ مراتٍ تزعُمُ لا تعودُ، ثم تعودُ، قال: دعني أعلِّمك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بها، قلتُ: ما هو؟ قال: إذا أويْتَ إلى فِراشِك، فاقرأْ آية الكرسِيِّ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255] حتى تختِم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافِظٌ، ولا يقربنَّك شيطانٌ حتى تُصبِح، فخلَّيْتُ سبيله، فأصبحْتُ، فقال لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما فعل أسيرُك البارِحة؟))، قلتُ: يا رسول اللهِ، زعم أنه يُعلِّمُني كلماتٍ ينفعُني اللهُ بها فخلَّيْتُ سبيله، قال: ((ما هي؟))، قلتُ: قال لي: إذا أويْتَ إلى فِراشِك، فاقرأْ آية الكرسِيِّ من أولِها حتى تختِم: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾، وقال لي: لن يزال عليك من اللهِ حافِظٌ، ولا يقربك شيطانٌ حتى تُصبِح - وكانوا أحرص شيءٍ على الخيرِ - فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنه قد صدَقك وهو كذوبٌ، تعلمُ من تُخاطِبُ منذُ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هُريرة؟))، قال: لا، قال: ((ذاك شيطانٌ))[11].
لقد كان الله قادرًا أن يعلمنا هذا الذكر من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون الحاجة إلى الشيطان ليكون واسطة في ذلك، لكن هناك دروس وحِكَم نحتاجها في حياتنا اليومية، ومن الدروس: استمع من الآخر ولا ترفض، ولا تصادر رأيه حتى لوكان ألدَّ أعدائك، فنحن نطبق نصيحة شيطانية؛ لأنه (صدَقك) مع أن الأصل أنه (كذوب)، فقد ينطق بالصدق الكذوبُ، وقد ينطق بالكذِب الصدوقُ.
فإذا كنا فتحنا آذاننا للشيطان وأخذنا منه، أليس من الأولى أن نسمع من إخواننا بلا مصادرة رأي، ولا تحجيم، ولا تسفيهٍ، وأن نكون على استعداد لتطبيق ما يقولون.
قد أكون جَرحت ولكن لا بد للطبيب من الجرح، وقد أكون آلمتُ فلا بد للعلاج من ألم.
أملي أن تفكر فيما قلت، وتتأمله بدون زعل!
اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعَه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] المعجم الوسيط.
[2] المعجم الغني.
[3] http://shoeschool.com/short_stories/stanford-story.html
[4] أحد خلفاء بني أمية المشهورين ت 86 هـ.
[5] شاعر أموي ت 107 هـ كما قال ابن كثير في البداية والنهاية.
[6] http://ejabat.google.com/ejabat/thread?tid=256b79837e40dcfe
[7] هذا لا يعفي الشخص من المسؤولية؛ فكل نفس بما كسبت رهينة.
[8] ثوبين خلِقين.
[9] قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح حسن من هذا الوجه، قال الشيخ الألباني: صحيح.
[10] رواه البخاري 2731.
[11] رواه البخاري 2311.