خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
شرح العقيدة الطحاوية [31]
الحلقة مفرغة
لا نزال في أحد أركان الإيمان، وهو ركن الإيمان بالقضاء والقدر، وقد توسع فيه صاحب المتن وصاحب الشرح؛ وذلك لأن الخلاف فيه مع طائفتين مشهورتين: طائفة تغلو في الإثبات وطائفة تغلو في النفي، والذين يغلون في النفي طائفتان أيضاً، منهم من ينفي العلم ومنهم من ينفي القدرة، وكل هذه الطوائف مبتدعة ضلال.
وقد هدى الله أهل السنة فتوسطوا في باب القدر بين الجبرية والقدرية، فالجبرية نفوا قدرة العبد وجعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وجعلوه يعاقب على ما لم يفعل ويثاب على ما ليس له فيه اختيار، فجعلوا حركته كحركة الشجر الذي تحركه الرياح.
وأما القدرية فإنهم نفوا قدرة الله عز وجل على أفعال العباد، ووصفوا ربهم تعالى بالعجز عن الهداية وعن التصرف في الخلق كما يريد، فلأجل ذلك كانوا -كما سبق- شبيهين بالمجوس، ووردت فيهم آثار وأحاديث -وإن لم يصح رفعها- تذكر أنهم مجوس هذه الأمة، وأنهم لخصلتهم هذه ينبغي مقاطعتهم، كما في تلك الأحاديث: (إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم).
فهذا يدل على أن على أهل السنة مقاطعتهم، ومعلوم أن عيادة المريض من حق المسلم على المسلم وكذلك أن يتبع جنازته إذا مات، ولكن قاطع الصحابة وتلامذتهم هؤلاء؛ وذلك لأنهم أتوا بأمر شنيع، وهو تعجيز الله عز وجل واتهامه بعدم القدرة، وتفضيل قدرة العباد على قدرته، ولو كانوا -في زعمهم- يريدون أن ينزهوا ربهم عن الظلم، أي: عن أن يخلق المعصية ثم يعاقب عليها!
وقد ذكرنا أن أهل السنة وسط في باب القدر بين الجبرية والقدرية، وذلك لأنهم آمنوا بقدرة الله على كل شيء، ثم مع ذلك اعتقدوا أن العبد له قدرة مغلوبة بقدرة الله، وأن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم، فبتلك القدرة يفعلون الأعمال التي يثاب العبد عليها أو يعاقب ولو كانت مغلوبة بقدرة الله! فيقال: للعبد قدرة وله إرادة، وقدرة الله وإرادته غالبة على قدرة العبد وعلى إرادته، وتلك القدرة هي التي يستحق عليها أن يثاب على الطاعة ويعاقب على المعاصي، ولولا تلك القدرة لبطلت حكمة الله ولبطل شرع الله، وذلك لأن الله تعالى قد شرع الشرائع، وقد أرسل الرسل وأنزل الكتب وضمنها أوامر ونواهي، فلا بد أن يكون هذا الأمر والنهي موجهاً إلى من يستطيع مزاولته، وإذا آمنا بذلك آمنا بأن الله تعالى أقدر العباد على ما هم قادرون عليه وأعطاهم القدرة التي تناسبهم، فبها يثابون وبها يعاقبون.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( فويل لمن ضاع له في القدر سقيماً -وفي نسخة: فويل لمن صار قلبه في القدر قلباً سقيماً- لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّا كتيماً وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً ).
القلب له حياة وموت ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان، فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر)، وكذلك القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه].
مرض القلب ناتج إما عن شهوة أو شبهة
وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته: وما لجرح بميت إيلام.
وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس وليس له أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم؟! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم.
فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]].
الأمر بلزوم الجماعة هو لزوم الحق لا الكثرة
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: (السنة - والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا)].
تفصيل أمراض القلوب
ولا شك أن أسباب المرض كثيرة، ومنها تلقي الشبهات، فالله تعالى قد ذكر أن القلوب تمرض فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10].
فذكر المؤلف أن مرض القلوب نوعان: مرض شهوة ومرض شبهة، وقد ذكر الله مرض الشهوة في قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، هذا مرض الشهوة، وهو الذي يميل إلى الفواحش ويطمع في الأجنبية إذا خضعت بالقول، فلذلك قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32]، ينهى نساء النبي عن هذا.
وأما مرض الشبهة فهو أشد، وهو الذي يصد القلب عن الحق، ومتى صد القلب عنه ابتلي بالباطل، وقد ذكر الله للقلوب أنواعاً من الأمراض فمنها الطبع، قال تعالى حكاية عن اليهود: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا [النساء:155]، فالطبع عليها معناه: أنه ختم عليها بحيث لا يصل إليها الخير ولا تعرفه ولا تطمئن إليه، وهذا الطبع هو أشد الأمراض.
كذلك مرض ثان وهو الختم، وهو بمعنى الطبع، قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23]، ومعلوم أن الختم هو تغطية الشيء بحيث لا يصل إليه شيء، كما في الظروف المختومة التي لا تصل إليها الأيدي، فالقلب الذي قد ختم عليه لا يصل إليه الخير ولا ينتبه للمواعظ ولا يتذكر، وسبب ذلك هو الشبهات.
وكذلك ذكر الله من أمراض القلوب: الزيغ، قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
والزيغ معناه: الانحراف والميل، ولا شك أن سببه الشبهات والتشكيكات التي تجعل الحق عنده باطلاً والباطل حقاً، فيميل عن الحق إلى الباطل وذلك هو الزيغ، وقد ذكر الله أيضاً أسبابه:
فذكر من أسبابه أنهم زاغوا بأنفسهم فزادهم الله من ذلك: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
وذكر أيضاً من أسبابه تتبع المتشابهات، فقال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] إلى قوله عن الراسخين: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، فالزيغ: معناه الانحراف والميل عن الاستقامة، وسببه هذه المعاصي والمخالفات.
وذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: القسوة، التي هي قسوة معنوية، بحيث إن القلب لا يصل إليه الخير ولا يلين، قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]، وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16].
فعابهم بأنهم قست قلوبهم، وأبعد القلوب من الله تعالى القلب القاسي، وهو الذي لا يلين لموعظة ولا يتأثر بتذكير ولا يقبل ذكراً، ولا يتأثر بتخويف، وتأتيه الإرشادات والنصائح وهو يصد عن كل ذلك صدوداً، ولا يزيده ذلك الأمر إلا نفوراً، وما ذاك إلا أنه ممتلئ من الانحراف وممتلئ من الشبهات، ولم يبق فيه محل للمواعظ ولا محل للاعتبار ولا لقبول الحق، فكان بذلك قلباً قاسياً لا يلين، وشبه بحجارة أو أشد من الحجارة.
وقد ذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: الران، الذي ذكره بقوله: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، والران أو الرين: هو الغطاء الذي يحجب القلب عن الاعتبار ويحجبه عن التذكر ولا يصل إليه الخير، ولا شك أن سببه كثرة الذنوب؛ فكلما كثرت الذنوب صارت أغلفة على القلب؛ غلافاً فوق غلاف وغطاء فوق غطاء، إلى أن يشق اختراقها وتعسر تنقيتها وإزالتها!
وأشد الأمراض كما ذكر بعض العلماء هو: الإقفال الذي ذكره الله بقوله: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، ولا شك أن القفل هو ما يغلق به الباب ويوصد ولا يمكن فتحه إلا بمفتاحه الذي صنع له، فالقلب إذا كان قد أقفل ولم يكن له ما يفتح به، فإنه يبقى محجوباً ومحجوزاً لا يصل إليه خير.
أسباب الوقاية من أمراض القلوب
والقلب اللين: هو الذي إذا سمع موعظة تأثر، ومن علامة تأثره أنه يقبل على الله ويعرض عما سواه، ومن علامة تأثره -أيضاً- أنه يحدث فيه خشوع وخوف، ويحدث فيه زيادة في الطاعات وانصراف عن الآثام والمحرمات؛ فهذه من علامة لين القلب.
وكذلك أيضاً اطمئنانه إلى الخير، وقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فقلوب المؤمنين هي التي تطمئن بذكر الله وهي التي تلين لكلام الله، وأما قلوب الفسقة ونحوهم فإنها قاسية مقفلة لا يصل إليها الخير مهما تكلم الإنسان ومهما وعظ، كما وصفوا بأنهم: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18].
وعلى كل حال: فأسباب ذلك في هؤلاء المبتدعة هي الشبهات، فعلى العبد أولاً أن يكثر الاستعاذة بالله عز وجل من زيغ القلب، لقوله: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8] ونحو ذلك من الأدعية، كذلك يتجنب تلك الشبهات التي تصل إلى القلب فتقسيه، كذلك يتجنب المعاصي التي لها تأثير أيضاً في القلوب ولها تأثير في إعراضها عن الحق وعدم تقبله.
وبعد أن عرفنا أن الأسباب في قسوة القلب هو هذه الشبهات، نقول: إن هذه الشبهات كثيراً ما يثيرها أولئك المشبهون الذين زاغت قلوبهم؛ فهم يثيرونها حتى يزيغوا غيرهم، فعلى الإنسان أن يحذر من شبهاتهم.
وشبهاتهم وتشكيكاتهم يشككون بها في قدرة الله عز وجل وفي آثار علمه ومعلوماته، ويشككون بها أيضاً في عذابه وفي ثوابه وما أشبه ذلك، فإذا عرف العبد أن هذه من تشكيكات الذين قست قلوبهم تجنبها حتى يبقى قلبه ليناً خاشعاً خاضعاً متواضعاً.
معلوم أيضاً أن هذه المواعظ ونحوها لها أثار على عباد الله، وأن العبد إذا قبلها استقام على الخير واستمر عليه وقبله، وإذا أكثر من حضور مجالس الذكر ومجالس العلماء ومجالس العباد، وقبل مناصحاتهم وإرشاداتهم تأثر بذلك أيضاً ولان قلبه؛ زيادة على ما يحصل له من كثرة العبادات وكثرة المعلومات؛ فإن السبب في أن قسماً من الناس لا يتأثرون بخير ولا يقبلون إرشاداً ولا نصحاً ولا غير ذلك، أنهم عاشوا على البعد عن الخير وعدم تقبله.
وقسم آخر إذا تكلم معهم إنسان بكلمة أو كلمتين لانت قلوبهم وخشعوا ودمعت أعينهم، وأقبلوا على الله وتابوا إليه وأنابوا؛ وسبب ذلك محبتهم للخير وإقبالهم عليه، فعلى العبد أن يكون من الذين يحبهم الله والذين يقبلونه ويقبلون كلامه.
أعراض مرض القلب وعلاجه
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي والقلب المريض بضد ذلك.
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين؛ فإن الله تعالى يقول: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، و(من) في قوله: (من القرآن) لبيان الجنس لا للتبعيض.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق، وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه.
وقوله: (لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّاً كتيماً) أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سرّاً مكتوماً، إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن:26] إلى آخر السورة.
وقوله: (وعاد بما قال فيه) أي: في القدر (أفاكاً): كذاباً (أثيماً) أي: مأثوماً].
علاج أمراض القلوب بكتاب الله وسنة رسوله
فالقلوب لها غذاء هي بحاجة إليه أشد من حاجة الأبدان إلى غذائها، وهو غذاء معنوي؛ هذا الغذاء هو ما يستنبط من العلوم الشرعية، هذا الغذاء هو كلام الله وكلام رسوله والعمل به.
فما دام القلب مستقيماً وما دام سليماً، فإنه بحاجة إلى أن يستمر معه هذا الغذاء، يستمر العبد على قراءة كلام الله وعلى تعلمه، وعلى تعلم السنة النبوية وعلى العمل بها، حتى يبقى قلبه سليماً ويبقى على العمل وعلى الفطرة والاستقامة.
أما إذا أحس بمرض من الأمراض التي ذكرنا، فإن لديه العلاج النافع، وليس علاجه عند الأطباء وفي الصيدليات ونحوها، بل علاجه معنوي، وهو أن يتعاطى هذا الكتاب وأن يعالج به قلبه، فإذا كان المرض من الشبهات فإنه يزيلها بما يبطلها، فإذا ورد إلى القلب شبه التشكيك في المعاد وجد في القرآن علاجاً يزيل هذه الشبهة.
وإذا مرض القلب بشبهة التشكيك مثلاً في الإيمان بالغيب وجد في القرآن علاجاً ودواءً لهذا المرض، وإذا مرض القلب بشبهة الشك في المعاد أو في المبدأ أو في أول الخلق أو في آخره، أو بشبهة الشك -مثلاً- في الأسماء والصفات، أو بشبه الشك في العبادات والمعاملات، أو بشبهة الشك في الأوامر والنواهي، أو ما أشبه ذلك؛ وجد علاج ذلك علاجاً كاملاً في كلام الله وكلام رسوله، ولكن ذلك يحتاج إلى قلب حي واع فطن، يحتاج إلى تأمل؛ فيقرأ كتاب الله عز وجل ويتتبع السنة النبوية، وعند ذلك يحيا قلبه بعد أن كان ميتاً، ويصح بعد أن كان مريضاً، ويزول ما فيه من الوهن، وتزول الأمراض الكثيرة التي ذكرنا، فيزول الإقفال، وتزول الأكنة، ويزول الختم، ويزول الطبع، وتزول القسوة، ويزول الرين إذا استعمل كتاب الله كعلاج ودواء لهذه الأمراض القلبية.
الآيات التي تصف القرآن بأنه شفاء
كذلك قول الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، فالمؤمنون هم الذين إذا قرءوا القرآن شفوا؛ سواء شفاء حسياً وهو إزالة الأمراض، أو شفاء معنوياً وهو تصفية القلوب وإزالة ما فيها من الصدأ، فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤه بكتاب الله وبسنة رسوله، وبالعمل بالشريعة، فبذلك يصفو القلب ويستنير ويصير نوره محرقاً لتلك الأمراض التي يأتي بها أولئك المشبهون.
فعلى العبد أن يقبل على هذا العلاج النافع حتى يؤثر فيه، ولا يؤثر فيه إلا إذا كان صادق الرغبة في إقباله على الله، وصادقاً في محبته لكلام الله وكلام رسوله، ومصدقاً بما وصف به هذا القرآن من قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وفي الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للمؤمنين [يونس:57] فوصف بأربع صفات، وكل واحدة منها لها أهميتها.
كذلك قول الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].
القرآن علاج للأمراض الحسية والمعنوية المستعصية بشرط الإيمان
وكذلك مرض الجان والإصابات بالجنون وملامسات وملابسات الجان، لا يستطيعها أيضاً الأطباء ولا يعالجونها، ومرض الإصابات بالنظرة وبالعين ونحوها، لا يستطيعها أيضاً الأطباء؛ ولكن علاجها الصحيح هو القرآن الذي فيه هذا الشفاء الذي مدحه الله بهذه الآيات في قوله: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، أي: غير المؤمنين، وذلك:
أولاً: أنهم لا يعترفون بأنه كلام الله.
ثانياً: أن أمراضهم مستعصية، وهم التي قست قلوبهم فهم لا يتأثرون به.
ثالثاً: أن الله ما جعله إلا لأهل ذكره ولأهل عبادته شفاءً، أما غير المؤمنين فحرمهم من الانتفاع به.
فهذا علاج حسي، فإذا أراد الإنسان أن ينتفع بالقرآن وأن تزول به أمراضه، فعليه أن يحقق الإيمان، وأن يحقق التصديق به، وأن يحقق العمل بالشريعة، وأن يصدق بأنه كلام الله الذي جعله شفاء، وأن يعمل منه بكل ما يستطيع من العمل، فبذلك إذا عالج به صدقاً نفعه واستفاد منه، هكذا ذكر كثير من المحققين من العلماء.
كذلك أيضاً نقول: وجد أيضاً بالتجربة أن هناك أمراضاً مستعصية على الأطباء، كمرض السرطان ونحوه من الأمراض التي استعصت، ومع ذلك عولجت بكلام الله فشفاها الله، ولكن ما حصل الشفاء إلا لأناس، وذلك إذا اجتمع أمران: إيمان المريض وتصديقه بأن القرآن شفاء وكان أمله به، وكذلك إيمان الراقي وتصديقه بذلك واستعماله له، فاجتمع الأمران فحصل بذلك الشفاء.
وعولج به الفسقة والعصاة وأهل الشبهات والمبتدعة ونحوهم، فلم يتأثروا لا في الأمراض الحسية ولا في الأمراض المعنوية، وذلك كله تحقيق لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].