شرح العقيدة الطحاوية [93]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[وقوله: (ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها).

عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر؛ فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) وروي: (رايغ) بالراء والغين، وهما بمعنى. رواه البخاري، وأبو داود، وابن ماجة، والطبراني.

وعن حذيفة بن أسيد قال: (اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، فقال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) رواه مسلم .

وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه، وإن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى، كأن عينة عنبة طافية).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه: ك ف ر) فسره في رواية : (أي: كافر).

وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيراً من الدنيا وما فيها)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]، وأحاديث الدجال وعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ينزل من السماء ويقتله، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة؛ ببركة دعائه عليهم، ويضيق هذا المختصر عن بسطها].

نزول عيسى عليه الصلاة والسلام

ابتدأ الطحاوي رحمه الله وكذا الشارح في ذكر أشراط الساعة، وأن أهل السنة والجماعة يصدقون بما ذكر منها في القرآن، وما ذكر منها في السنة في الأحاديث الصحيحة الثابتة التي لا تردد فيها، فأما ذكر المسيح ابن مريم وأنه يخرج في هذه الأمة، فورد في تفسير قول الله تعالى في سورة النساء: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159] أن معنى هذه الآية: أن من أهل الكتاب من يدركونه فيؤمنون به قبل موته، أي: إن منهم إلا سوف يؤمنون به، ومتى يؤمنون به؟ إذا خرج في آخر الدنيا؛ وذلك أنه ورد في الحديث خروجه فقال صلى الله عليه وسلم: (ليوشكن أن يخرج فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) فذكر له هذه الصفات:

أنه يقتل الخنزير؛ وذلك لأن لحمه حرام، والنصارى يبالغون في أكله.

ويكسر الصليب؛ لأن النصارى يعبدونه، ويدعون أن عيسى قتل وصلب عليه، فيعظمونه لأنه صلب عليه ربهم أو ابن ربهم! تعالى الله عن قولهم.

وأنه يضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، وفي هذه الشريعة معلوم أن الكتابيين تقبل منهم الجزية ويبقون على دينهم، لكن عيسى في آخر الزمان لا يقبل الجزية، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا، وينصره الله ويظهره، ويفيض المال في زمانه حتى لا يقبله أحد، أي: يكثر المال بأيدي الناس، وذلك ببركة ينزلها الله تعالى، ففي بعض الأحاديث: (أن الله تعالى يبارك في الرسل -يعني: في اللبن- حتى تكفي اللقحة الفئام من الناس، ويبارك في الثمار، حتى يأكل الجماعة من الرمانة ويستظلون بقحفها) يجعلون قحفها -يعني: غلافها- كخيمة يستظلون به، وذلك من آثار البركة.

خروج الدجال

خروج الدجال من الأمور الغيبية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ووردت الإشارة إليه في القرآن؛ فكان من الإيمان بالغيب التصديق بخروجه؛ لأن الله مدح الذين يؤمنون بالغيب، أي: بما أخبروا به ولم يشاهدوه.

ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات -وذكر منها- خروج الدجال) وهو الأعور الكذاب الذي يخرج في آخر الزمان، ويدعي أنه الرب، ويفتن به خلق، فيأتي إلى القرية فإذا عصته أصبحوا ممحلين، وإذا أطاعته أصبحوا منعمين، عقوبة وفتنة، ويدعو القرية الخربة فيتبعه ذهبها كيعاسيب النحل، واليعسوب هو: ذكر النحل الذي يتبعه بقية النحل.

وأخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا الدجال يبقى أربعين يوماً، ولكنها مختلفة، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وباقي الأيام كأيامكم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك اليوم الطويل هل يكفيهم فيه خمس صلوات، فقال: (لا، اقدروا له) أي: اقدروا لكل صلاة ما بينها وبين الأخرى ثم صلوا.

وكذلك أخبر أن الدجال يقتله المسيح ابن مريم بباب لد، وهو موضع في الشام، فإذا رأى المسيحُ ابن مريم الدجالَ ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيقتله ويزول بذلك أثره، بعدما يفسد في الأرض.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة من الشيطان، ويكثر أن يستعيد من أعوان الشياطين ومنهم هذا الدجال الذي هو المسيح الدجال المنتظر، فيقول: (إذا تشهد أحدكم فليعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) أي: تقول: أعوذ بالله، أو: اللهم إني أعوذ بك وتذكر هذه الأربع في آخر التشهد، ومن جملتها المسيح الدجال، من شر فتنته ومن شر أذاه.

وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذكر له علامة، وهي: أنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، ومعروف أن العنبة إذا أخذ ماؤها بقيت ملتصقة قشرتها بعضها ببعض، فعينه حدقتها منطفئة، فهي ملتصق جلدها بعضه ببعض، مثل العنبة إذا أخذ ماؤها. وكذلك أخبر أنه مكتوب بين عينه: كافر، حروف مقطعة منفصلة: (ك) و(ف) و(ر)، يقرأها كل من نظر إليه من أهل الإيمان، وإن لم يكن قارئاً؛ حتى لا ينخدع به. ولكثرة الأحاديث التي وردت في الاستعاذة منه، وفي بيان شره؛ جعله العلماء من أشراط الساعة، وصاروا يحذرون من شره، ولكن مع الأسف أن بعض المعاصرين أنكروه لما رأوا أن الواقع لا يساعد عليه، فصاروا يتأولون الأحاديث التي وردت فيه، ويصرفونها عن ظاهرها، حتى قال بعضهم: إن المراد بالدجال الشرور التي تحصل في آخر الزمان، والمنكرات، وغفلوا عن قوله عليه السلام: (إنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية)، وغفلوا عن أنه يدعو الناس ويفتنهم، وأنه يسلط على البلاد كلها، ما عدا مكة والمدينة، فإن الله يجعل عليهما ملائكة يحمونهما منه، ولكن المدينة ترجف ثلاث رجفات، فيخرج إليه من كان منافقاً، وغفلوا أيضاً عن أوصافه التي وصف بها، من أن بين عينيه كافر، ومن أنه إنسان يجول ويتقلب في البلاد، وأنه يسير بسرعة السحاب، فيقطع الأرض بسرعة.

هذا وكثير مما يكون معه من الخوارق هي من الأحوال الشيطانية، فإن هذه التي تجري على يديه أحوال شيطانية، حتى إنه يقطع الرجل قطعتين ثم يقول له: قم، فيقوم، وأنه إذا عصته أهل قرية أصبحوا ممحلين، قد جفت بلادهم، وإذا أطاعته بلدة أصبحوا في رفاهية ونعمة، وذلك دليل على أنه فتنة يخرجها الله للناس حتى يفتن بها العباد، فمن ثبته الله ورزقه علماً وبصيرة لم يزدد بأمره إلا بصيرة، ومن أراد الله فتنته فإنه ينخدع به.

وقد أكثر العلماء من الكلام عن المسيح الدجال، وعن المسيح ابن مريم، وذكروا عليهما أدلة كثيرة، وقد تكلم ابن كثير رحمه الله عن ذلك في آخر تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، فأطال الكلام في ذكر المسيح ابن مريم ونزوله، والآيات التي تدل على خروجه، وذكر الأحاديث، واستقصى غالباً ما ورد في ذلك.

وأما ذكر المسيح الدجال فذكره رحمه الله في النهاية التي في آخر تاريخه، أي: في ذكر أشراط الساعة، وأطال في ذلك، وكذلك ألفت كتب في ذلك كثيرة من العلماء المتقدمين والمتأخرين، ومن أوفى من كتب في ذلك الشيخ حمود التويجري في كتابه المشهور الذي يسمى: إتحاف الجماعة في أشراط الساعة، فإن الجزء الثاني كله يتعلق بالأشراط المذكورة في هذه الكلمات، وقد توسع فيها، وأورد كل ما وقف عليه أو يصله من إيراد، وهكذا غيره، فنؤمن بهذه الأشياء وإن لم نرها.

خروج دابة الأرض

دابة الأرض ذكرت في قول الله تعالى في سورة النمل: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، وقد تكلم ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية عليها، وذكر الأدلة التي يمكن الاستدلال بها، والأحاديث التي وردت فيها، ولكن معلوم أن أكثر ما ذكر فيها لم يصح، مثل أنها دابة عظيمة، وأن طولها كذا وكذا، وأن معها عصا موسى، وأن معها خاتم سليمان، وأنها تجعل على المؤمن علامة الإيمان، وعلى الكافر علامة الكفر، حتى أن الناس يتبايعون بعد ذلك، فيقول هذا: يا مؤمن، وهذا: يا كافر، وما أشبه ذلك؛ فأكثر تلك الأحاديث لم تثبت، ولكن فيها أحاديث ثابتة، وفيها النص القرآني في هذه الآية: دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ .

طلوع الشمس من مغربها

طلوع الشمس من مغربها استدل عليه بقول الله تعالى في آخر سورة الأنعام: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] قيل: إن هذه الآية التي إذا أتت لم ينفع أحداً إيمانه إذا لم يكن مؤمناً: طلوع الشمس من المغرب، وإذا طلعت يقول الناس: آمنا، فلا ينفعهم حينئذٍ إيمانهم، وفي ذلك الوقت يقرب انتهاء الحياة الدنيا، وتقرب قيام الساعة، وهذه علامة من العلامات، وقد استوفى أدلتها ابن كثير في آخر تاريخه في النهاية، وكذلك غيره ممن كتبوا في أشراط الساعة، وأنكرها في هذه الأزمنة من أنكر كثيراً من الغيبيات، وادعوا أنه لا يمكن أن تطلع الشمس من المغرب، فإن العادة جارية بأن الشمس تطلع من جهة مشرقها، ولا يتغير هذا الكون إلا تغيراً كلياً، وهذا على قول من يقول: إن الشمس ثابتة وإن الأرض هي المتحركة، ولكن هذا أيضاً يرد عليهم، والدليل الواضح يدل على أن الشمس تطلع من مغربها، وأن الناس إذا رأوا ذلك آمنوا، وحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

الدخان

الدخان المذكور في هذا الحديث قيل: إنه المذكور في سورة الدخان في قول الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11]، وقد ذهب بعض الصحابة: إلى أنه شيء قد مضى، ومنهم ابن مسعود ، قال: إن الدخان قد مضى، وأن المراد به الجوع الذي حصل لقريش لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع سنين تصيبهم كسبع يوسف لما لم يطيعوه، فأصابتهم سنة، يعني: قحط، فتأخر عليهم المطر، حتى أكلوا الجلود، وصار أحدهم من شدة الجوع ينظر إلى ما بينه وبين السماء فينظر كهيئة الدخان من الغشاوة التي على أبصارهم، فكان ذلك هو الدخان الذي ذكر في هذه الآية: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ، وهذا تفسير ابن مسعود ، والجمهور: على أنه لم يأت، وأنه شيء يكون بين يدي الساعة، وأنه دخان حقيقي يغشى الكثير من الناس كما تغشاهم الرياح، وكما يغشاهم الغبار، بحيث يحول بينهم وبين نظرهم إلى السماء أو نحو ذلك، وأنه يعم البلاد، وهذا هو الذي ورد في بعض الأحاديث، وهو من جملة أشراط الساعة.

وبكل حال يحتمل أنه الذي ذكره ابن مسعود ، وأنه ما حصل لقريش من الجهد حتى رءوا بينهم وبين السماء مثل الدخان، أو أنه شيء منتظر، والآية محتملة لذلك.

كذلك أيضاً من أشراط الساعة ما ذكر في بعض الأحاديث من البطشة، ولكن قيل: إنها مضت، وقوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى [الدخان:16] الصحيح أنها قد وقعت، وأنها غزوة بدر.

وقيل: إن من أشراط الساعة اللزام المذكور في آخر سورة الفرقان: (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:77]، وقيل: إن هذا اللزام هو القحط والعذاب الذي وقع بقريش لما لم يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه عذاب مستمر مستقبل، وسوف يحصل، ولعل الأقرب ما ذكر أنه ما نزل بهم من القحط الذي نزل بهم مدة طويلة، حتى هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبوا منه أن يدعو لهم، فدعا لهم، فرحمهم الله، وأزال عنهم القحط الذي نزل بهم.

بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وموته

من أشراط الساعة التي ذكرت في الأحاديث: موت النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن بعثته تعتبر من أشراط الساعة، يقول الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] أي: قرب، ويقول تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، ويقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] أي: قرب وقت الحساب، وكل هذا دليل على قرب الساعة، وقال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، ويقولون: إن من أكبر أشراطها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فموته بعد بعثته شرط من أشراط الساعة.

أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث عن أشياء قد حصلت أو سوف تحصل ولا بد، فإخباره بالفتنة والهرج والخلاف الذي حصل بين المسلمين أمر قد وقع، وكذلك إخباره بالموتان قد حصل، وهو ما حصل في صدر الإسلام من الموت الذريع إما بسبب الفتن وإما بسبب الأمراض التي حصلت، فمات فيها خلق كثير، وهذا معنى قوله: (موتان)، يعني: موت ذريع كبير كثير.

فتح بيت المقدس

من أشراط الساعة فتح بيت المقدس، وقد فتحت في خلافة عمر رضي الله عنه، وقد غزا بنفسه إلى أن وقف عليها ففتحت بيت المقدس، ثم تغلب عليها بعد ذلك الإفرنج أثناء الحروب الصليبية، وبقي بأيديهم نحو مائة وثمانين سنة، ثم استعادها المسلمون وفتحت فتحاً مبيناً، واستولى عليها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ثم في هذه الأزمنة استولوا عليها مرة ثانية، ولعل الله أن يعيد للمسلمين الكرة حتى يفتحوها ويعيدوها بلدة إسلامية كما أخبر بهذا الحديث في قوله: (فتح بيت المقدس).

الخسوفات الكبيرة

الخسوف كثيرة، ولعل التي تكون من أشراط الساعة هي الخسوف الكبيرة، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وقد يكون منها أيضاً الزلال التي تحصل في كثير من البلاد، وقد تكون من العقوبات التي يعاقب الله بها بعض عباده في بعض الأزمنة إذا حصل منهم ذنوب أو تهاون بحقوق الله تعالى وبحدوده.

نار تخرج من المدينة

أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يخرج من المدينة نار شديدة الضوء، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى) وهي من قرى الشام، وقد حصلت هذه النار في القرن السابع، فخرجت في الحرة التي في شرق المدينة نار شديدة الضوء ترتفع أكثر من عشرين متراً، لها لهب ولكنها لا تحرق السعف، وإنما تحرق الحجارة، تشتعل النار بالحجارة وتتقد بها، ويلقى فيها السعف والخوص فلا يشتعل، واستمرت أكثر من شهر في شرق المدينة، وانزعج الناس منها، وعرفوا أنها ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث، وذكر أن أهل بصرى رأوا ضوءها، وأنهم رأوا أعناق الإبل في ظلمة الليل بواسطة ضوئها، فوصل ضوءها إلى تلك الأماكن البعيدة.

نار تخرج من قعر عدن

من أشراط الساعة نار تخرج من قعر عدن، أي: أنها تخرج من أقصى اليمن، فتحشر الناس وتسوقهم إلى محشرهم، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وهذه من آخر أشراط الساعة.

وبكل حال فإن المسلم يصدق بما ورد في هذه الأحاديث من أشراط الساعة ويؤمن بها، وإن أنكرها بعض من استبعد وقوع ذلك، وادعى أن هذه أمثلة ضربت للتقريب أو تأولها بتأويلات بعيدة، فلا عبرة بقول المتأولين.

أول الآيات خروجاً

قال رحمه الله تعالى: [وأما خروج الدابة وطلوع الشمس من المغرب، فقال تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، وقال تعالى : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158].

وروى البخاري عند تفسير الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل).

وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً) أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر مشاهدة مثلهم مألوفة، وأما خروج الدابة بشكل غريب غير مألوف، ثم مخاطبتها الناس، ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر؛ فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية، وقد أفرد الناس في أحاديث أشراط الساعة مصنفات مشهورة، يضيق على بسطها هذا المختصر].

الدابة من الآيات التي ذكرت في الأحاديث التي مرت، وورد ذكرها في القرآن في هذه الآية في آخر سورة النمل: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل:82]، ووصف الدابة، وطولها، وما معها وارد في أحاديث.

وأما طلوع الشمس من مغربها فذكر في الآية التي في آخر سورة الأنعام وهي قوله تعالى : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فذكرت أن هذه الآية إذا خرجت وحصلت لم ينفع أحداً إيمانه، وفي الحديث أن هاتين الآيتين: الدابة وطلوع الشمس متقاربتان، إذا حصلت إحداهما تبعتها الأخرى.

خروج يأجوج ومأجوج

ذكر الشارح أن خروج عيسى ابن مريم، وكذلك الدجال قبل طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، ومعلوم أنهم من جنس البشر، فلا يستنكر خروجهم، وإنما أخبر بخروجهم كأمر غيبي، ولكن ليعلم أنهم ولو كانوا من البشر لكن لهم شأن، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكرهم في القرآن، قال تعالى في آخر سورة الأنبياء: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، وقد أخبر الله تعالى أن ذا القرنين بنى دونهم حاجزاً منيعاً، وسداً شديداً، وهو المذكور في آخر سورة الكهف في قوله: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] يعني: بناءً منيعاً يسد ما بيننا وبينهم حتى لا يتسلقوه ولا يصلوا إلينا، فعمل ذلك ذو القرنين وأمرهم أن يأتوه بزبر الحديد، أي: أكوام الحديد، ثم أوقد عليه، وقال: انفخوا، فلما أوقد عليها وذاب الحديد، جعله بين جبلين، فأصبح سداً منيعاً، وهو المذكور في قوله: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا [الكهف:96] إلى آخر الآيات، ثم قال: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98].

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سوف يحفرون هذا السد ويخرجون، وفي بعض الأحاديث عن زينب رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً فقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين أصبعيه السبابة والإبهام، قالت زينب : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) وأخبر أنهم إذا خرجوا يعيثون في الأرض فساداً؛ وذلك لأنهم خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله، فإذا خرجوا امتصوا ما على الأرض من البحيرات والأنهار، حتى يمروا على بحر طبرية، فيشربون ما فيه، ويقول آخرهم: لقد كان في هذا المكان مرة ماءٌ، ويكون ذلك في زمن عيسى، فيدعو عيسى الله تعالى عليهم، فيسلط الله عليهم عقاباً وهو دود يخرج في رقابهم، فيصبحون موتى كموت رجل واحد، فعند ذلك تنتن الأرض من زهمهم، فيرسل الله طيراً تحملهم وتلقيهم في البحار، وينزل مطراً، وتصبح الأرض كالصدفة قد طهرت، ثم ينبت الله النبات بعد ذلك المطر وينزل البركة.. إلى آخر ما ذكر في الحديث الذي في صحيح مسلم وغيره.

هذه الأحاديث ثابتة في الصحاح، ورواها الأئمة بأسانيد ثابتة؛ ولذا اعتقد أهل السنة صحتها، وآمنوا بها، وإن قصرت العقول عن إدراك معانيها، فيفوضون كيفياتها كما يفوضون كيفيات الإيمان بجميع المغيبات.