شرح العقيدة الطحاوية [79]


الحلقة مفرغة

مما درسناه في مسائل الاعتقاد مسألة الدعاء، وأن ربنا سبحانه أمر أن ندعوه ووعدنا أن يستجيب لنا، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60]، وقال تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وقال تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56]، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] والآيات في أمر الله عباده بأن يدعوه كثيرة.

وقد عرفنا أن الدعاء هو النداء، وأنا إذا قلنا: اللهم اغفر لنا! اللهم أعطنا سؤلنا! فذلك يستدعي نداءً منا لربنا، والمعنى: يا الله! يا ربنا! وهكذا الأدعية التي في القرآن مثل قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] التقدير: يا ربنا! لا تؤاخذنا.

وقد ذكرنا أن الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وأن كلاً منهما يلزم منه الآخر، فدعاء المسألة يستلزم دعاء العبادة، ودعاء العبادة يتضمن دعاء المسألة، ودعاء العبادة يدخل فيه كل العبادات، فمثلاً: الصلوات دعاء عبادة، والأذكار دعاء عبادة، والقراءة دعاء عبادة، والأوراد دعاء عبادة، والصدقات والصلات والبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك من الأعمال الخيرية، وهكذا ترك المنكرات دعاء عبادة كلها، ولكن هي في الحقيقة تتضمن دعاء المسألة، وذلك أن العابد ربه ما قصد إلا المسألة، فكأنه يقول: أقصد من صلاتي الثواب.. أقصد من صدقتي الثواب.. أقصد من دعائي ومن ذكري ومن قراءتي الحياة الطيبة، أو كأنه يقول: أصلي لك يا ربي! أو أحج لك يا ربي! لتغفر لي ولترزقني ولتصلح أحوالي، إذاً: فهو داع، إلا أنه في حقيقة أمره يقصد الأجر على هذه العبادات.

وقد ذكرنا أن الاشتغال بالدعاء والذكر يقوم مقام السؤال؛ لأنه ورد في الحديث القدسي أن الله يقول: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، ولأجل ذلك وردت أدعية في القرآن لفظها لفظ الدعاء ولكنها ذكر وثناء، مثل قول الله تعالى في سورة آل عمران قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27] هذه الآيات ليس فيها سؤال، إنما فيها مجرد الثناء على الله، ولكن هذا الثناء يستلزم الدعاء.

نقول: هذه هي حقيقة الدعاء، وقد ذكرنا أن المسائل التي تلحق بهذا الكتاب غالباً يكون فيها خلاف مع بعض المبتدعة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين.

كلام حق ظاهر لا خفاء فيه، والحين بالفتح الهلاك].

قوله: ( ويملك كل شيء ولا يملكه شيء ) كلام ظاهر، بمعنى: أن الله تعالى هو المالك لكل شيء، كما أخبر تعالى بقوله: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْد [التغابن:1]، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، ولا شك أن الملك والمالك من أسماء الله، فهو الذي يملك التصرف الكامل، فهو مالك الدنيا ومالك الآخرة، ومالك العباد، ومالك البلاد، ومالك الرقاب، ومذلل الصعاب، هو المالك لكل شيء، ولا يملكه شيء، فهو الخالق وما سواه مخلوقون، والمالك وما سواه مملوكون، فمعنى هذه الجملة: الاعتراف بأن الملك ملكه، وبأن العبيد كلهم وما في أيديهم مملوكون له، وملكهم لما تحت أيديهم وتحت تصرفهم ملك خاص لا يملكون له استقلالاً، وهو أيضاً ملك مؤقت، فإذا قلت مثلاً: هذه الدولة يملكها فلان أو رئيسها فلان، نقول: إن ملكه خاص ومؤقت، وإذا قلت مثلاً: هذه المزرعة ملك فلان أو هذه العمارة ملك فلان، فالمعنى أنه يملكها ملكاً خاصاً وملكاً مؤقتاً، ربما تنتزع منه أو ينتزع منها أو يموت ويتركها، فعرف بذلك أن الملك الحقيقي هو الله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء [يس:83].

وأما كونه سبحانه لا غنى لأحد عنه طرفة عين فقد تقدم معنى ذلك في الجمل المتقدمة والتي ذكر فيها أن العباد بحاجة إلى ربهم، وأنهم مضطرون إلى سؤاله، وهو سبحانه يحب منهم أن يسألوه ويدعوه، ويرغبهم في أن يسألوه ويستعطوه من فضله مع كونهم بحاجة إلى عطائه وهو غني عنهم، يقول الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، ويقول تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُم [محمد:38]، فوصف نفسه بأنه الغني والعباد فقراء إليه، ورد في الحديث القدسي الصحيح (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).

فإذاً لا أحد يستغني عن الله طرفة عين، والذين يظهرون أنهم يملكون نعم الله هم في الحقيقة فقراء ولو ذللت لهم الدنيا، ولو سخرت لهم الدنيا حتى انخدع كثير منهم، حتى ذكر لي عن بعض الكفرة الذين كانوا بين المسلمين لما قيل لأحدهم: اعبد الله فإن الله هو الذي رزقك، أنكر ذلك والعياذ بالله وقال: إنما رزقتني يميني. أعوذ بالله من ذلك، يعني: اعتمد على أنه الذي كسب أو لم يكسب، ونسي أن الله حنن عليه أبويه في طفولته، وأنه وكل به من يطعمه ويسقيه ويغذيه في حالة عجزه، حتى اشتد عظمه وقوي هيكله، فنسي فضل الله عليه، واعتقد أنه هو الذي أغنى نفسه، ولو شاء الله لانتقم منهم ولسلبهم ما أعطاهم، فعلى الإنسان أن يعترف أنه فقير إلى الله وأن ربه هو الغني، وأن العباد لا غنى لهم عن ربهم طرفة عين.

قال المؤلف: [وقوله: ( والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى )

قال تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم [المائدة:119]، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وقال تعالى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه [المائدة:60]، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه [النساء:93]، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه [البقرة:61] ونظائر ذلك كثيرة.

ومذهب السلف وسائر الأمة إثبات صفة الغضب والرضا والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليها الشيخ فيما تقدم بقوله: ( إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين ).

وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول. وروي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً عليها ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم: ( من لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه ) ويأتي في كلامه: ( إن الإسلام بين الغلو والتقصير والتشبيه والتعطيل ) .

وقول الشيخ رحمه الله: ( لا كأحد من الورى ) نفى التشبيه ولا يقال: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإن هذا نفي للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحب ويرضى، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه، وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه ويغضب على فعله، وإن كان قد شاءه وأراده، فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده.

ويقال لمن تأول الغضب والرضا بإرادة الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب، والرضا الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى! فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه هو الغضب، ويقال له أيضاً: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا، فهي ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده، ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذاك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك.

فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، قيل له: فقل: إن الغضب والرضا الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، فإن كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله، إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر.

وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لابد أن يثبت شيئاً لله تعالى على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به، ووجود الباري تعالى كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته، مثل الحي والعليم والقدير، أو سمى به بعض صفاته كالغضب والرضا، وسمى به بعض صفات عباده، فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى، وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل أن بين المعنيين قدراً مشتركاً، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً، فيثبت في كل منهما كما يليق به، بل لو قيل: غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة، لم يوجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين؛ لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه، فغضب الله أولى].

أما الكلام الذي بعده فيتعلق ببعض الصفات ومنها صفة الغضب والرضا والسخط والحب والبغض ونحوها، وهذه تسمى صفات فعلية، لأنه قد تقدم أن الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية، فالصفات الذاتية هي الملازمة للموصوف؛ كصفة الكلام والحياة وصفة الوجه واليد والسمع والبصر ونحوها، وأما صفة العلو والنزول وصفة الحب والبغض والكراهية والسخط والغضب والرضا فهذه صفات فعل، أي أن الله يفعلها إذا شاء، وقد تكاثرت الأدلة على إثبات صفات الأفعال في القرآن وكذا في السنة، ومع كثرتها فقد أنكرها الكثير من المبتدعة، فأنكرها المعتزلة وإن كانوا قد أنكروا أيضاً الصفات الذاتية، وأنكر الأشعرية هذه الصفات الفعلية.

ولكن أهل السنة لم ينكروها، بل أقروا بها؛ وذلك لأنهم رأوا الأدلة عليها من القرآن والسنة متواترة وواضحة فقول الله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]، هل ننكر دلالة هذه الآية على صفة الغضب؟ وكذلك قوله: وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا [النور:9]، وكذلك قوله في القاتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْه [النساء:93]، وكذلك قوله في قوم هود لما أغضبوه: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه [البقرة:61]، ونحو ذلك.

وكذلك آيات السخط مثل قوله تعالى: بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّه [آل عمران:162]، وكذلك وردت آيات الرضا كثيراً في القرآن: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه وهكذا أيضاً الأحاديث كحديث الشفاعة إذا جاء أهل الموقف إلى آدم يقولون: (اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، وهكذا يقول نوح وإبراهيم وباقي أولي العزم من الرسل، فيقرون بأن الله تعالى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله، فلا شك أن هذا دليل على أن الأنبياء والرسل يعترفون لربهم بأنه يتصف بصفة الغضب كما يليق به، وعلى هذا فلابد من إثبات هذه الصفة، ولكن إذا أثبتناها فإنا:

أولاً: لا نكيفها، ولا نقول كيفية الغضب كذا وكذا في حق الله.

ثانياً: ننزهها عن مشابهة غضب المخلوق، ولهذا يقول الطحاوي رحمه الله: ( لا كأحد من الورى ) أي: لا كغضب أحد من الخلق، إذاً غضب الله يليق به، وغضب المخلوق يليق به.

وقد أنكر الأشاعرة هذه الصفة وقالوا: إن الغضب الذي نعرفه هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا الوصف لا يليق بالله، فقال لهم أهل السنة: فبماذا تفسرون الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الغضب؟ فقالوا: نفسره في حق الله بأنه إرادة الانتقام، قلنا: كيف صرفتم غضب الله إلى إرادة الله أن ينتقم؟

والأشاعرة إنما صرفوه إلى هذا المعنى لأنهم يعترفون بالإرادة، فيثبتون صفة الإرادة لله، وإذا قلنا لهم: الإرادة هي ميل النفس إلى المراد، قالوا: لا، هذه إرادة المخلوق، قلنا: الغضب الذي هو غليان دم القلب هذا غضب المخلوق أيضاً، فأنتم فررتم من شيء ووقعتم في مثله، فالأولى لكم أن تثبتوا صفة الغضب وتنفوا عنها التشبيه، وتكلون كيفيتها إلى الله تعالى، كما تفعلون ذلك في سائر الصفات؛ وذلك لأن المخلوق قد وصف بكثير من الصفات التي هي من صفات الله، ومع ذلك يوجد فارق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فإذا أثبتنا صفة السمع والبصر كما أثبتها الله تعالى لنفسه وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61]، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1]، وكذلك الإنسان، قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِر [مريم:38].

فالإنسان سميع والله سميع، فهل يلزم التشابه بين سمع الخالق وسمع المخلوق؟ لا يلزم. فاشترك سمع الله وسمع المخلوق في معنى عام وهو التشبيه العام، أي أنه إذا قيل: أليس السمع هو إدراك الأصوات؟ قلنا: نعم، السمع هو إدراك الأصوات، ولكن سمع الله لا يحجبه شيء، فهو يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء، وسمع الله أيضاً لا تختلف عليه الأصوات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات والمسئولات، وسمع المخلوق ليس كذلك، فأنت إذا تكلم عندك اثنان في آن واحد اشتبه عليك ما يقول هذا بما يقول هذا، أما الرب تعالى فإنه لا يشغله سمع عن سمع، فيكون الفرق ظاهراً.

وكذلك يقال في البصر، فالله تعالى موصوف بالبصر والإنسان موصوف بالبصر، والاشتراك إنما هو في المعنى العام وهو أن يقال: أليس معنى البصر إدراك الأشباح التي تتمثل أمام العينين؟ فنقول: نعم، لكن بصر الله ليس كبصر المخلوق، فالله تعالى موصوف بالبصر ولا يحجبه شيء عن أن يبصر مخلوقاته بعيدهم وقريبهم، أما المخلوق فلا يخرق بصره هذا الجدار أو هذا الحجاب، وإذا كان هذا فارقاً فكذلك نقول في الغضب والرضا، وفي السخط والبغض والكراهية والمحبة نقول: إن بين محبة الله ومحبة المخلوق فرقاً، ولا نقول: إن محبة الله هي ميل النفس إلى المحبوب أو الانعطاف نحو الشخص المحبوب أو نحو ذلك.

كذلك مثلاً قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، رحمة المخلوق معناها عطفه وحنوّه على الضعيف ورقته عليه حتى ينقذه من شدة أو يفرج عنه هماً أو ينصره من مظلمة أو يؤويه أو نحو ذلك. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها)، ومعروف أن الوالدة ترحم طفلها وتحن عليه وتشفق عليه، وإذا بكى قبلته ورفعته وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها وعطفت عليه، هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، فالله تعالى موصوف بأنه رحيم وبأنه يرحم، ولكن هل هذه الرحمة مثل تلك الرحمة؟ ليس بينهما تقارب، بل الله تعالى رحيم بعباده، ولكن لا يلزم أن تكون رحمته من باب الرقة التي تكون للمخلوق أو نحوها، بل رحمة المخلوق تليق به ورحمة الخالق تليق به، وتشترك الرحمتان في أنهما تتعديان، فرحمة المخلوق تتعدى إلى الضعفاء، ورحمة الله تعالى تصل إلى عباده فيرحمهم، بمعنى: أنه ينقذهم من الشدائد، وبأنه يغفر لهم ويكفر عنهم، وبأن من آثار رحمته الجنة التي سماها رحمته فقال: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِه [الشورى:8] أي: في جنته، ومن آثار رحمته إنزال الغيث فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ [الروم:50]، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، فيقال كذلك في الغضب والرضا.

وقد سمعنا من كلام الشارح أن غليان دم القلب ليس هو حقيقة الغضب، ولكنه أثر من آثار الغضب، فالإنسان إذا أتاه ما يغضبه يشتد قلبه ويحنق على هذا الذي أغضبه، فتراه مثلاً: قد يحمر وجهه وتنتفخ أوداجه من آثار هذا الغضب، فيقال: هذه الآثار كالاحمرار والانتفاخ وشدة الكلام والانطلاق في السباب ليس هو نفس الغضب ولكنه أثر من آثار الغضب، فيقال مثلاً: من آثار غضب الله أنه يعاقب العصاة العتاة، وأنه ينزل بهم بأسه وشدته، وأنه يرسل عليهم العقوبات جزاءً وفاقاً على كفرهم وعنادهم، لأنهم خالفوا أمره.

فلو أنه سبحانه أمرهم بأمر فعصوه، أو نهاهم عن شيء فأتوه ولم يمتنعوا منه، فلا شك أن هذا يجعله يغضب عليهم، كما أن الإنسان لو أمر ولده فعصاه لغضب عليه، ومن آثار غضبه أن يضربه أو يؤدبه، فالرب تعالى إذا غضب عليهم عاقبهم، كما أنهم إذا أطاعوه رضي عنهم.

فرضاه له آثار، ومن آثاره أن يفرج عنهم الكروب ويزيل عنهم الشدائد وينصرهم ويقويهم، ويعطيهم سؤلهم ويجيب دعوتهم، فيقال: هؤلاء قد رضي الله عنهم.

وكذلك من آثاره أنه يثيبهم في الآخرة ويكون ثوابه دليلاً على رضاه عنهم، كما ذكر ذلك في أهل بدر قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه [المائدة:119]، وكذلك يقال مثلاً في العصاة: هؤلاء قد غضب الله عليهم، ومن آثار هذا الغضب أن سلط بعضهم على بعض، وأن أوقع بينهم الفتن والمصائب، وأن أحل بهم النكبات والعقوبات، وأن نزع عنهم البركات، ونحو ذلك مما يستدل به على آثار الغضب.

فنقول: علينا أن نثبت هذه الصفات كما أثبتها الله، وألا نسلط عليها التأويلات التي سلطها عليها الأشاعرة حين قالوا: الغضب إرادة الانتقام، والرضا إرادة الإنعام، ونحو ذلك، فوقعوا في مثل ما هربوا منه فلم يسلموا، بل أنكروا صفة أثبتها الله تعالى لنفسه، فإذا أثبتوها وقالوا: نثبتها كما يليق بالله ونفوض أمرها ونكل كيفيتها إلى الله، ولا نسلط عليها التأويلات ولا نتكلف في صرفها عن ظاهرها؛ سلموا من الاعتراض، وهذا ما سلكه أهل السنة، أما أهل البدعة فإنهم تشددوا وتكلفوا حتى حملوا الآيات والأحاديث ما لا تطيق، وجعلوها خارجة عن معناها المفهوم المتبادر، ولو وفقوا وسلكوا مسلك أهل السنة في الرضا والتسليم فلن يقعوا في هذه المخالفات، والله تعالى أعلم.