خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [77]
الحلقة مفرغة
من جملة المسائل الفرعية التي تلحق بالعقيدة مسألة إهداء الثواب للأموات، أو انتفاع الأموات بأعمال الأحياء التي يعملونها ويهدونها إلى الأموات، وهذه مسألة فروعية، ولكن لها صلة بالعقيدة، وذلك:
أولاً: أن الخلاف فيها مع المبتدعة؛ فلأجل ذلك ألحقت بالأمور العقدية.
وثانياً: أنها من الأمور الغيبية، وذلك أن الأموات في عالم غير عالمنا.. في برزخ بين الدنيا والآخرة، وانتفاعهم بهذه الأعمال غيب عنا، فلا ندري ولا يظهر لنا وجه الانتفاع جلياً، فلأجل ذلك اعتمدنا فيه على الدليل، والأدلة التي اعتمدنا عليها وإن لم تكن قطعية الثبوت، ولكنها ظنية، فلأجل ذلك جعل هذا الباب في باب العقائد.
وقد تقدم ذكر الخلاف، والجواب عما استدل به المخالف؛ وذلك لأن المخالفين من المبتدعة اعتمدوا على الآية التي في سورة النجم، وهي قول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فقالوا: لا ينفع الميت إلا سعيه -أي: عمله- كما لا ينفع الحي إلا سعيه -أي: عمله-.
الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)
وأجيب أيضاً: بأن الآية في ملكية الإنسان، ومعلوم أنه لا يملك إلا عمله أو ماله، وأما عمل غيره فملك لصاحبه، لكن إذا تبرع به اعتبر ملكاً لمن تُبرع له به، ويقاس ذلك على المال، فالمال الذي تكتسبه هو ملكك ولا تملك غيره، ولكن متى تبرع لك صديقك بمال.. متى أهدى إليك هدية، أو أعطاك عطية، وسمحت بها نفسه، فإنك تملك تلك الهدية، وتدخل في ملكك، وتنتقل من ملكه، فكذلك إذا عمل عملاً صالحاً كحجة وجهاد وصدقة ودعاء ونحو ذلك، وأهداها لفلان الحي أو لفلانٍ الميت وجعل ثوابها له، فإن ذلك بمنزلة ملكه للمال الذي أهدي له.
الجواب عن استدلالهم بحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله...)
وهذا ظاهر والحمد لله، وقد تقدم الخلاف في الانتفاع أو في إهداء الأعمال البدنية كالصلاة والصوم -الذي هو عمل بدني محض- فذكر بعضهم أنه لا ينتفع بذلك.
الجواب عن استدلالهم بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد)
وعلى هذا فمعنى قوله: (لا يصلي أحد عن أحد)، أي: لا يصلي عنه وهو قادر، يعني: لا يوكل أحد أخاه يصلي عنه، يقول: صلِ عني صلاة الظهر، أو: صلِ عني صلاة العشاء، أو: وكلتك أن تصلي عني صلاة المغرب أو العصر أو نحو ذلك، أو: وكلتك أن تصوم عني هذا اليوم من رمضان أو ما أشبه ذلك وهو قادر، فإن هذا لا يجوز؛ وذلك لأن العبادة وجهت إلى الإنسان القادر، فلا يجوز له أن ينيب غيره ولا يجوز له أن يوكل من يعمل عنه ذلك العمل وهو قادر؛ وذلك لأن الحكمة في هذه العبادة ظهور العبودية على الفاعل، فالصلاة فرضت على المسلمين، ولا يجوز لأحد أن يوكل من يصلي عنه، فإن تذلل المصلي يفوت بالتوكيل، فالمصلي يتذلل ويخشع ويخضع ويتواضع، ويظهر منه الخشوع والذل بين يدي ربه، وهذا لا يحصل له إذا وكل من يصلي عنه، فلا ينتفع بهذه الصلاة، ولا يحصل له بها تذلل ولا خشوع ولا تضرع وتمسكن بين يدي ربه.
وكذلك الصيام شرع لإظهار الامتثال بترك طعامه وشرابه وزوجه لأجل امتثال أمر الله، فإذا وكل من يصوم عنه وأخذ يأكل ويشرب، اعتبر غير متقبل لأمر الله، ولم يجز عنه توكيله، فلأجل ذلك قالوا: لا يوكل في العبادات البدنية التي الحكمة منها إظهار الاستكانة والذل بين يدي الرب. ويلحق بذلك: حج الفريضة للقادر، فمن كان قادراً على الحج بالبدن وبالمال فإنه يكلف بأن يفعله ولا يوكل فيه، وذلك لأن الحكمة تقتضي الأمرين: تقتضي إنفاقه من ماله في هذا السبيل، وتقتضي عمله ببدنه هذه الأعمال، والأفضل هي الأعمال التي أمر بها، والأصل في شرعية الحج أن يظهر أثره على العامل، فالحاج إذا أحرم وخضع وخشع وتمسكن بلباسه الذي فيه تجرده عن لباسه المعتاد، أليس ذلك من أجل العبادات؟ هل تحصل له تلك المسكنة إذا وكل غيره؟! أليس إذا أخذ يطوف على البيت العتيق يحصل الثواب والتذلل، ويحصل له إخبات بين يدي ربه؟ هل يحصل هذا الإخبات إذا وكل عنه من يحج عنه؟! وهكذا إذا وقف بعرفات وهو خائف راج ذليل متواضع، هل تحصل هذه الحالة إذا وكل من يقف عنه؟!.
إذاً: فالحج في الأصل هو العبادة البدنية.
وقد عرفنا أنه غالباً ما يتكون من المال والبدن، ولكن قد يكون بدنياً محضاً، كالمكي الذي لا يقدر على أن يستأجر سيارة أو دابة يركبها، ولكنه قادر على أن يمشي ببدنه من مكة إلى منى، وإلى مزدلفة، وإلى عرفات، أليس ذلك مكلفاً بأن يحج ولا يسقط عنه الحج؟ أليس حجه بدنياً ليس فيه شيء من المال؟ وهذا يدل على أن الأصل في العبادة هو تحريك هذا البدن، فلأجل ذلك لم يصح أن يوكل فيه، ولكن إذا حج فرضه مع القدرة، ثم تبرع له ولده، أو تبرع له أخوه بأن أدى عنه حجة أخرى، أو طاف تطوعاً وأهدى طوافه له، فلا شك أنه ينتفع بذلك، حتى ولو كان قادراً.
أما إذا عجز عن الحج إما لعيب في بدنه، وإما لقلة في ماله، وإما للصعوبة والمشقة بينه وبين الحرم، فإنه في هذه الحالة معذور، وإذا وكل غيره، أو قام غيره مقامه في هذا العمل وتبرع له متبرع؛ فإن ذلك ينفعه.
فعرف بذلك الفرق بين العبادات البدنية المحضة كالصوم، والصلاة، والحج لمن هو في مكة، فإنها لا تدخلها النيابة إذا كانت فرضاً، وأما إذا كانت تطوعاً وأهدي له ثوابها فلا مانع من أن ينتفع به.
أما بالنسبة للأعمال الأخرى فإنها تدخلها النيابة، فالأذكار يصح أن يذكر الله تعالى وأن يهدي ثوابها لأخيه أو قريبه، وكذلك المرء مأمور أن يدعو لأقاربه، أو للمسلمين عموماً، والصدقات يصح أن يوقعها عن قريبه حياً أو ميتاً بجزء من ماله، وهكذا بقية الأعمال.
وقد مر بنا بعض الأشياء التي فيها خلاف، وعرفنا كيف الجواب عنها.
وأجيب: بأن الإنسان اكتسب الأصدقاء واكتسب الأقارب ونحوهم، فاكتسابه هذا يعتبر من سعيه، فإذا تصدقوا عنه، أو دعوا له، أو حجوا عنه، أو استغفروا له -أو نحو ذلك- فإن ذلك من آثار سعيه وكسبه في كثرة الأصدقاء، حيث تودد إليهم بما جعلهم يخلصون له المودة.
وأجيب أيضاً: بأن الآية في ملكية الإنسان، ومعلوم أنه لا يملك إلا عمله أو ماله، وأما عمل غيره فملك لصاحبه، لكن إذا تبرع به اعتبر ملكاً لمن تُبرع له به، ويقاس ذلك على المال، فالمال الذي تكتسبه هو ملكك ولا تملك غيره، ولكن متى تبرع لك صديقك بمال.. متى أهدى إليك هدية، أو أعطاك عطية، وسمحت بها نفسه، فإنك تملك تلك الهدية، وتدخل في ملكك، وتنتقل من ملكه، فكذلك إذا عمل عملاً صالحاً كحجة وجهاد وصدقة ودعاء ونحو ذلك، وأهداها لفلان الحي أو لفلانٍ الميت وجعل ثوابها له، فإن ذلك بمنزلة ملكه للمال الذي أهدي له.
وأما الحديث الذي استدلوا به، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فهذا -أيضاً- لا شك أنه ظاهر الدلالة، ولكن ليس المراد أنه لا ينتفع إلا بهذه الثلاثة، بل المراد: أنه لا يجري عليه، ولا يملك إلا هي؛ لكن متى تبرع له غير ولده بدعوة انتفع بها، ومتى تبرع له صديقه بصدقة عنه، أو بحجة عنه، أو بجهاد جاهده وجعل أجره لصديقه أو لقريبه فلان أو ما أشبه ذلك، فما المانع من وصولها إليه؟! بل لا شك أن ذلك يصل إليه، وقد اتفق المسلمون على أنه ينتفع بصلاتهم عليه، فإذا مات وصلوا عليه انتفع بذلك، وينتفع -أيضاً- بدعائهم له، فإذا زاروه في قبره ودعوا له انتفع بذلك، وكذلك إذا مر الإنسان على أهل القبور، وسلم عليهم، ودعا لهم؛ انتفعوا بذلك، فينتفعون من دعوات الأحياء بأشياء كثيرة تنور عليهم قبورهم، وتزداد بها حسناتهم، وتكفر بها خطاياهم، ولولا ذلك لما تصدق أحد عن أبويه، ولا تقرب عنهما بشيء.
وهذا ظاهر والحمد لله، وقد تقدم الخلاف في الانتفاع أو في إهداء الأعمال البدنية كالصلاة والصوم -الذي هو عمل بدني محض- فذكر بعضهم أنه لا ينتفع بذلك.
واستدل بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد) ؛ ولكن وردت الأدلة في انتفاعه بالصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولما جاءته امرأة وقالت: (إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر أو صيام شهر. قال: أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء -أو: فدين الله أحق بالقضاء-) فأمرها بأن تصوم عن أمها، وسواء كان هذا الصوم فرضاً أو نذراً فإنه أقرها على أن تصوم، بل أمرها بذلك، وشبهه بقضاء الدين.
وعلى هذا فمعنى قوله: (لا يصلي أحد عن أحد)، أي: لا يصلي عنه وهو قادر، يعني: لا يوكل أحد أخاه يصلي عنه، يقول: صلِ عني صلاة الظهر، أو: صلِ عني صلاة العشاء، أو: وكلتك أن تصلي عني صلاة المغرب أو العصر أو نحو ذلك، أو: وكلتك أن تصوم عني هذا اليوم من رمضان أو ما أشبه ذلك وهو قادر، فإن هذا لا يجوز؛ وذلك لأن العبادة وجهت إلى الإنسان القادر، فلا يجوز له أن ينيب غيره ولا يجوز له أن يوكل من يعمل عنه ذلك العمل وهو قادر؛ وذلك لأن الحكمة في هذه العبادة ظهور العبودية على الفاعل، فالصلاة فرضت على المسلمين، ولا يجوز لأحد أن يوكل من يصلي عنه، فإن تذلل المصلي يفوت بالتوكيل، فالمصلي يتذلل ويخشع ويخضع ويتواضع، ويظهر منه الخشوع والذل بين يدي ربه، وهذا لا يحصل له إذا وكل من يصلي عنه، فلا ينتفع بهذه الصلاة، ولا يحصل له بها تذلل ولا خشوع ولا تضرع وتمسكن بين يدي ربه.
وكذلك الصيام شرع لإظهار الامتثال بترك طعامه وشرابه وزوجه لأجل امتثال أمر الله، فإذا وكل من يصوم عنه وأخذ يأكل ويشرب، اعتبر غير متقبل لأمر الله، ولم يجز عنه توكيله، فلأجل ذلك قالوا: لا يوكل في العبادات البدنية التي الحكمة منها إظهار الاستكانة والذل بين يدي الرب. ويلحق بذلك: حج الفريضة للقادر، فمن كان قادراً على الحج بالبدن وبالمال فإنه يكلف بأن يفعله ولا يوكل فيه، وذلك لأن الحكمة تقتضي الأمرين: تقتضي إنفاقه من ماله في هذا السبيل، وتقتضي عمله ببدنه هذه الأعمال، والأفضل هي الأعمال التي أمر بها، والأصل في شرعية الحج أن يظهر أثره على العامل، فالحاج إذا أحرم وخضع وخشع وتمسكن بلباسه الذي فيه تجرده عن لباسه المعتاد، أليس ذلك من أجل العبادات؟ هل تحصل له تلك المسكنة إذا وكل غيره؟! أليس إذا أخذ يطوف على البيت العتيق يحصل الثواب والتذلل، ويحصل له إخبات بين يدي ربه؟ هل يحصل هذا الإخبات إذا وكل عنه من يحج عنه؟! وهكذا إذا وقف بعرفات وهو خائف راج ذليل متواضع، هل تحصل هذه الحالة إذا وكل من يقف عنه؟!.
إذاً: فالحج في الأصل هو العبادة البدنية.
وقد عرفنا أنه غالباً ما يتكون من المال والبدن، ولكن قد يكون بدنياً محضاً، كالمكي الذي لا يقدر على أن يستأجر سيارة أو دابة يركبها، ولكنه قادر على أن يمشي ببدنه من مكة إلى منى، وإلى مزدلفة، وإلى عرفات، أليس ذلك مكلفاً بأن يحج ولا يسقط عنه الحج؟ أليس حجه بدنياً ليس فيه شيء من المال؟ وهذا يدل على أن الأصل في العبادة هو تحريك هذا البدن، فلأجل ذلك لم يصح أن يوكل فيه، ولكن إذا حج فرضه مع القدرة، ثم تبرع له ولده، أو تبرع له أخوه بأن أدى عنه حجة أخرى، أو طاف تطوعاً وأهدى طوافه له، فلا شك أنه ينتفع بذلك، حتى ولو كان قادراً.
أما إذا عجز عن الحج إما لعيب في بدنه، وإما لقلة في ماله، وإما للصعوبة والمشقة بينه وبين الحرم، فإنه في هذه الحالة معذور، وإذا وكل غيره، أو قام غيره مقامه في هذا العمل وتبرع له متبرع؛ فإن ذلك ينفعه.
فعرف بذلك الفرق بين العبادات البدنية المحضة كالصوم، والصلاة، والحج لمن هو في مكة، فإنها لا تدخلها النيابة إذا كانت فرضاً، وأما إذا كانت تطوعاً وأهدي له ثوابها فلا مانع من أن ينتفع به.
أما بالنسبة للأعمال الأخرى فإنها تدخلها النيابة، فالأذكار يصح أن يذكر الله تعالى وأن يهدي ثوابها لأخيه أو قريبه، وكذلك المرء مأمور أن يدعو لأقاربه، أو للمسلمين عموماً، والصدقات يصح أن يوقعها عن قريبه حياً أو ميتاً بجزء من ماله، وهكذا بقية الأعمال.
وقد مر بنا بعض الأشياء التي فيها خلاف، وعرفنا كيف الجواب عنها.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2715 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2631 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2591 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2565 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2472 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2387 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2373 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2336 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2301 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [20] | 2299 استماع |