وقفة محاسبة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فالعنوان وقفة محاسبة.

أيها الأخ الكريم! قبل أن أدخل في الموضوع، حاول أن تعيش معي هذه الآية، وأن تترجمها في حياتك العملية، ثم لنجعلها مدخلاً لحديثنا، وهي قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] هل أنت من الذين آمنوا؟ إذن فأرخ لها سمعك: (اتقوا الله) فاجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ثم بعدها انظر ماذا قدمْتَ لغد.

أيُّ غد يا عبد الله؟

الغد قريب إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً [المعارج:6]* وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:7] قريب يا عبد الله، ربما تكون هذه الليلة هي الأخيرة، وربما لن ترى الفجر، وربما لن ترى الشمس تشرق عليك بعد هذه الليلة، وما يدريك ربما لن ترجع إلى أهلك بعد هذه اللحظات، بل ربما لن تسمع حديثي إلى النهاية، وما يدريك، هي أقرب من لمح البصر، بل يا عبد الله الأمر يأتي بغتة وفجأة.

هذا رجل خرج من بيته، فقال لأهله: ماذا تريدون وماذا تطلبون؟ قالوا: نريد كذا وكذا، فإذا به يذهب، وبعد قليل يصل اتصال إلى أهل البيت: أهذا بيت فلان بن فلان؟ قالوا: نعم، قالوا: إن أباكم أو ابنكم أو زوجكم ينتظركم في المستشفى الفلاني، أسرعوا..! فإذا هو قد فارق الدنيا، مسكين كان يظن أنه سوف يرجع إلى البيت.

وهذا الذي بنى البيت ولما يؤثثه، انتظر متى يؤثث البيت وكان يحلم ويخطط، وكان يتأمل ولكن الأجل أقرب.

وهذا الذي كان يدرس، ينتظر الشهادة أربع سنين، ولما ذهب ليستلم الشهادة، فإذا هو بحادث يفارق به الحياة الدنيا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. أيها الأخ الكريم: اجعل نفسك أمام الله جل وعلا وكأن الله يحاسبك، وكأن ميزان الأعمال قد نصب، وكأن الكتاب قد وضع أمامك: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَة... [الكهف:49] نظرة، كلمة، زلة، أغنية استمعت إليها، كلها مكتوبة، أف للوالدين، ترك للصلاة، غيبة، نميمة، لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

مما يمنع الناس عن رؤية هذه الحقيقة أمور:

الدنيا ومتاعها

أولها: الدنيا.

وانظر إلى تكالب الناس على الدنيا، يمر النبي صلى الله عليه وسلم على تيس، أو جدي أسك ميتاً -أسك: أي مقطوع الأذن- يمر عليه فيقول للناس: من يشتري هذا بدرهم؟ فيقولون: يا رسول الله! جيفة نتنة، لو كان حياً ما اشتراه أحدنا بدرهم أو درهمين، كيف وهو جيفة ميتة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم).

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33] تصدنا الدنيا عن ذكر الآخرة، كان سفيان الثوري في المسجد، فقال لصاحبه: ائتني بالماء، يقول: فجئت له بإناء فيه ماء يقول: فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يده اليسرى على خده الأيسر، وأخذ ينظر إلى الماء، قال: فذهبت ونمت أول الليل، فاستيقظت على الفجر، يقول: فجئته بعد صلاة الفجر، فإذا هو على هذه الحالة، يده اليمنى على خده الأيمن واليسرى على خده الأيسر وهو في المسجد، فقلت له: يرحمك الله، ما زلت على هذه الحالة منذ أن فارقتك، قال: لا زلت أتفكر في أمر الآخرة.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36]* رِجَالٌ [النور:37] الآن بعد صلاة العصر من يجلس إلى المغرب في المسجد من الناس؟ كان عبد الله بن المبارك بعد العصر لا يكلم أحداً، يجلس في المجلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، من منا يفعلها ولو مرة في الأسبوع، ولو كان يوم جمعة؟! ومن الذي يشغلنا؟ إنها الدنيا فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:36-37] تعرف ما الذي جعلهم في المساجد بعد الفجر وبعد العصر؟ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37].

الإمام أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية، يرددها ويبكي طول الليل إلى الفجر، تعرف ما هذه الآية؟ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27].

إنها الدنيا يا عباد الله! حتى أنه قال يوماً لأصحابه عليه الصلاة والسلام: (ما لي وللدنيا! ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].

الدنيا تتزين لك بصورة امرأة، وبيع وشراء، ومجالس لشرب الشاهي والقهوة إلى منتصف الليل، ثم لا صلاة فجر ولا قيام ليل، هذه هي الدنيا يا عبد الله! الدنيا أسهم، وربا، وأموال، وتجارات، هذه هي الدنيا.

يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: [جاهدنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله علينا، يقول: فقلنا بيننا وبين أنفسنا بعد أن فتح الله للمسلمين: لو التفتنا إلى ضياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها].

تركوا المزارع، والضياع، تركوا البيوت، وجاهدوا في سبيل الله، فلما نصر الله دينه، قالوا: لو التفتنا إلى مزارعنا فأصلحنا ما فيها، لا تنس نصيبك من الدنيا، فإذا بالرب جل وعلا ينزل قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] أرأيت كيف صدتنا هذه الدنيا؟ فحاسب نفسك كيف تقضي وقتك، كم للدنيا وكم لله جل وعلا.

هذا الإمام أحمد ثماني عشرة سنة يلبس حذاءً واحداً، كلما تقطع النعل خصفه بيده، يرقعه بيديه رضي الله عنه ورحمه الله؛ دخل عليه ابنه عبد الله يوماً، فرآه في غرفة مظلمة متربع، مستقبل القبلة يبكي، فقال له: يا أبي! ما لك يرحمك الله؟ قال: أتفكر في أمر الآخرة، فقال له ابنه: يا أبي هلا اتكأت على الحائط، أنت رجل كبير متعب، اتكئ على الحائط قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ.

يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] عبد الله! سل نفسك ما الذي غرك؟ يقول: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم) وقال: (لو كانت هذه الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

نسيان المصير

ومما يلهينا: نسيان الموت والمصير.

هل تفكرت يوماً في مصيرك يا عبد الله؟! لو كنت طريح الفراش، سل نفسك؛ لربما تكون هذه حالتك، وسوف أروي لك حالة يمر بها أكثر الناس بل كلهم، هذا رجل على الفراش، أحس بأمر غريب، رأى شيئاً عند ظهره أو عند رأسه جالساً، قال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، أنا ملك الموت، قال: ما الذي جاء بك؟! قال: جئت لأنتزع الروح -لأقبض الأمانة- فقال له: انتظر قليلاً، قال: ولم؟ قال: انتظر عندي بعض الذنوب، عندي أفلام أريد أن أحرقها، وعندي أموال ربوية سوف أتصدق بها، انتظر قليلاً ما صليت الفجر اليوم، انتظر قليلاً لم أغتسل من جنابة، انتظر لقد اغتبت أناساً وأخذت أموالهم وظلمتهم ولم أتحلل منهم، انتظرني قليلاً قال: كلا. فإذا بالروح تنزع، وإذا بمن دخل عليه يصيح؛ دخلت أمه تبكي ودخل أبوه، ودخلت زوجته، ينظر إليهم لا يستطيع أن يرد على أحدهم.

البنت الصغيرة انطرحت على صدره تقول له: يا أبي ما لك لا تجيب؟! الولد يقول له: يا أبي ألم تعدنا بالسفر؟! ألم تعدني بتلك السيارة، وبهذه اللعبة؟! يا أبي ما لك لا تجيب؟! ينظر إلى زوجته الثكلى، تقول له: يا فلان لمن تتركنا؟ والأب قد جاء بالطبيب، والأم تنوح، وينظر إليهم ولكن: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] فجاء الطبيب يحاول علاجه ولكن: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] فراق البيت والأثاث، أم فراق الأولاد والبنات، لمن تتركهم يا عبد الله؟! فراق القصور، والسيارات، والشهادة، والمنصب، والأرصدة، والزوجة، والوالد، والوالدة: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] فإذا به بعد لحظات يغسل، ثم يوضع في الكفن وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] ثم حمل على الأعناق؛ إن كان فاجراً يصيح: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين تذهبون بها؟ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30] ثم وضع في القبر فيا ويله! فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32] يا ويله ما صلى الفجر، ولا صلى العصر، ولا حافظ على الدين.

يا ويله! خرج إلى حفرة ولا زال يترك بعض المعاصي والذنوب! يقول عند الوفاة: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] يقول: يا رب لحظة، يا رب ليلة واحدة فقط، تظنه لو رجع يقبل أولاده، أو يعاشر زوجته، أو يسكن قصره، أو ينفق أمواله، لا ورب العزة، يريد أن يرجع لأجل شيء واحد رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:99-100].

فإن لم يكن هو، فكن أنت يا عبد الله، والله يريد أن يرجع فلا يرفع رأسه عن السجود، ولا يقطع لسانه عن ذكر الله، يريد أن يرجع فيبكي الدم وليست الدموع توبة من تلك المعاصي والذنوب ولكن: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99-100] كان في الدنيا كثيراً ما يقول: يا رب لن أعود إلى المعصية، أو بعد سماع هذه الكلمات يقول: وعزتك وجلالك لأحفظن على الفجر، وأقوم الليل، وأعتزل الفجور والمنكرات، فإذا به بعد يوم أو يومين يرجع كما كان، كلمة هو قائلها.

أصيب بمرض، فقال: يا رب! لئن شفيتني من هذا المرض والله لأتوبن ولأنبيبن إليك، وبعد أيام لما شفاه الله رجع كما كان، كلمة هو قائلها؛ كذاب: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

أسألك بالله أن تذهب إلى المقبرة، لست على موعد، ولا تقصد فقط اتباع الجنازة، اذهب لوحدك، واجلس عند القبور واسأل أهلها، وانظر هل يجيبوك؟

أين جمال وجوههم، وكيف صنعت بها الديدان؟ أين قوة أجسادهم، وكيف فعلت بهم الأرض؟

يا عبد الله! سلهم: أين الملوك؟ أين العظماء؟ أين أهل القصور؟ أين أهل الأموال؟ أين أهل النساء؟ ماذا فعلوا في القبور؟ عبد الله سلهم واجلس عندهم، هل يجيبك أحد؟

أتيت القبور فناديتها     أين المعظم والمحتقر

تفانوا جميعاً فما مخبر      وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا      أما لك فيمن مضى معتبر

التسويف وطول الأمل

لا تقل آخر مرة أفعل هذه المعصية، وما يدريك لعلها اللحظة الأخيرة، لعل ملك الموت ينتظر الآن، أول ما تقرب عند هذه المعصية يهجم عليك، هذا الرجل كان صالحاً، وكان مع الصالحين، وكان يحضر مثل هذه المجالس، غرته الدنيا، وسول له الشيطان، فإذا به يترك الصالحين إلى قوم فجرة فسقة، مرت الأيام ودارت، ولا زال يحافظ على الصلاة ولكن يفعل بعض المعاصي، قال له الفجرة الفسقة: نريد أن نسافر إلى بلاد كذا وكذا، قال: أعوذ بالله، قالوا: تمتع معنا، قال: معاذ الله، فصمموا عليه فأجابهم، وسافر معهم إلى بلاد الخنا والزنا، جلس معهم في الغرفة، كل ليلة يذهبون إلى المعاصي ولا يذهب معهم، يخاف الله، لا زال فيه شيء من الإيمان، كل ليلة يحاولون به ولكن لا فائدة، الرجل لا زال متمسكاً بشيء من دينه، جاءوا إليه بعاهرة داعرة، قالوا: لا بد أن ندخله معنا فيما نحن فيه، فإذا بهم يفتحون عليه الباب وكان لوحده في الليل، وأدخلوا عليه العاهرة، وأقفلوا عليه الباب، فلا زالت تراوده ويردها، وتحاول به فيصدها، ولا زالت به حتى وقع عليها، فلما وقع عليها قبض الله روحه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45].

لعلك تقوم لصلاة الفجر، ثم ترجع وتنام، لكنها النومة الأخيرة، فكيف تلقى الله جل وعلا؟ تركت الصلاة، نمت عن صلاة الفجر يا عبد الله، لعلك تقول: هي آخر مرة سوف أكلمها وأجلس وأختلي معها، ثم أتوب إلى الله جل وعلا، يختلي فإذا به يفارق الدنيا، سافر لأول مرة في حياته، ليفعل الزنا في بلاد يظن أنه لن يراه بها أحد، دخل إلى الغرفة، أغلق الباب مع مومسة فاجرة، كان يعاشرها بالحرام، فإذا بالفندق يحترق، وإذا به لا يكتشف إلا في نهاية الأمر أن الفندق يحترق، فتح الباب ليهرب لكن القدر والأجل كان أقرب، جثة متفحمة، رأيت خاتمته يا عبد الله، لا تقل: المرة الأخيرة، ولا تقل: إن شاء الله هذه آخر مرة، انتبه يا عبد الله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135] بشرط وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

أولها: الدنيا.

وانظر إلى تكالب الناس على الدنيا، يمر النبي صلى الله عليه وسلم على تيس، أو جدي أسك ميتاً -أسك: أي مقطوع الأذن- يمر عليه فيقول للناس: من يشتري هذا بدرهم؟ فيقولون: يا رسول الله! جيفة نتنة، لو كان حياً ما اشتراه أحدنا بدرهم أو درهمين، كيف وهو جيفة ميتة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم).

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33] تصدنا الدنيا عن ذكر الآخرة، كان سفيان الثوري في المسجد، فقال لصاحبه: ائتني بالماء، يقول: فجئت له بإناء فيه ماء يقول: فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يده اليسرى على خده الأيسر، وأخذ ينظر إلى الماء، قال: فذهبت ونمت أول الليل، فاستيقظت على الفجر، يقول: فجئته بعد صلاة الفجر، فإذا هو على هذه الحالة، يده اليمنى على خده الأيمن واليسرى على خده الأيسر وهو في المسجد، فقلت له: يرحمك الله، ما زلت على هذه الحالة منذ أن فارقتك، قال: لا زلت أتفكر في أمر الآخرة.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36]* رِجَالٌ [النور:37] الآن بعد صلاة العصر من يجلس إلى المغرب في المسجد من الناس؟ كان عبد الله بن المبارك بعد العصر لا يكلم أحداً، يجلس في المجلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، من منا يفعلها ولو مرة في الأسبوع، ولو كان يوم جمعة؟! ومن الذي يشغلنا؟ إنها الدنيا فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:36-37] تعرف ما الذي جعلهم في المساجد بعد الفجر وبعد العصر؟ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37].

الإمام أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية، يرددها ويبكي طول الليل إلى الفجر، تعرف ما هذه الآية؟ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27].

إنها الدنيا يا عباد الله! حتى أنه قال يوماً لأصحابه عليه الصلاة والسلام: (ما لي وللدنيا! ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].

الدنيا تتزين لك بصورة امرأة، وبيع وشراء، ومجالس لشرب الشاهي والقهوة إلى منتصف الليل، ثم لا صلاة فجر ولا قيام ليل، هذه هي الدنيا يا عبد الله! الدنيا أسهم، وربا، وأموال، وتجارات، هذه هي الدنيا.

يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: [جاهدنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله علينا، يقول: فقلنا بيننا وبين أنفسنا بعد أن فتح الله للمسلمين: لو التفتنا إلى ضياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها].

تركوا المزارع، والضياع، تركوا البيوت، وجاهدوا في سبيل الله، فلما نصر الله دينه، قالوا: لو التفتنا إلى مزارعنا فأصلحنا ما فيها، لا تنس نصيبك من الدنيا، فإذا بالرب جل وعلا ينزل قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] أرأيت كيف صدتنا هذه الدنيا؟ فحاسب نفسك كيف تقضي وقتك، كم للدنيا وكم لله جل وعلا.

هذا الإمام أحمد ثماني عشرة سنة يلبس حذاءً واحداً، كلما تقطع النعل خصفه بيده، يرقعه بيديه رضي الله عنه ورحمه الله؛ دخل عليه ابنه عبد الله يوماً، فرآه في غرفة مظلمة متربع، مستقبل القبلة يبكي، فقال له: يا أبي! ما لك يرحمك الله؟ قال: أتفكر في أمر الآخرة، فقال له ابنه: يا أبي هلا اتكأت على الحائط، أنت رجل كبير متعب، اتكئ على الحائط قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ.

يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] عبد الله! سل نفسك ما الذي غرك؟ يقول: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم) وقال: (لو كانت هذه الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

ومما يلهينا: نسيان الموت والمصير.

هل تفكرت يوماً في مصيرك يا عبد الله؟! لو كنت طريح الفراش، سل نفسك؛ لربما تكون هذه حالتك، وسوف أروي لك حالة يمر بها أكثر الناس بل كلهم، هذا رجل على الفراش، أحس بأمر غريب، رأى شيئاً عند ظهره أو عند رأسه جالساً، قال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، أنا ملك الموت، قال: ما الذي جاء بك؟! قال: جئت لأنتزع الروح -لأقبض الأمانة- فقال له: انتظر قليلاً، قال: ولم؟ قال: انتظر عندي بعض الذنوب، عندي أفلام أريد أن أحرقها، وعندي أموال ربوية سوف أتصدق بها، انتظر قليلاً ما صليت الفجر اليوم، انتظر قليلاً لم أغتسل من جنابة، انتظر لقد اغتبت أناساً وأخذت أموالهم وظلمتهم ولم أتحلل منهم، انتظرني قليلاً قال: كلا. فإذا بالروح تنزع، وإذا بمن دخل عليه يصيح؛ دخلت أمه تبكي ودخل أبوه، ودخلت زوجته، ينظر إليهم لا يستطيع أن يرد على أحدهم.

البنت الصغيرة انطرحت على صدره تقول له: يا أبي ما لك لا تجيب؟! الولد يقول له: يا أبي ألم تعدنا بالسفر؟! ألم تعدني بتلك السيارة، وبهذه اللعبة؟! يا أبي ما لك لا تجيب؟! ينظر إلى زوجته الثكلى، تقول له: يا فلان لمن تتركنا؟ والأب قد جاء بالطبيب، والأم تنوح، وينظر إليهم ولكن: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] فجاء الطبيب يحاول علاجه ولكن: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] فراق البيت والأثاث، أم فراق الأولاد والبنات، لمن تتركهم يا عبد الله؟! فراق القصور، والسيارات، والشهادة، والمنصب، والأرصدة، والزوجة، والوالد، والوالدة: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] فإذا به بعد لحظات يغسل، ثم يوضع في الكفن وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] ثم حمل على الأعناق؛ إن كان فاجراً يصيح: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين تذهبون بها؟ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30] ثم وضع في القبر فيا ويله! فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32] يا ويله ما صلى الفجر، ولا صلى العصر، ولا حافظ على الدين.

يا ويله! خرج إلى حفرة ولا زال يترك بعض المعاصي والذنوب! يقول عند الوفاة: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] يقول: يا رب لحظة، يا رب ليلة واحدة فقط، تظنه لو رجع يقبل أولاده، أو يعاشر زوجته، أو يسكن قصره، أو ينفق أمواله، لا ورب العزة، يريد أن يرجع لأجل شيء واحد رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:99-100].

فإن لم يكن هو، فكن أنت يا عبد الله، والله يريد أن يرجع فلا يرفع رأسه عن السجود، ولا يقطع لسانه عن ذكر الله، يريد أن يرجع فيبكي الدم وليست الدموع توبة من تلك المعاصي والذنوب ولكن: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99-100] كان في الدنيا كثيراً ما يقول: يا رب لن أعود إلى المعصية، أو بعد سماع هذه الكلمات يقول: وعزتك وجلالك لأحفظن على الفجر، وأقوم الليل، وأعتزل الفجور والمنكرات، فإذا به بعد يوم أو يومين يرجع كما كان، كلمة هو قائلها.

أصيب بمرض، فقال: يا رب! لئن شفيتني من هذا المرض والله لأتوبن ولأنبيبن إليك، وبعد أيام لما شفاه الله رجع كما كان، كلمة هو قائلها؛ كذاب: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

أسألك بالله أن تذهب إلى المقبرة، لست على موعد، ولا تقصد فقط اتباع الجنازة، اذهب لوحدك، واجلس عند القبور واسأل أهلها، وانظر هل يجيبوك؟

أين جمال وجوههم، وكيف صنعت بها الديدان؟ أين قوة أجسادهم، وكيف فعلت بهم الأرض؟

يا عبد الله! سلهم: أين الملوك؟ أين العظماء؟ أين أهل القصور؟ أين أهل الأموال؟ أين أهل النساء؟ ماذا فعلوا في القبور؟ عبد الله سلهم واجلس عندهم، هل يجيبك أحد؟

أتيت القبور فناديتها     أين المعظم والمحتقر

تفانوا جميعاً فما مخبر      وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا      أما لك فيمن مضى معتبر