شرح العقيدة الطحاوية [87]


الحلقة مفرغة

نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون ما جاء عن الله، ويتقبلون ما جاء في كتاب الله، الذين هداهم الله وسددهم وأرشدهم، والذين يتمسكون بالنصوص وبالأدلة، ويعملون بالكتاب والسنة، ويكون مرجعهم إلى الأدلة القوية، الذين نزهوا معتقدهم عن البدع والمحدثات.

ولا شك أن من أشد البدع الطعن في نقلة السنة وحملتها من الصحابة؛ وذلك لأنهم الواسطة بين الأمة وبين نبيها، وهم الذين تحملوا السنة والشريعة الإسلامية، وبلغوها لمن بعدهم، ولم يكتموا منها شيئاً، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يزيدوا ولم ينقصوا؛ فلهذا ففضلهم على الأمة كبير، وإحسانهم إليها عظيم، ولأجل ذلك اتفقت الأمة من أهل السنة على تزكيتهم وتعديلهم، وعلى إنكار قول من طعن أو بدّع أو شنّع فيهم، واتفق أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول، ويكفي في تعديل الراوي أن يكون من الصحابة، فإذا روي حديث وثبت أن راويه صحابي ولو كان مجهولاً قبلت روايته، وذلك دليل على أنهم عرفوا مكانة الصحابة وعدالتهم.

والصحابة يتفاوتون في الفضل، وقد ذكر الله تعالى شيئاً من تفاوتهم بقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، فأخبر أن المتقدمين منهم الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح أفضل من الذين لم يسلموا ولم ينفقوا ولم يقاتلوا إلا بعد الفتح، ولكن وعدهم جميعاً بالحسنى: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: الثواب الحسن والجنة، والجزاء الأوفى عند الله، وهذا ثناء كبير (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)، ومن يدرك هذه الفضيلة؟

ومع كل هذا الثناء عليهم تسلط عليهم الأعداء من الرافضة، وسددوا سهام الطعن نحوهم، بل سلطوها على خيارهم وأفاضلهم وأشرفهم، وهم الخلفاء الراشدون، وقد تقدم شيء من سيرة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا شك أنهم هم الخلفاء الراشدون الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فإن أول من يدخل فيه خلفاؤه الذين تولوا الأمر من بعده، فأول من تولى بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين أوصى النبي عليه الصلاة والسلام باتباعهم، والسير على منهاجهم، وهم ممن شهد لهم بالجنة شهادة عظيمة فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة بن عبيد الله في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وأبو عبيدة عامر بن الجراح في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة) ، فهؤلاء هم العشرة المشهود لهم بالجنة. وفي حديث أبي موسى لما كان بوّاب النبي صلى الله عليه وسلم في القصة التي مرت بنا يقول: فاستأذن أبو بكر ، فقلت: على رسلك! فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أبو بكر يستأذن، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة، فجاء وجلس إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان ، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) فبشره بالجنة، ولكن أخبره ببلوى، وهذه البلوى هي ما حصل عليه من الثوار الذين ثاروا عليه، وحاولوا خلعه، إلى أن انتهى الأمر بقتله رضي الله عنه.

عثمان أحد الخلفاء الراشدين، وقد امتدت خلافته اثني عشر سنة، واتفق على خلافته الصحابة، ولم يشذ منهم أحد، فصار هو ثالث الخلفاء الراشدين، وله فضائل ومزايا رضي الله عنه، ولو لم يكن منها إلا أنه صهر النبي صلى الله عليه وسلم، زوجه ابنته الأولى رقية وماتت سنة اثنتين، ثم زوجه ابنته الثانية أم كلثوم وماتت أيضاً في سنة ثمان أو نحوها، وقال: (لو كان لنا ابنة ثالثة لزوجناها عثمان) ؛ ومن ثمّ عرف بذي النورين، أي: ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك مدحه الكلوذاني في عقيدته بقوله:

قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً من بايع المختار عنه باليد

صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد

أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذو النورين صهر محمد

ومن فضائله: أنه الذي جمع القرآن بعدما افترق الناس فيه، وكادوا يقتتلون، فكتب القرآن ونسخه في المصاحف، وأرسلها إلى الناس حتى يقتصروا عليها، فاتفقت الأمة على الاقتصار على هذا المصحف، ويسمى المصحف العثماني، أو الرسم العثماني.

ومن فضائله رضي الله عنه: أنه كان طوال ليله يتهجد ويصلي، حتى ذكروا أنه كان يختم القرآن في كل ليلة في تهجده، وذلك دليل على اهتمامه بالعبادة، يقول بعض الذين مدحوه:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطِّع الليل تسبيحاً وقرآناً

يقطِّع الليل يعني: يَقْطع الليل كله في التسبيح وفي القراءة، وعبّر بالتسبيح عن الصلاة.

وكان رضي الله عنه تستحي منه الملائكة كما في الحديث الذي مر بنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة جالساً في حجرته، وقد أبدى ركبتيه وساقيه، فدخل أبو بكر وهو على تلك الحال، ثم دخل عمر وهو على تلك الحال، فلما دخل عثمان استوى جالساً، وستر ركبتيه وساقيه، فقيل له: لماذا جلست بعدما كنت على تلك الهيئة؟ فقال: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟)، قيل: إنه كان حيياً، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحال لرجع ولم يجلس معه على تلك الهيئة؛ فلأجل ذلك استوى النبي عليه الصلاة والسلام جالساً، ولا شك أنه رضي الله عنه كان من أجلاء الصحابة وسابقيهم، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة على جبل أحد، فاهتز الجبل فقال: (اسكن أحد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد)، وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان ، فجعل أبا بكر صديقاً، وعمر وعثمان شهيدين، وتحقق ذلك، فإن كلاً منهما قتل شهيداً، وهذه شهادة منه صلى الله عليه وسلم لـعثمان بأنه من الشهداء، ولما قتل مظلوماً قيّض الله له من ينصره، وقد استنبط ابن عباس من قول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33] فقال: إن عثمان قتل مظلوماً، وإن أولياءه الذين يطالبون بدمه - وهم معاوية ومن معه- منصورون.

وبكل حال فلا مجال للطعن فيه، ومن طعن في خلافته أو في عدالته فقد طعن في الإسلام، وفي حملة الإسلام.

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

[ثم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.

أي: ونثبت الخلافة بعد عثمان لـعلي رضي الله عنهما، لما قتل عثمان وبايع الناس علياً ؛ صار إماماً حقاً واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة المتقدم ذكره أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) ، وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر.

وأول ملوك المسلمين معاوية ، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إماماً حقاً لما فوّض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه، ثم بعد ستة أشهر فوّض الأمر إلى معاوية ؛ فظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) ، والقصة معروفة في موضعها.

فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بمبايعة الصحابة سوى معاوية مع أهل الشام، والحق مع علي رضي الله عنه، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان ، وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة كـعلي وطلحة والزبير ، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض ممن بعدت داره من أهل الشام، ويحمي الله عثمان أن يظن به الأكابر ظنون سوء، ويبلغه عنهم أخبار منها ما هو كذب، ومنها ما هو محرف، ومنها ما لم يعرف وجهه، وانضم إلى ذلك أهواء أقوام يحبون العلو في الأرض، وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله، ورأى طلحة والزبير أنه إن لم ينتصر للشهيد المظلوم، ويقمع أهل الفساد والعدوان، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه، فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة والزبير ، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين.

ثم جرت فتنة صفين لرأي، وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم، أو لا يتمكن من العدل عليهم، وهم كافون حتى يجتمع أمر الأمة، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر كما طغوا على الشهيد المظلوم، وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد المهدي الذي تجب طاعته، ويجب أن يكون الناس مجتمعين عليه، فاعتقد أن الطاعة والجماعة الواجبتين عليهم تحصل بقتالهم بطلب الواجب عليهم بما اعتقد أنه يحصل به أداء الواجب، ولم يعتقد أن التأليف لهم كتأليف المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده مما يسوغ، فحمله ما رآه من أن الدين إقامة الحد عليهم، ومنعهم من الإثارة دون تأليفهم على القتال، وقعد عن القتال أكثر الأكابر؛ لما سمعوه من النصوص في الأمر بالقعود في الفتنة، ولما رأوه من الفتنة التي تربو مفسدتها على مصلحتها، ونقول في الجميع بالحسنى : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] ، والفتن التي كانت في أيامه قد صان الله عنها أيدينا، فنسأل الله أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه.

ومن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعلي : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي).

وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال : فتطاولنا لها، فقال : ادعوا لي علياً ، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه) ، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: (اللهم هؤلاء أهلي)].

فضائل علي رضي الله عنه

الخليفة الرابع هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي تتولاه الرافضة، وتدعي أنه الخليفة الأول، وأن الخلفاء قبله مغتصبون، أما أهل السنة فيقولون: إنه آلت إليه الخلافة بعد قتل عثمان ، فإن عثمان رضي الله عنه اتهم في آخر خلافته باتهامات لا أساس لها، وكان من نهايتها أن ثار عليه ثوّار كثير من العراق ومن مصر، واجتمعوا، وحاصروه إلى أن آل الأمر بقتله رضي الله عنه مظلوماً، ولما قتل لم يكن هناك أولى بالخلافة من علي ، فهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قريبه، وهو صهره زوج ابنته، وهو أبو الحسنين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فضائل كثيرة، حتى كان لا ينافس.

وذكروا من فضائله أنه لما خالفه معاوية ولم يبايعه، واستقر معاوية في الشام، وعلي في العراق، كتب إليه معاوية كتاباً يذكر فيه فضائله، أنه كاتب الوحي، وأنه خال المؤمنين، أي: أخو أم المؤمنين التي هي أم حبيبة ، وأنه الذي جاهد وفتح الفتوح، ونحو ذلك من فضائله، فذكر ابن كثير في تاريخه أن علياً رضي الله عنه قال: يفخر علي ابن فلانة، ثم أمر أن تكتب أبيات يذكر فيها فضائله يقول فيها:

محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي

وبنت محمد زوجي وعرسي مسوق لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طراً صغيراً ما بلغت أوان حلمي

ولا شك أن له فضائل صحيحة، ولكن الرافضة زادت، وجعلت له فضائل أكثر من هذا، حتى رفعوه عن طوره، وأعطوه ما لا يستحقه، ووصفوه بصفات أكبر من صفة النبوة، وجعلوا له مكانة تفضله على مكانة الخلفاء قبله، بل ورفعوه إلى مكانة النبوة! وأما أهل السنة فاعتدلوا فلم يصفوه إلا بالصفات التي وردت له، وبالفضائل الثابتة الصحيحة التي تميّز بها.

خلافة علي رضي الله عنه

رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن علياً أولى بالخلافة بعد مقتل عثمان ، فتمت له البيعة، وكان ذلك في وقت الحج في سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وكان الحجاج الذين بمكة قد غابوا عن فتنة قتل عثمان ، ولما انتهوا من الحج، وأرادوا أن يقبلوا إلى المدينة، جاءهم الخبر أن الثوّار قد قتلوا عثمان ، وكانوا يعرفون أفراداً من أولئك الثوّار من أهل العراق، فعزموا على أن يقاتلوهم، وقالوا: لا يقر لنا قرار حتى نقاتل قتلة المظلوم عثمان ، وكان من أولئك الحجاج: طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة رضي الله عنهم، فتوجهوا من مكة إلى العراق، ولم يأتوا إلى المدينة، ولم يبايعوا علياً فيمن بايعه، وهذا معناه أنهم قد شقوا العصا، وأنهم قد جعلوا في المسلمين خللاً، وكان يحب أن يأتوا إليه، ويبايعوه كما بايعه غيرهم، ثم بعد ذلك يسير معهم في قتال أولئك الثوّار، ولكن قضي الأمر، وتوجهوا من مكة إلى العراق، فلما سمع بأنهم توجهوا إلى العراق ساءه ذلك، وسار بمن معه في أثرهم ليردهم إلى الطاعة، وشق عليه أن يخالفوه، وأن يقع اختلاف في الأمة، وأحب أن تجتمع الأمة على إمام واحد، حتى يكونوا يداً واحدة على الثوّار، هكذا رأى رضي الله عنه، فتوجه إلى العراق ومعه جموع كثيرة من أهل المدينة الذين طاوعوه والذين بايعوه، فوصلوا إلى الكوفة، وتقابلوا هم وأهل الحج الذين جاءوا من مكة ومعهم عائشة ، وكانت على جمل لها مشهور، فتقابلوا وكادوا أن يصطلحوا على أنهم في الصباح يمسكون بقواد القتلة ويقتلوهم، ولما باتوا على ذلك، ولم يبق إلا فعل ما قرروا في الصباح، كان قتلة عثمان أشرافاً وأكابر وسادة، ولهم شرف في قومهم، فقالوا: لا يمكن أن يقتل فلان ويقتل فلان ويقتل فلان، فكان من حيلتهم أن قالوا: إذا كان آخر الليل فقوموا وقاتلوا، فابدءوا بالقتال حتى تنشب الحرب، وحتى يختلف هؤلاء وهؤلاء، ففعلوا ذلك في آخر الليل، ولم يدروا من أثار الحرب، والذين أثاروها هم قتلة عثمان ، فوقعت الواقعة، وجرت وقعة شنيعة كبيرة، قتل فيها عدة ألوف من المسلمين، منهم طلحة والزبير رضي الله عنهم، وأكثرهم أو كلهم إلا نادراً ليسوا من الصحابة، وما زالوا يقاتلون النهار كله، والسيف يعمل فيهم، وعائشة رضي الله عنها على جملها في وسطهم، وكان يأتي أصحابها الذين جاءوا معها ويمسكون الجمل بخطامه، وكل ما أمسكه أحد قطعت يده، ثم يجيء آخر فتقطع يده، حتى قطعت أكثر من عشرين يداً كانت تمسك بذلك الخطام، فرأى علي أن يعقر الجمل، فقال: اعقروا الجمل فإنهم يدورون حوله، فلما عقروا الجمل سقط الجمل وسقطت عائشة بهودجها، فعند ذلك أمر علي أن تحاز إلى رحل المسلمين، وبذلك انهزموا وانتهت الحرب وتوقفت بعد معركة شديدة، وسببها قتلة عثمان ، وتمت البيعة منهم لـعلي ، ولم يبق خلاف.

خروج أهل الشام على علي مطالبين بدم عثمان

بعد وقعة الجمل بقي أهل الشام بقيادة معاوية ؛ وذلك لأن معاوية هو ابن عم عثمان ، وقد أسف لقتله، وأسف أهل الشام، وصاروا يبكون بكاءً شديداً على ما سمعوا، وعلى ما نقل إليهم من الشناعة والبشاعة، وصاروا يجتمعون في المساجد، ويقسمون أن يأخذوا بثأر عثمان مهما حصل الأمر، فعند ذلك جمعوا جموعاً أكثر من مائة ألف، وتوجهوا قاصدين العراق؛ لأجل مقاتلة أولئك الثوّار، واجتمعوا في موضع يقال له: صفين، وجاء علي وأهل العراق في أكثر من مائة ألف، وجاء هؤلاء كذلك وتقابلوا، وأرادوا أن يصطلحوا فيما بينهم، ولكن لم يحصل الاتفاق، وقد اختاروا حكمين، واختلف الحكمان، ونشبت الحرب بينهم واستمرت أياماً، منها ليلة شديدة القتال تسمى ليلة الهرير، وبعدما كاد أهل العراق أن ينتصروا رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله، فعند ذلك تركوا القتال، بعدما قتل عشرات الألوف من هؤلاء ومن هؤلاء، فرجع أهل الشام إلى الشام وهو متقوون، ورجع أهل العراق إلى العراق وفيهم شيء من الاختلاف والفشل، وانفصلت منهم طائفة سموا بالخوارج، وقالوا لـعلي : أنت حكمت الرجال يعني: لما اختار حكماً من الرجال، وثاروا عليه، وهم الخوارج الذين قاتلهم علي في النهروان وقتلهم.

والحاصل: أن علياً رضي الله عنه تمت بيعته، وكانت خلافته في العراق وفي الحجاز وفي خراسان وفي اليمن، وفي أكثر البلاد، ما عدا الشام ومصر والمغرب، فهذه كانت تحت ولاية معاوية ؛ وذلك لأنه تمكّن من هذه البلاد، وكانوا يحبونه؛ لكونه ذا سيرة حسنة وجهاد، فبقي متمكساً بهذا الأمر، ولم يزل أمر كل منهم على هذه الحال إلى أن قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين، قتله الخارجي المشهور المسمى بـعبد الرحمن بن ملجم .

خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد استشهاد أبيه

لما قتل علي بايع أهل العراق ابنه الحسن ، تمت له البيعة، وبايعوه بقوة، وكان أهل العراق يحبون علياً محبة شديدة، وبقوا ملتزمين بطاعته، وكانوا يحبون ذريته، فالتزموا أن ينصروا الحسن ، وأن يبذلوا في نصرته ما يمكنهم، ولما تمت له البيعة، وبقي نصف سنة، أراد معاوية أن يغزوا أهل العراق، فجاء بجنود هائلة، واجتمع أيضاً مع الحسن جنود هائلة عظيمة، ولما أرادوا أن يتقاتلوا فكر الحسن رضي الله عنه وقال: علام نقتل هؤلاء المسلمين؟ يقتل عشرات ألوف أو مئات ألوف لأجل الخلافة ولأجل الولاية، لا بورك فيها ولا خير فيها، لماذا لا أتنازل وأحقن دماء المسلمين؟ وعند ذلك أرسل إلى معاوية : إنني سآتي إليك، فجاء إليه، وقال: سأبايعك وأتنازل لك عن هذه الخلافة، واشترط عليه شروطاً: ألا يقتل أحداً، لا من قتلة عثمان ولا من غيرهم، يكفي ما قد حصل من الفتن ومن القتال، وألا تسبّوا أحداً منا ولا نسب أحداً منكم، لا نسب عثمان ولا تسبوا علياً ، وأن نكف عن هذه الفتن، فقبل تلك الشروط، وتمت البيعة سنة إحدى وأربعين لـمعاوية ، وسمي ذلك العام: عام الجماعة، واجتمعت فيه الأمة على إمام واحد وهو معاوية ؛ ولذلك يقولون: الخلافة ما قبل الحسن ، والملك ما بعده، وفي حديث سفينة يقول صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وفسره سفينة فقال: احسب سنتين وأربعة أشهر خلافة أبي بكر ، وعشر سنين ونصفاً خلافة عمر ، وثنتا عشرة خلافة عثمان ، وأربع سنين ونصف خلافة علي ، ونصف سنة خلافة الحسن ، فمجموعها ثلاثون، أو تنقص أو تزيد قليلاً، وما بعده فهو ملك، وأول ملوك الإسلام معاوية ، وهو أفضل وخير ملوكهم؛ وذلك لأنه صحابي وابن صحابي، ولأن سيرته سيرة حسنة، إلا أنه أخطأ حيث أمر أو أقر من يسب علياً ، وحصل بسب علي في خلافته سواء في العراق أو في الشام حدوث هذه الطائفة التي تعصبت لـعلي ، واخترعت أكاذيب في سب الصحابة وفي الغلو في علي ؛ ولأجل ذلك صارت الرافضة تحمل عليه، وتحمل على جميع بني أمية وتضللهم، ما عدا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ وذلك لأن سب علي استمر في العراق، وإن لم يكن في كل الأماكن، بل في بعض المساجد، وكذلك في الشام مدة خلافة بني مروان، إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز ، فعند ذلك أبطل سبه، وهو الذي مدحه بعض أهل البيت على هذا الفعل، فنسب إلى المرتضى وهو من أهل البيت أنه قال:

يا ابن عبد العزيز لو بكت الـ عين فتىً من أمية لبكيتك

أنت أنقذتنا من السب والشتم فلو أمكن الجزاء جزيتك

غير أني أقول لقد طبت وإن لم يطب ولم يزك بيتك

دير شمعان لا عدتك العوادي خير ميت من آل مروان ميتك

وكان قد دفن رضي الله عنه في دير شمعان.

وبعده انقطع السب، ولكن حدثت هذه الطائفة التي هي الرافضة، وكان سبب سبهم لـعلي رضي الله عنه تسويل الشيطان لهم بأنه من جملة الذي داهنوا في قتل عثمان ، أو شاركوا فيه، فصاروا يسبونه ويشتمونه على المنابر، وصار أولياؤه وشيعته يتحرقون عندما يسمعون كلامهم، ويجمعون أكاذيب في سب بني معاوية، وفي سب بني مروان، بل وفي سب الخلفاء الراشدين، وفي الغلو في علي رضي الله عنه، ولا حاجة لـعلي في أكاذيبهم؛ فله فضائل كثيرة، وله مناقب شهيرة، هو غني بها عما لفقوه وزادوا عليه، حتى جعلوا له ما لا يستحقه.

علي رضي الله عنه أول من أسلم من الصبيان

علي رضي الله عنه من السابقين، أسلم وهو صغير، وكان سبب إسلامه أن أبا طالب كثر عياله، وكان قليل ذات يد، فقال حمزة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: هلم فلنخفف عن أبي طالب، فنأخذ منه بعض أولاده نَعولُهم، فأخذ حمزة جعفراً مع عياله، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً مع عياله، وكان ينفق عليه، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بادر وأسلم، وهو أول من أسلم من الصبيان، قيل: إنه أسلم وعمره عشر سنين، فلذلك قالوا: إنه أسلم قبل أن يبلغ.

حديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)

من فضائله: قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).، ومعلوم أن هارون أخو موسى؛ ولكن هارون نبي أوحي إليه كما أوحي إلى موسى، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً [مريم:53]، وحُسب هارون من الأنبياء الذين أوحي إليهم، أما علي فإنما له قرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك القرابة لم تصل إلى حد النبوة، إنما له قرابة وله محبة وله صلة وله مصاهرة، حيث تزوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح له هذه المكانة.

حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله...)

من فضائله: قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يُعطاها، فلما أصبحوا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، وقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

اشتمل هذا الحديث على ثلاث فضائل:

الأولى: أنه يحب اللهَ ورسولَه.

الثانية: أن الله يحبه ورسوله.

الثالثة: أن الله يفتح على يديه.

ولأجل ذلك تطاول إليها كثير من الصحابة حتى قال عمر رضي الله عنه: ما تمنيت الولاية إلا يومئذ، وقد أرسله النبي عليه الصلاة والسلام لما يلي:

أولاً: لقرابته منه.

ثانياً: لِما عُرف عنه من الشجاعة والقوة والإقدام.

ثالثاً: ليظهر آثار ذلك بالفتح على يديه.

فله هذه الفضائل، مع أنها حاصلة لغيره أيضاً، فإن الصحابة رضي الله عنهم بل وجميع المؤمنين بل ونحن إن شاء الله جميعاً نحب الله ورسوله، ونرجو أن نلقى ثواب هذه المحبة، ونحب أولياء الله ومنهم الصحابة رضي الله عنهم، وهذه فضائل لـ علي ، ولغيره من الصحابة.

الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

الفتن التي حصلت بين علي رضي الله عنه وبين أهل الشام وقعت باجتهاد، فأهلُ الشام معذورون حيث إنهم يطالبون بدم عثمان ، وأهل العراق معذورون حيث إن علياً رضي الله عنه يطالب بجمع الكلمة، ويقول: بايعوني واجتمعوا معي، ونحن بعد ذلك إذا اجتمعنا ولم نختلف تمكنا من أخذ أولئك القتلة واحداً واحداً، وهي فكرة جيدة؛ ولكن قدر الله ما حصل، وحصل هذا الأمر الذي وقعت بسببه هذه الفتن، فنحن نقول: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، ونقول كما قال الشارح: تلك فتنة صان الله عنها أيدينا، فنصون عنها ألسنتنا، فلا نقول: هذا هو المصيب، ولا هذا هو المخطئ، بل نَكِل أمرهم إلى الله تعالى، والله يحكم بينهم، ونعذرهم، ولا نُلحِق بأحد منهم لوماً ما داموا مجتهدين، ونعرف للجميع سبقهم، ونعرف لهم فضلهم وفضائلهم، ونشهد لهم بالخير، ولا نتبرأ من أحد من الصحابة لا من علي ولا من معاوية ؛ ولأجل ذلك يقول الكلوذاني في معاوية :

ولـابن هند في الفؤاد محبة ومودة هل يُرْغَمَنَّ المعتدي

ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ـوحي المُنَزَّل بالتقى والسؤدد

فهو من الخلفاء؛ ولكن ليس هو من الخلفاء الراشدين، ولكنه ملك من الملوك، سار سيرة الملوك، ولكنه أحسنهم، أما علي رضي الله عنه فلا شك أنه في زمانه خليفة ذلك الزمان، ولا شك أن فضائله تدل على أقدميته على معاوية وعلى ميزته؛ لأنه من السابقين الأولين، وأما معاوية فهو من مسلمة الفتح، وهو داخل في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10] أي: من بعد الفتح وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10].