مخادع ومخدوع
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
مخادع ومخدوعالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
روى أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث أسماء بنت أبي بكر أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن لي جارة - تعني ضَرَّة - هل عليَّ جناح إن تشبَّعتُ لها بما لم يُعطِ زوجي؟ قال: ((المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَي زور)).
إنها لعبة الخداع التي يُجيدها الكثير، الخداع بالقول أو بالمظهر أو بالشكل أو بالجسم، فكم أسرتْ هذه اللعبة مِن أناس! وكم أوقعت في حبائلها من ضحايا ومخدوعين! كم حطمت هذه اللعبة مِن قلوب! وكم أفسدَت مِن بيوت! وكم فرَّقت بين الأحبة! وكم وكم...!
قصة هذه المرأة ألم تكن صحابية؟! هي نموذج لقصَص كثيرة تعيش بيننا اليوم، وهم يلبسون هذه الأقنعة المزيفة ويتلوَّنون بالألوان البراقة الخلابة الساحرة، وهم في الحقيقة ذئاب في ثوب حمَلٍ - كما يقال - وليس الأمر وليد هذا الزمان؛ فمثل هذه الرواية ومثل هذا المشهد حصل لأبينا آدم - عليه السلام - يوم أن وقع فريسة للعبة الخداع التي أجادها ويُجيدها الشيطان وتلاميذه فقال: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 21] فألقى الشيطان خدعته فسقطتْ أولى ضحاياه.
واستمرَّت القصة - قصة المظاهِر الخداعة - حتى أخرج لنا الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تُكلِّفه مِن الثياب أو الصيغ - أو قال: من الصيغة - ما تكلف امرأة الغني، فذكر امرأة مِن بني إسرائيل كانت قصيرة واتَّخذت رجلين مِن خشب وخاتمًا له غلق وطبق، وحشته مِسكًا، وخرجت بين امرأتين طويلتين أو جسيمتين، فبعثوا إنسانًا يتبعهم، فعرف الطويلتين ولم يعرف صاحبة الرجلين مِن خشب)).
وذكر لنا البخاري في "الصحيح" من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((وكانت امرأة تُرضع ابنًا لها من بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديَها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصُّه (قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه و سلم - يمصُّ إصبعه) ثم مُرَّ بأمَة فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار مِن الجبابرة، وهذه الأمة يقولون: سرقتِ زنَيتِ ولم تفعل)).
وهكذا نرى أن الناس تُخدع بهذه المظاهر، حتى أصبح حال الكثير منا اليوم اهتمامه بالظاهر مع خراب الباطن، ونحن هنا لا نَقصِد أن يترك الإنسان العناية بمَظهرِه أو مَركبِه أو ملبسه أو مسكنه؛ بل نحن نعتقد أن الاهتمام بهذا مِن الإيمان إذا ما اقترن بالاهتمام بصلاح الباطن، وهو الأساس والأصل.
لقد أنزل الله - عز وجل - سورة عظيمة، وهي سورة الزخرف، والتي بيَّنت في تفصيلات آياتها خِداع المظاهر، فكشفت زيف ما قد يقع فيه الكثير، فانخدع البعض بكبار قومهم فقالوا: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، وانخدع البعض بصاحب الملك والسلطان، فقال: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، وانخدع الصديق بصديقه فقال: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
ولن تنتهي هذه اللعبة - لعبة الخداع - حتى في آخر الزمان، فإن ضحاياها كثُر، كما صحَّ مِن أخبار عن الصادق المصدوق بأبي هو وأمي في شأن الدجال أن عنده جنة ونار، وأنه يقول للسماء: أَمطِري فتُمطِر، وللأرض: أنبتي فتُنبِت، وعنده ذهب وفضَّة سيقَع في شراك خدعته مِن كُتِب له أن ينخدع.
لقد أصبح المسلمون اليوم أسرى لهذه المَظاهِر الخدّاعة؛ فالكثير ممَّن نراه يُبالغ كثيرًا في شأنه، حتى أخذ يَخدع بعضُنا بعضًا، وتأمل في مبالغات البعض فلا يأكل إلا في المطعم الفلاني، ولا يلبس إلا مِن العلامة الفلانية، ولا يركب إلا سيارة فارهة مِن الوكالة الفلانية، وهكذا حتى أصبح حال الكثير منا أنه أسير لهذه المظاهر، بل إن الكثير من المسلمين وقعوا ضحية لخِداع شركات الإعلام والإعلان، حتى بيع لنا ما كان ضرره أكبر من نفعه، وهذا مُشاهَد ملموس، بل تعمَّدت بعض وسائل الإعلام الخِداع حتى على منظومة القيَم التي تَحملها الأمة، فالرِّشوة أسمتْها هدية، والربا فائدة، والضلال حرية فكرية، والنفاق دبلوماسية، والزنا تَجارِب عاطفية، والعرْي حضارة ومدنية، وهكذا..
إنها المظاهر الخداعة والأشكال المزيفة التي اهتم بها الناس اليوم على حساب قلوبهم وسرائرهم وبواطنهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، فأين الاهتمام بالقلب وأمراضه، والروح وصفائها، والسريرة ونقائها؟!
يروي لنا أهل التاريخ أن كثيِّر عزّة، الشاعر المعروف - وكان نحيل الجسم قصير القامة - دخل على الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، فسأله الخليفة: مَن أنت؟ فقال: أنا كُثيِّر عزة، فقال: أأنت الشاعر؟ قال: نعم، فقال الخليفة - مستقبحًا شكله -: "أن تسمَع بالمُعيديِّ خيرٌ مِن أن تراه"، فردَّ عليه كُثيِّر عزة الشاعر، فقال:
يا أمير المؤمنين:
ترى الرجل النَّحيف فتَزدَرِيه
وفي أثوابه أسَدٌ هَصور
ويُعجبُك الطرير فتَبتليه
فيُخلِف ظنَّك الرجلُ الطَّريرُ
فقال الخليفة: لله درك، ما أفصح لسانَك!
فلا تغترَّ بجمال زهرة الخشخاش؛ فمنها تُصنع المخدِّرات والسموم، ولا تَنخدِع إذا رأيتَ حمارًا على ظهره كتبًا فتظنَّ أنه حمار مثقف، وتذكّر دومًا دعاء الخليل - عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وسلام - يوم أن قال: ﴿ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 87 - 89]، وصحِّح مفهوم المظاهِر الخداعة كما كان الفاروق - رضي الله عنه - يفعل؛ فيوم أن دخل بيت المقدس مرَّ على مخاضة مِن طين، فقال له أبو عبيدة - رضي الله عنه -: ما يسرني أن أهل البلد استَشرفوكَ - أي وأنت في هذه الصورة والطين قد أصابك وثيابك - فقال عمر - رضي الله عنه - مقولته المشهورة: "يا أبا عبيدة، إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
افتخرْ بدينك، وأَصلِح سريرتك، ثم لا تنسَ أن تُصلح ظاهرك، حينها لن تقع - أيها المسلم - فريسة للخداع، أو تكون مخادعًا، والله الموفِّق لكل خير.