شرح العقيدة الطحاوية [70]


الحلقة مفرغة

مذهب أهل السنة هو الإيمان بالقدر، وقد ذكرنا قول الإمام أحمد : ( القدر قدرة الله ) وأراد بذلك الرد على القدرية الذين ينكرون قدرة الله على كل شيء، ويخرجون كل الأفعال عن خلق الله تعالى، وقد أشبهوا بذلك المجوس.

فالمجوس يجعلون للكون خالقين، والقدرية يجعلون مع الله من يخلق، وقد تقدم أنهم يقولون: إن القرآن مخلوق، واستدلوا بقول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] فأدخلوا صفة الله التي هي كلامه في هذه الآية، وتناقضوا فأخرجوا أفعالهم عن عمومها، فجعلوا أفعالهم من خلقهم وليست من خلق الله، فلم يعملوا بعموم الآية: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16].

ولا شك أن أفعال العباد أولى ما يدخل في عموم الآية، لأنها من خلق الله تعالى، وأن نسبتها إلى العباد نسبة فعل ومباشرة، ولهذا يقال: إن الله خالق كل شيء بما في ذلك حركات العباد وأفعالهم، ومع ذلك فالله تعالى هو الذي مكنهم، وأعطاهم قوة وقدرة، فهم يزاولون الأعمال بقدرتهم وبقوتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، فقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم، وبذلك أصبحت أفعالهم من خلق الله تعالى؛ لقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وأفعالهم هم الذين باشروها، فتنسب إليهم مباشرة، وتنسب إلى الله خلقاً وإيجاداً، وبما أعطاهم الله من القوة والقدرة يثابون ويعاقبون.

ولأجل ذلك نقول: إن العباد فاعلون حقيقة، والله خالقهم وخالق أفعالهم، وأن العبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وأن للعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، ولكن هذه القدرة والإرادة مسبوقة بقدرة الخالق تعالى وبإرادته، هذا هو قول أهل السنة.

المذاهب المخالفة لعقيدة أهل السنة في باب القدر

وقد عرفنا القولين الذين هما طرفان في هذه المسألة:

الطرف الأول: هو قول المجبرة الذين سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم، وجعلوهم مجبورين، ليس لهم أي قدرة أو إرادة، وليس لهم همة ولا عمل ولا أثر في الأعمال، وجعلوا حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح! وأبطلوا حكمة الله تعالى؛ فإذا سئلوا: لماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا يُعذب الله الكفار؟ ولماذا خص الله المؤمنين بأنهم أهل الثواب؟ لم يكن لهم من جواب إلا أن ذلك محض المشيئة، ومحض الاختيار، ومحض الإرادة، وليس لأحد فيه تصرف، وأكثر ما يرددون قول الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ويقولون: إنه قدر ذلك عليهم وخلقه فيهم، ويعذبهم على فعله فيهم، ولكن لا يُسئل عن ذلك!!

وأما الطرف الثاني: فهم المعتزلة الذين أرادوا تنزيه الرب تعالى عن أن يعذبهم على أمر خلقه فيهم كما يقولون، فجعلوا أنفسهم هي التي تباشر وتخلق الفعل، ولم يجعلوا لله أي قدرة, بل كثير منهم يقولون: إن الله لا يقدر على أن يهدي من يشاء، ولا أن يضل من يشاء، بل العباد يهدون أنفسهم أو يضلونها! فهؤلاء طرف هالك بعيد عن الصواب.

وهدى الله تعالى أهل السنة فآمنوا بعموم قدرة الله، وآمنوا بأن له قدرة عامة غالبة على أفعال العباد، وآمنوا بأنه خلق أفعال العباد، وكتبوا في ذلك المؤلفات، كما كتب البخاري في ذلك رسالته المشهورة: (خلق أفعال العباد).

وبينوا أن قدرة العبد هي التي تناسبه، والتي بها يثاب ويعاقب، وأنها مع ذلك مغلوبة بقدرة الله تعالى، وبذلك يستحق العبد الثواب أو العقاب على ما يزاوله من الأعمال التي تنسب إليه؛ لأنه هو الذي باشرها.

ومع ذلك لا يخرج عن إرادة الله تعالى، والهداية بيد الله؛ فهو الذي هدى هؤلاء وأضل هؤلاء، فأضل هؤلاء حكمة وعدلاً، وهدى هؤلاء رحمة وفضلاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقد عرفنا القولين الذين هما طرفان في هذه المسألة:

الطرف الأول: هو قول المجبرة الذين سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم، وجعلوهم مجبورين، ليس لهم أي قدرة أو إرادة، وليس لهم همة ولا عمل ولا أثر في الأعمال، وجعلوا حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح! وأبطلوا حكمة الله تعالى؛ فإذا سئلوا: لماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا يُعذب الله الكفار؟ ولماذا خص الله المؤمنين بأنهم أهل الثواب؟ لم يكن لهم من جواب إلا أن ذلك محض المشيئة، ومحض الاختيار، ومحض الإرادة، وليس لأحد فيه تصرف، وأكثر ما يرددون قول الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ويقولون: إنه قدر ذلك عليهم وخلقه فيهم، ويعذبهم على فعله فيهم، ولكن لا يُسئل عن ذلك!!

وأما الطرف الثاني: فهم المعتزلة الذين أرادوا تنزيه الرب تعالى عن أن يعذبهم على أمر خلقه فيهم كما يقولون، فجعلوا أنفسهم هي التي تباشر وتخلق الفعل، ولم يجعلوا لله أي قدرة, بل كثير منهم يقولون: إن الله لا يقدر على أن يهدي من يشاء، ولا أن يضل من يشاء، بل العباد يهدون أنفسهم أو يضلونها! فهؤلاء طرف هالك بعيد عن الصواب.

وهدى الله تعالى أهل السنة فآمنوا بعموم قدرة الله، وآمنوا بأن له قدرة عامة غالبة على أفعال العباد، وآمنوا بأنه خلق أفعال العباد، وكتبوا في ذلك المؤلفات، كما كتب البخاري في ذلك رسالته المشهورة: (خلق أفعال العباد).

وبينوا أن قدرة العبد هي التي تناسبه، والتي بها يثاب ويعاقب، وأنها مع ذلك مغلوبة بقدرة الله تعالى، وبذلك يستحق العبد الثواب أو العقاب على ما يزاوله من الأعمال التي تنسب إليه؛ لأنه هو الذي باشرها.

ومع ذلك لا يخرج عن إرادة الله تعالى، والهداية بيد الله؛ فهو الذي هدى هؤلاء وأضل هؤلاء، فأضل هؤلاء حكمة وعدلاً، وهدى هؤلاء رحمة وفضلاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمما استدلت به الجبرية قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فنفى الله عن نبيه الرمي، وأثبته لنفسه سبحانه، فدل على أنه لا صنع للعبد. قالوا: والجزاء غير مرتب على الأعمال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) .

ومما استدل به القدرية قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، قالوا: الجزاء مرتب على الأعمال ترتيب العوض كما قال تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:71-72] ونحو ذلك.

فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فهو دليل عليهم؛ لأنه تعالى أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً، بقوله: (إِذْ رَمَيْتَ)، فعلم أن المثبت غير المنفي، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رمياً، فالمعنى حينئذٍ -والله تعالى أعلم-: وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب، وإلا فطرد قولهم:وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت! وما زنيت إذ زنيت! وما سرقت إذ سرقت! وفساد هذا ظاهر.

وأما ترتيب الجزاء على الأعمال فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة، وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات، فالمنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل يستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله.

والباء التي في قوله تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:14] ونحوها باء السبب، أي: بسبب عملكم؛ والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.

وأما استدلال المعتزلة بقوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين، و(الخلق) يذكر ويراد به التقدير، وهو المراد هنا؛ بدليل قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أي: الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم (كل).

وأما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم (كل) الذي هو صفة من صفاته! يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً، وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم (كل)!! وهل يدخل في عموم (كل) إلا ما هو مخلوق؟! فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخلت سائر المخلوقات في عمومها.

وكذا قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] ولا نقول: أن (ما) مصدرية، أي: خلقكم وعملكم، إذ سياق الآية يأباه، لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت، لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير.

وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين المعتزلة: أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضروري.

وذكر الرازي : أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوبه عنده ويمتنع عند عدمه ضروري.

وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة غير مسلم، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله، كما قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] فقوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] إثبات للقدر بقوله: (فَأَلْهَمَهَا)، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه؛ ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية.

وقوله بعد ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] إثبات أيضاً لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة].

الرد على الجبرية

هذه مناقشة لأدلة الفريقين المتطرفين، وهمنا هنا أن نعرف الجواب.

وأما شرح أدلتهم والتوسع فيها، وكيفية استدلالهم، وتوجيهها، فلا حاجة لنا إلى التوسع فيه.

وقد عرفنا أن كلا القولين -قول الجبرية وقول المعتزلة- في طرفي نقيض، وكلاهما لا يزال لهما بقية يقولون بمثل هذه الأقوال، ولا تزال أيضاً مؤلفاتهم يعنى بها وتنشر وتحقق، وينفق عليها الأموال، مع أنها سبب في ضلال كثير من الناس.

ويدعون أنهم بذلك يقوون حجتهم ومعتقدهم الذي اعتقدوه، ويستدلون بأن الله تعالى يقول: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] وقالوا: هذا دليل على أن الفعل ليس للإنسان، وإنما هو لله؛ لأن الله هو الذي رمى.

وقد أجاب الشارح بأن التقدير: وما أصبت الهدف ولكن الله هو الذي وفق لإصابته، فأنت الذي رميت والله هو الذي وفق للإصابة.

ونحن نعرف القصة التي حصلت في غزوة بدر، والقصة التي حصلت أيضاً في غزوة حنين؛ وذلك أنه لما تواجه المشركون مع المسلمين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من حصباء ورمى بها في وجوه القوم، معلوم أن رميته لو كانت بمجرد قوته لم تذهب مثلاً إلا نحو عشرين متراً أو ثلاثين، ولكن هذه الرمية وصلت إلى جميعهم أو أكثرهم؛ بحيث إنها دخلت في أعينهم، ودخلت في أفواههم وأنوفهم، وأعمت عليهم الطرق، مع أنها كانت حصيات قليلة في يده رمى بها وقال: (شاهت الوجوه)، فالله تعالى هو الذي أوصلها، وهو الذي وفق لإصابتها، فمادام أن الله أثبت الرمي بقوله: (إِذْ رَمَيْتَ) أي: حركت يدك بتلك الحجارة وقذفتها، فهذا دليل على أن الفعل أصله من الإنسان، والله تعالى هو الذي يسدده ويوصله، وهو الذي يدفع ويحرك همة العبد إلى أن يفعل ذلك الفعل.

وكثيراً ما يكون المسلمون قلة، وإذا وجهوا سهامهم إلى المشركين أصابتهم ولو كانوا بعيدين؛ لأن الله يسدد سهامهم فتصيب العدو، وأما سهام أعدائهم فإنها تخطئهم وتذهب يميناً أو يساراً ولا تصيبهم؛ لأن الله تعالى يصرفها.

إذاً: من الغزاة الرمي، ومن الله التسديد والإصابة.

وهذا هو معنى قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، وهذه الآية من أدلة الجبرية التي استدلوا بها.

ومن أدلتهم في أن العمل ليس سبباً في دخول الجنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) قالوا: هذا دليل على أن الأعمال ليس لها أثر، وأن الأعمال ليست هي التي تسبب دخول الجنة؛ وعلى هذا فالأعمال ليست من الإنسان، والإنسان ليس له أي عمل، وليس له عندهم حركة، بل هو مدفوع إلى هذه الحركة ومغلوب على أمره، ولا يقدر أن يحرك باختياره أي حركة، فلا يحرك إصبعاً ولا رأساً ولا لساناً ولا يداً ولا قدماً، بل هو متصرَف فيه، وتحركه إرادة الله كما تتحرك الشجرة بدون اختيارها.

والجواب: أن هذا الحديث أراد به النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمالنا وإن كثرت لا تعادل نعم الله، فنعم الله علينا كثيرة، ولو عملنا ما عملنا فإنها قليلة بالنسبة إلى ما ينعم الله به علينا، فأعمالنا لو كثرت لم تكن سبباً وحيداً في دخول الجنة، كما ورد في الحديث: (أنه يؤتى برجل قد عمل أعمالاً صالحة أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: يا ربي، بل بعملي-أليس هذه الأعمال التي عملتها تحصل لي الجنة والثواب؟- فيقول الله: حاسبوا عبدي على نعمي، يقول الله لنعمة البصر: خذي حقك -يعني: من أعماله- ولنعمة السمع: خذي حقك، ولنعمة النطق، ولنعمة العقل، ولنعمة البطش، ولنعمة القوة، ولنعمة الرزق، ولنعمة العمل، ولنعمة الصحة، وتبقى نعم كثيرة كنعمة الهداية ونعمة التوفيق ونعمة الإعانة- فيقول: أدخلوا عبدي النار، فعند ذلك يقول: بل يا ربي! برحمتك).

فعُرف بذلك أن العمل لا يستقل بشأن دخول الجنة إلا إذا رحم الله العباد.

وإذا قيل: قد وردت أدلة في ترتب الجزاء على الأعمال وهي التي استدلت بها المعتزلة، وجعلوا عمله سبباً وحيداً في دخول الجنة، واستدلوا بقوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، وقوله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] ونحو ذلك.

فنقول: صحيح أن العمل سبب؛ ولكن رحمة الله مع ذلك السبب؛ فيدخل الجنة بسبب عمله، ولكن ذلك برحمة الله تعالى فهو أرحم الراحمين.

وكما جاء في الحديث الذي فيه: (إن الله خلق الرحمة مائة جزء، كل جزء طباق ما بين السماء والأرض، أنزل منها جزءاً واحداً في الأرض، وبذلك الجزء تتراحم الخليقة بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة ضمه الله إلى تلك الأجزاء فيرحم بها عباده يوم القيامة)، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن واسع رحمة الله لما رأى امرأة تضم ولدها إلى صدرها وترضعه بعد أن وجدته، فقال: (أترون هذه قاذفة ولدها في النار؟ قالوا: لا، والله! وهي تقدر على تخليصه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) .

فإذاً: رحمة الله للعباد أوسع لهم، كما ورد في الحديث: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم).

فعرفنا بذلك ضعف ما استدل به هؤلاء وهؤلاء.

الرد على المعتزلة

وأما استدلال المعتزلة بقول الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، ومثلها قوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72] فيقولون: هذا دليل على أن الخالقين كثير، وليس الخالق هو الله وحده، لكن الله أحسنهم! فجعلوا العباد خالقين ورازقين مع الله.

والجواب: أن هذا ليس بصحيح، بل الله هو الخالق وحده، كما قال عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فالخلق خلقه، والأمر أمره، والآية وردت في سياق التكوين، ووردت في سياق الإيجاد، فيقال: إن الإنسان ليس هو الذي يخلق نفسه، وإن كان له سبب في وجود الولد بالنكاح والوطء والمباشرة، فينسب إليه أنه هو الذي تسبب في خلق وتكوين هذا الولد، ولكن الله هو الذي أنشأه، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:58-59]، فهذا المني الذي ينصب في الرحم ليس الإنسان هو الذي يكونه، بل قدرة الله، فالله هو الذي قدر أنه يكون نطفة ثم يكون علقة ثم مضغة ثم ينشئه الله خلقاً آخر إلى أن يخرج بشراً سوياً.

فإذاً: الولد من الإنسان سببه النكاح والوطء ونحوه، ومن الله تعالى الخلق والتكوين والتطوير إلى أن يخرج سوياً، فهذا معنى قوله: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، وقد يُراد بالخالقين الذين يكونون بعض المخلوقات في الدنيا، أو يبدعون بعض الأشياء وإن كانوا مخطئين في ذلك، كما ورد في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو يخلقوا برة، أو ليخلقوا شعيرة)، بمعنى: أنهم جعلوا أنفسهم خالقين، وهم المصورون الذين يضاهون بخلق الله، فأثبت لهم إرادة في أنهم يضاهون خلق الله، ويخلقون كخلقه، ولكن لا يستطيعون أن يضاهوا وأن يشابهوا خلق الله تعالى، فالخلق الأصل هو من الله، وهو الذي خلق الأرواح، ولا يستطيعون أن يخلقوها، وهو الذي يحيي الأموات، ولا يستطيعون أن يحيوها، وهو الذي ينفخ فيه الروح، ولا يستطيعون ذلك، كما في الحديث: (من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ).

إذاً: عرفنا أن المعتزلة استدلوا بقوله تعالى: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] على أن الخالقين كثير.

والجواب: أن الخلق هو التكوين من الله تعالى، وأما الإنسان فمنه السبب، أو أنه يراد به المضاهاة.

واستدل المعتزلة بترتيب الجزاء على الأعمال، بقوله تعالى: (جزاء بما كنتم تعملون) وبقوله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].

والجواب: أن الأعمال سبب، وليست مستقلة، وإنها هي من جملة الأسباب التي يثاب عليها العباد ويعاقبون.

واستدلت الجبرية بآيتين: الآية الأولى قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] ونحوها، في إثبات أن الإنسان ليست له أية حسبة، وليس له أي عمل، وكذلك استدلوا بقوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

وقد عرفنا كيف نرد عليهم.

واستدلوا بأن الأعمال ليست سبباً في دخول الجنة أو النجاة من النار أو دخول النار بالآية التي ذكرنا، وبالحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، وعرفنا بذلك أن أدلتهم لا تفيدهم شيئاً، وأن ترتيب الجزاء على الأعمال من ترتيب الأسباب على المسببات.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2712 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2629 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2589 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2560 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2471 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2407 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2385 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2372 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2335 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2299 استماع