خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [99]
الحلقة مفرغة
تطرق الطحاوي رحمه الله إلى أن دين الإسلام جاء بالاجتماع، وحث على لزوم جماعة المسلمين، ونهى عن التفرق والاختلاف.
وتوسع الشارح رحمه الله في بيان أسباب الاختلاف، وبين أنواعه، وذكر أن الاختلاف:
- اختلاف تنوع.
- واختلاف تضاد.
وأن اختلاف التنوع لا يُضلل به؛ وذلك لأنه يثبت عن اجتهاد، كاختلاف الصحابة في تفسير بعض الآيات، وكذا المفسرون بعدهم اختلفوا في بعض معاني الآيات، وإن كان المعنى واحداً.
ففسروا مثلاً (الصراط المستقيم) أنه الإسلام، وفسره بعضهم بأنه الرسول، ولا فرق فالمعنى واحد.
وكذلك اختلافهم في معاني كثير من الأحاديث التي يدخل فيها الاجتهاد.
أما اختلاف التضاد فلا شك أنه يُضلل به، وهو الذي يحدث عن هوى، ويكون سبب الاختلاف اتباع الأهواء، وذلك لأن المبتدع متى هوي نحلة ومال إليها فإنه يصر على تلك النحلة ويخالف الأدلة.
وهذا ما يسببه اتباع الهوى، وقد ورد في الأثر: (أن الهوى يُعمي ويُصم).
كذلك أيضاً من أسباب اختلاف التضاد: تقليد الآباء، وذلك لأن كثيراً من الناس قد يتضح له الحق، ويعرف القول الصحيح، ثم يخالفه، لماذا؟
لأن آباءه وأسلافه ليسوا على هذا المسلك، وإذا خالفه أحد منهم هجروه وقالوا: تترك معتقد آبائك وأسلافك؟!
وهذه سنة المشركين، ذكر الله أنهم يعرفون الحق ثم يخالفونه، ويعرفون أن الباطل باطل ويرتكبونه، لماذا؟
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70].
يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].
وكذلك بقية المبتدعة: يتمسكون بمذاهب آبائهم وأسلافهم ولو تبين لهم الحق.
فمثلاً: الرافضة كانوا قديماً لا يقرءون كتب السنة، وذلك لأنها لم تنتشر ولم تشتهر، وإنما يقرءون الكتب التي يكتبها أئمتهم، فكثير من عوامهم ممن يريد الحق لم يعرفه، ولم يصل إليه ما يبين الطريق الحق، فبقوا على ضلالهم؛ ولكن في هذه الأزمنة طُبعت الكتب، وانتشرت كتب الصحيح، وكتب السنن، وكتب المسانيد، وكتب السنة، ومن أرادها من الشيعة أو غيرهم قدر عليها، وتحصل عليها وعرف الحق.
فبعض الشباب من الرافضة تبين لهم طريق الحق فاهتدى منهم أفراد؛ ولكن لما اهتدوا وخالفوا طرق الرافضة ماذا فعل أهلوهم؟ هجروهم وقالوا: أتتركون سنة آبائكم؟! أتتركون عقيدة أسلافكم؟! فضايقوهم وأضروهم، أحدهم يحكي لنا أنه لما اهتدى تمسكت زوجته بمذهبها وقالت: لا يمكن أن تكون أهدى من أبي ومن أبيك ومن أسلافنا! وبقيت على طريقة آبائها، هو قرأ وعرف فسلك طريق الحق، وأما زوجته وأهله فإنهم مقتوه وطردوه.
وهكذا شابة أيضاً في الدمام أو في القطيف لما درست وسمعت الأخبار، وقرأت الكتب والنشرات، وأصغت إلى الإذاعة وما يُنشر فيها، واقتنت شيئاً من الكتب، واحتكت بأهل السنة؛ عرفت أن طريقة الشيعة باطلة وبعيدة من الصواب، فتلقت الحق واهتدت وتمسكت به، فماذا لقيت من الأذى؟! وماذا لقيت من الضرر؟!
حبس وضرب! وطرد وإبعاد! ولكنها صبرت على ذلك كله.
نقول: لا شك أن الذين يقلدون الآباء والأجداد وهم على ضلال ضالون، والعاقل يختار الحق، يختار الصواب، ولو خالفه من خالفه، وذلك لأنه لا يهمه إلا نفسه، في الدار الآخرة يتبرأ منه أهله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:34-35] يفرون منه، ولا يتقبلون منه ولا يقبل منهم، ولا ينفع بعضهم بعضاً.
فإذاً: كيف يقدم أحدهم الباطل تقليداً للآباء والأجداد؟!
والحاصل: أن من أسباب هذا الاختلاف: اتباع الهوى، ومن أسبابه: تقليد الآباء والأجداد والأسلاف، وهذا يؤدي إلى أنه قد يعرف الإنسان الحق ويتمسك بالباطل، الله تعالى يقول: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، فإذا كان الحق واضحاً فالحق أحق أن يُتبع.
اختلاف التضاد سبب التفرق بين المسلمين، وسبب ضياع الحقوق، وسبب التعصب، فكل طائفة تعرف الحق ولكنها تتعصب للباطل.
فلو قرأنا مثلاً كتب المعتزلة، لوجدنا فيها من التعصب والتشدد والتكلف في صرف الأدلة الشيء العجاب!
ولو قرأنا كتب الخوارج أو الإباضية الموجودين في عمان؛ لعرفنا أنهم يعرفون الحق ثم ينكرونه، وكذلك إذا قرأنا الكتابات التي يكتبها هؤلاء المخالفون.
فالفرق الذين تفرقوا في هذه الأزمنة -وما أكثرهم!- كطائفة البعث، وطائفة العلمانيين ونحوهم، لا شك أنهم قد اتضح لهم الحق، وعرفوا الأدلة؛ ولكن لما لم تكن أهواؤهم منقادة نحو تلك الأدلة، ونحو العمل بها، تمسكوا بالباطل وتشبثوا به، وقدموا الباطل على الحق، فكان هذا هو السبب في كثرة الفرق، وتفرقت فرق الأمة، وصار بعضهم يضلل بعضاً، ويخالف بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.
فمن الفرق ما يصل إلى حد الكفر، كفرقة غلاة الجهمية فقد أخرجهم كثير من الأمة ومن العلماء من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: ليسوا من فرق الأمة، وكفرقة الفلاسفة والباطنية.
وفي هذه الأزمنة فرقة الدروز، وهم موجودون في سورية ولبنان، ذكر لنا بعض المشايخ أنهم عثروا على واحد منهم في الرياض وهو سكران، فجاءوا به ليعاقبوه؛ ولكن شهد عليه أناس أنه لا يصلي، فسألوه فقال: أنا لا أصلي.
قالوا: مكتوب في جوازك وفي إقامتك أنك مسلم، لماذا لا تصلي؟!
فقال: ليس في ديننا صلاة، فبحثوا عنه فإذا هو درزي.
الدروز يكتبون في هوياتهم أنهم مسلمون! أين الإسلام؟! إسلام بلا صلاة؟!
وكثير من الذين اهتدوا منهم قاطعوهم، قاطعوا أولادهم الذين اهتدوا أو بناتهم وتبرءوا منهم، بل لو وجدوهم لقتلوهم، من اهتدى منهم ورجع إلى الإسلام اغتالوه وقتلوه، وكانوا يخفون كتبهم التي فيها معتقداتهم؛ ولكن تسربت في هذه الأزمنة ولم يستطيعوا أن يخفوها، لوجود المطابع وآلات التصوير، ولوجود الناسوخ ونحوه، والذي يصور من بعيد، فافتضحوا وظهرت بذلك عقائدهم المشينة، فاتضح أنهم ليسوا من فرق الأمة.
وكذلك فرقة النصيرية موجودة في سورية وفي غيرها، وقديماً قد كتب عنهم العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية له رسالة فيهم مطبوعة مفردة، ومطبوعة مع المجموع، بين فيها فضائحهم وعقائدهم السيئة، إذا نظرنا في عقيدتهم قلنا: هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وذلك لبعدهم عن الإسلام، ومع الأسف أنه يُكتب في بطائق هوياتهم: مسلم، وليس معهم إلَّا مجرد الاسم.
وهكذا غلاة الرافضة الذين يكفرون أجلاء الصحابة، ويطعنون في القرآن، لا شك أنهم يصلون إلى مرتبة الكفر، وذلك لأنهم إذا كانوا لا يؤمنون بالكتاب والسنة فماذا بقي عندهم؟!
وبكل حال: فهذه فرق خرجت من ملة الإسلام، أما بقية الفرق فيمكن أن تكون من المسلمين، ويعمهم اسم المسلمين؛ لأنهم يصلون ويدينون بالإسلام، ولكن بدعتهم مضللة لا توصلهم إلى حد الكفر، كبدعة الإباضية الموجودين في عمان، وكذلك كثير من المبتدعة.
ما حكم الأحزاب والفرق الموجودة الآن في كثير من الدول الإسلامية، وقد تصل الأحزاب إلى عشرين أو إلى خمسين حزباً، وكل حزب يسجل أعداداً هائلة، ويحب أن يكون أكثر من الآخر؟!
إذا نظرنا في تلك الأحزاب نجد كل حزب يتسمى باسم، ولا شك أنها لم ينزل الله بها سلطاناً، فهي فرق ضالة، يُنظر في معتقداتهم وما يميلون إليه.
فمنهم من يكون كافراً بحتاً كالشيوعيين، وفي بعض البلاد يكون لهم أحزاب إما واحد وإما عدد.
ومنهم من يكون معه شيء من الإسلام؛ ولكن ليسوا متمسكين به.
ومنهم من هم مسلمون؛ ولكن معهم شيء من المخالفة.
والجميع يعمهم أنهم أحزاب ومختلفون.
وهناك أحزاب في البلاد الإسلامية يتسمون بأسماء ظاهرها حسن، وأعمالهم فيها ما هو خطأ وفيها ما هو صواب، فمثلاً: جماعة التبليغ، هؤلاء فرقة نشئوا في الهند وفي الباكستان، وكان هدفهم أن يبلغوا الشرع، كما سموا بذلك أنفسهم، ولهم طريقة في الدعوة بمعنى: أنهم يقتصرون على بيان الفعل دون أن يوضحوا أو يدعوا بالقول غالباً، ويدعون الأفراد ولا يتكلمون في المجتمعات، لا في الخطب، ولا في المساجد العامة، ولا في محاضرات ولا غير ذلك، ورأوا أن هذه دعوة ناجحة.
أما طريقتهم في الدعوة فنقول: هكذا ظهر لهم، ولا نعيبهم في ذلك؛ لكن دخلت معهم فرق ضالة من الصوفية والقبوريين فأفسدوا عليهم دعوتهم، فالذين يتمسكون بالسنة ويعملون بها لا نعيبهم، والذين يصلون إلى بغض التوحيد بحيث لا يقرءون في كتب العقيدة ولا يقرون من يقرأ فيها، ولا يقرءون في كتب التوحيد، وبحيث أنهم يبايعون بعض رؤسائهم على الطاعة، وإن كان في خلاف الحق، وأنهم إذا كانوا في غير بلاد التوحيد يزورون المشاهد، ويعكفون عند القبور، ويتمسحون بها، ويقرونها، فمثل هذا لا يقره الإسلام.
وأما إذا لم يدخل معهم شيء من هؤلاء فلا بأس بهم.
وكذلك هناك طوائف في كثير من الدول الإسلامية، كسورية ومصر والسودان، ولهم أيضاً فروع في المملكة، ويتسمون بأسماء حسنة، ويهدفون إلى هدف واحد، ويدعون إلى دعوة واحدة، فمنهم من يسمون بالسلفيين، ومنهم من يسمون بجماعة أنصار السنة، ومنهم من يسمون أنفسهم بأهل التوحيد، والأسماء حسنة، والمقاصد متقاربة، والطرق تختلف، ولا يضر هذا الاختلاف، يعني: كون هؤلاء يفضلون طريقة، وهؤلاء يفضلون طريقة، هؤلاء مثلاً يفضلون الاقتصار على التأليف والنشر، وهؤلاء يفضلون الرحلات ودعوة الناس، وهؤلاء يفضلون الدعوة عن طريق المنابر والمساجد والحلقات والندوات والمحاضرات ونحوها، وهؤلاء.. وهؤلاء..
نقول: كل ذلك يصب في الدعوة ما دام أن المنهج سليم، ومناهجهم كما أخبرنا كثير منهم يدعون إلى العقيدة سواءً دعوا أفراداً أو أشتاتاً، يدعون إلى تحقيق التوحيد، ويحاربون البدع والشرك، فكلهم إن شاء الله على الخير، ولهم نشاط في كثير من البلاد الإسلامية، يوجدون حتى في غير البلاد العربية كالباكستان وغيرها، وفي البلاد البعيدة يُضطهدون ويُذلون، وذلك لأنهم يُتهمون في الهند والباكستان وغيرها، بل وفي بعض البلاد العربية؛ بكونهم وهابيين، وأنهم كفار وضُلَّال وما أشبه ذلك.
وعلى كل حال الإسلام أرشد أن يجتمع المسلمون، وأن يصيروا يداً واحدة، وألَّا يتفرقوا؛ لأنهم متى اجتمعوا واجتمعت كلمتهم فإنهم يقوون على مقاومة أعدائهم، ويصير لهم مكانة معنوية قوية، ويهابهم الأعداء والأضداد، ومتى تفرقوا ذلوا وهانوا، وهذا ما يريده العدو.
فنتواصى جميعاً بأن تجتمع كلمتنا متى رأينا من يخالف في منهج أو مسلك، ونحرص على أن نجمع بين المتخالفين، نقرب هذا ونقرب هذا، إلى أن يتآلفا ويصيرا يداً واحدة.
وهكذا أيضاً إذا رأينا من يعيب على بعض الطرق قلنا له: رويدك! ماذا تعيب عليهم؟
فإذا وجدنا أن ذلك العيب الذي يعيبه لا يبلغ أن يُهجروا لأجله، قلنا له: لا ينبغي لك أن تهجر إخوتك المسلمين أو مشايخك وعلماءك، ولا أن تسيء الظن بهم بمجرد هذا الفعل الذي لا يبلغ أن يكون ذنباً، بل هو إما اجتهاد، وإما قول مسلوك قد قاله من العلماء المتقدمين من قاله، فكيف تضلل بقولٍ هو محل اجتهاد.
وما يقع بين المسلمين في هذه البلاد وغيرها من هذا الاختلاف الذي سببه سوء الظن بكثير من المشايخ، حتى اتُّهموا بأنهم يحاولون الخروج، وبأنهم ضُلال، وبأنهم شر على الأمة من كذا وكذا.. لا شك أن هذا من وساوس الشيطان، وكيد الأعداء الذين يريدون أن يفرقوا بين المسلمين.
والواجب على شباب المسلمين وشباب الصحوة الذين انتبهوا وأقبلوا على ربهم أن يجتمعوا، وألَّا يخطئ بعضهم بعضاً إلا في الشيء الذي يكون خطؤه واضحاً، وأن يعذروا من رأوا منه شيئاً من النقص أو التقصير، ولا يشددوا ولا يتهموا إخوتهم أو علماءهم بمداهنة أو بنقص أو بتعمد خطأٍ أو نحو ذلك، بل يعذروهم ويقبلوا منهم عذرهم، وبذلك تجتمع كلمة المسلمين إن شاء الله.
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
وقال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً [المائدة:3]، وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس ..).
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد)، وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] عامٌّ في كل زمان؛ لكن الشرائع تتنوع كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً [المائدة:48].
فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله، وأصول هذا الدين وفروعه موروثة عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، يمكن كل مميز من صغير وكبير، وفصيح وأعجم، وذكي وبليد، أن يدخل فيه بأقصر زمان، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك، من إنكار كلمة، أو تكذيب، أو معارضة، أو كذب على الله، أو ارتياب في قول الله تعالى، أو رد لما أنزل، أو شك فيما نفى الله عنه الشك أو غير ذلك مما في معناه.
فقد دل الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام، وسهولة تعلمه، وأنه يتعلمه الوافد، ثم يولي في وقته، واختلاف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الألفاظ بحسب من يتعلم، فإن كان بعيد الوطن كـضمام بن ثعلبة والنجدي ووفد عبد القيس، علمهم ما لم يسعهم جهله، مع علمه أن دينه سيُنشر في الآفاق، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون إليه، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت بحيث يتعلم على التدريج، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه، أجابه بحسب حاله وحاجته، على ما تدل قرينة حال السائل كقوله: (قل: آمنت بالله، ثم استقم).
وأما من شرع ديناً لم يأذن به الله فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من المسلمين؛ إذ هو باطل، وملزوم الباطل باطل، كما أن لازم الحق حق].
الإسلام هو دين جميع الأنبياء مع اختلاف الشرائع
فالتوحيد هو دين جميع الرسل، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] أي: كل الرسل أوحيت إليهم هذه الكلمة، وأمروا بها، وبلَّغوها إلى قومهم، وإن كانت الشرائع متنوعة، كما حكى الله عن عيسى أنه قال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] فأحل لهم أشياء كانت محرمة عليهم في شريعة الأنبياء قبله، وكذلك حكى الله عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، أي: أنه قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان عليهم آصار يعني: أثقال من التكاليف، وأغلال من الأوامر والنواهي، وتشديدات، وأن تلك الآصار والأغلال وضعت وخُفف عنهم في هذه الشريعة التي هي خاتمة الشرائع.
يسر الإسلام وسهولة تعلمه
وفد عبد القيس علمهم أركان الإسلام، وعلمهم بعض المحرمات؛ ولكنهم فهموا بلغتهم وبسليقتهم وفطرتهم بقية الشريعة، فعلمهم الشهادتين، وعرفوا معناها وما تستدعيه كل واحدة منهما، بمجرد ما قالوا: لا إله إلَّا الله، محمد رسول الله؛ عرفوا معنى (لا إله إلَّا الله) فلم يعبدوا غيره، وعرفوا معنى (محمد رسول الله) فأطاعوه ولم يعصوه.
وأما الصلاة فإنهم صلوا معه يوماً أو يومين أو أياماً قليلة، وعرفوها.
وكذلك الزكاة بعث إليهم من يعلمهم في بلادهم، ومن يأخذ منهم الزكاة المفروضة.
وكذلك الصوم، والحج بمجرد ما أخبرهم.
وكذلك المحرمات، مجرد ما يقول: حرم عليكم كذا وكذا.. يعرفون، فالجلسة والجلستان في تلك الحلقات العلمية يصبح بها أحدهم عالماً، بينما أحدنا في هذه الأزمنة يبقى عشرين سنة ومع ذلك لا يأتي على جميع العلوم لقصر الأفهام، ولتغير الألسن والاستعمالات، وتغير اللغات واللهجات المحدثة البعيدة عن الأصل، فصار الواحد لا بد أن يبذل وقتاً في تعلم الكلمات، ثم يتعلم معانيها بعد حفظ الكلمات، ثم بعد ذلك يتعلم مدلولات واصطلاحات العلوم الشرعية.
ذكر الشارح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم كلاً بما هو أهم شيء عنده، ولأجل هذا اختلفت أجوبته، يُسأل سؤالاً واحداً ويجيب بعدة أجوبة، فإذا قيل له: ما أفضل الأعمال؟ فتارة يقول: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وتارةً يقول: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وتارةً يفسره بأنه: (أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، وتارةً.. وتارةً.. وذلك لأنه يخاطب كلاً بما يرى أنه مناسب له، وأنه أهم له وأولى بأن يهتم به ويتأثر به أفضل من غيره.
فالجميع واحد، والمؤدَّى واحد، وذلك لأنها تعتبر من خصال الإسلام والإيمان، وهي العقائد والعبادات ونحوها.
وعلى كل حال: فالمسلمون يدينون بهذا الدين، ويعتقدون هذه الشريعة، ويتبعونها، ويعرفون أنه ليس فيها تعقيد، ولا صعوبات، لا في علومها ولا في أعمالها.
فالعلوم: سهلة ويسيرة؛ ولكنها تحتاج إلى تعقُّل، قد يقول القائل: إنني بذلت وتعلمت ولم أصِر عالماً!
نقول: لأنك أولاً: لم تقبل على العلم بكليتك؛ بخلاف الصحابة، فإن أحدهم كان يقبل على العلوم بكليته وبقلبه وقالبه، فيتعلمها في يوم أو في أيام أو في عشرين يوماً كما في حديث مالك بن الحويرث .
ولأنك ثانياً: لم تطبق ولم تعمل مباشرة، وذلك لأن الإنسان الذي يسمع الكلمات ويعرفها؛ ولكنه لا يطبقها في حينه، تذهب من ذاكرته، ينساها بعد مضي سنة أو شهر أو نحو ذلك؛ بخلاف من إذا أراد التعلم، وتفرَّغَ له وأقبل بقلبه، ثم كلما تعلم شيئاً كرره وعمل به، فإنه يمكن أن ينال العلم ويكون عالماً في وقت قصير.
ومعلوم أيضاً أن العلوم كثيرة؛ ولكن يُبدأ منها بما هو الأهم، فالإسلام يعم الأعمال التي فعلها من الدين، والأعمال التي تركها من الدين، والمباحات ونحوها، وهذه كلها داخلة في مسمى الإسلام، ومعرفتها يسيرة، والحمد لله أن المسلمين الذين خرجوا من بين أهلينا من بنين وآباء وعلماء ومشايخ كلهم يدينون بالإسلام وبالعقيدة السلفية، ولا يخفى عليهم شيء من تعاليم هذا الدين.
دين الإسلام وسط بين الغلو والتقصير
قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171] ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالَاً طَيِّبَاً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:87-88].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن: (ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وفي غير الصحيحين: (سألوا عن عبادته في السر، فكأنهم تقالوها).
وذُكر في سبب نزول الآية الكريمة عن ابن جريج عن عكرمة أن: (
وقوله: (.. وبين التشبيه والتعطيل ..):
تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه، فلا يقال: سمع كسمعنا، ولا بصر كبصرنا ونحوه، ومن غير تعطيل، فلا يُنفى عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به أعرف الناس به: رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك تعطيل، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى، ونظير هذا القول قوله فيما تقدم: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زَلَّ ولم يصب التنزيه).
وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]: ردٌّ على المشبهة.
وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]: ردٌّ على المعطلة].
في هذا بيان أن الحق وسط بين الطرفين، وأن أهل السنة وسط بين فرق الأمة، وأن الأمة وسط بين الأمم، والكلام على وسطية أهل السنة ووسطية الأمة طويل ومعروف، ومما ذكر الشارح أنهم لا يغلون ولا يقصرون، بل هم وسط بين ذلك.
فالغلو هو التشديد على النفس، كما حصل من هؤلاء الذين هموا أن يختصوا وحرموا الطيبات، وشددوا على أنفسهم، ولزموا البيوت، واقتصروا على العلقة من الطعام، وعزموا على أن يقوموا جميع الليل، ويصوموا جميع النهار، ويعتزلوا الملذات والشهوات، ويتشبهوا بالرهبانية، فهؤلاء غلوا.
والذين يقصرون هم الذين لا يأتون من الأعمال إلا بعض العمل، فلا يصلون إلا الفريضة مثلاً، وإذا صلوها صلوها خفيفة، ولا يصومون إلا الفرض، وربما يقصرون في الصيام، أو يأتون بما يفطِّر أو يفسد صيامهم، وكذلك في الطهارة يخففونها.
الأولون: يتشددون ويتقعرون في العبادة، والآخرون يخففون الطهارة وربما لم يبالغوا في غسل الأعضاء ولم يسبغوا.
فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، والوسط هو الخير بين الغلو والتقصير.
فالغلو مذموم لهذه الآية: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [المائدة:77].
والتقصير أيضاً مذموم؛ لأن فيه نقصاً في العمل، ونقصاً في لزوم ما أمر الله به.
كذلك أيضاً الغلو والتقصير يعم جميع الأحوال والعبادات ونحوها.
فجميع العبادات يمكن أن يُتصور فيها غلو وتقصير، فالمعاملات مثلاً فيها غلو وتقصير، فالذي يحرم البيوع أو يحرم أكثر الأطعمة ولا يتعامل إلا مع فلان وفلان، أو لا يتعاطى، أو لا يمتلك من الأموال إلا شيئاً دون شيء، يقال: هذا غالٍ قد حرم الطيبات، وكذلك لو حرم الصناعات الجديدة، إذا حرم مثلاً الركوب في السيارات، أو في الطائرات، أو حرم الانتفاع بالأجهزة الحديثة كمكبر الصوت والاستنارة بالكهرباء، والانتفاع بالكهرباء في مكيفات، أو في أنوار كهربائية أو نحو ذلك، نقول: هذا قد غلا.
والذي يتوسع في مثل هذه الأشياء يجره إلى الحرام، فيستعمل مثلاً السماع للموسيقى والأجهزة المفسدة كأجهزة الغناء، وأجهزة التصاوير والتمثيلات الخليعة، والصور والأفلام الماجنة ونحوها، ويتوسع في ذلك، نقول: هذا قصر.
فالأول قد غلا وتشدد، والثاني قد توسع وأتى بما يفسد دينه أو يقلل عليه ديانته، وما بينهما وسط لا تشديد وغلو، ولا تقصير وإخلال بالواجبات ونحوها.
دين الإسلام وسط بين التشبيه والتعطيل
والمعطلة هم الذين نفوا صفات الله وتأولوها، وتشددوا في صرفها عن ظاهرها، وعطلوا الله تعالى عن صفات الكمال.
وقد تقدم أن هؤلاء مقصرون وغالون، والحق بينهما وسط، وهو أنَّا لا نصل إلى درجة هؤلاء المعطلة ولا نسلك طريقة هؤلاء الذين هم ممثِّلة، بل نثبت الصفات كما أثبتها الله تعالى لنفسه، ونصفه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، دون تشبيه أو تمثيل.
دين الإسلام وسط بين الجبر والقدر وبين الأمن واليأس
تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله، وأنها ليست بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها، وليست مخلوقة للعبد، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى.
وقوله: (وبين الأمن والإياس):
تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه، راجياً رحمته، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة].
لابد أن نعلم أن أهل السنة وسط في هذه الأمور، وذلك لأن القدرية الذين نفوا قدرة الله قالوا: إن الله لا يقدر على كل شيء، بل العبد يعصي قهراً على الله، والله لا يقدر أن يرد هذا العاصي، ولا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، بل العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهؤلاء غلوا في نفي قدرة الرب، وجعلوا القدرة للعبد.
وأما الجبرية فضدهم، حيث نفوا قدرة العبد أصلاً، وجعلوا العبد مجبوراً ليس له أية قدرة، ولا أية مشيئة، ولا أية عمل، بل حركته كحركة أغصان الشجرة التي تحركها الريح، فلم يجعلوا له اختياراً.
فلا هؤلاء ولا هؤلاء، بل الحق وسط بينهما وهو أن نقول: إن للعبد قدرة، ولكنها تحت قدرة الله خاضعة لمشيئته وقدرته.
كذلك أيضاً أهل السنة وسط بين الأمن واليأس، الأمن: هو عدم الخوف من الله، كون الإنسان يقدم على المعاصي، ويتجرأ عليها، ويتجرثم في الذنوب، وكأنه عنده صك أمان من الله أنه في الجنة، فتراه يُقدم على الذنوب، ويكثر من السيئات، ولا يخاف من الله، هذا هو الآمن، قال الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
وأما اليأس: فهو القنوط الذي هو قطع الرجاء، قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، وهو الذي يقطع رجاءه من الرحمة، وكأنه يجزم بأنه في النار ويقول: لا قدرة لي على التوبة، أنا قد عملت عملاً لا تنالني فيه الرحمة، ثم إذا نصحتَه يقول: عملي وذنوبي كثيرة، وأنا لا أستطيع أن أمحوها، وقد تكاثرت علي، فالآن أنا مقدم أو جازم على أني من أهل النار، ولو عملت ما عملتُ، ذنوبي لا تمحوها التوبة، ولا تصل إليها الرحمة، فيقطع رجاءه من رحمة الله.
نقول: هذا قنوط قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] بل الوسط هو الخيار، وهو أن تكون خائفاً راجياً، فيكون الخوف والرجاء للإنسان بمنزلة الجناحين للطائر مستويان، لا يكون في أحدهما زيادة على الآخر، إذا كان في أحدهما زيادة اختل طيران الطائر، وإذا تساويا استوى طيرانه، الخوف يحملك على أن تكثر من الأعمال، والرجاء يبرِّد قلبك على ألَّا تيئس من رَوح الله.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2715 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2631 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2591 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2565 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2473 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2409 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2387 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2336 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2301 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [20] | 2299 استماع |