عنوان الفتوى : مذهب سلف الأمة في صفات الله تعالى

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

أثبتت نصوص السنة فقط فيما نعلمه دون الكتاب وجود صفات لله اشتبهت علينا. فالله -تعالى- ينفي مشابهته لخلقه بأي صورة من الصور، ولم يشتبه علينا أمر السمع والبصر، فهما ثابتان في الكتاب، ولله سمع وبصر مطلق، يسمع ويبصر كيف شاء، ومتى شاء.
وإنما اشتبه علينا أمر الصفات الجسدية الأخرى التي ليس لها سوى وجه واحد من التأويل لا غير. وذلك إثبات الأصابع والأقدام والمنكبين واليدين لله -تعالى-، ففيها مشابهة عظيمة لله في الخلق، وفيها لا نقول إنها مطلقة فيه، ونسبية في خلقه، أو إنها مختلفة عما خلق، فالأقدام وإن اختلفت مظاهرها، وحجومها، وغيرها من الصفات التي ذكرناها؛ فإنها في النهاية مشتركة في الوظيفة؛ كالسير والتقاط الأشياء، وغيرها من الأفعال التي الله غني عنها، ولا تنبغي لجلاله.
نشكر لكم وقتكم وجهودكم.

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد حمل هذا السؤال جملة من المغالطات، لا نستطيع أن نوفيها حقها في هذا المقام. ولكن نجمل الجواب في بعض النقاط، فنقول:
أولا: ليست نصوص السنة وحدها هي من تثبت لله تعالى صفات أوَّلها أو عطَّلها بعض الناس! بل قد جاء في كتاب الله تعالى صفات كثيرة حدث فيها الشيء ذاته! منها ما أخطأ السائل نفسه في نسبته للسنة دون الكتاب، كصفة اليد، فهي لم تثبت لله تعالى بصيغة المفرد والجمع فقط، بل وبصيغة المثنى الذي هو نص في العدد، كما في قوله -تعالى-: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ ‌بِيَدَيَّ [ص: 75]. وقوله -عز وجل-: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] هذا بالإضافة إلى آيات أخرى هي أشد إشكالا من صفة اليد عند المعطلة، كقوله -تعالى-: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ ‌بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].

ناهيك عن جملة من الصفات الأخرى الثابتة لله تعالى في القرآن، وقد أوَّلها بعض الناس للسبب نفسه الذي ذكره السائل، أشهرها: صفة الاستواء على العرش، التي وردت كثيرا في كتاب الله تعالى، كما في قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقوله -عز وجل-: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ. وهذا قد ورد في ستة مواضع من كتاب الله تعالى [الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4].

ومنها صفة الإتيان والمجيء، كما في قوله -تعالى-: هَل يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة: 210] وقوله -سبحانه-: هَل يَنظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] وقوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وغير ذلك من الصفات.

والمقصود أن حصر ذلك في السنة لا يصح، وإنما هو مهرب للمعطلة، كمهرب التفريق بين المتواتر والآحاد، والحقيقة أن الإشكال في منهج تلقي الصفات وفهمها، لا في نصوص إثباتها، كتابا أو سنةً.

ثانيا: قول السائل: (لم يشتبه علينا أمر السمع والبصر فهما ثابتان في الكتاب ..).
فهذا الذي لم يشتبه على السائل، قد اشتبه على غيره، فنفاه وعطَّله، للسبب نفسه الذي حمل السائل على نفي اليد والقدم وغيرها من الصفات، وهو كونها تقتضي، أو تستلزم تشبيه الله تعالى بخلقه! والحق أن ذلك ليس بلازم، فنحن نثبت لله تعالى ذاتا لا تشبه ذوات المخلوقين، ونثبت له سمعا وبصرا لا يشبه سمع المخلوق وبصره، وكذلك نثبت له يدين لا تشبه أيدي المخلوقين، وننفي علمنا بإدراك حقيقة هذه الصفات، ونفوِّض كيفيتها إلى الله تعالى.

والقاعدة عند أهل السنة في ذلك: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، كما أن القول في الصفات كالقول في الذات. وراجع في ذلك الفتاوى: 122213، 429100، 197971، 397891.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية»: طريقة سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله: من غير تحريف، ولا ‌تعطيل، ولا تكييف، ولا ‌تمثيل: إثبات بلا ‌تمثيل، وتنزيه بلا ‌تعطيل، إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، قال تعالى: {ليس ‌كمثله ‌شيء} فهذا رد على الممثلة {وهو السميع البصير} رد على ‌المعطلة. فقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا، كالسِّنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات.
ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبِّهًا، بل ‌المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبِّهًا، فيقولون: إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين، وكذلك إذا قلنا: هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير، وإذا قلنا: هو رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم ... اهـ.

وإذا تقرر هذا، وصرحنا بنفي إدراكنا لحقيقة هذه الصفات، وبجهلنا لكيفيتها، مع القطع بعدم مماثلتها لصفات المخلوقين، ظهر الجواب عما ختم به السائل سؤاله! ويقرب هذا أن ما ذكِر في القرآن من أسماء فاكهة الجنة لا يعني أن حقيقتها مشابهة لفاكهة الدنيا، مع أن الكل مخلوق، فما بالك بالفرق بين الخالق والمخلوق؟!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية: ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلاً وماء وخمرًا ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظًا ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته، فأسماء الله تعالى وصفاته أَوْلى -وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه- أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته. والإخبار عن الغائب لا يُفهم أن لم يُعبَّر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويُعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميِّز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يُعلم في الشاهد. وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منّا فهمه بذلك الخطاب، وفسّرنا ذلك. وأما نفس الحقيقة المخبَر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. اهـ.

وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك مثلا ثانيا، وهو الروح، فقال: وهكذا القول في المثل الثاني وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تَعرج وتَصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تُسل الشعرة من العجين ... والمقصود أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرًا، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أَوْلَى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدّوه أو يكيّفوه منهم عن أن يحدّوا الروح أو يكيفوها. اهـ.

ثالثا: أهل السنة في باب الأسماء والصفات وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل:
فأهل التعطيل، منهم من نفى أسماء الله وصفاته كلها، ومنهم من أثبت الأسماء ونفى الصفات، وأقربهم أثبت الأسماء وبعض الصفات، ونفى أو أوَّل بعضها، على تفاوت منهم في ذلك.
وأما أهل التمثيل: فمنهم من شبَّه الله بخلقه، ومنهم من شبه المخلوق بالخالق سبحانه.
وأما أهل السنة فيلخص شيخ الإسلام ابن تيمية مذهبهم في جملة واحدة فيقول: مذهب سلف الأمة: إثبات الصفات لله كما جاءت: ‌إثباتا ‌بلا ‌تمثيل، وتنزيها بلا ‌تعطيل. (مختصر الفتاوى المصرية ص203).

ويوضح ذلك في العقيدة الواسطية فيقول: ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له، ولا كفو له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه - سبحانه وتعالى - فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه، ثم رسله صادقون مصدوقون؛ بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون؛ فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اهـ. وانظر الفتوى: 28674 .
وأخيرا ننبه على أننا لا نعلم من نصوص السنة، أو من أقوال الأئمة من أثبت (المنكبين) في صفات الله تعالى. فلعل ما ذكره السائل من إثبات المنكبين سبق قلم.

والله أعلم.