نحن أولى بموسى - صالح بن فوزان الفوزان
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه رحمة للعالمين،وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى له وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.أيها الناس اتقوا الله تعالى، وتأملوا ما قصه الله في كتابه المبين، عن أنبيائه وأتباعهم، وما حصل له من النصر والتمكين، وما قصه عن أعدائه الكافرين، وما حلَّ بهم من العقاب والخسران المبين {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].
وإن مما قصّه الله علينا في كتابه الكريم: قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون.
تلك القصة التي تبين انتصار الحق على الباطل، وتبعث في قلوب المؤمنين الثبات أمام عدوهم مهما بلغ من القوة الظاهرة، فإن قوة الباطل لا تقاوم قوة الحق مبنية على أساس صحيح {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ التوبة :109]
إن فرعون على ما أوتي من القوة والجبروت كان يتخوف من ظهور الحق على يد خصومه من بني إسرائيل فعمل كل ما وسعه من الاحتياطات فعجل يستضعف خصومه ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ولكن مشيئة الله نافذة، وقدرته قاهرة، فشاء الله أن يولد موسى عليه السلام في بني إسرائيل وأن ينجو من القتل وأن يتربى في بيت فرعون، تحرسه عناية الله وتحوطه القدرة الربانية حتى كبر وبلغ أشده واستوى، وقتل رجلاً من قوم فرعون وتخوف من الطلب بدمه، ففر هارباً إلى أرض مدين ولبث سنين في أهل مدين، تزوج في أثنائها، ثم عاد إلى أرض مصر وفي طريقه كلمه الله بوحيه وبعثه برسالته إلى فرعون وآتاه من الآيات ما يدل على صدقه، ولكن فرعون عاند وكابر{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف 118-121]
وعند ذلك لجأ فرعون إلى القوة والبطش وهدد وتوعد.
فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرج بالمؤمنين ويتوجه بهم إلى حيث أمره الله، فعند ذلك استنفر فرعون جنوده وجمع قوته، وخرج في أثرهم يريد إبادتهم عن آخرهم، وسار في طلبهم فانتهى موسى بمن معه من المؤمنين إلى البحر، ولحق بهم فرعون وجنوده وهناك تزايد خوف المؤمنين –البحر أمامهم والعدو من خلفهم {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء61-62].
فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه ذلك البحر الهائج المتلاطم، فضربه فانفتح طريقاً يابسة على قدر القوم، فسار فيها موسى وقومه لا يخاف دركاً ولا يخشى، ودخل فرعون وجنوده يف أثرهم، فلما تكامل قوم موسى خارجين من البحر وتكامل قوم فرعون داخلين فيه أمره الله فانطبق عليهم وأغرقهم أجمعين، وهكذا انتصر الحق على الباطل، وصدق الله وعده، وأعز جنده، وحصل ما أخبر به موسى عليه السلام قومه حين قال لهم: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]
وتحققت إرادة الله التي أخبر عنها بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5].
عباد الله: لقد حصل هذا الحدث العظيم في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم عاشوراء، فهو يوم له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة، قد صامه موسى عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل، وصامه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه مع صوم يوم قبله أو يوم بعده، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟»، قالوا: "هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» ( صحيح مسلم [1130]).
فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء، فقال: «أحتسِبُ على الله أن يكفر السنة التي قبلَه» (سنن أبي داوود [2425])
وقد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على أن لا يصومه مفرداً بل يضم إليه يوماً آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع» (صحيح مسلم [1134]) قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «صُوموا يومَ عاشوراء، وخالفوا اليهود: صوموا قبله يوماً وبعده يوماً، وفي رواية: (أو بعده يوماً)» (مسند أحمد [4/21]) فيستحب صيامه وصيام يوم قبله أو يوم بعده، اقتداءً بأنبياء الله وطلباً لثواب الله، وأكثر العلماء على استحباب صيامه بارك الله لي ولكم.